هجاء الواقع ورثاء الذات في
وجهان لجثة واحدة للزهر الصحراوي

 

محمد الجابلّي

 

لي صلة خاصة بهذه الرواية وجهان لجثة واحدة[1] للزهر الصحراوي، وهي رواية صدرت منذ سنوات وفي طبعات مختلفة أولها في "الشارقة" إثر فوزها بجائزة الرواية، ثم طبعت بعد ذلك طبعتان في دمشق، وسنعتمد الطبعة السورية الأولى عن دار النايا 2007، مع الإشارة إلى أن هذه الرواية كانت ضمن الكتب الممنوعة من التوزيع قبل صدور القرار الرئاسي، القاضي بإبطال العمل بالإيداع القانوني، وإلغاء الرقابة على الكتب.

وكنت قد قدمتها في مناسبات سابقة للتعريف بها وبصاحبها، ونقدمها في هذا الفضاء باعتبارها إضافة لمدونة الرواية التونسية، وباعتبارها رافدًا من روافد الاتجاه الواقعي، تختط مسلكًا من مسالكه، وتتخذ من الصراع السياسي في عشريات قريبة مدارًا مولدًا للحكاية.

الفضاء السردي

يمتد الفضاء السردي في هذه الرواية على مساحة تناهز الأربعمائة صفحة، وتختط عبر ذلك ملحمة الذات المهانة وغير المسموعة، ملحمة تبدأ من دلالة الإهداء:

إلى أصدقائي الأعزاء، الذين فشلوا في تغيير العالم وتغيير أنفسهم، أهدي هذا العمل.

تبدأ الرواية بفاتحة مخادعة توهم بالغريب والعجيب، إذ تحيلنا مباشرة على مشهد الراوي البطل صابر، وعبر ضمير المتكلم، إلى التداخل بين الحلم واليقظة:

بتراخ لا مثيل له أجلس على كرسي وثير دوار، وفوق ركبتي طبق نحاسي عليه عنقود من العنب المسكي الشهي، ترفع أناملي حباته إلى فمي حبة حبة، وعيناي الحائرتان المشدوهتان على جثتي فوق الرصيف تهاجمها جيوش الذباب الأزرق، تحيط بها جرذان وفئران، والدود الأبيض ينهش طراوة الأمعاء والمعدة، والناس يمرون وأياديهم على أنوفهم وعيونهم لا مبالية... ص9

وهذا المشهد الذي جعله الكاتب طليعة عمله يصل بين الحاضر والماضي من خلال تعاوده، ويحيلنا بطريقة غير مباشرة على مدارات الصراع في هذا العمل: الذات في غرابتها وتشظيها، التداخل بين وضعين متناقضين، الحياة والموت في بعديهما الرمزيين، علاقة الذات بالآخر: "الناس الذين يمرون وأياديهم على أنوفهم وعيونهم لا مبالية" ويرتبط الحلم المتعاود بالسنوات النضالية الثلاث التي عايشها البطل في مرحلة دراسته الجامعية.

ومن هذه الإضاءات السردية، السريعة والمختزلة في مشهد البداية أو في لواحقه، ندرك أن العمل يتأسس في مناخات واقعية مؤصلة زمانًا ومكانًا وشخصية وحدثًا، حيث يتخلص الكاتب من ذلك الإيقاع السريالي ذي الأبعاد الرمزية، لينحو بالسرد منحى آخر ينبني على الاسترجاع والتذكر، لننتقل من الحاضر إلى الماضي عبر أسئلة حائرة تخرج بنا من الدوائر العامة إلى تحديدات خاصة في انتقال من أزمة الذات إلى أزمة الموضوع بكل ما في ذلك من أبعاد اجتماعية وسياسية، لندرك عبر ربط السبب بالنتيجة أن تأزم الذات موصول بسوابق، ينقدح فيها السرد من حيرة البطل "صابر" وعدم فهمه لأسباب سجنه، ومن هذه الحيرة تتجلى علامات أخرى من واقعية هذا العمل لأن المنطلق الحدثي فيه موصول بمكان معلوم وهو كما في عيد المساعيد "الشارع الكبير": قطب الحركة والحب والكره، وتتوضح سمة أخرى من متممات الواقعية ونعني بها الزمان في علاقة بالذكرى الأربعين لاحتلال فلسطين، وتتأسس الوشائج بين الزمان والمكان لنعلم أن الحدث موصول بفعل سياسي، وهو مسيرة تضامن مع الشعب الفلسطيني. وينتقل ضمير السرد من الداخل إلى الخارج ومن الذات في تشظيها وانقسامها الى الذات في حيرتها وأسئلتها، وننتقل من ضمير المتكلم المفرد إلى الجمع ليكون ضمير "نحن" ناسجًا للسرد وصانعًا للفعل في المرحلة الأولى من الإسترجاع الحدثي، فيما سيؤسس لمدار الغربة والإغتراب في مراوحة بين الإندماج والإنفصال، أي بين حميمية الإنتماء ووحشة الفردية:

إني لم أفهم حتى هذه الساعة نوع الجريمة التي ارتكبنا لما تظاهرنا في الشارع الواسع مدة لا تزيد عن عشرين دقيقة؟ فأين الخطر الذي نجم عن هذا العمل؟ وأين الأذى الذي ألحقناه بمصالح الشعب والمجتمع المدني والأمة ؟ ص10

ويتواصل خيط الإنتماء عبر المتكلم الجمع، من المسيرة إلى السجن والتحقيق، وينقلنا الكاتب من الشارع الكبير إلى عالم السجون والزنزانات والأقبية. وعلى امتداد الفصلين الأولين: "احتراق الطين ومدينة العكاكيز القصيرة" ينجح الكاتب في فضح المسكوت عنه في واقعنا إذ يفضح بأسلوب فني ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث في الأقبية وخلف الأبواب الحديدية من انتهاك لكرامة الإنسان، ويطيل التوقف عبر الوصف عند مشاهد مرعبة من التعذيب الفردي والجماعي ويحيلنا على أساليب معلومة ومبتكرة.

ويجعل من ذلك التعذيب الخيط الأهم في تأسيس تداعيات السرد بين الحضور والتذكر، عبر مراوحة بين رعب اللحظة الحاضرة وتداعياتها اللاحقة نفسيًا واجتماعيًا:

أدركت بعد أن سمعت تلك الأصوات الحيوانية تصدر عني، أن لحظة التعذيب الجسدي لحظة خاصة، ينفرط أثناءها عقد اللغة، وينقلب نظامها فوضى، ووضوحها غموضًا، ويتحطم محرك الكلام لما ينصب العقاب الجهنمي على الجسد فيرتد الحيوان المذعور إلى ما قبل اللغة ليعبر بذلك عن عمق أوجاعه. ص23

وعناية الكاتب بفضاء السجن تؤكد انخراط هذا العمل في ما يسمى بـ"أدب السجون" إذ لا يكتفي الكاتب برسم لوحات التعذيب بل يتوقف عند رسم أبعاد العلاقة بين السجين والسجان من جهة، وبين السجناء ببعضهم البعض من جهة ثانية. كما برع في رسم ملامح مميزة وشديدة الخصوصية لشخصية محقق السجن انطلاقًا من ملامحه المخادعة وثقافته وقناعاته ورؤيته لذاته وتبريره لعمله، وكانت شخصية "البهلي" نموذجًا لكل ذلك:

سكت هنيهة وهو يداعب تلك القارورة ثم سألني:

أظن أن والدك رجل وسيد الرجال

قلت له مجاريًا: نعم رجل وسيد الرجال

أضاف: أعتقد أنه طلق أمك بعد ولادتك مباشرة

فأجبت: إنها شريفة وعظيمة لم يطلقها.

فقال مستفزًا: وكيف يقربها في الفراش بعد أن خرج منها هذا الرأس الضخم

وبحركة عصبية أخذ يرش من ذلك السائل الكحولي على شعر عانتي وأنا واجف ذاهل ... ثم أشعل النار في الهشيم الأسود فانتفضت مذعورًا ... واضطرمت معها النار في أحشائي ... وعاد الحيوان ينتفض ويعبر عن أوجاعه العميقة ببلاغة الحركات في التواءة الجسد واضطرابه وتخبطه ... في تقطيب الجبين وفتح الفم والتكشير عن الأنياب ...

نجح الحيوان المذعور في إثارة البهلي فوضع حدًا للنار التي أضرمها، فقد جلب سطلاً مملوءًا ماء وبحركة عنيفة صبه على النار المشتعلة ... ثم انحنى محملقًا في مخلفات الحريق وهو يقلد صوت سيارات الإطفاء بيب بو بيب بو بيب بو. ص25

ويمتد فضاء السجن عبر إيقاعات متداخلة في الفصلين الأولين، مطعمًا بمجاز ساخر في قصة مضمنة هي قصة مدينة العكاكيز القصيرة التي يرويها "صميدة"، السجين الأقدم، للبطل وهو، كما سنعلم لاحقًا، من مؤسسي بوادر الوعي والنضال. وهذه القصة تدعم بطرافتها المنظور النقدي الهجائي من خلال ما آل إليه حال الوطن في العشريات القريبة، من تفسخ قيمي ووصولية تبدت في اتقاء الرياح العاتية بالإنحناء المستديم وابتكار طقوس لذلك، منها العكاكيز القصيرة التي تساعد على الإنحناء، الذي غدا سمة أو مظهرًا، يتباهى به ذوي الجاه والنفوذ حتى أصبحت المدينة رمزًا لكل ذلك.

وهذه القصة المضمنة لا تربك المسار الواقعي بقدر ما تدعم ركائزه، لصلتها المجازية بكل ما حصل من تغيرات في الواقع الذي نعيش، وهي التي تمهد للفصل الثالث المعنون بسارق الإنتماء وما فيه من حفر يعود إلى الجذور الأولى المؤسسة لوعي البطل ثم تمرده، بدءًا من فضاء القرية في السبعينات مع الغرباء الذين وفدوا يستقصون أحوال أهل القرية، ثم في المدرسة مع المعلم عمار ثم في المعهد وصولاً إلى أروقة الجامعة.

ويمكن أن نعتبر هذه الرواية ملحمة جيل نشأ في السبعينات، وانشد إلى أحلام كبرى من خلال الوعي الثوري، وكبر في محيط ريفي فقير، وكبرت معه أحلام وتطلعات قادته إلى وهم الحركة والتغيير، وجعل من الفضاء الجامعي مسرحًا لتحقيق ذاته من خلال الانتماء إلى الجماعات اليسارية المتعددة والنشاط فيها، ومن خلال الحوار الباطني يكشف الكاتب دواخل بطله:

عاد إلي، بعد التأمل العميق، بعض التماسك والتوازن، وقلت بصوت مسموع، كمن يقنع أحدا بجانبه: صحيح إني أكره نفسي وأشمئز من قبحي وقصر قامتي وضخامة رأسي ... سأجعل الجميع ينظرون إلى عقلي وكفاحي لا إلى منظري وشكلي، سأسهر الليالي من أجل ذلك، وسأضاعف جهودي في النضال، وسأرفع لواء التنظيم عاليًا حتى تتحقق الثورة ... ص 218

والملاحظ في هذا الباب أن بطل هذه الرواية يختلف كثيرًا عن بطل عيد المساعيد من حيث المنشأ والطبقة، ومن حيث التلاؤم أو التصالح مع الذات، فبطل عيد المساعيد ينسجم مع ذاته ليكون وعيه نتاج ثقافة فردية، وذلك الإنسجام كان قوة دافعة في المواجهة، في حين أن صابر بطل الصحراوي يسعى الى التغلب - ومنذ البدء - على إحباطات كثيرة بعضها في صلة بالذات وبعضها في صلة بالإنتماء السياسي وبعضها الآخر في صلة بالمنشأ المتواضع.

ونتتبع من خلال التذكر مسيرة البطل في فصل مشحون بالدلالات عنوانه كفاحي كفاحهم، يحيلنا بعمق نقدي على التسييس في الحياة الجامعية وما يحفه من أطر الوعي من جهة، ومن انتهازية واستغلال من جهة ثانية، فيتعمق المنظور النقدي ليطال الرفاق في سلوكيات بعضهم، وتتردد أسماء وكنيات مألوفة في تلك الفضاءات مثل، سعيد المتخاذل أو الأصلع القصير، أو جاكوب وكارلوس... وتتعاود الشعارات وأغاني الالتزام التي وسمت مرحلة الثمانينات.

ولابد أن نشير، إلى أن القيمة النقدية لهذا العمل تكمن خاصة في سعيه إلى استيعاب مرحلة كاملة بمختلف أوجهها، فالنقد لم يتوجه لذوي السلطة والنفوذ فحسب بل كذلك لدوائر التنظيمات والحلقات اليسارية التي جعلت من الجامعة فضاءًا لنشاطها، نقد يبدأ من أساليب العمل ليصل إلى صلب العلاقات التنظيمية بما فيها من فوقية وانحراف وتداخل بين مصالح شتى:

لا يوجد عدل في التنظيم، لم جعلني الأصلع القصير مجرد خطاط يعيش في العتمة، لماذا جعلني عنصرًا سريًا أنقل البريد وأتجسس على رفاقي في البيت والجامعات؟ ص273

وتتأكد الخصائص الواقعية من خلال الإحالات الزمنية الصريحة أو المضمنة، ليمتد زمن التذكر عبر التداعي إلى بداية السبعينات، وليعود بزمن الإسترجاع القريب إلى سنوات النضال بالجامعة خلال سنوات ثلاث، لينتهي المسار الزمني بفترة السجن الممتدة لسنتين، لتكون خاتمة المطاف مع الفصل الأخير انحدارات شتى الذي يصل البداية بالنهاية، من خلال هجائية تنتقل تدرجًا من الخارج إلى الداخل عبر انكفاء البطل على ذاته لحظة خيبة الحلم وفقد الثقة في كل شيء:

خرجت من السجن بعد سنتين فلم أجد أحدًا ينتظرني لأرافقه إلى البيت، ولم يكن قد زارني أحد هناك ... كنت كالمقطوع من شجرة، تجاهلني أقاربي وتناساني الرفاق وحاولت أنا بدوري لحظة خروجي نسيان الجميع بل احتقارهم وأفرغت ذاكرتي منهم جميعًا وقلت لنفسي مواسيًا: هذه محنتك وحدك فلتعشها كما يجب. ص309

والخروج من السجن ترافق مع وعي حاد بالعجز والضياع، ومع تحول خط التأزم من صراع الخارج إلى امتهان الدواخل، في احتقارات شتى تأسست على الوعي بالهزيمة، يرافقه شعور بالخجل تجاه الذات والأسرة، لتكون النهاية "بصابر" وأحلامه الثورية في أقبية المستشفى مكلفًا بغسيل الموتى وتجهيزهم.

ملحمة تبدأ من الشارع الكبير، وتنتهي ببطحاء اتحاد الشغل، وبين إيقاعين سياسين متقاطعين تشيد سجون عديدة، بدءًا من السجن المدني وصولاً إلى سجون متفرعة عنه لعلها أشد وقعًا وخطرًا، سجون ذات في خيبتها وغربتها وإحالتها على تأزم واقع من خلال تأزم جيل مشوه: "حلم بتغيير الكون لكنه فشل حتى في تغيير الذوات".

ومن هذا المنظور تكون فاتحة الرواية، ومن خلال مشهد البدء والحلم المتعاود، استباقًا يحيل على جملة المقاصد، ويهيء لمجمل التداعيات اللاحقة وكلها في صلة دلالية بالعنوان وجهان لجثة واحدة، وجه الأحلام المغدورة التي امحت في تناقض الواقع، ووجه التخطي الساخر المنفصل هجاءًا ورثاءًا عن ذلك الماضي من جهة، والحامل لجراحه الكثيرة وأوجاعه من جهة ثانية.

خاتمة المقال

ونلاحظ في الختام اكتمال الوظائف الفنية في هذا العمل، على الرغم مما- بدا لنا - من إطناب في وصف التعذيب في علاقة بالأعضاء الجنسية، وصفًا حسيًا، كان على حساب خيارات أخرى يمكن أن ترتقي بفعل التعذيب ذهنيًا من خلال ما يمكن أن يحدثه من انفعالات.

كما نؤكد نجاح هذه الرواية في فضح المسكوت عنه في واقعنا من زاويتين نقديتين: الأولى زاوية التسلط السياسي المتمثل في السلطة بأدوات قمعها ورموزها، إضافة الى الإحالة على اختلالات طبقية وتنموية؛ والثانية زاوية المعارضة اليسارية الممثلة بحلقاتها وأقطابها وتعرية اختلالاتها من الداخل في أساليب بنائها، كما نؤكد تميز هذه الرواية بأن تكون طليعة "أدب السجون" في الرواية الواقعية التونسية لجرأتها في تصوير ما يقع أو ما يمكن أن يقع وراء القضبان وداخل الأقبية.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  وجهان لجثة واحدة، لزهر الصحراوي، دار النايا، دمشق، ط1، 2007

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود