خـاتَـم الإلـه

مفهوم "الشهادة" بين سيمون فايل وسورِن كيركِغور

 

ديمتري أفييرينوس

 

الشاهدُ للحقيقة إنسانٌ تعدَم حياتُه المتعَ كلَّها [...] إنسانٌ سورِرَتْ حياتُه مُسارَرةً عميقةً بالمعارك الداخلية، بالمخافة والهزات، بالغوايات، بالضيق النفساني، بالآلام الروحية. الشاهدُ للحقيقة إنسانٌ يشهد للحق في الفقر، في المذلَّة والازدراء، غير مقدَّر حقَّ قدره، مكروهًا [...] الشاهدُ للحقيقة شهيد.

– س. كيركِغور

 

في حياة الإنسان على الأرض قانون لا محيد عنه، لا تعيه حقَّ وعيه إلا ثلة صغيرة من بني الإنسان. ولعل العبارة التالية أبسط صياغة ممكنة له: بعض الكائنات موسوم بخاتم. يقضي الخاتمُ أن الموسوم به يكون مصطفًى من وجهين اثنين: وجه دعوة ووجه رسالة. ويدل الخاتمُ أن الموسوم به موكَلة إليه خلافة؛ أي أن هذا الخاتم في الأساس إشارة إلى "الأمانة" التي "حملَها الإنسان"، فيما أبَتْ أن تحملها السماواتُ والأرضُ والجبال (القرآن الكريم، سورة الأحزاب 72). من جانب آخر، ينطوي الخاتم على معنى "الخَتْم"، وبذلك يدل على وجود السر. والموسوم بهذا الخاتم ليس في مقدوره أن يفضَّه بغير النعمة. هذا الخاتم خاتم الإله في قلبه. وهذا الخاتم هو موهبة التعالي[1]. يشير "التعالي" إلى ما كان أزلاً، وما سيكون أبدًا، في "الآن"[2].

وهذا "الخاتم" يجوز أن يُدعى أيضًا موهبة المطلق. والموسومة قلوبُهم بهذا الخاتم – مثل سيمون فايل – يمكن أن يُدعَوا شهودًا للحقيقة: إنهم منذورون لاستيلاد الإله في الكون. حضور المطلق – كالثقب الأسود في الكوسمولوجيا الحديثة الذي يمتص كلَّ ما يجتاز "أفق الحدث"[3] – يُفرِغ كلَّ ما حوله من محتواه. في عبارة أخرى، يفضي حضورُ المطلق إلى غيبة عن "العالم" الذي يفقد فتنتَه كلَّها. وهذه الدعوة هي من السطوة، أو بالأصح، هذا التوق إلى الأبدي هو من الامتلاء بحيث يُخرِس كلَّ ما سواه ويُعدِمُه كلَّ أبجدية معقولة.

الوجود يتخطَّى نفسه على الدوام، والإنسان يحيا غربةً مريرة، مثله كمثل القاطن بلادًا حارة يجد نفسه فجأة، من حيث لم يستعد، في مناخ ضبابي قارس البرودة! كالسمكة خارج الماء يصير، كعصفور في قفص، كحيوان بريٍّ محبوس في زريبة. و"الحبس" ليس الجسم بقدر ما هو العالم برمته. "الشهيد" تتنازعه، في آنٍ معًا، لدغةُ الإله المحتومة وضرورة التعري، أي ضرورة الحياة منزوع السلاح في عالم يصم آذانه عن صوت الحق ويشهد للباطل.

الإنسان الميمِّم وجهَه شطر الحق يكابد في هذا العالم عذابًا مستديمًا. كلما اتسعت دخيلتُه احتدَّ شعورُه بما يميِّزه، وبالتالي، يعزله عن سواه. عندئذٍ يعي الإنسانُ في سرِّه حضورًا، "وزر خلود"[4] ينوء به، لكن هذا الحضور–الوزر – ويا للعجب! – يصبح معنى حياته كلِّها. هذا "الحضور"، يشير إليه القديس أوغسطينوس في الاعترافات بقوله: "إنِّيٌّ يكون فيَّ أكثر إنيَّةً من إنِّي."[5] هذا الحضور يعيِّن وجهةً للكائن برمَّته الذي "يحبل" بالإله و"يتمخض" عنه. لقد تكلَّمت سيمون فايل على هذا "الألم الذي لا مناص منه للعبور من الزمن إلى الأبدية"[6]. "القوت الأرضي" (بحسب تعبير أندريه جيد) يمسي عديم المذاق: "مَناظِر، أُلهِيات، تَسالٍ، عار وشنار! النظر سلبيًّا، نسيان النفس، الهروب من الذات، التحول عن... المسألة"[7]، قال الشاعر رونيه دومال، صديق سيمون فايل. الإنسان، وقد بات يتحرق إلى القيم الحقيقية، يجد نفسه مقذوفًا في الفراغ: إنه دومًا منتزَع من ذاته، انتزاعًا خاطفًا في بعض الأحيان أو عِبْرَ توق وئيد متدرِّج. يقول راينر ماريا ريلكه: "[...] أنت، يا إلهي، كالحجر [...] يشد كلَّ يوم إلى الأعماق."

في هذه الحال، يستوطن الإنسانَ "فناء" مستديم كي يولد فيه شيءٌ أكبر من شخصيته الزائلة. ينبغي التنحِّي، الانمحاق، رفع حجاب الأنية. لا تحقُّق هاهنا بغير موت "الإنسان الظاهر" والتجدد بـ"الإنسان الباطن"[8]. وبحسب سيمون فايل: "ليس العذاب موجودًا إلا لتجفيف منبع الطاقة الجسدية، الطاقة الحيوية، النباتية حتى."[9] الولادة الجديدة تحتِّم موتَ البذرة المرمية في التراب لأن الحياة يجب أن تخرج منها. من هنا قول يوحنا المعمدان عن يسوع: "لا بدَّ له من أن يكبر، ولا بدَّ لي من أن أصغر" (يوحنا 3: 30)؛ وكذلك "الشوط الأخير" الذي تكلم عليه القديس بولس: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا في." (الرسالة إلى الغلاطيين 2: 20)

بذا فإن الله أبدًا في انتظار أن يتم التعرف إليه: إنه حاضر دائمًا حضور البذرة التي يمكن لها أن تنتظر دهرًا رطوبةَ الأرض التي تجعلها تنتش. الله لا ينام... ولا البذرة! بيد أن كلا الله والبذرة يلوذ بالصمت. لكنْ عندما تقتبل الأرضُ في رحمها البذرةَ وتتبناها تنتش هذه. فليَصِرِ الإنسانُ أرضًا وليقبلْ، ينبت الله فيه! إنها "الولادة الجديدة"، كما كتبت سيمون فايل:

بدلاً من أن يفيد البذارُ في توليد كائن آخر، يفيد في توليد الكائن نفسه مرة ثانية: عودٌ على الذات، دورة تامة، دائرة.[10]

التواضع يَهَبُ الإنسانَ ما تمنحه الأرضُ من دفء ورطوبة. القبول ضروري؛ وهو الشرط اللازم والكافي لولادة الإله السرَّانية في النفس. إنه، في نظر سيمون فايل، "آنة قبول غير مشروط للخير الخالص. ولا يتبين المرءُ أنه قد حظي به إلا بعدئذٍ"[11].

إن استيلاد الإله في الإنسان يترافق بآلام مخاض دائم. لذا كتبت سيمون فايل أن الإنسان "المصنوع من الجسد" يتألم بالضرورة بسبب من اتحاده بالطبيعة الإلهية: "الله يتألم فيه أنه منتهٍ."[12] إلى ذلك تُضاف الكآبةُ المتولدة عن شدة قرب الإله التي تعايَن أحيانًا، لكنها لا تعانَق أبدًا عناقًا كاملاً. إنه "الحنين الأكبر" يستولي على النفس:

كالضباب هو الحنين الأكبر. فعلى حدِّ ما ينبعث الضبابُ من البحر والبرِّ، فلا يلبث أن يحجب الاثنين، ينبعث الحنينُ الأكبر من أعماق القلب، فلا يلبث أن يحجب القلب. ومثلما يغشى الضبابُ كلَّ منظور، فلا يذر للعين ما تبصره غير الضباب، هكذا يسطو الحنين الأكبر على كلِّ ما في القلب من مشاعر فيتغلب عليها ولا يترك للقلب ما يشعر به إلا الحنين. [...]

وكالسارق هو الحنين الأكبر. فمثلما يريح السارقُ اللبقُ غريمَه من عبء ويتركه، مع ذلك، فريسةً للسخط والأسى، هكذا يفعل هذا الحنين بالقلب، إذ يرفع عنه بخفة متناهية كلَّ أثقاله ويتركه، مع ذلك، في لجج من اليأس والكآبة، لا لسبب إلا لأنه لا يجد أثقالاً ينوء تحتها.[13]

هذا "الحنين"، الذي يكرس له ميخائيل نعيمه الفصل الحادي والثلاثين من رائعته مرداد، يتجلَّى في نزوع أصيل في النفس البشرية إلى الحزن – "أصيل" لأنه مدوَّن في جذور الكيان، جاعلاً إياه شديد الهشاشة. وهذه "الهشاشة" ليست مرتبطة حتمًا بقصور في البنية، بل بالحري بحساسية الكائن الناتجة عن تعدد مواهبه الطبيعية. كتبت سيمون فايل:

إن كان بي حزن فهذا ناجم أولاً عن الحزن المستديم الذي طَبَعَه المصيرُ إلى الأبد في حساسيتي والذي لا تستطيع أعظمُ الأفراح وأصفاها قاطبة أكثر من التوضع فوقه فقط، وهذا لقاءَ مجهود انتباه.[14]

ثم تأتي هذه الجملة الرهيبة حقًّا: "[...] المحبة اللامتناهية العذوبة التي وهبتْني الضنى."[15] إن ما تنطوي عليه الحياةُ من حتمية ما ينفك يجرح هذه الحساسية الفائقة: إنه ألم الإنسانية جمعاء التي يحملها الإنسانُ الفرد في قلبه، ألم المستضعَفين العزَّل، ألم الجياع إلى الخبز والحنان، ألم الحيوان، ألم المخلوقات البكماء... وفوق هذا كلِّه، ألم الانقفاص في جسم محدود. يبدو لنا أن سيمون فايل تنتمي إلى فئة نادرة من البشر قبلت طوعًا، على غرار المسيح والحلاج وغاندي، أن تحمل ألم العالم وأن تكون فديةً عنه[16].

سيمون فايل (1909-1943)

من هنا هذه الشدة الملازمة للجسد – وأحيانًا للذهن – التي ينتجها الشعورُ المستديم بالمحدودية وبالتناهي. وهذا، بدوره، يولِّد الخيبةَ والخواءَ السحيق. الكائن المصاب بهذا الألم الذي لا يطاق، المرافق لاستيلاد السماء من الأرض، يطالِبُ بالمطلق مطالبةً لحوحًا لأنه يقتات به. ولعل كلمة "مطالبة" هنا في غير محلِّها: ففي هذا العطش وذانك الجوع رعونة توق الروح. الكائن يتحول برمته إلى رغبة صرفة. وهذه الرغبة تستحضر طاقاتٍ من طبيعة مماثلة للطاقة التي تبثها في النفس، وهي، تاليًا، لا تمت بصلة إلى الرغبة على الصعيد العاطفي أو الغريزي. لقد سمَّت سيمون فايل "معراجًا" هذه "الرغبة الموجَّهة نحو الله" التي تتولد في النفس:

[...] أو بالحري الله هو الذي يأتي ويسطو على النفس ويرفعها، لكن الرغبة وحدها ترغم الله على النزول. إنه لا يجيء إلا للذين يطلبون منه المجيء؛ والذين يطلبون مرارًا، طويلاً، في حرارة، لا يستطيع [الله] أن يمتنع عن النزول نحوهم.[17]

التوق إلى الامتلاء لا يني، إذن، يصطدم بزوال الحياة اليومية ورتابة حركاتها. كل تماس مع ما هو أرضي محض يولِّد ملالاً لا يطاق. الألم يعزل، يعرِّي، يقذف بالنفس حتى تخوم الوجود. الإنسان المعزول أصلاً مفارقٌ دومًا إلى جزائر جديدة، أكثر سرية، أضيق، تتلاطم عليها أمواجُ العالم أشد فأشد. الشرط البشري في نظر هذا الإنسان لا مفرَّ منه، ولا حلَّ له خارج تجاوُزٍ دؤوب في حركة تصاعدية أبدًا نحو الكمال. يقول ميخائيل نعيمه:

بماذا عساني أُشبِّه بعدُ أخا الحنين الأكبر بين إخوانه الناس؟ إنه لشبيه بفرخ نسر حضنتْه في البيضة دجاجةٌ مع بيضها. فلما نقف زُجَّ مع الدجاجة وفراخها في القن. فراحت الدجاجة وفراخها يعجبون له كأنه منهم وليس منهم، ويحاولون بكلِّ قدرتهم أن يجعلوه يتخلَّق بأخلاقهم، ويتطبع بطباعهم، ويتقيد بعاداتهم، ويعيش عيشتهم، وراح هو يعجب لهم كيف لا يحلمون مثله بالفضاء الطلق والسماوات التي لا تُحَد. فما كان منهم بعد حين إلا أن نبذوه وأخذوا يُعمِلون فيه مناقيدهم. فما نجا حتى من منقاد أُمِّه. وما كان منه إلا أن أدرك وحدته وغربته فيما بينهم، فتصبَّر على مضض [...]، وفي أنفه عبير الحياة الحرة، وفي أذنه نداء القمم البعيدة. وما برح كذلك حتى اكتسى جناحاه بالريش. فامتطى الهواء وحلَّق في الفضاء والتفت مودِّعًا إلى مَن كانوا حتى هنيهة من الزمن إخوانًا له وأمًّا، فإذا بهم ما يزالون ينكتون الأرض بمخالبهم ومناقيدهم طلبًا لدودة أو حبة.[18]

كذا فإن المنذورين لاستيلاد الإله "في الآفاق وفي أنفسهم"[19] هم "ملح الأرض"[20]؛ وهم بين سائر إخوانهم البشر "فراخ نسور بين فراخ دجاج"، عسلهم لا تهضمه يعاسيبُ البشر المتكالبة على متع الحياة الزائلة. فرادتهم تروِّع، وتقطع بذلك – وإنْ لهنيهة – سباق الذين لا يغفرون لهم زهدَهم في التكالب المحموم على ما لا يروي ظمأً إلى المطلق ولا يسد جوعًا إلى الحقيقة. طوبى، إذن، للذين يجعلون من ذلك "الملح" قوتًا لنفوسهم وقوةً لنموِّهم!

لقد ظلت في "القطيع" البشري، على كرِّ العصور، "خراف" أبت إلا أن تشرد وتنتصب واقفة وتصرخ، فتوقظ صرختُها البشرَ النائمين! بالوسع ذبحهم، لكنهم لا يلبثون أن يُبعَثوا في هيئات جديدة. يقول كيركِغور:

كل جيل يعدُّ رجلين أو ثلاثة مُضحًّى بهم في سبيل الآخرين ومقدَّر عليهم أن يكتشفوا في آلام رهيبة ما يستفيد منه الآخرون.[21]

كذلك سيمون فايل، في كلامها على أولياء الله القديسين، تقول: "لعله ليس ثمة، على كلِّ حال، إلا إنسان واحد ناجٍ في كلِّ جيل."[22] وبرأينا أن سيمون فايل واحدة من أولئك "الاثنين أو الثلاثة"[23] في كلِّ جيل، على حدِّ قول كيركِغور، المشتركين في الجذور عينها. هاهنا كل غرابتها، هاهنا كل غربتها، هاهنا كل ألمها أيضًا، وكل معنى فنائها أيضًا وأيضًا، وبالتالي، كل حقَّانية رسالتها.

ليس هاهنا ما يمكن أن نطلق عليه تسمية "حاجة" دينية عميقة، أو "غريزة" دينية لا تُقهَر، أو نوع من "التفتيش عن الله"[24] – اللهم إلا إذا أعطينا مصطلح "دين" معنى "الدَّيْن" الذي ندين به مباشرة للإله – من حيث إن حالة الإنسان الذي أشرنا إليه قبيل قليل تتوضع على هامش الأديان، لا على صعيدها. نحن نتكلم على الله دون أن نعرف مَن هو. نحن عاجزون عن تسمية اللامسمَّى وعن تحديد اللامحدود. لذا توصي سيمون فايل بـ"عدم الحديث عن الله"، حتى في لغة السر. تقول: "لا يتلفظنَّ المرءُ بهذه الكلمة إلا عندما لا يمكن له أن يفعل غير ذلك."[25] من المتعذر إطلاق اسم على هذا المطلق المولود في الكائن المنذور لاستيلاد الإله. إن قمة النفس هي بمثابة المهد المتواضع له، مذود بيت لحم جديد.

كل حصرية فهي مستبعَدة قطعًا. كذا فإن الإنسان المنتسب، بالنعمة، إلى الله ليس وحده المُسْلِم وجهَه إلى الله؛ على أنه، أكثر من غيره بلا ريب، يشارك في افتداء العالم. إنه ينهض بدور الريادة؛ وهو بهذه المثابة، وبها فقط، معزول. ليس للأديان من دور آخر غير تذكير الإنسان بأصله ومآله وتوجيهه نحو الله. بذا تبشر المسيحية بالملكوت والبوذية بالنيرفانا. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى صعيد آخر تمامًا، استخلصت الخبرةُ الإنسانية من مكابدة التجربة مع المطلق فنونًا تستهدف تحرير النفس. إن حالات الوعي تتجلَّى على مراتب جد متنوعة. لقد تكلمت سيمون فايل على لغتين متمايزتين، على كونهما مُركَّبتين من الكلمات عينها: "اللغة الجمعية واللغة الفردية"[26] – وبوسع الروح أن ينطق بأية من اللغتين. تلمِّح سيمون فايل، بخصوص المعلِّم إكهَرْت، إلى الكلمات المسموعة في السرِّ عندما تكون النفسُ متحدة سرَّانيًّا بالله. إن كلام "مخدع العرس" غيره كلام "الساحة العامة"! القديس برنار، في شرحه على نشيد أنشاد سليمان، يميز الكلامَ الذي تسمعه النفسُ العروس من كلام العبد. وبحسب سيمون فايل، يمتاز الصوفية باستعمال مفردات وجدانية. تقول: "من فادح الغلط مؤاخذة الصوفية على استعمالهم أحيانًا لغة عشقية."[27]

إن مسألة اللغة هذه تتعلق بالخبرة الفردية، وليس بالخبرة الجمعية. وهي ملازمة لموهبة مجانية تفصح عن نفسها في سريرة النفس. وهذه هي الجوهر الذي تُستودَع فيه الشرارةُ الإلهية؛ وهي عقدة تمزُّق مستديم وشرط لا بدَّ منه للسموِّ بالعالم وافتدائه. والقاسم المشترك بينها وبين "الشعر العظيم"[28] لا يحتاج إلى بيان: إنه الإلهام الذي يقيم، بحسب سيمون فايل، "في القسم الصامت من النفس فحسب"[29] والذي نقع عليه كذلك في عالم الرسم وفي سائر الفنون الراقية. بذا تكلمت سيمون فايل على اللوحة التي يحدد فيها الإطارُ فضاءً منتهيًا، فكتبت تقول: "يجب أن يقيم فيه اللانهائي."[30] غير أن المعراج الروحي لا تصح مقارنتُه بالدعوة الشعرية من فرط ما يتخطاها بمراحل، اللهم إلا أن يكون الشعر نفسه ثمرة خبرة روحية مع المطلق. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يمثُل أمام الحضرة الإلهية إلا عاريًا من كلِّ عمل: كل شيء يصبح إذ ذاك وقودًا للنار!

إن الاهتداء إلى دين جديد يدل على الدخول في جماعة أو الانتقال من "أمة" إلى "أمة" أخرى. بيد أنه ليس ثمة "اهتداء" إلى الإله؛ إذ يولد الإنسانُ مختومًا قلبه به. قد يتفق لهذا الإنسان أن يتنكَّر للخاتم، أن يسيء استعماله، أن يحوِّل الحروق التي خلَّفها عبورُ الملاك إلى سماتٍ شيطانية – وبذلك يصبح هذا الإنسان مؤقتًا أفظع من غيره من البشر. بيد أن الطهر الفائق للطبيعة هو "قِسْمَتُه"، إذا تحوَّل بوجهه عنه فَقَدَ اسمَه. عند الامتحان، قد يُفرَغ من كلِّ شيء – حتى من الله أحيانًا! عندئذٍ، مضجعًا على الزبل مثل أيوب الصدِّيق، يحك قروحه، بينما أصدقاؤه يسخرون! كل نجاح اجتماعي غريب عنه، إبان حياته على الأقل. ليس له أن يُعترَف به. ما من غلٍّ يقيِّده، حتى قيد الحب. هكذا يزهد كيركِغور في حبِّ ريجينا أولسِن[31]، وفي نظر نوفاليس يبدو موتُ خطيبته تجربة مؤلمة، لكنها ضرورية: "ألا ينبغي عليَّ أن أشكر الله أنه عرَّفني باكرًا إلى دعوتي للأبدية."[32] في مثل هذه الحالة، مهما بدا ذلك من قبيل التناقض، يبرز في حياة هؤلاء التفتيشُ المؤقت عن اللذة الجنسية أكثر من الزواج. إن الخبرة الجنسية، إذ تتموضع على مستوى الحس وتعدم كلَّ تعلق حقيقي، أدخَل في باب "الطيش" منها في باب الإثم. كل ضلالة هاهنا حجاب للنور، لكنها دليل إليه. وبحسب سيمون فايل: "الأعمال الطالحة هي التي تحجب حقَّانية الأشياء والكائنات."[33]

من الممكن تأخير خفق الجناحين والتأبي على الإحساس بالأُكال الناتج عن الانسلاخ الدائم. ففي تعليقها على نصٍّ أفلاطوني مستقى من فيذروس، تلمِّح سيمون فايل إلى "الجناح" الذي تقارن بينه وبين النعمة بوصفه عضوًا فائقًا للطبيعة: "إن خاصيته هي الارتفاع بما هو ثقيل."[34] ليس بمقدور الإنسان "المجنح" أن ينتزع من نفسه موهبةً حصل عليها مجانًا؛ ليس بمستطاع إرادته أن تقاوم، مدة طويلة، شعورًا حقًّا بالوجود. كيف يستطيع المرء أن يمشي وحجرٌ معلق في رقبته؟! لقد تكلمت سيمون فايل على الباعث الجوهري الذي يختلف كليًّا عن الباعث النابع من الحساسية أو من المنطق المجرد. إن عدم اتباع هذا الباعث، وإنْ كَلَّفَ المرءَ أمورًا عسيرة، يبدو لها أعظم ألوان الضنى[35]. في مثل هذه الحالة، لا يندر أن تتحقق الموازنة بالزيغ أو بالجنون؛ لكن آثار "الحَرام" le Sacré لا تُمَّحى أبدًا. والتجربة "الشيطانية" قلما تتم من خلال الغواية الساذجة: إنها بالحري تجد في القنوط من رحمة الله أو في الغلوِّ في الاشمئزاز من عالم منحطٍّ سبيلاً إلى النفس. لقد رصدتْ سيمون فايل هذا الاشمئزاز الذي تقارنه بالسُلَّم، ثم أضافت: "لي حظ وافر من هذا الفضل: تحويل كلِّ اشمئزاز إلى اشمئزاز من النفس."[36]

على موهبة المطلق هذه ألا تلتبس بـ"شيطان"[37] سقراط الذي كان يحذِّره مما يجب أن يجتنب دون أن يملي عليه ما يجب أن يفعل. يصح تأويل هذا الشيطان بكونه حالة وعي شديدة الرهافة يستطاع إقامة صلات رائقة معها. كما يجب عدم التقريب بين تينك الموهبة وبين الروح الپروميثية التي تسعى إلى انتزاع المعرفة غلابًا واغتصابًا. ففي نظر المنذور للمطلق، الحامل خاتمَ الإله في قلبه، أن

[...] خاصية العظمة [...] هي أن يكون أداةً مختارةً في يدي الله. لكنه ما إن يباهي بكونه فاعل أفعاله، بقدرته على علم الغيب بنفسه، وبهذه المثابة، على تطهير وسائله بنواياه [...] حتى يعدم عظمته.[38]

"الاهتداء إلى المطلق"، إذا جاز لنا استعمالُ هذا التعبير، ليس إذن "اهتداء" بالمعنى الاشتقاقي للكلمة، أي ضدًّا للضلال، بل "تذكُّر" بالمعنى السقراطي للكلمة. تأتي ساعة يدرك المرءُ فيها معنى ألمه ومعنى حبِّه. عندئذٍ سرعان ما تُضاء الخطوطُ الكبرى لطفولته وشبابه، فيميز تماسكَ أشواط حياته والمنطق الداخلي الذي ينتظمها. وعند ذاك ينتفض روعًا وطربًا في آنٍ معًا أمام "نصيبه"، حتى وسط الحرمان من كلِّ مدد رباني. في هذه اللحظة، يتلاشى كل عداء بينه وبين الكون، بحيث "يحب الله من خلال الكون"[39]. إنه يُمَّحى لكي يفسح المجال للنور الذي يخترقه بالسريان، ولا ينشد إلا الشفافية. إنه، في إخلاصه النيةَ للحقيقة، يقف على صعيد لا يطاله حسدٌ أو عجلة أو شقاق أو هَم؛ لكنه، في عدم إخلاصه، يصير أتعس الناس وأشقاهم. فهو، إذ يتلهَّى عن "وديعة الأبدية" في قلبه، يُحرَم من كلِّ قوام متماسك. لكنه حين يعترف بالحضور الذي يستوطنه، سرعان ما يؤاخي العالم، ليس جماده ونباته وحيوانه وحسب، بل إنسانه أيضًا. كتبت سيمون فايل:

إن خاصية نعمة الله هي أنها أحيانًا، في ضنانا نفسه، تُشعِرنا بجمال ما. إنه عندئذٍ الكشف عن جمال أنقى من الجمال الذي كان معروفًا حتى ذلك الوقت.[40]

هذه الآنة السرَّانية هي عينها الآنة التي كان القديس فرنتشسكو الأسيزي ينشد فيها "النشيد إلى الشمس" وعيناه مغرورقتان بالدموع؛ هي عينها الآنة التي صاح فيها القديس يوحنا الصليب، وقد تخلَّى عن كلِّ تملُّك على صعيد المادة أو الإرادة أو الفهم: "العالم لي، النجوم لي، الشمس لي [...]." بهذا المعنى نفسه، تشاهد سيمون فايل جمال العالم "الذي هو علامة محبة متبادلة بين الخالق والخلق". إنها، مأخوذةً بهذا الجمال، والنفسُ مترعةٌ بتسبيح بارئها، تفصح قائلة: "الجمال من الأشياء كالقداسة من النفس."[41] كذا السائح ماكار دولغوروكي، في رائعة دوستويفسكي المراهق، يُسِرُّ بأن سرَّ الله مكنون في كلِّ شيء:

كل شجرة، كل عشبة تنطوي على سر. أن يغرِّد طيرٌ صغير، وأن تسطع النجوم متلألئة في الليل، فذلك كله سر، ذلك كله سر واحد [...].[42]

والإنسان، إذ يتعرف إلى معنى السر، ينظر إلى العالم نظرةً جديدةً ويستشعر سريان الروح في الموجودات قاطبة، فيتوطد بينه وبينها تواصلٌ حميم في تلقائية عذراء أبدًا. يبدأ التناغم الأصلي بالوميض قبل أن يستتب في الوعي وينيره إلى الأبد. حقًّا ما تزال ثمة أقفال لا بدَّ من فتحها؛ ومع ذلك تواصِلُ النفسُ الإفصاحَ عن مكنوناتها: كل شيء ينفرج، فيشهد المصطفى لأرض جديدة وسماء جديدة. يقول نوفاليس:

وفجأة يظهر العالم الجديد.

... ... ...

كائن واحد في كلِّ شيء، وكل شيء في كائن واحد،

صورة الله على النبات والحجر

والروح الإلهي في البشر والحيوان،

... ... ...

لا فصل بعدُ في المكان والزمان.[43]

في كلِّ إنسان، في كلِّ شيء، من الممكن استكناه نغمة من أنغام التناغم الكوني: زقزقة طائر كافية لكي يصبح العالمُ جوقةً كلِّية! بهذا المعنى نفسه، في كلِّ كائن، في كلِّ شيء، يسطع نجم، وتبدو الأرض "سماء ذات نجوم" لعين البصيرة المفتوحة. كانت الطبيعة فيما مضى تبدو للمصطفى أقرب إليه من الإنسان لأنه كان يحسبها أقل بُعدًا عن الله. أما الآن، فهو يعرف حق المعرفة القدرات السرَّانية لتجدد الكيان. حسبه أن يستسلم لوزنه الحقيقي حتى تبسط محبةُ الله أسرارَها أمام بصيرته المشدوهة: "هلمَّ معي وسأعلِّمك أمورًا لا تخطر لكِ في بال. فتبعتُه"[44] – هذا ما كتبت سيمون فايل، دون أن تسمي "المجهول" الذي أخذها على حين غرة والذي يشخِّص في خبرتها المسيح.

وتبقى الوحدةُ دربَ الإنسان المنذور للمطلق: إنها طريقه[45]، "عِشُّه"، بحسب تعبير يوحنا الصليب؛ وهي ترتبط مع الألم بقرابة نَسَب. تقول سيمون فايل: "النفس التي تحب الله في الوحدة يحبها الله في الوحدة، أي بلا واسطة."[46] والألم الذي لا ينفك يخترم القلبَ قد ينسحب لهنيهات، لكنه لا يلبث أن يعاود الكرة. بيد أن الحرارة والفرح، اللذين لا يقلان عن الألم سريةً في منبعه، يمكن لهما أن يطغيا عليه لهنيهات أو يجاوراه، إذا جاز التعبير. لكن لا بدَّ هاهنا من الإشارة إلى أمر حاسم: الألم المرفوض يسمِّر النفس في الزمن، بينما "قبول الألم يحملنا حتى آخِر الزمن، في الأبدية"[47]. لقد كلَّمت سيمون فايل جو بوسكيه عن

[...] المحبة الإلهية التي يلامسها المرءُ عند قعر الضنى، مثل قيامة المسيح من خلال الصلْب، والتي هي الماهية غير المحسوسة للفرح ونواته المركزية. وهي ليست عزاء. إنها تُبقي الألمَ على تمامه.[48]

إننا نجد لدى سيمون فايل، مثلما نجد لدى كيركِغور، صدًى لهذه الحركة التي أشرنا إليها للتو. الفضاء ينفتح فجأة، كما كتبت سيمون فايل، ويكون حضورٌ لانهائي اللانهاية. كل شيء يكون صمتًا – صمتًا هو محل إحساس أكثر من الصوت، وهو من الكثافة بحيث ينبغي أن يجتازه كل شيء، حتى الضوضاء[49]. وكيركِغور يتحدث عن جسمه أحيانًا فاقدًا وزنَه، عن هذا السير المحلِّق الذي لا يقلِّد الطائرَ الذي يخترق الأجواء، بل يشبه الريح تداعب الغلال، يشبه الموج، يشبه الغيم. يصبح الكائنُ عندئذٍ شفافًا مثل لجَّة البحر، مثل صمت الليل، مثل صمت الظهيرة عديم الصدى[50]. وفي هذا المعنى نقرأ لميخائيل نعيمه:

لعلها ما يدعونه "غبطة الوجود" انسكبت عليَّ بغتة انسكابَ أشعة الشمس على كرة من البلور. فأحسستُني كيانًا شفافًا مترعًا حرارة ونورًا. فلا أنا من لحم ودم. ولا أنا سجين زمان ومكان. ولا أنا أنا. فكأن الكائنات، منظورها وغير منظورها، قد ذابت فيَّ وذبت فيها. فالشمس والقمر والنجوم مني وأنا منها، وهي فيَّ وأنا فيها. [...] الكل ذوبٌ لا يوصف من محبة لا توصف. والشعور بتلك المحبة لا ينقاد إلى تعريف أو تحديد. إنه الغبطة بعينها. بل هو الغبطة فوق كلِّ غبطة. غبطة لا يحلِّق إليها فكر، ولا يطالها خيال [...].[51]

يجتاز الإنسانُ في رحلته الداخلية أطوارَ غبطة لا توصف. إن جذله يصير من الشدة بحيث يكابد شعورًا غامرًا بأنه إذا زيد بمقدار ذرة حصل في داخله نوعٌ من الانفجار قد يودي بحياته! الفرح المشع ينبجس من جَوَّاه ليعود إليه أضعافًا مضاعفة. إنه يشعر بنفسه شمسًا، يعطي من غير أن ينقص ومن غير أن يهتم بما ينير. تستخدم سيمون فايل مثال الشمس الذي يَرِدُ مرارًا في الأفلاطونية والمسيحية وفي منقولات روحية عديدة. نور الشمس ينتقل تلقائيًّا. أما المناوأة، أو بدقة أكبر، المقاومة، فلا تأتي إلا من جهة المادة. كلٌّ يقتبل النورَ بمقدار باعه. تقول سيمون فايل: "مَن يأكل النور يحيَ. لو كنا مزوَّدين باليخضور لتقوَّتنا بالنور، كالأشجار."[52] مُشِعًّا كالشمس، نكرة، يعي المرءُ أنه غير مسؤول البتة عن هذا الضياء: كلما "ارتقى إنسانٌ إلى درجة امتياز تجعل منه بالمشاركة كائنًا إلهيًّا"، سرعان ما ترتسم فيه خاصيةٌ لاشخصية[53]، فيكاد أن يكون خلقًا آخر. والنفس تقبل هذه الحالة الجديدة "محبةً بالمخلوقات، كما يقبل الله أن يخلِق"[54]. وأحيانًا يكون الوجْد من العمق بحيث يصير مؤقتًا حالة. ووسط فيض الكرم الإلهي يدرك المرءُ المعنى العميق لكلام المسيح:

[...] اطلبوا أولاً ملكوته وبرِّه تُزادوا هذا [الطعام والشراب واللباس] كلَّه. لا يهمكم أمرُ الغد، فالغد يهتم بنفسه. ولكلِّ يوم من العناء ما يكفيه. (إنجيل متى 6: 33-4)

لكنْ عندما يولِّي هذا الفرح، سرعان ما تعود الكآبةُ مجددًا. تتكلم سيمون فايل على هذه الأفراح التي تصفها بـ"الأنْفَس"، التي تبدو شاحبةً جدًّا عندما تستدعيها المخيِّلة، لأن قيمتها الحقيقية في حضورها. إنها تهتف: "ليتني لا أعود إلى اقتراف هذه الجريمة بحقِّ نفسي، إذ أترك [هذه الأفراح] تفلت."[55] في هذا الفرح الذي تدعوه مُحِقَّة بـ"الفرح الكامل"، كلُّ شعور بالفرح مستبعَد أحيانًا لأن النفس ممتلئة تمامًا بموضوع فرحها: لا يعود ثمة مجال يمكن للـ"أنا" أن تتوضع فيه. إن فرحًا كهذا يتعدى الـ"أنا"، لأن انبجاسه يحصل بمقدار ما يتم الانمحاق، بمقدار ما تتحقق الشفافية. لذا فإن

[...] الفرح [بحسب سيمون فايل] هو وعي ما ليس أنا بوصفي كائنًا. العذاب هو وعيُ نفسيَ بوصفي عدمًا. مظهران متلازمان للشيء نفسه. لكنْ في الثاني يوجد تمزُّق.[56]

في المقام نفسه، يقول كيركِغور إن المطلق لا يُظهِر ذاتَه إلا بعد القنوط التام، في الخواء، ليس في تمامه وحسب، بل وفي المسؤولية التي يشعر المرءُ أنه أصبح مكلَّفًا إياها[57].

كذا فإن المصطفى، في الجذل كان أم في التخلِّي الرباني، في "القبض" أم في "البسط" (بالمصطلح الصوفي الإسلامي)، يعود دومًا إلى مركزه، أي إلى هذه الصومعة السرِّية التي دعاها دانتي "الحجرة الجَوانية"[58]، إلى "تابوت العهد"، الذي ليس غير الجزء الأقدس من نفسه. ليس له أن ينتظر شيئًا من الآخرين. أجل، لا بدَّ له من أن يلتقي على دربه امرأةً مثل ذيوتيما أو رجلاً مثل حنانيا[59] وأن يشكر العناية على هذا اللقاء. لكنما في النظام الذي ينتمي إليه، والذي تلمِّح سيمون فايل مرارًا إليه، ثمة طاعة داخلية ليس له أن يتملص منها. هذه الطاعة، المرتبطة بالإلهام، هي الإدراك بالكشف المباشر: النفس تصير حساسة لنفث الروح، والإنسان الذي جاهد نفسه ووطَّنها على المحن والشدائد يجتاحه، من حيث لم يكن يحتسب، سيلٌ من النور والفرح. إنه الآن يعلم أنه بات على علاقة مباشرة بالله، علاقة محبة وطاعة. ومتى بلغ المرءُ من جهاده هذا المقام، لا يعود ثمة سعي، بل ترقب وانتظار. الله يتجلِّى، ثم يتوارى. في إحدى رسائل سيمون فايل إلى الأب پرَّان نقرأ:

يمكن لي القول إنني طوال حياتي كلها لم أفتش عن الله، ولا في أية لحظة. ربما لهذا السبب، الذاتي أغلب الظن، هو تعبير لا أحبه ويبدو لي مغلوطًا.[60]

بمعنى مماثل يصرح كيركِغور أنه ليس "شاهدًا للحقيقة" لأن فكرته عن المسيحية هي من النقاء بحيث لا يظن أن بوسعه أن يقول إنه "مسيحي"! فمن المتعذر على المرء بلوغ الله بقواه الخاصة: "وحده صاحب حسِّ الألوهية يعرف ذلك ويحق له الرجاء في أن يصاب، أن يُلتقى به، أن يُعثَر عليه." لذا كتبت سيمون فايل أيضًا: "ليس للإنسان أن يمضي إلى الله، بل لله أن يمضي إليه. على الإنسان فقط أن ينظر وينتظر."[61] ونترك الكلام لكيركِغور: "الرب آتٍ، وإنْ وَجَبَ أن ننتظره؛ آتٍ، وإن وَجَبَ أن نشيخ مثل حنَّة أو نبيضَّ مثل سمعان."[62]

هو انتظارٌ عميق، بلاءٌ عجيب، لا يمت بصلة إلى النزعة الرومانسية إلى المكابدة[63]. إن هرمان هسِّه يبدو لنا مشترِكًا مع سيمون فايل في هذا القَدَر العجيب الذي ألمحنا إليه في مستهل هذا البحث، إذ تجمع بينهما صلاتُ قربى عديدة. إن هسِّه لا يدين بدين محدد، وقد تأثر بالأديان جميعًا. إنه في نشيد مغنَّى في أحد أعياد الميلاد يلعن الحياة؛ والصراع بين العالم وملكوت الله يشغل موقع المركز من مؤلَّفاته. لا حاجة للإنسان لأن يكون مانويًّا للتشديد على الثنوية بين الله والخلق. لكن هسِّه، بعد أن اجتاز خبراتٍ دينيةً متنوعةً واختبر نوعًا من "حكمة شرقية"[64]، تحوَّل إلى الإيمان الكاثوليكي الروماني، مع اعتقاده الراسخ بأن المسألة الجوهرية يجب أن تُبحَث على صعيد أعلى من صعيد الأديان[65]. وفي هذا الانفتاح على الإيمان الديني، يختلط الميل على الدوام بالعداء. هسِّه مأخوذ بالإله، وهو لا يختبر لوجوده من معنى خارج هذا الثقل الذي يشدُّه، لكنه لا يستطيع أن يحيا "دون مخافة ما، دون التسليم لإله"[66]، كما كان يحلو له أن يردد. من هنا إصراره على وحدة الله التي لا تقبل التفتت بين أديان متنافسة وغيورة.

سورِن كيركِغور (1813-1855)

أما أقرب الناس نسبًا روحيًّا إلى سيمون فايل، الذي يضيء لنا وجهَها بنوره فيساعدنا على تميُّز ملامحه، فهو كيركِغور الذي جئنا على ذكره عدة مرات[67]. أجل إن الفوارق بينهما كبيرة جدًّا[68]، لكن ما أكثر نقاط اللقاء! فهو، مثل سيمون فايل، وُهِبَ قدراتٍ عقليةً فذة، وساعدتْه الظروفُ الخارجية أيَّما مساعدة:

لقد أُعطي كلُّ شيء وتم كلُّ شيء لتنمية ذهني وإغنائه إلى أقصى حدٍّ ممكن. ومع أن مواجهتي للحياة كان فيها تعاطف وإيثار بيِّنان للعذاب ولما يئن ويعاني على نحو أو آخر، فقد اتسمت هذه المواجهةُ بالجسارة [...] على أنه ينبغي تفهُّم ما أقول إذ يخطر ببالي أنني منذ حداثة سنِّي تعلَّمتُ أن الانتصار هو التغلب على صعيد اللامنتهي، الأمر الذي يحتِّم العذاب على صعيد المنتهي.[69]

وأيضًا: "كانت لدي ورأيت فيَّ تنصَع مَلَكةُ وحدتي المطلقة مع الألم."[70] أليس هذا المعنى هو عينه الذي قصدتْه سيمون فايل في مصارحتها التي تشي فيها بمخيِّلتها "المشوَّهة بعذاب مديد موصول"[71]. وفي كلامها على الشرِّ الذي أوقعه بها الآخرون، عن وعي منهم أو عن غير وعي، كتبت (والنص يذكِّر بالفقرة من مرداد التي أوردناها أعلاه):

لم يسلكوا على هذا النحو عن خبث، بل نتيجة الظاهرة المعروفة جيدًا التي تدفع الدجاج عندما يرى فيما بينه دجاجةً جريحةً إلى الانقضاض عليها بمناقيره.[72]

وهي تذهب إلى أبعد من ذلك أيضًا في هذه المصارحة لجو بوسكيه: "[...] ليس جسمي وحسب، بل نفسي أيضًا مسمَّمة برمتها بالعذاب، يتعذَّر على فكري سكناها [...]."[73] ويصر كيركِغور على المعنى نفسه، إذ لم يكن قط كغيره من المراهقين: ففي العمر الذي يلعب فيه الأطفالُ ويلهون، في العمر الذي يُغرَم فيه الشبابُ ويذهبون للرقص، هو كان فكرًا محضًا وذلك في غمرة الطفولة، في غمرة الشباب:

من وجهة نظر بشرية حصرًا، لم أعِشْ. بدأت بالتفكر على الفور؛ لم أستزد منه مع تقدمي في السن؛ أنا تفكُّرٌ من البداية إلى النهاية.[74]

إنه، إذ يورد نكتة كورنيليوس نيبوس التي تروي قصةَ جنرال محاصَر مع خيَّالته في حصن، يخشى على خيوله من جمودها، فيأمر بقرعها كلَّ يوم بالسوط حتى يحثها على شيء من الحركة، يضيف أنه يعيش في حجرته كالمطوَّق: "لكني كيلا أتأذى كثيرًا من هذا الجمود كلِّه [...] أستهلك نفسي بالدموع."[75] ويقول أيضًا: "[...] حزني يأس يعوي."[76]

حتى وهي بنت صغيرة، تطرح سيمون فايل مسائل تنم عن فطنة مدهشة. فهي، على حداثة سنِّها، تشغلها الأمورُ الروحية، تشعر أنها مختلفة عن غيرها من الأطفال، وتبدو دومًا متشوقة إلى إسعاد الآخرين – إلى حدِّ أن امرأة ساكنت أسرةَ فايل إبان الحرب العالمية الأولى عبَّرت عن ذلك تعبيرًا ساذجًا بقولها: "هذه الصغيرة قديسة!" كان عمر سيمون آنذاك خمس سنوات أو ست. والنكات في هذا الشأن عديدة، وتشير إلى اتجاه واحد: انجذابها الحاد نحو الجوهر، شعورها، الرائق والسرَّاني في آنٍ معًا، بحمل رسالة، اصطدامها الدائم بالوجه الباطل للوجود، ضرورة حملها عبء الآخر، وكونها مُعَدة خصيصًا لحمل هذا الوزر – وإن كان ساحقًا:

الضنى، في مجال العذاب، شيء على حدة، نوعي، غير قابل للاختزال. إنه لا يمت بصلة إلى العذاب العادي. إنه يسطو على النفس ويَسِمُها، حتى القعر، بسِمَةٍ لا يملكها إلاه.[77]

سيمون فايل تحمل على عاتقها ثقل الكون. إنها تتكلم على حزنها المكوَّن من "مصائب هذا العصر كلِّها ومصائب القرون الماضية كلِّها"[78]. وهي تلحظ ضرورة "نقل تعبها إلى غرض لكيلا تحس به"[79]. وأخيرًا تكتب للأب پرَّان:

إن موقفي تجاهك شبيه بموقف متسوِّل، أودت به الفاقةُ إلى الإحساس الدائم بالجوع، وظل طوال سنة يتردد بين حين وآخر على بيتِ رَغَدٍ يفتش فيه عن خبز، وللمرة الأولى في حياته لم يعانِ فيه إذلالاً.[80]

وقد كتب كيركِغور أيضًا:

أنا أتعذب عذابًا لا يوصف [...] وحدي في العالم الشاسع [...] وحدي لدى اتخاذ قرارات يحتاج المرءُ فيها إلى دعم أصدقائه وإلى دعم البشرية قاطبة إن أمكن [...] وحدي في كروب حتى الموت [...].[81]

[...] ومع ذلك فإن إرادة الهلاك أمر أسمى من أن يطاله كائنٌ بشري. إرادة الهلاك من السموِّ بحيث وحده الإله يستطيع أن يريد ذلك إرادةً خالصة.[82]

وتقول سيمون فايل إن من المستحيل على المرء أن يطلب إراديًّا من الله التحول المطلق للكيان دون أن يحصل انتزاع، هو موهبة الروح[83].

هذه النصوص المختلفة تشي بكآبة وحزن وألم عصيَّة على الترجمة. إن مثل هذا المناخ مرتبط بالطبع بـ"الحنين الأكبر" الذي سبق لنا أن تكلمنا عليه[84]. هذا الحزن موجود، على سبيل المثال، عند يوحنا الصليب، على كونه يعبِّر عن نفسه عنده بعبارات مختلفة. النفس مغتربة، حائرة، واقفة دومًا على تخوم الزمان والمكان اللذين لم تعد تنتمي إليهما. إنها تبدو شاذة في نظر الآخرين، لكنها كثيرًا ما تبدو شاذة في مرآة نفسها. بعض المراكز النامية في الوعي تكاد مؤقتًا أن تسبب الخَرَقَ على المرتبة الأرضية[85]. الخواطر "تحط" (التعبير لسيمون فايل، كما سنرى) كما لو أنها لم تكن متوقَّعة. وكيركِغور يقول إنه في اللحظة التي يأتيه فيها خاطر، يولد بطاقة شديدة وهيئة فائقة للطبيعة، حتى يصيبه منه "التواءٌ قطني"[86]!

إن المستنير بالمطلق يعرف أنه مستودع على سر؛ وهذا "السر" ينبغي أن يُكتنَه. تلكم هي رسالته، ولا رسالة له سواها. وهو نفسه لا صوت له بما أنه ليس إلا "مستودَعًا". لكنه، مع ذلك، مرغَم على تأدية الشهادة. سيمون فايل تعرف حقَّ المعرفة أنها حاملة رسالة؛ إنها تعبِّر عن ذلك بوضوح إذ تكتب للأب پرَّان هذه السطور:

إذا لم يوافق أحدٌ على الالتفات إلى الخواطر التي حطَّتْ، لا أدري كيف، على كائن في مثل قصوري، ستُوارى الثرى معي. فإذا كانت، كما أظن، تحوي بعض الحقيقة، سيكون الأمر مؤسفًا.[87]

إنها تتحدث أيضًا عن خواطر جاءتْها إلهامًا، وخواطر أخرى أُرسِلَتْ بواسطة، وتقول إن الله يشاء أحيانًا أن يختار أخسَّ الأغراض محلاًّ لـ"كلمته". الجملة التالية تبيِّن كيف كانت تدرك أنها ليست واضعة هذه الخواطر وأنها تلقَّتْ خواطر على جانب كبير من الأهمية: "أنا في حاجة لأن أقول لنفسي هذه الأمور حتى لا أخاف من خواطري نفسها."[88] هذا "الخوف" من الخواطر يبرهن إلى أيِّ حدٍّ كانت سيمون فايل تعي مجانيَّتها. تذكِّر هذه الفقرةُ ومثيلاتُها مرة أخرى بكيركِغور إذ يبتهل:

أيها الآب في السماوات! عندما يستيقظ خاطرُك في نفسنا، لا يكوننَّ هذا البتة كعصفور يُضِلُّه الرعبُ فيطير هنا وهناك، بل كالطفل يصحو من النوم بابتسامته السماوية.[89]

إن سيمون فايل ترثي لقصورها وتقارن نفسَها بالتينة العقيمة[90]؛ إنها تصر: "هذه صورتي"! وبالعودة إلى الخواطر "المستودَعة"، تعبِّر عن خشيتها أن تكون انتقصت من هذه الخواطر بمجرَّد حضورها:

أنا أضرُّ بها [...] إنه لمصدر ألم عظيم لي أن أخشى أن يُحكَم على الخواطر التي نزلت عليَّ بالموت من جراء عدوى قصوري وبؤسي.[91]

لقد اعترف الصوفيةُ دومًا بقصورهم وفقرهم؛ إنهم على وعي بمجَّانية اصطفائهم حلقةً في سلسلة سرَّانية. ومع ذلك، أي يقين مطمئن يشع من كلمات سيمون فايل عندما تقول لجو بوسكيه إنه لم تبقَ إلا قشرة ينبغي كسرُها للخروج من الظلمة!

رسالة سيمون فايل، شبيهةً برسالة الكائنات المكلَّفة استيلادَ الإله، هي إيقاظ الوعي الغافي في الكون والمساعدة على تحرير العالم. في كلِّ مخلوق بذرةٌ تتشوَّف إلى الولادة والتفتح. إنها غافية وحسب، والكلمة تهبُها التأرجح الذي يهبُه نسيمُ الصباح زهرةَ الحقول. إنها أشبه ما تكون بالنور ينسكب على كلِّ شيء، شريطة أن يطيق هذا الشيء الإشعاع. وبمقدار ما يمزج به الإنسانُ الذي هو وعاء له صوتَه الخاص فإنه يلقي عليه ظلاًّ، فيحجب التدبيرَ الإلهي عن البصيرة. لذا ينبغي عدم تسويد تدبير الله أو حَجْبه، وفقًا للتعبير الوارد في سفر أيوب (38: 2 و42: 3).

في وسعنا أن نتساءل إنْ لم تكن مثل هذه الحالات مادةً غزيرة لإعمال التحليل النفسي؛ على أنه ينبغي توخِّي الحذر من التعميمات المتسرعة والعبثية[92]. إن علم النفس التحليلي (اليونغي)، في هذا الصدد، أكثر تنويرًا وتماسكًا وأقل ادِّعاءً من نظريات فرويد بما لا يقاس، من حيث إنه يتناول البنية النفسية في كلِّيتها، معترفًا بإمكان اختبار "صورة الله" Imago Dei في النفس لأن الإنسان "يحمل ذلك كلَّه فيه منذ الأصل"[93]. التحليل النفسي الفرويدي يقف عاجزًا أمام دراما الصدق، أعظم المغامرات البشرية قاطبة. إن تأويل هذه المغامرة وفهم كنهها نسبيًّا لا يتم إلا في صمت السكينة والوحدة اللذين يؤسِّسان لمناخها. لذا لا غنى عن وجود "صلة رحم" بين هذه المسائل وبين نفس دارسها حتى يستطيع أن يتفهَّم أبعادها الحقيقية العميقة[94].

إن كيركِغور يعي مبلغ هشاشته والخطر الذي يتهدده في جسمه؛ وكان على سيمون فايل أن تعاني بلا انقطاع من صداع رهيب. لقد كتبت على سبيل المثال:

أنا منهكة للغاية. وحتى لو كنت أومن بإمكان حصولي من الله على ترميم تشوُّهات الطبيعة فيَّ، لَما واتتْني الجرأةُ على طلب ذلك.[95]

ينبغي لنا هنا التأكيد أن هذه الخبرة لا تنطوي على أيِّ نزوع مازوخي أو تلذذ بالوجع مرضيِّ الطابع[96]. لئن كان الفرح أقل ظهورًا من الألم، ذلك لأن الفرح أصعب تعبيرًا؛ فمن حيث كونُه غير قابل للوصف يتعذر استظهارُه بغير حياء. بيد أنه حاضر في كلِّ خلية من خلايا الجسم، سواء في الصوت أو في النظرة. إنه محسوس بخاصة في لحظات السكون التي يُطلَق عليها في علم الموسيقى مصطلح "وقفات"[97] والتي تشكِّل، إبان هامش قصير، نوعًا من الصمت المفاجئ لا قرار له. غير أننا من العجلة بحيث لا نتمكن من تمييز هذه الحركة في حالتها الصرفة.

يرى بعضهم هاهنا نوعًا من الشرخ المفضي إلى اختلال التوازن. قد يتبادر ذلك إلى ذهن كلِّ شخص واقف في الخارج، على المحيط. لكننا لسنا مضطرين إلى الرؤية من خلال منظور "البرَّانيين": نحن نرى أن من البديهي للغاية أن يعاني الجسم المستهلَك في نيران الروح من آثار الحرق. الانتزاع المستديم، الروابط التي لا تنفك تنقطع، التخلِّي عن أسباب الراحة – هذا كلُّه على السائح أن يقبله راضيًا، غير ناظر إلى الوراء. إنه مفسوخ نصفين، منذور للجهاد، ذلك الجهاد الداخلي في السرِّ الذي تتكلم عليه البهـﮕـفدﮔيتا[98] والذي هو مؤدى حديث نبي الإسلام وهو عائد من إحدى سراياه: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" – ويعني جهاد النفس. لقد قالت سيمون فايل لجو بوسكيه، الجريح في العام 1918:

[...] أنت محظوظ للغاية لأن الحرب أمست مقيمةً إلى الأبد في جسمك الذي ينتظر وفيًّا منذ سنين أن تنضج لكي تعرفها.[99]

هذا العذاب يجب ألا يلتبس مع "الفتور"[100] – هذه الآفة التي أحسن الكلامَ عليها كاسيانوس وغيره من المجاهدين بالروح والتي تمسُّ المتوحِّدين في كلِّ زمان ومكان. يعلِّمنا الصوفية المسيحيون أنه يوجد شكل من الخَوَر يختبره المرءُ ركودًا وخمولاً في قواه جميعًا: تعي النفسُ فجأةً أنها لم تعد تقوى على الحركة وأنها بدأت تنزع إلى التحجُّر. قوامها عندئذٍ ليس حتى قوام الأرض العطشى إلى الري، بل قوام الأرض البور الخاوية. إنه النكوص إلى الشواش أو "العماء"[101] الأول الذي ينطوي على الممكنات جميعًا، بما فيها إمكان الهلاك. وتدرك النفس ضرورة، بل حتمية، قانون النموِّ الروحي الذي يتلخص في العبارة التالية: "مَن لا يتقدم يتقهقر."[102] فعلى الصعيد الروحي لا يمكن الحفاظ على التوازن إلا بالحركة[103].

الشعور بالركود مجلبةٌ للكرب – كرب عدم التجاوب وعدم الحركة والخَرَس. يمكن للمرء أن تغيب عنه فجأة حقَّانية وكالته، أي نصيبه، وحتى اسمه. إنه يعاني الخواء والرَّذْل. يلوح له أن الإله تخلَّى عنه. السر الذي كان يسكنه يتوارى[104]. إن مثله عند ذاك كمثل فرخ العصفور المطرود من العشِّ والمرمي في الزوبعة وليس على جسمه النحيل إلا الزغب! الكائن لا يكون "فاديًا" إلا عندما يتخلَّى عنه الله والبشرُ جميعًا، يعدم كلَّ مكان في هذا العالم، وتوصَد دونه سُبُلُ كلِّ حياة مشتركة. يصير إذ ذاك غير قادر على منح السعادة، لأن السعادة الواحدة التي يستطيع منحها لا يشعر أحدٌ بالحاجة إليها. إن كيركِغور يطلب من خطيبته ريجينا أن تغفر "لرجل، مع أنه استطاع الكثير، لم يكن في مقدوره مع ذلك أن يُدخِلَ السعادةَ إلى قلب فتاة"! لقد كتبت سيمون فايل لصديقها غوستاف تيبون هذه السطور المليئة بالمغزى: "لستُ شخصًا يَحسُن بالمرء أن يربط مصيرَه به: لقد استشعر البشرُ ذلك قليلاً أو كثيرًا."[105] وأيضًا: "كم أود أن أُسعِدَ الناسَ الذين أحبهم، لكن القدر يجعلني سببًا أو مناسبةً للأسى."[106]

إن غير المسكونين بالسرِّ يتعذبون من حضوره في غيرهم. وضاعتُهم تأبى عليهم أن يغادر غيرُهم القطيع. رائحة الحيوانات البرية ترعب البهائم المستأنَسة! الإنسان العادي يأبى النظر إلى العالم بعينيه هو، مفضلاً عيونَ مَن يعتبرهم "مرجعيته" في شؤون الدنيا والآخرة! إنه يؤثر قبول ما يأباه الضمير، وحتى قبول الكريه، لكن المقبول مَن "الجميع"، على اختيار طريقة متفردة في النظر والتفكير، لكنها مرذولة من "الجمهور". الطريقة "الرسمية" لإعلان الحقائق موارِبة ومهدِّئة؛ أما التَّماس مع الحقيقة عاريةً فيقتضي التعرِّي، وبالتالي، يلدغ صميم الكيان حتى.

إن حضور الإله في القلب يوجِد في الكيان إعجازًا مستديمًا ويزعج حساباتِنا الحريصة، بل ينسفها نسفًا. يورد كيركِغور مثال بلوطة السنديان التي تكسر إناء الفخار عندما تُزرَع فيه، على مثال الخمرة الجديدة التي تشق الزقاق البالية[107]. ماذا يحدث عندما يستوطن الإلهُ الضعفَ البشري؟ على الإنسان حينئذٍ أن يصير خلقًا جديدًا، إناءً جديدًا[108]. لكن مَن ذا يقبل صعود هذا النسَغ الحارق فيه؟ إنه يبلبل رتابةَ الفكر والأحكام المسبقة والعوائد، خاملها ونشيطها. إنه لا يُبقي ولا يذر. لكن سيمون فايل كانت ممَّن قبلوا حضور هذه "البذرة الإلهية" فيهم وتواروا لكي يسمحوا لها بالنمو؛ لذا فإن رسالتها هي، في آن معًا، غذاء للروح ومحرِّض على اليقظة والسهر الروحيين.

كذا فإن المختوم بالمطلق أشبه ما يكون بامرئ مجهول اللسان، تعجز عن ترجمة كنهه الإيماءاتُ كلها والإشاراتُ كلها. لا شيء فيه ملموس، لا شيء فيه ممسوك. بيد أن ما لم يُدرَك بعدُ يُتَلَمَّس حدسًا بوصفه أكثر حقَّانية وأكثر فعالية مما يمكن لمسه والإمساك به. قد يبدو الله مستترًا أحيانًا، بل غائب. لكن غياب الإله، في أساسه، حضور مطلق، لكنْ بالقوَّة، أشبه ما يكون بطلب تذكية النار بالنفخ. فإذا لم يُذَكِّها أحدٌ يظل الرمادُ شاهدًا على وجودها.

إن المقدَّر عليهم بالنعمة أن يستولدوا الإلهَ في أنفسهم وفي العالم، وأن يشهدوا لهذه الولادة، يحملون الرسالةَ عينَها عبر التاريخ – وإنْ كانت هذه الرسالة في جوهرها فوق التاريخ. فإذا استبعدنا أثر الاقتصاد الاجتماعي والبيئة والطوارئ الحياتية، وجدنا الحركةَ نفسها دومًا تهبُّ هبوبَ الريح. أجل، إن الروح ريح[109]؛ وهذه الريح لا تعي هبوبَها إلا القلة. لسنا جميعًا، كما أننا لسنا دومًا، مستعدين للتعرف إليها؛ ولعلنا، مثل إيليا النبي، ننتظر شيئًا آخر: عندما بلغ إيليا جبل الله حوريب ودخل المغارة هناك وبات فيها، كلَّمَه الرب وأمرَه أن يخرج ويقف على الجبل أمام الرب:

فإذا الرب عابر وريح عظيمة وشديدة تصدِّع الجبال وتحطِّم الصخور أمام الرب. ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزال، ولم يكن الرب في الزلزال. وبعد الزلزال نار، ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت نسيم لطيف. فلما سمع إيليا سَتَرَ وجهَه بردائه وخرج ووقف بمدخل المغارة. (سفر الملوك الأول 19: 9-13)

لماذا؟ – لأن الرب كان حاضرًا في النسيم اللطيف! الروح يسفر عن حضوره، في الصور التي يلبسها، لمَن يسهرون منتظرين أيقاظًا. هذا الحضور يحرك ارتعاشًا داخليًّا يستولي على النفس رويدًا رويدًا، أو يصعقها صعقًا، بحسب استعدادها[110]. مكتوب في سفر الزاهر، مرجع القبالة الأول: "للصراخ سلطان من القوة بحيث يبدِّد المشقاتِ المرسومةَ ضد الإنسان."

لقد تكلَّمت سيمون فايل على النفس التي تصرخ نحو الله "بلا أيِّ انقطاع ولا كلل، كما يصرخ الوليد"[111]. ثم يلي ذلك شوطٌ آخر: ما إن تلقِّمه أمُّه الثدي حتى يكف عن الصراخ. حين يتجلَّى الإلهُ، تلج النفسُ عالمًا جديدًا، تختبر وجودًا لا عهد لها به، وتصير محلَّ "المجيء الثاني" للمسيح. وها هي ذي مجبرة على الشهود الحيِّ للوحي الجديد النازل من لدن الله.

إنما لا يوجد دومًا أناس يصغون للنداء المتصاعد من أعماق الكيان. لذا يقول المعلِّم إكهَرْت في ختام إحدى مواعظه إنه إذا لم يجد آذانًا بشريةً مصغيةً إليه لا مناص له من أن يكلِّم الأشجار!

باريس، تموز/آب 1994

*** *** ***


[1] لا يشير "التعالي" transcendance الإلهي إلى "استعلاء" بالمفهوم المكاني، بل إلى عدم اندراج الألوهة من أحد وجهيها (الوجه المكمل الآخر هو "المحايثة" immanence) في نسبية الزمان والمكان وعدم خضوعها للتاريخ: إنه الألوهة في مطلقيَّتها.

[2] هو "الآن الدائم" الذي تكلم عليه الصوفي عبد الرزاق الكاشاني: "هو امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج به الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر، لظهور ما في الأزل على أحايين الأبد، وكون كلِّ حين منها مجمعَ الأزل والأبد، فيتحد به الأزلُ والأبدُ والوقت الحاضر. فلذلك يقال له باطن الزمان وأصل الزمان لأن الآنات الزمانية نقوش عليه وتغيرات تظهر بها صورُه وأحكامُه، وهو ثابت على حاله دائمًا سرمدًا [...]." (اصطلاحات الصوفية، بتحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود، القاهرة، 1984، ص 54)

[3] "الثقب الأسود" Black Hole ناحية من الكون ذات انهيار ثقالي غير عَكوس، حقل ثقالتها من الشدة بحيث إن لا شيء – ولا حتى الضوء – يقدر على الخروج منها. وتقول النظرية بأن الشوط الأخير من تطور النجوم العملاقة ينبغي أن يفضي إلى ثقب أسود ينجم عن التقلص الثقالي الهائل للكتلة النجمية. أما "أفق الحدث" فهو المسافة التي تصبح سرعةُ التحرر من جاذبية الثقب الأسود اعتبارًا منها أدنى من سرعة الضوء، وهي عبارة عن نصف قطر المنطقة من الفضاء المحيطة به والمنقطعة تمامًا عن بقية الكون.

[4] بالإنكليزية: a load of immortality. هذا التعبير البديع للشاعر الإنكليزي جون كيتس.

[5] باللاتينية: Tu autem eras interior intimo meo. في ترجمتنا أعلاه لهذه العبارة ضربنا كشحًا عن الترجمة العربية المتوفرة، مستلهمين بيت الحلاج (ديوان الحلاج، بتحقيق ماسينيون، ص 90):

بيني وبينك إنِّـيٌّ يزاحمنـي           فارفعْ بإنيِّـكَ إنيَّ من البَيْـن

[6] S. Weil, Cahiers, II, p. 111.

[7] René Daumal, Chaque fois que l’aube paraît, Paris, 1953, p. 73.

[8] يقول بولس الرسول: "إذا كان الإنسان الظاهر فينا يخرب، فالإنسان الباطن يتجدد يومًا بعد يوم [...] فإننا لا نهدف إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى. فالذي يُرى إنما هو إلى حين، وأما ما لا يُرى فهو إلى الأبد." (الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 4: 16 و18)

[9] Cahiers, II, p. 354.

[10] S. Weil, La Connaissance surnaturelle, p. 154.

[11] Cahiers, II, p. 410.

[12] Id., p. 132.

[13] ميخائيل نعيمه، كتاب مرداد: منارة وميناء، بيروت، 1991، 257-8.

[14] S. Weil, Attente de Dieu, p. 83.

سوف ننقل المقبوسات من هذا الكتاب عن طبعته الأولى (1950).

[15] Id., p. 106.

"ضنى" هي الكلمة التي ألهمنا إياها الحلاجُ ترجمةً لكلمة malheur الفرنسية التي كثيرًا ما تَرِدُ في مؤلفات سيمون فايل؛ وقد جاءت هذه الكلمة في بيت لشهيد الصوفية لا يصح فهمه إلا بقراءة البيت الذي يسبقه (الديوان، بتحقيق ماسينيون، ص 127):

نـظري بدءُ عـلَّــتي      ويـحَ قلبي وما جَـنـى

يا معينَ الضَّـنى علـيَّ      أعِـنِّـي على الضَّـنـى

[16] هذا هو دور "ابن الإنسان" المقيم في قلب كلِّ إنسان. يقول معلِّمنا ندره اليازجي فيه: "يتألم ابن الإنسان على الإنسان. إنه يتألم من أجل نفسه، على نفسه، لإنقاذ نفسه، أي الإنسان؛ ذلك لأن ابن الإنسان يرى نفسه في كلِّ إنسان، فيشعر مع الإنسانية جمعاء. وفي هذه الإنسانية يجد الشقاء والتعاسة، يجد الألم. فيتألم ابن الإنسان ليحمل وزر هذا العالم، وليطرح بثقله إلى الهاوية." (ندره اليازجي، دراسات في المثالية الإنسانية، دمشق، 1987، ص 110)

[17] Attente de Dieu, pp. 118-9.

[18] كتاب مرداد، ص 262-3. يقول اسحق السرياني: "إن الله لا يُسَرُّ براحة أحبائه ماداموا في الجسد، بل يريد – ماداموا في العالم – أن يكونوا في ثقل وشقاء وفاقة وعري ووحدة ومرض وهوان ولطمات وانسحاق قلب وجسد مضنوك وانفصال عن الأهل وعقل حزين، في مشهد يختلف عن مشهد الخليقة كلِّها، وفي مقام لا يشبه مقام الناس [...]. هم يبكون والعالم يضحك، هم يعبسون والعالم يتهلَّل، هم يصومون والعالم يتنعَّم. يشقَوْن في الليل وفي النهار ويرغمون أنفسهم على الجهاد بأتعاب وضيِّقات [...]. ولأن الرب يعرف أنه يستحيل عليهم البقاء في محبته وهم في راحة الجسد فقد منع عنهم الراحةَ وملذاتها." (نسكيات، بترجمة الأب اسحق عطا الله، منشورات النور، 1990، ص 143-4)

[19] "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (القرآن الكريم، سورة فصلت 53).

[20] يقول المعلم الناصري للذين آمنوا برسالته: "أنتم ملح الأرض. فإذا فسد الملح، فأي شيء يملِّحه؟" (إنجيل متى 5: 13)

[21] S. Kierkegaard, Point de vue explicatif de mon œuvre, trad. P.-H. Tisseau, Bazoges-en-Pardes, 1940, p. 63.

[22] La Connaissance surnaturelle, p. 183.

[23] ليس المقصود بذلك أي تحديد عددي، بل إن للعدد هنا، برأينا، دلالةً رمزيةً أكثر منها واقعية.

[24] بالمصطلح الألماني: Gottsuchen.

[25] Cahiers, II, p.143.

ومع ذلك، نلحظ أنها تستعمل هذا المصطلح مرارًا في كتاباتها.

[26] Attente de Dieu, p. 85.

[27] Ibid., p. 174.

[28] هذا التعبير لصديقنا الناقد الأستاذ يوسف سامي اليوسف، صاحب كتاب ما الشعر العظيم؟، أهم ما كُتِبَ في ماهية الشعر بالعربية. وبرأي الأستاذ اليوسف أن الوظيفة اللغوية للشعر تقوم على رفع اللغة من مستواها الوضيع، اليومي والعادي، إلى مستوى رفيع، من كونها شيئًا في ذاته إلى كونها شيئًا لأجل ذاته. على أن الفارق بين الخبرة الصوفية وبين معرفة الشاعر، فيما نرى، أن موضوع الاختبار في الخبرة الصوفية هو المطلق غير المخلوق، بينما يلامس الشاعرُ في خبرته وقائع العالم أكثر من الذات الإلهية. ومع ذلك، نصر من جانبنا أن الشعراء العظام والعلماء الكبار والأولياء، في التحليل النهائي، ينهلون جميعًا من النبع الإلهي عينه.

[29] Cahiers, II, p. 330.

[30] Cahiers, I, p. 15.

[31] كتب كيركِغور يقول: "هل يحق للجندي الذي يحرس الحدود أن يتزوج؟ هل لمثل هذا الجندي أن يجرؤ – نقول هذا بمعنى روحي – على الزواج إنْ كان عليه أن يقاتل ليل نهار، لا التتر أو الإسكيث، بل جحافل قطاع طرق سويداء فطرية؟ إن مثل هذا المُرابط، حتى إذا لم يكن يقاتل ليل نهار، حتى إذا نَعِمَ بالسِّلم وقتًا طويلاً نسبيًّا، لا يمكن له مع ذلك أن يعلم أبدًا في أية لحظة سوف يستعر أوارُ الحرب من جديد، بما أنه لا يستطيع أن يدعو هذا الهدوء هدنة."

(S. Kierkegaard, Coupable ? Non coupable ? trad. F. Prior et M.-H. Guignot, Paris, 1948, p. 161.)

[32] من رسالة إلى كارولين يوست، مؤرخة في 28 آذار 1797. رفض الزواج هذا جدير بالملاحظة. يدقق نيتشه أن "عدم الوفاء" من سمات طبيعته؛ ويؤكد كيركِغور أيضًا عدم الوفاء هذا بقوله: "حياتي كلها استئناف، لا شيء فيها مسمَّر نهائيًّا، كل شيء متحرك – لا شيء جامد، ما مِن ثبات."

(S. Kierkegaard, Journal (extraits), trad. Ferlov et Gateau, Paris, 1941, p. 89.)

[33] من رسالة إلى جو بوسكيه.

(S. Weil, « Correspondance », Cahiers du Sud, nº 304, 1950, p. 422.)

[34] S. Weil, La Source grecque, II, p. 108.

[35] Cf. Attente de Dieu, p. 71.

[36] S. Weil, La Pesanteur et la Grâce, p. 204.

[37] باليونانية: daïmon.

[38] S. Kierkegaard, Journal (extraits), id., p. 17.

[39] S. Weil, Cahiers, II, p. 276.

[40] La Connaissance surnaturelle, p. 89.

[41] Id.

[42] راجع: ف. دوستويفسكي، المراهق، بترجمة سامي الدروبي، موسكو، 1986، "الأعمال الكاملة"، مج 2، ص 147.

[43] Friedrich Novalis, Henri d’Ofterdingen, trad. Marcel Camus, Paris, 1942, pp. 353-5.

[44] La Connaissance surnaturelle, « Prologue », p. 9.

[45] تكلَّم كيركِغور على هذه "الحاجة إلى الوحدة" التي "تدل فينا على الروحانية وتفيد مقياسًا لها".

(S. Kierkegaard, Traité du désespoir, trad. K. Ferlov et J.-J. Gateau, Paris, 1949, p. 142.)

[46] Cahiers, II, p. 113.

[47] La Connaissance surnaturelle, p. 154.

[48] « Correspondance », Cahiers du Sud, id., p. 437.

[49] Attente de Dieu, p. 79.

[50] S. Kierkegaard, La répétition : Essai d’expérience psychologique, trad. P.-H. Tisseau, Paris, 1933, pp. 103-4.

[51] ميخائيل نعيمه، مذكرات الأرقش، بيروت، 1982، ص 114-5.

[52] La Connaissance surnaturelle, p. 245.

[53] Attente de Dieu, p. 180.

[54] La Connaissance surnaturelle, p. 182.

[55] Cahiers, II, p. 58.

[56] Id., p. 232.

[57] Cf. Journal (extraits), id., p. 115.

[58] بالإيطالية: segretissima camera.

[59] ذيوتيما هي النبية التي تعلَّم منها سقراط أن الحب ليس الخير وليس الجمال، ولكنه التوق إلى الخير والجمال، وأن المرء إذا سلك سلوكًا مستقيمًا استطاع أن يسمو تدريجيًّا من جمالات الدنيا إلى ذلك الحب الذي يدفعنا إلى مشاهدة الجميل ومعرفته بذاته (راجع: أفلاطون، المأدبة). أما حنانيا فهو التلميذ الدمشقي الذي أرسله روحُ يسوع إلى شاول الطرسوسي (الذي أصبح بولس الرسول فيما بعد) لكي "يبصر ويمتلئ من الروح القدس" على يديه بعد رؤياه الصاعقة على مقربة من دمشق (راجع: أعمال الرسل 9: 3-19).

[60] Attente de Dieu, lettre IV, p. 70.

لقد أدهش هذا النص بعض مفسِّريه ممَّن شاءوا أن يقرؤوا فيه اعتراف سيمون فايل بقلَّة اكتراثها بالأمور الروحية. جلي أن مثل هذا التفسير لنصٍّ يمس أعماق الخبرة الروحية يحاول أن يفهم هذه الخبرة في ضوء المنطق الخطي، الخطابي، فيحكم على نفسه بالفشل سلفًا. سيمون فايل لم "تفتش" عن الله قط لأن الله الذي في الإنسان هو الذي يفتش عن نفسه في نفسه!

[61] Cahiers, II, p. 201.

[62] Journal (extraits), id., p. 86.

[63] يمكن الوقوع في الأدب على بضع حالات مشابهة، لكنها هيِّنة ربما بالقياس إلى الحالات التي جئنا على ذكرها. ولعل حالات الشعراء شلِّي وكيتس وبراونِنغ الإنكليز وجيرار دُه نرفال الفرنسي تدخل في بابها. لكن حالة كافكا تستحق التوقف عندها. إن حالة الرجل مدعاة للتألم إلى أقصى حد. فكافكا تنخزه شوكةٌ تفتك به. يقول: "إن تحطُّم نفسي المحتوم إبان السنين خارق للعادة. لقد كان أشبه ما يكون بانتزاع بلاط الطريق على نحو متواصل بطيء [...]."

(F. Kafka, Journal intime, trad. P. Klossowski, Paris, 1945, p. 188.)

[64] بالألمانية: östliche Weisheit.

[65] هذا الصعيد هو صعيد الروحانية. يرى أحد الرهبان الهندوس من أخوية راماكرشنا أن "الدين يرفع الحواجز بين البشر لأنه يستند إلى تصورات هي علامات انضواء واستفزاز في آن معًا. لذا يتعذر قيامُ صداقة بين الأديان الخاصة إذا أُخِذَت القيمُ المذهبية والنظرية بالحسبان. أما كلمة روحانية، الأكثر مطابَقةً لأفكارنا، فهي من نسق أشمل، إذ هي تشير إلى هذه الحياة التي تتفتح ببطء في أعماق نفوسنا والتي لا تقبل التعريف لأنها لا تني تتجدد. إن كلَّ مجلًى من مجاليها (الرموز، الأفكار، المعتقدات) ليس منها إلا القشر المتغير بحسب العقائد والمفاهيم المختلفة التي يتخذها الإنسان عن الله عندما يفكر في مسألة خلاصه".

(Swâmi Siddheswarananda, Le Yoga et Saint Jean de la Croix : Pensée indienne et mystique carmélitaine, Paris, 1996, p. 5.)

[66] Hermann Hesse, Briefe, p. 28.

بالألمانية: Ohne irgend eine Ehrfurcht, ohne Hingabe an einen Gott. يلوح لنا أن هذا الفهم العميق للإنسان، المكلَّف مصيرًا روحيًّا في الكون، يولد ويزدهر في النفسانية الألمانية ولادةً وازدهارًا تلقائيين. إن الفكر يذهب بنا إلى أنجيلوس سيليزيوس المتأثر بالصوفية، إلى يعقوب بوهمِه وفالنتين فايلغل وسواهم. ولقد شعرت الحركةُ الرومانسية الألمانية برمتها شعورًا شديد الرهافة باستقطاب النظام الروحي الداخلي للنفس، يمثِّل لها في ذلك هولدرلِن ونوفاليس وريلكه. نحن مع هؤلاء الشعراء العظام نقف على تخوم الشعر القصوى. ولعله ينبغي لنا، على صعيد آخر، أن نذكر عددًا من أبطال دوستويفسكي المنذورين للوحدة والقداسة: زوسيما وتيخون والسائح ماكار دولغوروكي ممَّن ينتمون إلى هذه الفئة من رجالات الروح. إن لجة الأسرار تنفرج قليلاً أمام فاوست غوته، أمام زرادشت نيتشه؛ ونحن، في حالة هؤلاء العمالقة، نقف أمام الأديب–الكاهن، لا أمام الكاتب مراسل الصحف. ولنذكر أيضًا بين كتاب القرن العشرين وشعرائه نيكولاي برديايف، فيلسوف العصر الجديد، رونيه دومال، سائح الجبل المقايس، جبران، صاحب آلهة الأرض، أدونيس، في أبجديته الثانية، وسواهم. إنهم مختلفون جدًّا واحدهم عن الآخر، لا يتشابهون إلا في كونهم محلَّ حلول الروح. وهذا التشابه، في حدِّ ذاته، يوجِد بينهم قرابةَ نَسَبٍ وثيقةً على الصعيد الجوهري.

[67] في لقائنا بها في العام 1989، قالت لنا الكاتبة المرحومة ماري مادلين دافي، التي درست سيمون فايل عن كثب، إنها علمت من مصدر موثوق أن سيمون فايل تحدثت كثيرًا عن الفيلسوف الدنمركي الكبير مع واحدة من زميلاتها في الثانوية.

[68] من الاختلافات الكبيرة التي لا يجوز التغاضي عنها أننا لا نجد لدى سيمون فايل هذه العودة الدائمة إلى الأنا، بينما نجدها مرارًا لدى كيركِغور.

[69] S. Kierkegaard, Point de vue explicatif de mon œuvre, id., p. 62.

[70] Id., p. 63.

[71] S. Weil, Attente de Dieu, lettre VI, p. 98.

[72] Id., p. 99.

[73] S. Weil, « Correspondance », Cahiers du Sud, id., p. 436.

[74] Point de vue explicatif de mon œuvre, id., p. 64.

[75] Journal (extraits), id., p. 90.

[76] Id., p. 89.

[77] Attente de Dieu, p. 124.

[78] Id., p. 83.

[79] Cahiers, II.

[80] Attente de Dieu, p. 99-100.

[81] Point de vue explicatif de mon œuvre, id., p. 57.

[82] Journal, 1851.

(الطبعة الدنمركية للأعمال الكاملة، المجلد العاشر 3، ص 459-60، بترجمة الصديق پاسكال آنْس إلى الفرنسية.)

[83] Cf. La Connaissance surnaturelle, p. 205.

[84] يعتقد معلِّمنا ندره اليازجي، على غرار البوذية، أن الألم "الإيجابي" مظهر حقيقي للوجود لأنه مهماز إلى معرفة الحقيقة، وهو بذلك أبعد ما يكون عن الألم "السلبي" الناتج عن التعلق الأناني والرغبة. وهو يرى أن "الألم الفلسفي يشير إلى وجود الألم في قلب الوجود [...]. وهذا الألم هو لعب المطلق في الوجود [...] هو سلب الإيجاب في صراع ذاته. وكلما حقق الإنسانُ ذاتَه من خلال ألمه حقَّق المطلق وَوَجَد نفسه. فالمطلق ذاته يتألم في سلبه هذا. وهذا هو دور الإنسان في عملية تحقيق المطلق في عالم السلب، في عالم الألم. فالشعور بالوجود ألم ينشد ذاته في أعماق الوجود، وبقدر ما يتألم يحقِّق" (دراسات في المثالية الإنسانية، ص 108-9).

[85] هذا ما يرمز إليه "عَرَج" يعقوب من وركه بعد صراعه مع الملاك. (سفر التكوين 32: 26-32)

[86] Journal (extraits), id., p. 95.

[87] Attente de Dieu, p. 106.

[88] Id. , p. 100.

[89] Journal (extraits), id., p. 87.

[90] هي التينة التي قال لها يسوع عندما لم يجد عليها غير الورق: "لا يخرجنَّ منك ثمر للأبد." (إنجيل متى 21: 19)

[91] Attente de Dieu, p. 106.

[92] يستطيع هواةُ التحليل أن يجدوا تعليلاتٍ مرتبطةً بالسلوك الجنسي، لكنهم لن يتخطوا مستوى معينًا يبقى متدنيًا للغاية. لسنا في الخبرة الصوفية على التخوم بين الصحيح والمعتل، بل على مرتبة الروح. ثمة فعلاً، على هذه المرتبة، "شوكة في الجسد" هي ضريبة "خاتَم الإله"، هي نوع من العجز، من شأنه ربما، لو لم يكن موجودًا، أن يفسح المجال للوجْد الروحي الدائم. من شأن هذه الموهبة، إنْ لم تُصِبْ من صاحبها مقتلاً، أن تزرع فيه بذرةَ الكِبَر أو الغرور التي لا تلبث أن تنمو وتودي به إلى التهلكة الروحية. لذلك يقول بولس الرسول: "مخافة أن أتكبَّر بسموِّ المكاشفات، أوتيت شوكةً في جسدي: رسولاً للشيطان وُكِلَ إليه بأن يلطمني لئلا أتكبر. وسألتُ الله ثلاث مرات أن يبعده عني، فقال لي: "حسبك نعمتي، فإن القدرة تبلغ الكمال في الضعف."" (الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 12: 7-9)

[93] راجع: كارل يونغ، الإنسان يبحث عن نفسه، بترجمة سامي علام وديمتري أفييرينوس، دمشق، 1993، ص 198-200.

[94] تبدو لنا الحكاية التالية (التي روتْها لنا ماري مادلين دافي) موحيةً للغاية بهذا الصدد: كان رجل ملول يعيش طوال الوقت على نافذة بيته المُطِلة على الشارع، فيمضي سحابة وقته في مراقبة السابلة. كانت غالبيتهم تمشي زرافات. لكنه ذات يوم من الأيام، مع انبلاج الفجر، سمع صوتًا غريبًا، لا هو بصوت وقع حوافر دابة ولا بالصرير الخفيف لقوائم حيوان. هبَّ الرجل من فراشه على الفور واتخذ على النافذة موقعَه المعتاد. أبصر رجلاً قادمًا وحده. لم يكن خلفه أي غبار، مع أن الطريق كانت جافة. كان وجه الرجل رصينًا ومشيته وقورًا وحدقتاه المسددتان إلى الأعلى تشيران إلى توتر هائل. صُعِقَ رجلُنا عندما تبيَّن أن الرجل كان عديم القدمين وكان يمشي على رسغيه. سأله: "من أنت؟" أجاب الرجل: "أنا سائح." ذات صباح آخر تكررت الرؤيا عينها، لكن الرجل هذه المرة كان يمشي على فخذيه. تكرر السؤال: "من أنت؟" فتكرر الجواب، لكنْ في صيغة الغائب: "إنه سائح." ثم عاد الرجل للمرة الثالثة. لقد عدم طرفيه وصار يمشي على بطنه. تكرر السؤال: "من أنت؟" لكن الجواب هذه المرة جاء مختلفًا: "لا اسم لي. فلو كان لي اسم عندك لعرفتَني." تخبرنا الحكاية أن الرجل نظر إذ ذاك إلى الساعة، فغادر نافذته وأخذ جرَّة ومضى إلى بائع ليشتري لبنًا. وكان يبتسم ناظرًا إلى قدميه!

[95] S. Weil, Attente de Dieu, p. 106.

[96] يقول المعلِّم إكهَرْت إن "الفرس الأسرع التي تقلُّك إلى الكمال هي العذاب [...]. لا شيء كالعذاب في مرارته [...]؛ ولا شيء كالعذاب في حلاوته [...]. والأساس الأضمن الذي يمكن لهذا الكمال أن يقوم عليه هو التواضع. فمن يسعَ إنسانُه الطبيعي في الدنيا متَّضعًا أعمق الاتضاع تحلِّق روحُه نحو أعلى قمم الألوهة. فإن الفرح مجلبة للعذاب – والعذاب مجلبة للفرح!" من هنا جاءت كلمتا "عذاب" و"عذوبة" في العربية من جذر واحد! وفي البيتين التاليين (الديوان، بتحقيق ماسينيون، ص 43)، يبيِّن الحلاج وحدةَ الفرح والألم في قلب الخبرة الصوفية التي ليست من المازوخية الجنسية في شيء:

أريـدُك لا أريـدك للثـواب            ولكـنِّـي أريـدك للعقـاب

فكـل مآربي قد نِلْتُ منهـا            سوى ملذوذ وجْدي بالعَذاب

[97] بالفرنسية: pause.

[98] تشغل البهـﮕـفدﮔيتا فصلاً من الكتاب السادس من ملحمة الـمهابهارتا الهندية. وفيها نجد أرجونا، بطل عشيرة الپاندو (يرمز إلى الذات الصغرى في الإنسان)، على وشك خوض معركة فاصلة ضد أبناء عمومته الكورو وجيشهم، متهيبًا فكرة اقتتال الإخوة، مؤْثرًا إلقاء سلاحه على الاضطرار إلى قتل أصدقائه وأهله. بيد أن قائد مركبته، التنزُّل الإلهي كرشنا (يرمز إلى الذات الكبرى)، يحاول أن يقتلع من نفسه كلَّ تردد وجزع، مذكِّرًا إياه بأن واجبه كمحارب يقضي عليه أن يقاتل. من جهة أخرى – يتابع كرشنا – وحدها الأجسام يمكن قتلها، بينما الروح منيعة وخالدة. لذا ينبغي على المرء أن يقوم بالعمل الواجب عليه دون أن يتعلق بثمار هذا العمل. على الحكيم أن يبقى غير مكترث بالأمور الخارجية، مستغرقًا في التركيز العقلي ("يوﮔـا") وراسخًا أيضًا في محبة الله ("بهكتي").

[99] S. Weil, « Correspondance », Cahiers du Sud, id., p. 432.

[100] باليونانية: acedia.

[101] باليونانية: chaos.

[102] يقول اسحق السرياني: "أما أنت أيها الإنسان فعليك، عندما تخرج وراء الله، أن تتذكر دائمًا بداية جهادك وغيرتك في أول الطريق، والأفكار الحارة التي كانت فيك حينما خرجت من البيت ودخلت معمعة الحرب. وعلى هذا النحو اختبرْ نفسَك كلَّ يوم حتى لا تبرد حرارتُها وتنطفئ غيرتُك التي التهبت فيك عند بداية جهادك، فتخسر أحد أهم الأسلحة التي كنتَ مسلحًا بها." (نسكيات، ص 192)

[103] شبَّه صديقنا موسى د. الخوري هذا التوازن في إحدى محاضراته بالبهلوان السائر على حبل مشدود الذي لا يستطيع أن يقف من غير أن يجازف بالسقوط!

[104] يلوح لنا أن من المتعذَّر الاستيلاء على السرِّ استيلاءً نهائيًّا، إنما السر بالحري هو الذي يستولي على الإنسان. هذا مؤدى قول ج. كريشنامورتي: "لستَ أنت مَن يختار الحقيقة؛ الحقيقة هي التي تختارك." السر ينبثق ثم يستتر؛ وحينما يستتر، يمسي المُسارَر أضأل الناس: أبناء الدنيا يجهلون مبلغ ضآلتهم، بل يحسبون على العكس أنهم كبار؛ أما المُسارَر الحقيقي فيعرف قدر نفسه (راجع: إنجيل لوقا 9: 46-8).

[105] G. Thibon, Simone Weil telle que nous l’avons connue, Paris, 1952, p. 154.

[106] Id., p. 56.

[107] يقول المعلم الناصري: "ما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة، لئلا تشق الخمرةُ الجديدةُ الزقاقَ فتُراقَ هي، وتتلف الزقاق. بل يجب أن تُجعَل الخمرةُ الجديدة في زقاق جديدة." (إنجيل لوقا 5: 37-8)

[108] S. Kierkegaard, Riens philosophiques, trad. Ferlov et J.-J. Gateau, Paris, 1937, p. 95.

[109] يقول المعلم الناصري أيضًا: "الريح تهبُّ حيث تشاء فتسمع صوتها، ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب. تلك حالة كلِّ مولود للروح." (إنجيل يوحنا 3: 8)

[110] كما جاء في القرآن الكريم: "ولما جاء موسى وكلَّمه ربُّه قال: ربِّ أرِني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني. فلما تجلَّى ربُّه للجبل جعله دكَّا وخرَّ موسى صَعِقا" (سورة الأعراف 143).

[111] S. Weil, La Connaissance surnaturelle, p. 44.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود