|
جَرْدُ
حِسَاب... وتأمُّلٌ في حَاجَات الإنسَانيَّة مع
مطلع العام الجديد وبدايات عامنا السابع لأنَّنا
بشر... ننطلق من أنفسنا، ومن
واقعنا – هذا الواقع الذي نسعى، بما نملك من
إمكانات محدودة جدًّا، إلى أن نجعله معًا
أفضل وأجمل وأكثر محبة وإنسانية... خاصة وأن ما نعيشه اليوم،
كما يقر الجميع، ليس "على ما يُرام"! ولأننا تعبنا، يا إله
المتعَبين، ولأننا بشر، مجرد بشر، فإننا نشعر
باليأس أحيانًا، وخاصةً... حين نتابع ما حولنا من أخبار
مآسٍ ومشاهد موت ودمار... لأننا مللنا خلافاتنا
وصراعاتنا، حول لا شيء وحول كلِّ شيء... مللنا
دياناتنا، أحزابنا، إيديولوجياتنا، مشايخنا
وكهنتنا وحاخاماتنا وحكامنا... عافتْهم
نفوسُنا جميعًا، كما تعاف نفوسَنا نفوسُنا
أحيانًا! لأن ما نريد – مع علمنا بأن
الموت والدمار جزء لا يتجزأ من الحياة – هو أن
نعيش وأن نبني بشكل طبيعي، لا أن يقهرنا الموت
أو أن نكون أدواتٍ للدمار. لأننا نريد لبسمة الحياة أن
ترتسم على وجوه الجميع، حتى – نعم، حتى – على
وجوه "أعدائنا"! لهذه الأسباب مجتمعة، لا
يحق لنا أن نيأس. ولهذا ترانا نستمر في الحلم
وفي التفكير، محاولين الاقتناع... بأن هذه المشاهد المؤلمة
التي نعيشها ستنتهي يومًا، كما ستنتهي جميع
المآسي التي من حولنا. فلكلِّ شيء نهاية
مفترَضة، كما يقال. ولكن الواقع من حولنا –
ونحن نرى ما نرى – يقول بأن هذه النهاية لا
تبدو قريبة، ولا حتى في الأفق المنظور... الأمر الذي "قد" يبرِّر
شعورنا بالتعب وباليأس من كلِّ شيء، حتى من
أنفسنا، وخاصة من جميع أولئك الذين يتلفظون و/أو
ينطقون باسمك، يا إله المتعَبين واليائسين،
كما من جميع الذين يتنطَّحون فينطقون باسمنا. لكننا لا نريد أن نيأس،
لأننا... لا يحق لنا أن نيأس! لذلك فإننا نعود دومًا إلى
أنفسنا، وإلى واقعنا، فنتفكر، ونتأمل،
ونواصل العمل... مَن
نحن؟ بكلِّ تواضع، نعرِّف
بأنفسنا من جديد: نحن، قبل كلِّ شيء، بشر، بشر
مثلكم. وكجميع البشر، أيها الإخوة، نحن
مجموعة أصدقاء تلاقوا ذات يوم حول حلم،
فقرروا قبل سبع سنوات تجسيده في موقع إنسانيٍّ،
فكري، فلسفي، يعبِّر عن أفكارهم وأحلامهم،
موقع سمُّوه معابر، وأرادوه "معابر"
إلى تحقيق حلم بإنسانية جديدة... نحن مجرد مجموعة أصدقاء،
كانوا ومازالوا أوفياء لحلمهم ولما عبَّروا
عنه، بكلِّ محبة وصدق، منذ الإصدار الأول
لمجلتهم الإلكترونية... أصدقاء... [...]
يتفكَّرون، منطلقين في الرحلة الكبرى، رحلة
استكشاف محتويات وعيهم وجذور ألمهم،
مسترشدين بمكتشفات الآخرين حينًا،
متجاهلينها أحيانًا، مناقشين المذاهبَ
كلَّها، والمحرَّماتِ كلَّها، والمقدساتِ
كلَّها، والأنبياءَ والمعلِّمين كلَّهم،
ضاربين عرض الحائط بالوصفات الجاهزة جميعًا،
السياسية منها والفلسفية والأخلاقية
والدينية، غير مكتفين بـ"الحقائق"
الممضوغة المستهلَكة، رافضين كلَّ سلطة –
ماخلا سلطة الروح، معتذرين عن ممارسة أية
سلطة – ماعدا سلطة الضمير الحي. [نحن] حفنة
من "المساكين"، الموسومين غالبًا
بالجنون، [...] "ملح الأرض" [ربما، و]
خميرة عالم جديد، عالم بلا حدود، بلا مصالح،
بلا طبقات، بلا عنصريات، بلا قوميات، بلا
مذاهب، بلا تحزبات، عالم خالٍ من العنف، تبلغ
فيه الإنسانيةُ سنَّ رشدها. [...] لذلك ترانا الآن، مع مطلع
هذا العام الجديد، نعاود التفكير في واقعنا
وفي ما أنجزناه حتى اليوم... نتفكر كيف أصبحت
مجلتنا المتواضعة منبرًا فكريًّا معروفًا
على الشبكة، في بلدنا وفي مختلف أنحاء العالم. ولا يصيبنا غرور... لأننا حين نتأمل في عمق، على
الرغم من أهمية ما أُنجِز، سرعان ما نتلمس في
سهولة إخفاقاتِنا ونواقصَنا ونتأكد من
محدوديتنا. فما قدمناه خلال العام المنصرم
يبيِّن لنا بمنتهى الوضوح مدى تقصيرنا في
تغذية الكثير من أبواب المجلة بالمواد. ونتفكر في الأصدقاء الذين
بدؤوا معنا: فيمن استمر منهم، وفيمن التحق بنا
خلال هذه المسيرة ومازال إلى اليوم يعاني
معنا، فنشعر ببعض رضا ويتملكنا بعضُ سرور.
لكننا حين نتذكر أيضًا مَن غادر منهم لأسباب
مختلفة، حياتية و/أو ذاتية، ونتفكر فيمن يمكن،
للأسباب نفسها، أن يغادرنا، فإننا نرى في
الوقت نفسه، إلى جانب النجاح الذي تحقق،
مقدارَ محدوديتنا وإمكاناتِ فشلنا. ولأننا بشر، مجرد بشر، فنحن متلاقون
حول جانب كبير من الحلم والهدف؛ لكننا مختلفون
أيضًا – وهذا طبيعي جدًّا – من حيث المقاربة
والنظرة إلى الكثير من الأمور، وتحديدًا من
حيث مقاربة الحلم والسعي إلى الهدف... فترانا
نتفق أحيانًا ونختلف حينًا، فيصيبنا إذ ذاك
اليأس، أو لنقل يكاد... لكننا لا نلبث أن نستجمع
الهمة من جديد، ونستعيد، عِبْرَ محبتنا
وعملنا، بعض رجاء وبعض أمل. لذلك تجدنا مازلنا
مستمرين إلى الآن، نضحك غالبًا، مع أننا نبكي
أحيانًا. ونتفكَّر
في الآتي... لذلك ترانا، في الآونة
الأخيرة، وقد بلغ انتشارُ معابر ما بلغ[1]،
نقتنع معًا اقتناعًا شبه كامل بضرورة تطويرها،
من حيث الشكل ومن حيث المضمون... فنقرر إنشاء مكتبة
إلكترونية لبيع الكتب من خلال موقعنا،
لعلَّنا بهذا نلبِّي الطلباتِ المتكررةَ
لعديد من قرائنا، من جهة، وندعم موقعنا ببعض
رافد ماليٍّ، من جهة أخرى. ونتفكر في أن هذه
المكتبة تحتاج إلى المزيد من العمل ومن
التفرغ... لأننا قضينا تلك السنوات
الست التي مضت، أيها الإخوة، من دون أيِّ رافد
تقريبًا – اللهم إلا ذاك الذي اقتطعناه من
طعام عائلاتنا... نقول "تقريبًا"، لأننا
لا ولن ننسى أولئك الذين لا يتجاوَز عددُهم
أصابع اليدين ممن كانوا، ومازالوا، إلى
جانبنا، يساعدوننا بما في وسعهم من جهد وعمل
ويدعموننا بذلك القليل من المال الذي لا
يُقدَّر بثمن من حيث قيمته المعنوية... ولأننا تأكدنا بأننا أصبحنا
في حاجة إلى بعض الدعم لكي نستمر ونتطور وننشر،
أكثر فأكثر، ذلك الفكر الإنساني المتنوع،
المختلف والمؤتلف، الذي نؤمن به ويحتاج إليه
عالمُنا، بتنا نبحث اليوم فعلاً بحثًا جادًّا
عن دعم غير مشروط أصبحنا في أمس الحاجة إليه.
لكن... لأننا نخاف من المال فعلاً،
وخاصة لما يمكن أن يكون له من تأثيرات سلبية،
فقد ترددنا كثيرًا في سعينا هذا، ومازلنا
خائفين إلى الآن. لكن، في المقابل... لأننا نريد من كلِّ قلبنا
إيصال ما نؤمن به من فكر تنويري وإنساني إلى
أوسع النخب العربية وغير العربية، ولأننا،
كما عبَّرنا في افتتاحية سابقة بتاريخ نيسان
2004، تفكَّرنا فعلاً... [...]
في أولئك الذين، في بدايات العصر الإسلامي،
ترجموا أرسطو وفلاسفة الإغريق إلى السريانية
والعربية، وفي العصر الوسيط الأوروبي،
ترجموا ابن رشد وابن سينا وفلاسفة الإغريق من
العربية إلى اللاتينية. [...] وتساءلنا، ومازلنا نتساءل: [...]
هل كانوا يتوقعون يا ترى النتائج المستقبلية
العظيمة لما قاموا به آنذاك؟! ومثلهم أولئك من
علماء فرنسا القرن الثامن عشر وفلاسفتها،
الذين جمعوا تلك الموسوعة – خلاصة علوم
عصرهم، التي كانت الأولى من نوعها في التاريخ
– تراهم هل كانوا يتفكَّرون فيما سيتفتَّق
عنه مشروعُهم الثقافي من نتائج؟! كذلك: [...]
هل كان بولس الرسول، قبل ألفَي عام، يتصور ما
ستتمخض عنه دعوتُه الطوباوية؟! وتخيَّلنا
حالمين تلك القوى الظلامية التي جابهتْه
وأتباعَه الخُلَّص آنذاك، فجعلتْ الكثيرين
منهم يدفعون حياتهم ثمنًا لتلك المعرفة ولذلك
الحلم الكوني الذي دعا إليه. [...] لهذه الأسباب كلِّها، قررنا
التركيزَ خاصةً على ترجماتنا التي ضعف
منسوبُها في الآونة الأخيرة، أولاً، وعلى
توسيع هذه الترجمات في مختلف المجالات،
ثانيًا، وعلى تخصيص ما نطلبه (وقد يأتينا) من
دعم مادي في النهوض لتلك الترجمات. ولسنا نكتم عنكم أننا، على
الرغم من هذا القرار، نشعر ببعض الخوف، أيها
الإخوة، لأننا... [...]
مجرد أناس عاديين، مثلكم، نخاف كما تخافون:
نخاف أشد ما نخاف من المال ومن الأضواء. [...] لكن... لأن جلَّ ما نفكر فيه
في النهاية هو كيفية مواصلة مسيرة معابر
وتطويرها، وتطوير مكتبتها ومشروع "معجمها
الفلسفي"، الذي كاد أن يتوقف خلال العام
المنصرم، وإنجاز مشروع "قاموسها اللاعنفي"
الذي بوشِر لتوِّه، فقد توصلنا إلى حلٍّ يقضي
بقبول بعض الدعم غير المشروط من أجل رَفْدِ
ترجمة نصوصنا، وخاصة منها تلك النصوص ذات
الطابع الروحي والتنويري واللاعنفي. وكانت البداية مع نهاية
العام المنصرم: قاموس اللاعنف لصديقنا
جان ماري مولِّر الذي حمَّلنا أولى تعريفاته
على صفحات معابر، ونأمل استكمال مواده في
غضون العام المقبل. [...]
فكل ما [نريده و] نطمح إليه في النهاية،
أيها الإخوة، هو محبتكم ومساعدتكم لنا في
الحفاظ على موقعنا البسيط هذا – الذي هو
أيضًا موقعكم – وفي تطويره. [...] *
* * ملحق إلامَ
تحتـاجُ الإنسَـانيَّة؟ الحياة
في سبيل الإنسانية هي الخطوة الأولى. –
هـ.پ. بلافاتسكي، صوت الصمت إذا صحَّت هذه العبارة،
ينبغي علينا في معابر، بوصفنا حملةَ فكر
إنساني، تنويري، أن نطرح على أنفسنا سؤالين
اثنين: أولاً، إلامَ تحتاج الإنسانية؟
وثانيًا، كيف يمكن لأسلوب حياة كلٍّ منا أن
يسهم بقسط، وإنْ ضئيل، في تلبية هذه الحاجات؟ ثمة تعليم روحي أساسي
مُفادُه أنه ليس بمستطاع أية قوة خارجية أن
تحل مشكلاتِ الإنسانية المستعصية؛ فعلى
الإنسانية نفسها أن تنهض لتلك المهمة. "نحن
الإنسانية"، يقول كريشنامورتي بلسان
الحكمة الأزلية؛ وبالتالي، فإن مستقبل
الإنسانية بيدها هي، بأيدينا جميعًا، أي بيد
كلِّ واحد منا – وهل في ذلك من ريب؟! أما وقد أدرك الأصدقاء في معابر
شيئًا من هذه الحقيقة، فإنهم يحاولون معًا أن
يستشفوا ما هي حاجات الإنسانية – حاجاتها الحقيقية،
لا تلك "الحاجات" التي يسعى مجتمعُ
الاستهلاك أو بعض "المثاليين النظريين"،
المنقطعين عن الحياة العملية، إلى فرضها
عليها. إذا فحصنا عن المسألة من
وجهة نظر خارجية، ولنقل "ظاهرية"، قد
يغرينا ذلك أن نقول إن هذه الحاجات نسبية،
تزيد أو تنقص أو تتبدل بحسب الزمن والمكان:
كأن نقول، على سبيل المثال، إن حاجات البشرية
اليوم ليست عينها حاجاتها إبان العصور الوسطى.
ففي أيامنا هذه، تتفاوت حاجاتُ البشر بالفعل
تفاوتًا هائلاً بين البلدان الغنية والبلدان
الفقيرة. ومع ذلك، فإن اختلاف شروط الحياة
وظروفها من عصر لآخر، ومن بلد لآخر، لا يمت
بصلة تُذكَر إلى الشعور بالنقص. فمن
الميسور أن نلحظ أنه كلما ازداد حجمُ ما نملك
تأججت الرغبةُ في نفوسنا والتبستْ بالحاجة. واليوم، يبتكر مجتمعُ
الاستهلاك مختلفَ صنوف الحاجات الكاذبة،
فيرسخ بذلك شعورًا متناميًا بالنقص، بالخيبة
والإحباط، لأنه ما من أحد يستطيع أن يتحصل على
جميع السلع التي تروج لها وسائلُ الإعلام
الجماهيرية[2].
وهنا ليس قصدنا، ونحن نتكلم على آفاق معابر،
أن ننصِّب أنفسنا قضاةً ديانين لمجتمع
الاستهلاك، بل حَصْرُ الحاجات الأساسية لكلِّ
إنسان، المستقلة عن الزمن والمكان – وهي ليست
كثيرة! قيل إن هناك ثلاث آفات مافتئ
البشر يكافحونها، – وهذا الكفاح قد يمثل
مستوى أول من الجواب عن سؤال الحاجات
الأساسية، – وهي: الجوع والمرض والحرب. ومن
الواضح أنه لم يتم اجتثاث أية من هذه الآفات،
بل إن المشكلة أُزيحَت وحسب: إذا صح بأن أممًا
عديدة باتت لا تعرف الجوع في نصف الكرة
الأرضية الشمالي فإن شعوبًا بأكملها تموت
جوعًا في نصفها الجنوبي؛ وإذا بات في الإمكان
شفاء بعض الأمراض فإن أمراضًا جديدة ما انفكت
تظهر، والخوف من الأوبئة الجديدة المروعة
يستبد بالنفوس؛ أما الحرب، فلم تغير من
صورتها كثيرًا، إذ إن "الحرب الباردة"
عادت "ساخنة"، ولاسيما في منطقتنا،
والأضرار التي تتسبب فيها، على المَدَيين
القصير والطويل، لا تستثني أحدًا. يحتاج الإنسان، بوصفه شخصية
personality،
إلى حدٍّ أدنى من الغذاء والصحة والأمان لكي
يتفتح تفتحًا متناغمًا على الأصعدة
الجسمانية والشعورية والذهنية. وعلى تفتُّح
الشخصية المتناغم هذا تتوقف، في جزء كبير
منها، إن لم نقل في كلِّيتها، إمكانيةُ حصول يقظة
روحية حقيقية لديه. فالإنسان المهدد بالموت
جوعًا، و/أو الذي ينخر فيه المرض، و/أو الذي
يعيش في مناخ من الجزع الدائم، ليس في مقدوره
أن يتفتح روحيًّا، اللهم إلا في حالات
استثنائية. يسود العالمَ الحاليَّ خللٌ
رهيب في توازُن تأمين الغذاء والصحة والأمن.
البشرية تتذبذب بين الطرفين الأقصيين، وفرط
الوفرة في البلدان الغنية ليس أكثر مواتاةً
لتوازُن الشخصية من فقر بعض الشعوب المدقع.
فلعله يجدر بكلٍّ منا أن يتفطن إلى أيِّ حدٍّ
يسهم أسلوبُ حياتنا المستهتر في استمرار هذه
الحال. إذا صَدَقنا أنفسَنا القول، سنكتشف أن
في إمكاننا فرديًّا تعديل موقفنا، وإنْ قليلاً،
بحيث نقلل من الأضرار. ولا نظنن أن هذا "القليل"
قليل! فالحركات "الثورية" الحقيقية
الكبرى غالبًا ما بادر إليها إنسانٌ فرد واحد
أو ثلةٌ صغيرة من البشر المتنورين. أجل، في
مستطاع كلٍّ منَّا أن يكون ذاك الإنسان "الثوري"،
ويمكن أن يكون لموقفه، على المدى البعيد،
تأثيرًا أعظم مما نتصور الآن. لماذا نتكلم على
"العدوى" في خصوص المرض فقط؟ لماذا لا
تكون الحياة الصحيحة، على الأصعدة كلِّها،
"مُعدِيَة" هي الأخرى؟! لماذا لا نجعل
معًا من معابر بؤرةَ "عدوى" لوعي
إنساني جذري الجِدة؟! حتى إذا لم نعدْ أنانيين
وعديمي المسؤولية، فمازال أمامنا عملٌ كثير
لبلوغ الكفِّ التام عن الأذى، بحيث نلبِّي
حاجاتِنا المشروعة من غير أن نسيء إلى حاجات
الآخرين. مازال أمامنا عملٌ كثير لكي نتوقف عن
إمداد الجوع والمرض والحروب بالوقود،
إمدادًا مباشرًا أو غير مباشر، فظًّا أو
حاذقًا. لكننا إذا اعتنقنا صادقين مُفاد
عبارة صوت الصمت من أن "الحياة في سبيل
الإنسانية هي الخطوة الأولى"، فلا يجوز لنا
أن نبقى صُمَّ الآذان، عُمْيَ الأعين، عن
الحاجات الحقيقية لكلِّ كائن إنساني. فيما يتعدى حاجات الإنسان
الأولية – حاجات الشخصية، الأولية لكنْ
الضرورية – لا بدَّ لنا من النظر في الحاجات
الأعمق، حاجات ما تسمِّيه الثيوصوفيا، على
غرار الحكمة الأزلية، بـ"الفردية" Individuality
أو "الذات العليا" Higher
Self. حين تُلبَّى الحاجات
الأساسية، – الغذاء، الصحة، الأمن، – إلى حدٍّ
مقبول على الأقل، وحين يتوقف الكفاحُ من أجل
هذه الحاجات، – وهو كفاح يركِّز الطاقة،
وينمِّي الابتكار، بل قد يفتِّح الإبداع، –
إذ ذاك قد يتسرب إلى النفس شيءٌ من السأم،
لعله السبب الرئيسي في تفاقُم عدد حوادث
الانتحار المُشاهَد في بعض الدول الميسورة.
ومردُّ هذا إلى أننا كثيرًا ما نتناسى أن
الإنسان ليس شخصيته وحسب، وأن لطبيعته
العميقة – فرديته – حاجاتِها هي الأخرى: "ليس
بالخبز وحده يحيا الإنسان"، قال المعلم
الناصري. الإنسان في حاجة إلى غذاء روحي،
لا إلى غذاء دينيٍّ وحسب. الغذاء الديني قد
يُشبِع جوعَه إلى حد و/أو إلى حين؛ قد يكتفي به
بعضهم، فيما يجده بعضهم الآخر غير كافٍ، بل
مخيِّب في بعض الأحيان (إذا طغى عليه الحرف).
فلتلبية حاجات الفردية، لا مناص من توفير "غذاء"
يتيح تفتحًا دائمًا غير محدود، لأن نموَّ
الفردية لا حدود له. وهذا ما يلبِّيه البحث
الروحي الذي تحاول معابر أن تضع بعض
أدواته في متناوَل عقول وقلوب قرائها الجياع
إلى أكثر من الخبز. تعتمل في نفس كلِّ إنسان
حاجةٌ عميقة إلى السعادة. هذه الحاجة هي "محرِّك
البحث" الروحي. وهذا المحرك، إذ يدور، فإن
البحث المتواصل بلا هوادة نفسه هو الذي
يشكِّل الغذاء الضروري ليقظة الفردية
ولتفتُّحها المستمر. هنا يجدر التنويه إلى أن
تفتُّح الطبيعة الروحية لا يتم كما يتم نمو
الطبيعة الشخصية: فنمو الشخصية يتم بواسطة
الاكتساب والتراكم، بينما تفتُّح الفردية
يتطلب، على العكس، التخلِّي والتسليم؛ نمو
الشخصية يتم من خلال بناء الأنا، في حين يتحقق
تفتُّح النفس الروحية (العليا) عِبْرَ
التلاشي المتدرج للشعور بأنيَّة منفصلة. من هنا لا تهدف معابر،
عِبْرَ وضع نصوص من تراث الإنسانية الروحي في
متناول قرائها، إلى إتخام أذهانهم
بالمعلومات، ولا إلى تحريض انفعال التدين
لديهم. فالتدين يستهدف بلوغ حالة من الرضا
الذاتي والاكتفاء، نوعًا من "المادية
الروحية" (بحسب تعبير المعلم البوذي
التيبتي تشوﮔيام تروﻨﮕپا)، يلتبس
فيها الفوزُ بالخيرات الروحية بذهنية حيازة
المزيد من المكاسب المادية، بينما الروحانية
الحق هي إيقاد ظمأ روحي في العقل والقلب لا
يعرف رضا ولا اكتفاء. الفردية ليست "أنا
أعلى" (فرويد). فكما أن صعيد الفردية يختلف
جذريًّا عن صعيد الشخصية، فإن "حاجاتها
الأساسية"، في الآن نفسه، مختلفة كلِّيًا
عن حاجات الشخصية. ولأن هذا غالبًا ما يُساء
فهمُه يشعر كل هذا العدد من الباحثين
الروحيين بعدم الرضا. فمادام البحثُ موجهًا
نحو الاكتساب – اكتساب المزيد من المعلومات
والقدرات والضمانات – فإن الشعور بالنقص
سيظل موجودًا. وهذا الشعور بالنقص مرتبط
بالشعور بالانفصال الذي يسود على الصعيد
الشخصي، في حين أن الوحدة الجوهرية للوجود
بأسره هي التي تسود على صعيد الفردية. ومن
هنا فإن الفردية عصية على كلِّ أنا يتوهم
نفسَه منفصلاً. وبوصفنا باحثين مبتدئين،
فإننا مازلنا مقيمين على هذه الحال الوسطى،
حيث الأنا لم يعد كلِّي القدرة والسيطرة، لكن
قوقعته مازالت تقاوم الاختراق، حائلةً بذلك
دون أيِّ تفتح روحيٍّ متناغم ودائم. هذا
المفهوم للبحث الروحي العميق هو ما تسعى معابر
إلى مشاركة قرائها فيه، وليس في مجرد
المعلومات المتاحة في الكتب. ومع ذلك، فإن وعينا لأهمية
الحاجات الأساسية للفردية يجب ألا يدعونا إلى
إهمال حاجات الشخصية. ثمة خطر جسيم ماثل في
التذبذب من طرف إلى آخر: من طرفِ معتنقِ
المذهب المادي، الذي لا يأخذ في الحسبان إلا
ما يستطيع إدراكه بواسطة الحواس الخمس، إلى
طرفِ "الروحاني" المزعوم الذي يهمل
الشخصية متذرعًا بأنها أداة مؤقتة. لا بدَّ،
إذن، من إحلال توازُن نفسيٍّ صحيح في الفرد. في نظر الروحاني الحقيقي،
ليس إشباع حاجات الشخصية غايةً في حدِّ ذاته،
بل وسيلةٌ هامة تكفل تطور بحثه تطورًا صحيحًا.
وهو، إذ يستوعب هذه الحقيقة حقَّ استيعابها،
يأخذها في الحسبان باعتماده أسلوبَ حياة يمكن
للإنسانية أن تستفيد منه. لا يجوز الحط من شأن
النمو الشخصي؛ لكن حتى لا يزيد هذا النمو من
غلاظة قوقعة الأنا، يجب أن يضعه في خدمة
الآخرين، ليس في محيطه المباشر أو ضمن الفئة
التي ينتمي إليها اسميًّا وحسب، بل في نطاق
الإنسانية ككل. إن مَنْحَ المرء من جهده
ووقته في سبيل خدمةٍ لا ينتظر لقاءها شيئًا –
لا ماديًّا، ولا عاطفيًّا، ولا فكريًّا –
نشاطٌ فعال، لا لمساعدة الآخرين وحسب، بل
ولتعويض صحيح عن نواقصه الشخصية أيضًا. وهذا
درس من الدروس الأساسية التي يسَّرتْها معابر
للعاملين فيها. بهذا يمكن لمشروع من نحو معابر
أن يتيح للعامل فيه عن وعي حقلَ اختبارٍ
مثاليًّا للحياة في خدمة الإنسانية،
وبالتالي، لتفتُّح النفس، في منأى عن الوقوع
في فخ الرضا الذاتي الذي من شأنه أن يُغرِقنا
من جديد في وهم الانفصال. بلوغ السلام الداخلي
الحقيقي يتطلب منا إيجاد معنًى أعمق للغيرية،
فيما يتعدى ثنوية "أنا" و"الآخر".
فالغيرية الحق هي استعادة شعورنا الطبيعي
بالوحدة الجوهرية، حيث لا يعود ثمة "آخر"
لأن الشعور بـ"أنا" منفصل يزول أصلاً. إذ
ذاك يكون من الممكن لنا أن نحيا في سبيل
الإنسانية حياةً طبيعية، دون ادعاءٍ من أيِّ
نوع، لأن التفتح على الوحدة الجوهرية يعبِّر
عن نفسه عفويًّا في موقف من التعاطف التام مع
الألم ومن الالتزام الأخلاقي الخالص. كل عام وأنتم بخير. ***
*** *** |
|
|