|
حـول جسـد الشَّـاعر
جسدُ الشاعر من كمال الآلهة نفسها – منذورةً أبدًا للخيبة والرَّوْع والدهشة. تكفُّ الآلهةُ عن العمل ما لم يكن وجودُها مرهونًا أصلاً للعطالة الكاملة، غائبةً في سؤال بدئيٍّ، سؤالٍ يطعنُ كلَّ إجابة ممكنة. يكتمل غيابُها الجوهري باكتمال حضورها الضعيف كزهرة الحياء الشفافة. وفْقَ هذه الرؤية المغلقة والباتَّة – وفيها من الحذر الصارم ما يدعو إلى الضحك بقدر ما يدعو إلى الاستغراب والنفور – يكون جسدُ الشاعر طيفًا، جسدًا غير معرَّف بقوة التجريد الخاوية، على ما فيها من عملٍ دقيق، ولا قابلاً للاحتواء بآلةِ الحسِّ النهمة، على إغوائها الناعم الجذاب. جسد–طيفٌ: فيه يتموَّجُ ويتغضَّنُ التعريفُ الذَّربُ المستندُ في دقَّته وشموله السافر إلى التجريد – التجريد الذي يليق بالموسيقى وحدها. الحسُّ، – الضفةُ الأخرى من الإشارة العرجاء، ثقلُ آلام الغواية الساحرة، – قائمٌ في متْنِهِ على ما هو آنيٌّ وعابرٌ منفلِت. بذا يفتقرُ الحسُّ إلى مكان ثابت. والزمنُ الذي حالما يجري تحديدُهُ يكون في شغْلٍ ثانٍ وطورٍ آخرَ من أحوال الأبدية المهوِّلة. ذلك أن المكان – محلَّ الشاعر الغائب – يرجِئُ فناءَه المتحوِّلَ مثلما يرجِئُ الزَّمنُ دومًا ماضيَه المتقدم. جسدُ الشاعر هو هذا التأرجحُ الصلدُ الصافي، المرهَق بين نموَّين تائهين: المكان المطعون بسكِّين عينه (عينه التي تماثل أفعال الليل)، ومرور الوقت الذي لا يكفُّ عن تقديم القرابين بتحويله الحادِّ، كلَّ حينٍ، الزمنَ الآتي إلى محض حاضر هارب. الشِّعرُ عملُ الخائبين. وجسدُ الشاعر رُفاتُ هذا العمل المستمر. لكنه أيضًا وعْدٌ حقيقي، سرعان ما يلْثمُهُ ويثْلِمُهُ تحقُّقُهُ المحطَّمُ الدقيق. الوعد الأكثر جرأة وإيلامًا وحرجًا هو الذي يظل منضغطًا بالجسد، غير قابل للاحتواء، مثل سقف السماء التي لا تسعها هياكلُ اللغات جمعاء. جسدُ الشاعر أيضًا جَلَدٌ من مادة السماء ذات الجوهر السيَّال. لَعَلِّي أتذكَّر فحسب عبارةَ حافظ الشيرازي: "الطبيعةُ جوهرٌ سيَّال، والأشياء كلَّ لحظة في خلق جديد." يتناول الشاعرُ الأشياءَ لا كأشياء فحسب، بل كونها جوهرًا مشخَّصًا في شيءٍ بذاته الحالية. الشيءُ، على ذي الحال، انكشافٌ، تلقائيةٌ عذبةٌ، رضوخٌ آسِر، مثل نموٍّ راقصٍ أعمى. أعمى كذلك هو جسدُ الشاعر. هو أيضًا مَسارُ تلقٍّ حزين، وتكشُّفٌ مستمر، لكنْ برضوخ أعمق من القبول الآنيِّ الجاهز. الشاعر يتلقَّى، ينتظر، يراقب. عملُه من عمل الساهرين، اللاَّمبالين بكونهم هُمْ على ما هُمْ عليه من أرقٍ وعناء. الشاعرُ يعاني مثلما يعاني جسدُ وردةٍ في الليل! هي أيضًا – الوردةُ – تخبِّئُ جوهرَها المباحَ بلا ثمن وبلا وعد. الشاعرُ يمنحُ على وعدِ أن يتلقَّى الإصغاءَ المماثل: أنْ تُرى الوردةُ شكلاً من أشكالِ الإصغاء إلى شاعرٍ في اللَّيل! ليلُ الشاعرِ لا يتوازى مع النهار كتقدُّمٍ طبيعي. ليلُ الشاعر نحتٌ في العمى المزدوج: اللغة التي ارتهن لها عملُهُ كلُّه، والعين التي ما عادت تنتظر شيئًا سوى جوهرٍ خفيفٍ مثل لمسات وردة، مثل تلويحةٍ لم تجدْ كلمةً مناسبة، مثل غيابٍ يحتفل بأقرب الأشياء وأكثرها غموضًا وبساطة، آنَ يحارُ كيف يضمُّها إلى صميم عمله اليومي، آنَ يخفقُ في جوارها الأليف ومُتَعِها الناعمة. وحدَهُ الشاعرُ لا يتحمَّلُ جسدَ الشاعر! وهو يكتب كي يخفِّف من أثَرِ الشِّعر على جسده. الشاعرُ لا يختصر. إنه يعتصر من الثقل والديمومة ما يجعلهما جديرين بقلب الإنسان الملتاع. وداعًا – يقول الشاعر. هذا يعني أنه سينتظر حتى الأبدية – حتى لو لم تكن هناك أبدية أبدًا! *** *** *** |
|
|