غـنِّ، أحـبُّـك أن تـغـنِّـي...

 

داريـن أحـمـد

 

لعلَّ الرقص هو التعبير الأكثر "فجاجة" عنها – لا الرقص المنظَّم في أنساق، بل الرقصُ البشري المفاجئ عندما يدغدغ إنسانًا سمع خبرًا سعيدًا، خصوصًا فيما يتعلق بالحب! تبدأ العيون أولاً ارتعاشاتها الفوضوية، ثم تسارع الأيدي إلى اقتناص اللحظة، يليها انقباضُ الجسد وانبساطُه. بعضنا – وهم ندرة – يترك للأمر مساحةً أكبر من الحرية إذ ينهض، يتحرك بسرعة، دونما اتجاه محدد؛ وبعضنا – الأندر – يبدأ رقصةً تخصُّه وحده. ثمَّ ماذا عن الرغبة في اندماج معربد يغيب فيه المرءُ عن اسمه وشكله؟! هل أقصد موسيقى الروك وخمورها والتكنو ومخدراتها؟ نعم... وكذلك الاحتفالات "الطقسية" العجوز في القرى؛ ومسيرات "القضايا الكبرى" ومظاهراتها أيضًا؛ وقداسة الحجِّ المبارك في أيِّ مكان ترك الله فيه ظلاًّ على الأرض أيضًا وأيضًا – أليست هذه كلها نسخًا متحضِّرة عمياء عن لحظاتها؟ – أقصد "البدائية".

* * *

 

جميع الناس يقولون إن الفكر أعلى مراحل التطور الإنساني. تبتعد الفلسفةُ أكثر فأكثر عن الاتصال بالانطباعات البدائية الوجودية، ولم يعد ثمة شيء يستكشف، شيء يعاني. لقد اكتمل كل شيء، وما على الفكر الآن إلا أن يضع العناوين، أن يصنِّف المفاهيم المختلفة ويرتِّبها ترتيبًا منظمًا. لم يعد المرء يعيش، يفعل، يؤمن، بل يعرف ما الحب وما الإيمان، ولم يبقَ إلا أن نحدِّد مكانهما في المذهب.
كيركِغور

 

يرى ز. كيركِغور أن البدائية هي أصلنا السرمدي. وحياتنا، إذا بدأت مسيرتها وعيًا وفكرًا، فلا بدَّ أن سعيها النبيل هو استعادة تلك البراءة المفقودة التي كنَّاها قبل "الثقافة". وللبدائية عنده مغزى ديني أصيل يتمثل في العلاقة مع الله دون وسائط، حيث يمكن لنا أن نوازي بينها وبين الإيمان الفطري أو "الطبيعي" عند غوته؛ هذا الإيمان الذي لا يضيع أبدًا، إنما يمكن لنا أن نعمى عن رؤيته، وفي الوقت الذي نريد فيه استعادته يتجلَّى. وعلى الرغم من أن كيركِغور يقف ضد "الثقافة = الفكر"، إلا أنه يقول بإمكانية الوصول إلى "أصلنا السرمدي = بدائيتنا" عبر رحلة تعلُّم طويلة، مقاربًا بذلك ما تقدِّمه الحكمةُ التاوية الصينية عن مفهومَي التعلم والمعرفة.

إنَّ ما يُطرَح كسؤال أساس هنا هو: هل إن البدائية والثقافة متعارضتان حقًّا؟ أم أن التعارض هو في منظومتنا الثقافية، "وحيدة الوجه" بتعبير تِلار دُه شاردان، على الضدِّ من المنظومة الثقافية للإنسان البدائي؟ بالطبع، يقود هذا إلى سؤال أكبر عن التعارض بين الطبيعة nature والثقافة culture: هل هو تعارُض أزلي، أم أنه عارِض يتعلَّق بشكل الثقافة وليس بطبيعتها ذاتها؟

لا بدَّ، أولاً، من أن نشير إلى أن الجدل الواسع حول مصطلح "البدائية" primitiveness، المستند إلى ضبابية المفهوم ومجمل الأحكام التقويمية التي بزرت في حقِّه، – من قبيل: "متمدِّن/بدائي"، "أعلى/أدنى"، "متقدِّم/متخلِّف"، إلخ، حتى إن بعض الأنثروپولوجيين يقدمون مقترحات بديلة، مثل "قبل كتابي" أو "هامشي" أو "أولي"، لإحلالها محله، – هو جدل تغذِّيه ثقافتُنا التصنيفيةُ التجريدية، كما يغذِّيه مفهومُ التفضيل العمودي المستند إلى خلط أساسي بين الثقافة والتقدم أو الأحدث. فـ"التقدم" مصطلح يجيز لنا أن نتحدث عن شروط معيشية أفضل، عن مستوى تكنولوجي أرقى، عن وسائل تقنية أكثر تطورًا، إلى ما هنالك؛ لكن هذا لا ينسحب على الثقافة، خصوصًا مع ترافُق هذا التفضيل مع محو السمات الفنية والفكرية والإنسانية كافة التي ميزت الفترة البدائية لصالح العنوان التكنولوجي. في المقابل، يمكن لنا تخطِّي ذلك باستجلاء مميزات ثقافتنا المعاصرة في مقابل ثقافة الفترة البدائية، والعكس بالعكس، مع محاولة الابتعاد عن إسقاط ظرفنا، بمختلف نتاجاته الأخلاقية، على ظروف زمن سابق، مختلفة أساسًا، وبمحاولة تجاوُز مفهوم "الإحلال" للوصول إلى التشارك.

* * *

 

إن الخير والجمال عند البدائيين مترادفان.
بُوس

 

يذكر ستانلي دايمُنْد، في محاولة للتعريف بـ"البدائية"، خصائص المجتمع البدائي التي يمكن لي أن أوجزها كما يلي:

-       أولاً: يقوم المجتمع البدائي على قاعدة اقتصادية جماعية، لا وجود فيها لمفاهيم مثل "رأس المال" أو "الملكية الشخصية" بالمعنى المتعارف عليه، أي بمعنى الملكية الشخصية للأشياء التي هي ذات فائدة للمجتمع ككل: فالملكية الشخصية في هذه المجتمعات هي ملكية أشياء غير ضرورية للجماعة ككل أو أشياء ذات طبيعة شخصية جدًّا لا يمكن امتلاكها جماعيًّا؛

-       ثانيًا: غياب مفهوم السلطة اللاَّشخصية التي نعيشها الآن: فالقيادة مكان متاح للجميع، وهو يرتبط بالواقع المعيش، كالمهارة مثلاً أو الخبرة؛ ومنه

-       ثالثًا: لا وجود للقوانين بالشكل الذي نعرفه: فالمجتمع يحكمه العرفُ المتفَق عليه الذي تصطلح الجماعةُ على احترامه؛

-       رابعًا: تتغير المجتمعات البدائية في بطء لا نعرفه في ثقافتنا المتقدمة تكنولوجيًّا، مما يتيح احتواء التغيرات دون ثورات دامية؛

-       خامسًا: يقود ما سبق إلى قدر كبير من التكامل بين الأشكال الثقافية كلِّها، أي بين الدين والبنية الاجتماعية والتنظيم الاقتصادي والتكنولوجيا والسحر والعمل، وبتعبير دايمُنْد:

لا يرى البدائي نفسه منقسمًا إلى "كائن اقتصادي" و"كائن ديني" و"كائن سياسي" وما إلى ذلك، بل هو يقف في مركز عالم مركَّب، كلِّي، من النشاطات الملموسة [...].

-       سادسًا: علاقة البدائي بأدوات عمله علاقة خلق، لا علاقة استعباد، كما هي في ثقافتنا، والإنتاج في المجتمع البدائي عامل يساعد على تكامُل الفرد، لا على بلبلته، ويدعم هذا التكامل؛

-       سابعًا: قيام المجتمع على أساس من القرابة، لا على أساس سياسي؛ وهو ما يقود إلى أهم خصائص هذا المجتمع، باعتقادي، وهي:

-       ثامنًا: أنماط التفكير البدائية هي، بمعنى ما، عينية، وجودية، اسمانية، ضمن سياق شخصاني، ما يعني تقليص مساحة التجريد "الأفلاطوني": فالبدائي، كما يذكر بوس، لا يمكن له أن يتحدث عن الطيبة كفكرة مجردة، بل يتحدث عن طيبة فلان من الناس، ما يقود إلى التركيز على فعل الشخص، لا على الشخص ذاته، وإلى وعي عميق بالتعقيد الذي تنطوي عليه الحياةُ في توازٍ مع استحالة المنجز الفكري أو اللغوي؛ وأخيرًا و

-       تاسعًا: يتصف هذا المجتمع باعتماده الطقس (الدراما الشعائرية) كأسلوب تعبيري عن مراحله الحرجة، سواء في علاقاته الاجتماعية أو في علاقته مع الطبيعة؛ وتتصف هذه الطقوس بأنها خلاقة وتُستخدَم استخدامًا ثقافيًّا يركِّز على المشكلات الوجودية وإسقاطاتها، وتعمل على تخفيف القلق والخوف البشريين.

ويصل ستانلي في ختام تحليله إلى أنه إذا كان تحقُّق الإنسان هو مقياس تقويم الثقافة فإن المجتمعات البدائية أرقى من مجتمعاتنا المتمدِّنة: فتلك المجتمعات قد ركزت على فردانية الفرد، لا على فرديته الإيديولوجية، بمعنى عزلته وانفصاله عما حوله؛ كما أنها مجتمعات فعلاً وليس "تجمعات" collectivities: فالتجمعات ذات الوظائف المحددة من الخارج والتعامل الآلي المفروض بشكل أو بآخر هي من سمات ثقافتنا الحالية.

في تعبير بوس عن أن الخير والجمال عند البدائيين مترادفان تكثيف لاختلاف أساسي آخر بين الثقافتين، تحديدًا في الوجه الديني لهما. فالثقافة البدائية التي يتغلغل الدينُ في تمثُّلاتها كلِّها ترى في الطبيعة، بخيرها، بجمالها، بأسرارها، وحتى بـ"شرِّها"، الله المتنوع ذاته، ما يعني تجاوُز تحويل الحياة إلى سلَّم يفضي إلى مجهول حيث يختبئ الجمال منتظِرًا؛ وهذا ما يقوم عليه الوجه الديني "التوحيدي" لثقافتنا – هذا الوجه المنفصل عنها، الذي يفصل بدوره بين الخير والجمال.

* * *

في داخل كلِّ واحد منَّا "بدائي" صغير يجب كبحُه وترويضُه باستمرار، وإلا فهو ساعٍ لا محالة إلى تقويض صورتنا الاجتماعية، موقعنا الاجتماعي، ومنجزنا المادي والفكري. هذا ما تعلِّمه ثقافتُنا، وهذا هو تاريخها في التعامل مع ما اختفى الآن من "مخابر" لدراسة الإنسان وتطوره؛ "إنسانها" طبعًا، الإنسان–المركز الذي خُلِقَ العالمُ مسخَّرًا لأجله، الإنسان مخلوق الله المفضل والأرفع من سائر المخلوقات الأخرى، الإنسان المعزول المتفرِّد الذي يقضي جلَّ حياته محاولاً فهم نفسه خارج نفسه. وهذا ما يجب التركيز عليه باعتباره مشكلة وليس حلاً: فالسعي إلى استدماج integration البدائي، كثقافة، في ثقافتنا هو خطوة نحو إعادة التنوع الذي يمثِّله إلى حيزها الضحل المنفلت، وهو خطوة نحو تحرير الإنسان من صورته عن نفسه كخليفة مستبد أعمى، وهو، قبل كلِّ شيء، خطوة نحو بناء جسر إنساني مع جنسنا وماضيه.

* * *

أحبُّ أن أختم هذه الافتتاحية التعريفية البسيطة بقصة من قصص گاليانو من كتابه ذاكرة النار:

يحضر بارثولوميو كولومبس، شقيق كريستوفر وقائمقامه، حَرْقَ لحم بشري. ستة رجال يحترقون في محرقة هايتي.
يسعل الجميع من الدخان. يحترق الستة كعقوبة وعِبرة: لقد دفنوا صور المسيح والعذراء التي منحها لهم "رامون پاني" لتحميهم وتنصحهم. علَّمهم فرا
[الأخ] رامون أن يصلُّوا على ركبهم ويردِّدوا السلام المريمي والصلاة الربانية وأن يتحصَّنوا باسم يسوع ضد الإغواء والأذى والموت.
لم يسألهم أحدٌ لماذا دفنوا الصور. كانوا يأملون أن هذه الآلهة الجديدة ستخصب حقول الذرة والمنيهوت واللوبياء.
تضيف النارُ الدفءَ إلى الحرارة الرطبة اللاصقة التي تنذر بمطر غزير.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود