|
داءٌ
واحد، وأدويةٌ سيئةٌ لا تُحصَى! 1 تعلِّمُنا هذه الأيامُ أن
نتجرَّع اليأسَ كما نتجرَّع الماء. 2 كانت أخطائي كثيرةً في أيامي
الماضية: لم أكن أعرفُ كيف أقيس قدرتي
على الكلام بقدرتي على الصمت. 3 قتلتِ السياسةُ وأهواؤها حسَّ
الحرية عند الإنسان. فما أكثر الذين يقاتلون اليوم،
باسمها، لكي يظلوا عبيدًا! 4 يقول نيتشه: "أدى تبنِّي
مفهوم السعادة إلى خنق البحث العلمي." يمكن القول، اليوم: "أدى
البحثُ العلمي إلى خنق مفهوم السعادة." 5 أصغيتُ إليه يفسِّر الطبيعة،
باسم الدين، كما يفسِّر فقهاءُ اللغة الجُمَلَ
والتراكيبَ النحوية! 6 كان بعضُ نقادنا القدامى
يتحدثون عن "ماء" القصيدة، إشارةً إلى
إعجابهم بها. أهناك "ماء" في القصيدة
اليوم؟! 7 جسرٌ يصل بين الواقع والغيب: جسر–خيط عنكبوت. 8 لا يقدر أن يشرب الحقيقةَ إلا
في كأس الخرافة. 9 لا تمتْ في سبيل أيِّ شيء! لا شيء، أيًّا كان، يستحق أن
تموت الحياةُ من أجله. كل شيء يجب أن يموت من أجل
الحياة. لا تمتْ إلا الموت الذي تأخذك
إليه الطبيعة. 10 تحوَّل مفهومُ "العروبة"
في المحيط السياسي العربي إلى سفينة من أكبر
سفن التاريخ، غير أنها سفينة لا تحمل إلا
التاريخ! 11 بدأتْ حياةُ اللغة العربية
تتحول هي كذلك، ولكنْ إلى تظاهرة متواصلة في
الشوارع، نهارًا وليلاً، في صخب عارم: "إنها
الثورة!" هكذا يمكن لك أن تسمِّي أيَّ
شيء بأيِّ شيء – كأنْ تقول، مثلاً: القطة ناقة،
والشمس ببغاء! 12 كلا، لن أتوقف عن زعزعة قلبي –
إلى أن يتوقف! 13 لم أستطع أن أفعل شيئًا إلا
الشعر، وفي الشعر لم أفعل شيئًا! 14 كل شيء في الحاضر العربي يؤكد
أن قائل العبث هو، وحده، قائلُ الحكمة. 15 سألتُ، اليوم، شتاءَ باريس: هل تساعدني في أن أعيد كتابةَ
ما كتبتُه الآن بالحبر الذي يسيل منك؟ 16 يتكاثر الأشخاصُ الذين لا
يستطيعون أن "يزهروا" إلا في الوحل. 17 لا قلب له، فكيف يبرع في صيد القلوب؟! 18 تُرى، لم يعد أمامنا إلا ماضينا؟! 19 يقول أينشتاين: "تحطيم الرأي
المسبَّق أشد صعوبة من تحطيم الذرة!" فما يكون الأمر، إذًا، مع ثقافة
تقوم على الآراء المسبقة؟ وما يكون وضعُ الكتابة في مثل
هذه الثقافة؟! 20 صديقي الشاعر شديدُ الرغبة في
سعادة الحياة. غير أن هذه السعادة تحجب عنه
شقاءَ التاريخ. وأساله دائمًا: كيف لمن لا يرى
شقاءَ التاريخ أن يعيش حقًّا شعرَ الحياة؟! 21 لماذا يرفض العربي، إجمالاً،
أن ينظر إلى التاريخ إلا بعين التمجيد
والاعتزاز؟ لماذا لا يقدر أن يرى فيه إلا
الجانب المضيء؟ ألأن الحاضرَ مليءٌ بالسقوط،
وليس فيه غير السواد؟ أم لأسباب أخرى؟ وما هي؟ في كلِّ حال، التاريخ، في نظري،
شعرٌ آخر، سواء كان تاريخَ بشر أو تاريخَ
أشياء. 22 لهذه الحصاة عينان. لهذه الحصاة شكلُ رأس بشريٍّ. لهذه الحصاة وجهُ امرأة. لهذه الحصاة يدان. وكأن هذه الحصاةَ عصفور. منذ طفولتي، كنت أجمع مثل هذا
الحصى وأخبئه في أماكن تتيح له أن يكبر – كما
كنت أتخيل. 23 كل نموذج قيد. أن نحيا حقًّا، أن نبدع حقًّا،
هو أن نلغي النمذجة. 24 عندما تزور اسطنبول، غدًا أو
بعده، لا تنسَ أن تجلس في "مقهى الشرق" في
مدخل السوق الكبيرة المسقوفة في حيِّ بيازيد.
وعندما ترى إلى صورة أم كلثوم تتصدر أحد جدران
المقهى، إلى جانب صورة السلطان محمد الفاتح
وصور البقية من آل عثمان، وتصغي إلى أذان
الظهر يتصاعد باللغة العربية الفصحى، فإن
الأمر قد يختلط عليك، وقد لا تعود قادرًا على
التمييز: أأنت، حقًّا، في اسطنبول، أم في حي
الحسين في القاهرة، أم في أسواق حلب القديمة،
أم في سوق الحميدية في دمشق؟! 25 الرغبة في ما لا أملكه تسلبني
الرغبةَ في ما أملكه. 26 أحبها – كأنني أحب فيها امرأةً
أخرى أتخيلها. 27 ما معنى "الواحد" الذي لا
تقدر اللغةُ نفسُها أن تقترب منه؟ وما يكون
معنى علاقة الإنسان به؟ 28 كان حبها ذروةَ الخيبة – ألأنه كان ذروةَ الأمل؟! 29 بشرةُ المرأة حقلٌ تنبت فيه أزهارُ الروح. 30 لم يكتمل بعدُ اكتشافُ
الولايات المتحدة لأرض العراق. غير أنه اكتشاف يمكن أن يُضاف،
على نحو ما، إلى فتوحاتها الأولى. 31 لا يريد أن يكتب وفقًا للزيِّ، يريد أن يكتب الزيَّ. 32 لستَ معجبًا بشعره، أنت معجبٌ بـ"أشيائك" التي
يتحدث عنها شعرُه. 33 يبشِّر بدينه في قرية – هيكلُها من الذهب والفضة، وبيوتُها من القشِّ. 34 لا يقرأ لكي يفكِّر، يقرأ لكي يتأكد أن هناك مَن
يفكِّر عنه! 35 نعم، تولد الحريةُ في البلاد
العربية – كلِّ يوم – غير أنها تولد ميتة! 36 عندنا، في الثقافة والسياسة،
داءٌ واحد، وليس عندنا له إلا الأدوية السيئة
التي لا تحصى! 37 شمسُ هذا الصباح عارية وها هي تتمدد في سرير من الشوك. 38 مجرَّة أحلام تدور في عين سوداء. 39 تعلَّمتُ، لكي أفهم الموسيقى،
أن أوحِّد بين أذنيَّ ومخيلتي. 40 الموسيقى هي اللغة–الأم
للطبيعة. 41 منذ فترة، بدأ العلمُ يبتكر
أساطيرَه – خصوصًا مع ثورة الفلك والفضاء. وسوف تنهار عروشٌ كثيرة. عرشٌ واحدٌ سيزداد بهاءً
وعلوًّا: هو عرشُ المخيلة. *** *** *** |
|
|