|
أحـبَّ الثـورة
كان قراء الكاتب الروسي ألكسندر إيسايڤتش سولجنيتسن (1918- ) يظنون أن روايته الأولى هي يوم في حياة إيڤان دنيسوڤتش التي نشرها في العام 1962 في المجلة السوڤييتية الشهيرة Новы Мир ("العالم الجديد") في عهد نيكيتا خروتشوف الذي أذِنَ شخصيًّا بنشرها. لكن هذه الرواية البديعة، التي تفضح خفايا معتقلات "الغولاغ" الستالينية والتي صنعت شهرةَ صاحبها عالميًّا، لم تكن روايته الأولى، بل سبقتْها روايةٌ مجهولةٌ عنوانها أحبَّ الثورة! هذا الرواية لا تزال سرًّا من أسرار هذه الكاتب الكبير الذي كان واحدًا من المنشقِّين الكبار أيضًا طوال عقود. فهو لم يكملها، ولم يأذن بنشرها إلا في العام 1997، بعد زهاء ستة وخمسين عامًا على كتابتها. ولم تُدرَج هذه الرواية ضمن لائحة أعماله، ونادرًا ما وَرَدَ ذكرُها، وكأنَّ كاتبها شاءها أن تظل قابعة في أدراج الذاكرة.
إلا أن هذه الرواية "الناقصة" بدت أشبه بالمفاجأة الجميلة في ترجمتها الفرنسية التي أنجزتْها فرانسواز لوسور[†]، ولعلها الترجمة الأولى لها إلى لغة "أجنبية". كتب سولجنيتسن هذه الرواية في العام 1941 (وكان في الثانية والعشرين)، أي قبل أربعة أعوام من دخوله السجن في "الغولاغ" من جراء "نشاطه المعادي للثورة البولشڤية"، كما نصَّت التهمةُ التي وُجِّهَت إليه. والمصادفة أن سولجنيتسن باشر كتابة هذه الرواية في العام الذي اجتاح النازيون روسيا (1941)، ما جعلها شهادةً حيَّة عن هذا الاجتياح وعن الحرب التي دارت لاحقًا بين ألمانيا هتلر وروسيا ستالين. كان سولجنيتسن على يقين من أن الاتحاد السوڤييتي كان قادرًا على تحاشي هذه الحرب المدمِّرة لو أن ستالين عرف كيف يتواطأ مع هتلر. وقد حمَّل ستالين تبعة الحرب وما نجم عنها من خراب، معتبرًا إياه مسؤولاً أكثر من هتلر عن "كارثة" روسيا هذه. هذا الموقف هو الذي أدَّى إلى سجنه ثمانية أعوام، وقد كتب خلالها سرًّا روايته يوم في حياة إيڤان دنيسوڤتش.
غلاف إحدى طبعات الجيب الفرنسية من يوم في حياة إيڤان دنيسوڤتش تحمل الرواية الأولى أحبَّ الثورة بذور عالم سولجنيتسن الروائي الذي تجلَّى لاحقًا. البطل الذي يُدعى، في أحد أسمائه، نيرجن، لن يلبث أن يظهر في رواية الدائرة الأولى. ولعلَّه شخص سولجنيتسن نفسه في مرآة الكتابة: فسيرة هذا البطل تحمل ملامح من سيرة الكاتب، وحماستُه للفكرة الروسية تشبه أيضًا حماسة الكاتب لها. إنها قصة نيرجن، الفتى النحيل الذي ينهي في الثالثة والعشرين دراسة الرياضيات في جامعة روستوڤ. لكن التاريخ والفلسفة يجذبانه، فيلجأ إلى موسكو بغية الالتحاق بمعهد الفلسفة والتاريخ. ويكون اليوم الذي عليه أن يتقدَّم فيه بامتحان الدخول تاريخيًّا: يوم بدء الاجتياح الألماني للاتحاد السوڤييتي. الشاب المتحمس للانخراط في الحرب دفاعًا عن وطنه يُرفَض من جراء ورم في رأسه يوشك أن يصبح سرطانيًّا؛ ولكن بعد إصراره تُلحِقُه السلطةُ بسلاح المدفعية. وفي قلب المعارك، وعِبْرَ المهمات التي أوكلت إليه، يكتشف "الوجه الآخر" للثورة والجيش الأحمر، ويدرك معنى السجن و"البوليس" وكراهية المواطنين للسلطة الجديدة. يصف سولجنيتسن الجنوب الروسي خلال الحرب وصفًا تفصيليًّا، دقيقًا وحيًّا. وتبدو المعارك أشبه باللوحات الكلاسيكية الحافلة بالعربات والجياد والجنود، وتبرز الجبهات وخطوط المواجهات وحالات الانكفاء إلى الوراء والجماعات والقطارات... رواية حقيقية، ذات منحى كلاسيكي واضح، كتبها سولجنيتسن عبر لسان الراوي (الهو)، معتمدًا لغةً شبه شعبية، لغةَ الناس في حياتهم اليومية. وقد بدت "عين" السارد أداةً مهمةً عِبْرَ مراقبتها الحادة لأحوال المواطنين وللأشياء والتفاصيل.
ألكسندر سولجنيتسن بعد عودته من منفاه الطويل إلى روسيا في العام 1994، – وكانت مضت خمسة أعوام على سقوط جدار برلين، – تردَّد سولجنيتسن في نشر هذه الرواية التي استوحى عنوانَها من قصيدة للشاعر الرومنطيقي البولشڤي بوريس لاڤرينوڤ، ثم وافق على نشرها بعد ثلاثة أعوام. إلا أن هذه الرواية التي رحَّب بها القراءُ والنقادُ في روسيا مابرحت أقرب إلى السرِّ الذي يكتنف حياة سولجنيتسن الشاب الذي يشبه بطله: لماذا لم يكملها لاحقًا؟ هل أنستْه إياها سنواتُ السجن الذي زُجَّ فيه في العام 1945، لاسيما بعدما واجه ظروفًا قاسية جدًّا وغير إنسانية؟ أم أنه وجد فيها عملاً أول يحمل ملامح الكتابة البريئة وغير الناضجة؟
سولجنيتسن إبان فترة "الغولاغ" (1953) غالبًا ما يخفي الكتَّاب أعمالهم الأولى، متجاهلينها أو حاذفينها من لائحة أعمالهم؛ وذريعتهم أنها أعمال تتلمَّس طريقها إلى الكتابة. أما رواية سولجنيتسن هذه فتنمُّ عن نضج ووعي فنيٍّ وحذاقة في السرد والوصف... رواية جميلة حقًّا، ولو لم يكملها. وقد يكمن سرُّها في أنها رواية "ناقصة"، رواية شاء صاحبُها أن يكملها القارئ، بل القراء، كلُّ على طريقته. *** *** *** عن الحياة، 26/11/2007 [*] كاتب لبناني؛ بريده الإلكتروني: awazen@alhayat.com. [†] Alexandre Soljénitsyne, Aime la Révolution !, traduit du russe par Françoise Lesourd, Fayard, Paris, 2007.
|
|
|