|
شـاعرٌ
في نـيـويـورك ما
بين العامين 1929 و1930، أقام
فِدِريكو غارثيا لوركا (1898-1936) عشرة أشهر في
نيويورك، وفكَّر في أن يتسجَّل في دروس اللغة
الإنكليزية، على الرغم من أنه لم يكن يميل
إليها، ولم يدرسها بالتالي، فصرف سحابة وقته
في صحبة النقاد والشعراء الإسبان الموجودين
في المدينة، – أمثال فِدِريكو دي أونيس،
داماسو آلونسو، أنخيل دِلْ ريو، ومصارع
الثيران إيناثيو سانشِس مِخِياس (كتب فيه
مرثية جنائزية لاحقًا)، – وفي زيارة المتاحف،
والذهاب إلى دور السينما والمسارح،
والاستماع في الصالات إلى موسيقى الجاز.
فحضنت روحُه الصرخةَ المحمومةَ لزنجي هارلم،
إذ رأى فيه، منقولاً إلى ذلك الحي من أحياء
نيويورك الفقيرة، طفل غرناطة الكبير من أحياء
الغجر (الموريسكيين) الغرناطية، التي استوقفه
بؤسُها، فحوَّله ألمُها الثوري العميق إلى
واحد من كبار شعراء الإنسانية. رسم "الملاك" للوركا. لم تكن صرخة القهر الزنجي
وحدها ما أثَّر في روح لوركا النقية الشفافة،
ليجعل من "ملك هارلم" – الصورة الأخرى
للغجري–الموريسكي – رمزًا للمضطهَدين
أجمعين، القابعين في أسفل درجات السلَّم
الاجتماعي، في مدينة الإسمنت وناطحات
السحاب، وعالم الحضارة المادية، التي لا
تُعرَف لها جذورٌ والتي حولت إنسانَها إلى
رقم تافه تحرِّكه الأصابع تحريكًا آليًّا في
مكاتب الزجاج الخاوية. لم تكن صرخة القهر الزنجي
وحدها هي ما دفعه إلى استرجاع صورة
المضطهَدين الغرناطيين – ومعهم جميع الآخرين
الذين خضعوا للقهر في محاكم التفتيش وفي
حملات "تنظيف الدم" ("التطهير العرقي"
بلغة اليوم!) – في مجتمع غير إنساني مُعادٍ،
بعد انهيار الإسلام السياسي في آخر معاقله في
العام 1492. لقد كانت تفاصيل الحياة
اليومية الخاوية كلها، التي نسجتْها
الحضارةُ الماديةُ في الولايات المتحدة،
تدفعه إلى هاوية الرعب والعدم، فيطلق، من
خلال سقوطه وتمزُّق روحه الشفافة، صرخةَ وجع
واعتراض على اغتيال الإنسانية، ويملؤه
الحنين إلى تلك الأرض الأندلسية البعيدة–القريبة،
التي تظل حضارتُها الروحانية النقيضَ الأجمل
والأروع لمدينة الإسمنت والدخان، مدينة
الآلة المسنَّنة المتعطِّشة لامتصاص عَرَق
الإنسان ودمه، ودماء الحيوانات كلِّها،
والعودةَ الأولى إلى طهارة البرية وجمالها
البكر. من أعماق جحيم الحياة في
نيويورك، ولد ديوانٌ عظيم، يوازي في أهميته
القصائد الغجرية اللوركية (تُرجِمَت إلى
خمسين لغة، بما فيها العربية) لأنه صداها
الآخر والأبعد، وإن كان تعبيرًا خاصًّا عن
مرحلة مختلفة في النتاج اللوركي الشعري
النبيل، تغيَّرت خلالها أحاسيسُه ورؤاه
ولغتُه من جراء تمزُّق أعماقه أمام قسوة
التجربة الحياتية ومرارتها في عالم مادي حتى
الجذور، معبوده المال، ولا علاقة له بقيم
الحياة الكبرى، عالم صار منسلخًا عن كلِّ ما
هو إنساني، وكان منه طفل غرناطة الكبير
شاهدًا على عذاب الإنسان الضعيف وقهره، –
الإنسان المضطهَد على مسرح الوجود، – بعد أن
كان خيالُه العظيم وإحساسُه المرهف قد دفعاه
ليصور في أبيات خالدة معاناة الغجر
الموريسكيين في أرض الأندلس، وقد سُحِقوا
إبان حروب الاسترداد Reconquista
الإسبانية وبعدها. ولد ديوان شاعر في نيويورك
ثمرةً للتصادم العنيف بين حضارتين نقيضتين –
هذا ما يؤكِّده فرانسيسكو لوركا، الشقيق
الأصغر لـ"ساحر الأندلس"، في كتابه فدريكو
وعالمه: بين الروحانية الغرناطية، "الشرقية"
بما لا يقبل الجدل، وبين حضارة المادة الصرف،
التي تلغي الإنسان وتشيِّؤه، تحوِّله إلى رقم
زائد أو ناقص في ميزان الربح المادي. إن "الروحانية الغرناطية"
تتمثل باعتراف فِدِريكو غارثيا لوركا ذاته في
نثره الأول في قصر الحمراء العجيب، وحدائق
الخلفاء، ونوافير المياه، وفي جمالية
الأشياء الصغيرة النابضة بالحياة. وذلك كله
يبقى تعبيرًا مؤثرًا عن إبداع الإنسان في
ظلِّ حضارة راقية، غايتها إغناء الإنسانية،
يجد كلُّ فرد مكانه فيها: "حضارة رائعة،
نسيجها شعر وعلم فلك، فن عمارة ورقَّة فريدان
في العالم"، كما صرح لوركا لجريدة El Sol
المدريدية في 10 حزيران 1936 قبيل اغتياله في 18
آب على أيدي الفاشيين. صورة فِدِريكو غارثيا لوركا في ملفِّه
الجامعي، وتحتها توقيعه. في نيويورك، كان شيء ما
مختلف في أعماقه – هو "الروحانية
الغرناطية" – يجعل تواصُله متعذرًا مع هذا
العالم المادي البارد، المشحون بالخواء
والعدم، فرفض جملةً وتفصيلاً زيف مدينة
عملاقة حديثة بلا روح، – جعلها رمزًا لكلِّ
المدن التي يُستغَل فيها الإنسان، – تسود
فيها اللامبالاة القاتلة بكلِّ ما هو إنساني،
وتبول جموعُها حول صرخة وجع، ويخدش أمواتُها
الأرض بالأظافر، فيما تتلذذ هي لرؤية الدم
يُراق قطرةً قطرة بين دواليب آلاتها العمياء
المسنَّنة، فتدفع الإنسان إلى هاوية الفراغ
والعدم. فلنسمعه يقول: أواه،
يا أمريكا الشمالية المتوحشة! أواه يا وقحة!
يا متوحشة ممدودة عند حدود الثلج... كذلك: آي
هارلم مقنعةً، أواه!
آي! آي! آي! في نيويورك، يطلق فِدِريكو
غارثيا لوركا، وهو يرثي الإنسانية الذبيحة،
صرخاتِ وجع تفتِّت القلب، مشحونة بإيحائية
نادرة، يبدو معها للقارئ في بعض الأحيان أن
صداها يتردد ضاجًّا ومؤلمًا في أعماقه، كما
في أبيات القصائد. لم يحتمل لوركا شراسة
المدينة–الجحيم، العدائية والمرعبة، التي
حددت ماديتُها البشعة شراسة العلاقات بين
البشر ونأيهم النهائي عن الطبيعة البكر، عن
الإنسانية، وعن مشاعر نبيلة لا يمكن للمرء أن
يعيش من دونها: الرحمة والحب والسلام. لقد
حولتْ نيويورك إنسانَها إلى رقم زائد أو ناقص
في دفاتر مكاتب ناطحات السحاب الزجاجية
وحشرتْه في زاوية الغربة والفردية والضياع.
في المدينة–الجحيم، يشعر
لوركا بالاختناق في عالم الآلة، يحس أن الأرض
تميد تحت قدميه، وهو يقف على حافة هاوية العدم
البائس والفراغ القاتل الذي أحدثَه غيابُ
الإنسانية، فتغيرت ألوانُه الأندلسية
الزاهية: استبدل الأسود والرمادي الداكن
بألوان الرند والياسمين، وظهرت في أبياته
مفرداتٌ لم يستعملها من قبل ("يا أمريكا
الشمالية المتوحشة! يا وقحة!")، وميزت رؤاه
تحولاتٌ غير معقولة، غريبة إلى حد، فصارت
النجوم بقرًا، وتحولت العصافير إلى ثيران،
وسمك الكريستال صار يشبه أقدامًا صغيرة
حُمرًا لنساء. في نيويورك، ضيَّعت
الموجوداتُ كلُّها هويتَها الحقيقية، وبات
الجو العام في مدينة التدمير الإنساني يوحي
بالهذيان، بات كابوسًا في اليقظة وفي المنام،
فغرقت فيه الفراشات (رمز الفكر) في المحابر
السود، وكانت أرقام الضرب والحسابات تطعن فيه
مثل سكين، وظهرت على مسرحه حيوانات صغيرة
مقطوعة الرأس وحمامات عالقة في القناطر
الصغيرة – وذلك كله في الوقت الذي يراقب فيه
المصرفي مقياس ضغط السوائل والأبخرة: "آي
وول ستريت!" غلاف الطبعة الإنكليزية من شاعر في
نيويورك. في نيويورك، يبقى "وول
ستريت" رمزًا مرعبًا لانهيار الإنسانية
وقيمها الكبرى: كل شيء فيه رخيص وتافه وخاوٍ،
كل شيء فيه يُشرى ويباع، حتى عرق البؤساء
وصحتهم. كما أنه مسرح قبيح للرقص، فيه يرقص
القناع الأسود بين أعمدة دم وأرقام، بين
أعاصير الذهب وأنين العاطلين عن العمل في
الظلمات (قصيدة "رقصة الموت"). في المدينة المحتضرة، يشعر
فِدِريكو غارثيا لوركا، ابن "الروحانية
الغرناطية"، بالقلق الروحي العميق،
بالتشتت والضياع، فيصرخ بأعلى صوته مشهِّرًا
بهذه الحضارة المادية الصرف، المجردة من
الإنسانية، التي حولت أبناءها إلى حشود بلا
رؤوس، يستيقظون في فجر أسود، عارفين أنه لا
يحمل إليهم أيَّ أمل، ويتجهون بالتالي إلى
الشوارع الميتة أو إلى المترو، ليصلوا إلى
مكاتب الزجاج والإسمنت الباردة، ويُغرقوا
إنسانيتهم في "وحل الأرقام والقوانين".
قهر، رفض، قلق، وحدة، غربة،
ضآلة، تشوُّش فكر، ضياع، مرارة، غضب: هذا ما
يشعر به فِدِريكو غارثيا لوركا في مواجهة
المدينة العدائية، مركز الثقل في سحق العالم
الذي تتهدَّده حضارةُ الآلة الشيطانية، التي
يشهِّر بزيفها وشراستها في واحد من أروع
دواوينه، – قبل أن تسترجعه من جحيمه "الروحانية
الغرناطية" لينظُم ديوان التماريت، – شاعر
في نيويورك، ويسألها: أين جذورها؟ أين
روحها؟ في الآلة؟ في الإحصاءات؟ (قصيدة "مكتب
واتهام"). احتضار.
احتضار. حلم. تعفُّن. حلم. هكذا يصور لوركا في أعماق
الزنوج – والعينان في شعر لوركا هما مرآة
الأعماق – القلقَ الوجودي في نيويورك
الإسمنت. *
* * الفـجـر لفجر نيويورك فجر نيويورك يئن يطلُّ الفجر ولا أحد
يتلقَّاه في فمه، الأوائل الذين يغادرون
منازلهم النور مدفون في سلاسل
وضجيج، عودة إلى المدينة: الجبال موجودة. أعرف ذلك. في الأيام كلِّها، يُذبَح
في نيويورك من الأفضل أن ينتحب المرء
وهو يشحذ الموسى، البط والحمام، إني أتهم أولئك كلَّهم النصف الآخر يسمعني، إنه ليس الجحيم، إنه الشارع. صدأ، تعفُّن، أرض مرتعشة، ما الذي سأفعله؟ أأنسِّق
المشاهد؟ سان إغناثيو دي لويولا[1] لا. لا. لا. إني أتهم، ترجمة:
ن.ظ.ش. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة [1]
هو القديس
أغناطيوس الليولي (1491-1556): نبيل اعتكف، بعد
إصابته في إحدى المعارك، في خلوة صوفية،
فأسَّس في باريس، مع سبعة من صحابته،
جماعةً صارت في العام 1540 رهبنةً باسم "سرية
يسوع". وضع للرهبان دليلاً عمليًّا
بعنوان الرياضات الروحية. (المحرِّر)
|
|
|