الشَّاعرُ هو الخائنُ الذي يزوِّد العاصفة
ميشيل
دوغي
ميشيل دوغي
Michel Deguy
(من مواليد 1930، پروفسور في الفلسفة) يمكن صفُّه من حيث الأهمية إلى جانب مَعالم
الشعر الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وأعني بهم: إيڤ بونفوا، أندريه دو
بوشيه، جاك دوپان، وفيليپ جاكوتيه.
ينساق هذا الشاعر مع التجريد والتأمل والبحث عن "لغة اللغة"، من دون أن يحرم
القصيدةَ من معنى "سطحي" أحيانًا. إنه شاعر الصمت والغياب واللامحدَّد والغنائية
العقلانية. قصيدتُه تتمثل في صيغ مقتضبة تخرقها صورٌ لا تنتهي، متسائلةً عن هذا
العالم الخاضع للتجربة العامة. هذا الهمُّ الفلسفي عنده يطغى على الحسِّ الشعري في
مواضع، فيخفيه تحت طبقات متعاقبة من التفكير. فهو يرى في شكل قاطع أن...
لا قصيدة من دون فكر: لا رحيل إلى مكان ما، لا انفعال، لا تجاوُز، لا طريقة تعبير،
لا صورة ولا جملة،
وأن...
"الفكرية" الغنائية تتردَّد بين الشعر والفلسفة. ما يوجب مزجًا جدَّ قادر على
مقاومة عجالة هذا العصر.
ولكن، إلى ذلك، فإن قصائده تُواصلنا في مواضع أخرى، وكأنها تملَّصت من رقابة
المفكِّر المتسلِّط، في براءة حقيقية.
هـ.ف.ص.
* *
*
مقطع من سجلِّ مساحة
ما
من عَشير أكثر عنادًا، وَضَعَ أكثر من حيلة، أكثر من حلٍّ، في خدمة عِشرةٍ باطلة،
ما من أحد أكثر إلحاحًا على تقليد مدِّ العنصر وجَزْره، ليصير عنصرًا–إنسانًا، ذا
عِشرةٍ كونية، ويؤوب بأذًى من مجابهة الأشجار والسماء والبحر، وينتصب عائقًا،
فارضًا مكسًا من الصمت على الحدود كلِّها حيث تنتهي الموجة التي لا تتعب والطائر
الذي لا يتعب والريح التي لا تتعب، متوسِّطًا بين الرمل والزبد، بين جُرف البحر
والعاصفة، بين تخْم الحقل والقمح، هو العائد من كلِّ ناحية ليحلَّ مكان العنصر الذي
يصدمه عنصرٌ آخر، فيصبح خليقًا بالبركة، هو كائن التخوم المشيِّد منزلَه عند ملتقى
الوادي والسهل، الذي يسحقه ركامُ الطمي أو حمم البراكين، المنزوي عند مفترق ركام
الغيوم وركام الغاب، لكنه المنبثق في النهار بلا حقد على الأشياء العنيفة، بل على
الأصح، المعترف بجميل المنجم والإعصار، الجرف الثلجي والبئر، التي تنهار جميعها لكي
تدفنه.
* *
*
لكنهم كانوا يموتون باقاتٍ باقات كمثل
الطحالب بعد الجزْر
كانوا يموتون عناقيدَ عناقيد كمثل الكرمة
في
الخابية
كانوا يموتون كمثل مِدوسات
على الرمال
كأنَّ الأشقاء الإخوة لم يولدوا
إلاَّ لخلق مجازر جديدة
طريقة لا تصدَّق لكي يميطونا.
مرمِّمو الطرق ذوو العيون الليلية والضبابية
فحَّموا أكداسَ الجلود الميتة
في
تشرين بين نفايات أشجار الكستناء
وفي
كلِّ مكان –
هيسِّن وباڤاريا والساكس وپروسيا
–
حيث
للقرى أسماءُ مستودعات الجثث.
* *
*
ابحثْ ابحث عن الحقيقة
فهذا يُحدِث صخبًا في الروح
آه!
كم كبرت لعبةُ الطفل الصغيرة!
لنبحثْ ولتبحثوا عن الحقيقة.
الروح
أشبه بمطبخ مزرعة
في
آب بعد صلاة العصر
كريه وفاتر برائحة الشحم المحروق
حيث
الذباب الطنَّان يناوش
خبايا من عسلٍ وكرزٍ ودمٍ بارد.
الروح
أشبه بخلنج دائم الخضرة
حيث
الكلاب تثير طيور التدرج المرهقة.
الروح
أشبه بدون كيخوته
يتقلَّب ينتف شعره على سريره
مُقْسِمًا لكنْ بعد فوات الأوان بأنه لن يُخدَع أبدًا
وقد
علَّق على غرفته
ورقةً رُسمَت عليها طواحينُ الهواء.
العاصفة تهدِّد
عندما تسحب الغيومُ الكثيفة الليلَ
قبل
أوانه
عندما تلتقي الطريق أفقًا ضبابيًّا
قبل
الأفق
عندما يتكدَّس الصفصاف ويرتجف
في
صمت
قبل
مجيء الريح
عندما تؤذي الرطوبةُ العيونَ
قبل
سقوط المطر
عندما يسوِّد اللغز الحُجر بالدخان.
مساءً
الساعة المائية ذات الجدران القصبية
تسيل
تدقُّ للقمر إحدى عشرة دقة
وتُصاب القططُ بخوف خزَفيٍّ.
حينئذٍ ومن دون أن يقطع غطيطَ الليل
ينسلُّ في دمغة أشجار المغْث
وبين أشجار البقْس
خَرخرتْ حبالُ الجدول الصوتية
من
هنا نشاهد في الداخل
على
ستارة الواجهات المصباحَ السحري
للوجبات اليابانية
وأطفالاً يرقدون
ونساءً مرتبكاتٍ ينحنين
ولكنْ ما من كَسْر يشي بالداخل
واللص من غير منزل ينصرف.
غير
أنه سوف يتسلَّم من الألم مأواه
لأن
الألم يغور في جوف الذاكرة التي يثقبها
والإنسان الواثق
سوف
يسكن عمقه الخاص
هنا
ترقد الأماسي الجديرة بالذكر
عندما كان الألم الأشد ينتظر سكنه
ومن
أجل تهيئته
كانت تسبقه الأسفارُ والأحزان.
* *
*
عندما لم يكنْ إلا تلك الغيوم المنقشعة
والاستخفاف بالمديح والرقابة المُحكمة
في
مواجهة الظلم – والصباح يتصدَّع على
النافذة وبقاع الأشجار الحية تحت فأس القطارات.
عندما لم يكنْ غير الإنسان واقفًا، منذورًا للنهار،
متمنطقًا بالجلد، منتظرًا يشحذ الرياح
التي تبتكر شائبة الروح – في انقباض
الكلمات قلب يُنكِر ذاته
والجسرُ المنهار فوق نهر شحيح لكي يقطع
المعبر لأول مرة، وعلى الشاطئ في المقابل
حاجز مشبَّك صدئ يكبِّله علَّيق الجرف،
بدوره، ليحُول دون الوصول مرة ثانية.
ولكنْ عندما لم يكن غير هذا: فرح الصبيِّ
منذ
مطلع النهار، والتوق البالغ إلى استعادة
الحب الذي كنَّا محرومين منه: عندما لم يكن غير منجمِ اللَّيل بلا حلية.
* *
*
أيتها الشمس، يا إناءً جمريًّا، يتجذَّر فيه إيراق الشجر
الذي تجوزه أقدامُنا
لأن
ذلك كما قبل الإنسان، الذي يأتي كي يفاجئ.
كلُّ شيء كان منسَّقًا، والآن يتخلَّى عن هذا الموقع السرِّي
الآن يموت بين آخرين، دفينًا تحت البلاطة الرمادية للغيوم.
وتُغلق السماءُ ثانيةً كهفَها. الأرض هي القبر. وقد جاء ليموت فيها
ليس
له في الأمر يد
دائمًا يظهر متأخرًا
وتُسرع العواصف الثقيلة مجهولةً فوق البحر
وهنا وهنالك تحت عريش السحب عبر فجوات التعاريش
بين
الدوالي الضخمة، للغيوم البنفسجية
أغصانُ شمسٍ متحرِّكة، تهزُّ النيلوفر العريض للأوقيانوس
أيكون القادم الأخير، تسبقه حيواناتٌ ضخمة؟
من
قصائد شبه الجزيرة
**
** **
عـتـبـة
مساءً عندما أدخل غابة نومي، وعلى عينيَّ
نظارتان معتمتان، مبعدًا عنِّي أدغال الأضواء،
سالكًا دروبًا مظلمة نحو ينبوع الدموع، تسبقني حُزَم الليل. ما بقي من النهار
يتقدَّم نحو العيون الجامدة.
أيها الليل المحمَّل بالطرائد، ألا تعرف أن تُغلَّ يدي القصيدة؟ كنت أشاء حبِّي لك
أن يصبح أنا أحبُّك...
ولكنْ كُنْ يقظًا بالأحرى! لأن الأرض هي الذخيرة العظمى.
تحرَّ عن الأصل الذي تحتفظ به، الأثر الكبير الذي يتجمَّد فيه الغياب. فالأمل يبوح
بأن بلدًا ينتظرك، حبُّ الكتابة فيه وثيقةُ ولادة.
يا
للتراكُب العظيم للعالم.
حـقـل
ورود قربَ حقل قمحٍ وصبيَّان أحمران
في
الحقل المجاور لحقل الورود
وحقل ذرةٍ قرب حقل القمح وصفصافتان شائختان
عند
العجرة وغناء الصبيَّين الورديَّين
في
حقل القمح قرب حقل الورود وصفصافتان
شائختان تسهران على الورودِ القمحِِ
الصبيةِ الحُمرِ والذرة
الزرقَة تمتص كبقعة
حِبرَ الغيوم الأبيض
والصِّبية هم أيضًا
دربي الحقلي.
الخـائـن
الرياح العظيمة الإقطاعية تُطوِّف في الأرض.
بملاحقةٍ خالصة تحني سنابل القمح، تُغيِّر
مجاري الأنهار، تحثُّ القشَّ والأردواز، أيها السادة،
وحشدٌ من الناس ينصب لها أشراكًا من الحَور،
يرفع أوتادَ السرو، يقيم حواجز مشبَّكة من الخيزران
في
وسط حلباتها، ويواجهها بمحرِّكاتٍ هوائية.
الشاعرُ هو الخائن الذي يزوِّد العاصفة،
يستحثُّها بقيثاراته، ويدلُّها
على
معابر التخوم والمضايق.
من مجموعة
قصائد
*** *** ***
بترجمة وتقديم:
هنري فريد صعب