|
هـرطـقـات "الجرح
الأنثروپولوجي" يحمل
الباحث جورج طرابيشي في كتابه الجديد بعنوان هرطقات[1]
مفتاح الباب السحري لإشكاليات الديموقراطية
والعَلمانية والحداثة والممانعة العربية.
وهو، إذ يعتبر الديموقراطية "جوهرة التاج"
الذي يتوج التطور العضوي للمجتمع المعني،
فإنه يعتبر، من جانب آخر، العَلمانية من
إفرازات التطور التاريخي. كثيرًا ما يقترن الفكرُ
الديموقراطي العربي، الصاعدة موجته في
العقود الأخيرة، بنزعة "شعبوية" populist.
والشعبوية قابلة لأن تُختصَر في شعار واحد:
"الدولة ضد الأمة". فالدولة ذئب والأمة
حمل، الدولة قابيل والأمة هابيل! ومن دون أن
نكون هيغليين، ولا من أنصار عبادة الدولة،
فإن منطق تأثيم الدولة وتبرئة "الأمة" أو
"الشعب" أو "المجتمع المدني" يحمل
بين طياته، على العكس من مدَّعاه الديموقراطي،
جرثومةً توتاليتارية جديدة. ولنا في الثورة
الفرنسية، في عهد الإرهاب الروبسپييري، مثال
قديم؛ ولنا في الثورة الإيرانية، في عهد حُكم
الملالي، مثال جديد. وبديهي أن العكس قد يكون
صحيحًا أيضًا؛ وأكثر من أن تُحصى هي الحالات
التي تتكشف فيها الدولةُ عن أنها "تنين":
سلطة نهمة إلى السلطة، إلى مُراكَمة المزيد
من السلطة باستمرار. ولكن على حين أن النظرية
الديموقراطية قد أوجدت علاجاتٍ غير قليلة
النجاعة لأمراض السرطان السلطوي – وفي
مقدمتها مبدأ فصل السلطات ودولة القانون
وحقوق الإنسان – فإن الفكر الديموقراطي
الشعبوي – وهو الفكر السائد إجمالاً على
الساحة الثقافية العربية – يضع رهانَه كلَّه
على الشعب أو على المجتمع المدني، فيؤبلس diabolize
الدولة ويؤمثل idealize
الأمة، ولا يقيم بينهما إلا علاقة جلاد وضحية. ويشير الباحث طرابيشي إلى
تأثير الطائفية السلبي على إمكانية حياة
ديموقراطية سليمة، فيعتبرها أول الأمراض. أما
ثاني أمراض المجتمع الأهلي العربي، فيتمثل في
النمو المتعاظم لظاهرة التجمعات المذهبية
(الممولة بالدولارات!) وخطورة هذه التجمعات
التي تأخذ طابعًا مذهبيًّا في بعض مظاهر
اصطدامها العنيف مع مبدأ المبادئ في منظومة
القيم الديموقراطية: حرية الفكر والاعتقاد.
فسلاح "التكفير" الذي تشهده هذه
التجمعات يمثل، في إطار الوضعية العربية،
أعلى أشكال العنف المعنوي. لا شك في أن الديموقراطية هي،
في التحليل الأخير، ثقافة ومنظومة قيم
متضامنة: فهي لا يمكن لها أن تكون نظامًا
فصاميًّا، أي لا يمكن أن تكون نظامًا للحكم
دون أن تكون نظامًا للمجتمع. والمجتمع، في
المقام الأول، نسيج من العقليات. يبقى أن
المجتمع الذي يريد الديموقراطية في السياسة
ولا يريدها في الفكر هو مجتمع يستسهل
الديموقراطية ويختزلها في آنٍ معًا. هذا في الديموقراطية. أما في
مبحثه "الفلسفة العربية المستحيلة"،
فينفي طرابيشي وجود فلسفة عربية حديثة أو
معاصرة، على الرغم من "توماوية" يوسف كرم،
و"وجودية" عبد الرحمن بدوي، و"جَوانية"
عثمان أمين، و"شخصانية" عزيز الحبابي، و"ماركسية"
سمير أمين، و"فيورباخية" حسن حنفي و"هوسِّرليته"
في آنٍ معًا. هل هناك فلسفة
عربية؟ وإذ يتساءل عن أسباب عدم
وجود – بل استحالة وجود – فلسفة عربية حديثة
أو معاصرة، فهو يرصد ثلاث سلاسل متراكبة من
السببيات: 1.
السبب
الأول هو أن الفلسفة المعاصرة نفسها، على
الصعيد العالمي، في أزمة؛ ومرد تلك الأزمة
يعود إلى تطور العلم بالذات. 2.
السبب
الثاني هو أن المتفلسف العربي يجد نفسه اليوم
في وضعية مَن لا يستطيع أن يتفلسف إلا وفق
مثال: فسبق الغرب إلى اجتراح مأثرة الحداثة قد
جعل كلَّ ما يمكن أن يفكر فيه الملتحقون بركب
الحداثة مفكَّرًا فيه مسبقًا. فالحضارة
الغربية قد باتت، بحكم أسبقيتها إلى الحداثة،
تتحكم في الزمان الثقافي للحضارات الأخرى؛
لذا لم يعد أمام المتخلِّفين في هذا العالم من
مستقبل آخر غير حاضر المتقدمين. 3.
ثالث
هذه الأسباب، أن الفلسفة نبتة لا تزهر إلا في
تربة العقل واستقلاليته. فالعقلانية – الشرط
الشارط لتمخُّض الفلسفة – مازالت بعيدة عن أن
تكون صاحبة الكلمة الأولى في الثقافة العربية
المعاصرة، والعقل السائد في الثقافة العربية
مازال عقلاً تابعًا. ولكن لماذا تقدم الغرب
ولماذا تأخرنا، نحن العرب المسلمين؟ يطرح
طرابيشي السؤال. من الطبيعي القول إن السؤال
نزع من البداية إلى أن يكون تراجيديًّا:
فاكتشاف تقدُّم الآخر قد يكون في ذاته مفجعًا
للذات؛ لكن اكتشاف تأخُّر الذات هو لهذه
الذات بمنزلة مأساة. من هنا جاز وصف "الجرح
الأنثروپولوجي" بأنه، في الحال العربية،
جرح في العمق. فهو جرح مضاعف: جرح تقدُّم الآخر،
مع أنه كان في الوعي السائد، لحظة صدمة اللقاء
مع الغرب، "متأخرًا"؛ وجرح تأخُّر الذات،
مع أنها كانت، في توهُّمها، "متقدمة". وهكذا يكون "الجرح
الأنثروپولوجي" قد اعتمل على مستوى
قطيعتين: قطيعة العرب عن حاضر الغرب،
وقطيعتهم عن ماضي العرب أنفسهم. وعلى هذا
النحو أيضًا، اقتحم ساحة الوعي العربي
مفهومان تأسيسيان جديدان: الثقافة بالإحالة
إلى الآخر، والتراث بالإحالة إلى الذات.
وبين فكَّي كماشة هذين المفهومين لا يفتأ
الوعي العربي، منذ نحو قرنين من الزمن، يتقلب
ويتخبط: فهو يريد نفسه في ثقافة العصر دون أن
يقطع مع تراثه؛ وهو يريد أن يحيي تراث ماضيه
دون أن يميت نفسه عن ثقافة العصر. وغني عن البيان أنه، بدءًا
بثنائية التراث والثقافة التي هيمنت على
القرن التاسع عشر وكانت في الأساس
الإپستمولوجي لما عُرِفَ باسم "عصر النهضة"،
تطورتْ على امتداد القرن العشرين ثنائيات شتى
متلاحقة، بدءًا بثنائية القديم والجديد،
مرورًا بثنائية الاتباع والإبداع، وانتهاءً
بثنائية الأصالة والحداثة. وإنما من الاشتغال
الجدلي لهذه الثنائيات، ومن مساهمات الأجيال
المتعاقبة فيها، تشكَّل في العالم العربي
واقعٌ ثقافي جديد هو هذه الثقافة العربية
الحديثة التي نستظل جميعًا بظلِّها والتي يصح
وصفُها بأنها، على الرغم من دعاة الاستنساخ
من كلا المعسكرين، ليست نسخة طبق الأصل لا من
التراث الأصيل ولا من الثقافة الوافدة، بل هي
تركيب ناجح، بقدر أو بآخر، أو ربما فاشل، بقدر
أو بآخر، من لقاء هذين الرافدين. ***
*** *** عن
السفير، 14/11/2006 [1]
جورج طرابيشي، هرطقات: عن
الديموقراطية والعلمانية والحداثة
والممانعة العربية، دار الساقي، بيروت،
2006. |
|
|