|
نـداء مـا كـان
بـعـيدًا الصَّحراء بوصفها
كنزًا هي الصحراء وقوانينها الخاصة،
يأخذنا إليها الكاتبُ الليبي إبراهيم الكوني
مرةً أخرى. الصحراء التي تحول كلَّ شيء إلى
كنز أو إلى لعنة أو إلى كليهما معًا! الصحراء
الليبية، وجارُها البحر، وعلاقة الكرِّ
والفرِّ، الحب والكراهية، التي تجمع بينهما،
هما عصب رواية نداء ما كان بعيدًا[1].
لكن القصة ليست رتيبة، سائرة على وقع المدِّ
والجزر، بل ضاجَّةٌ ببَشَرٍ لا يسيِّرهم غير
نداء ناءٍ، هو نداء الترحال للصحراويين ونداء
البحر للقراصنة. في اختصار أكثر، هو نداء
الحرية والبحث المضني عن النفس، الذي لا
ينتهي إلا بهلاكها! الجملة
الأخيرة التي يتفوَّه بها بطل الرواية أحمد
القرمانلي، قبل انتحاره، لابنه بالتبنِّي قد
تشكِّل خلاصةً لناموس الصحراء العظيم: إذا تناولتَ سلاحًا فاستخدمه، وإذا
استخدمتَه يجب أن تُحسِنَ استخدامه. هذه حكمة
أمِّك الصحراء! لكن
هذه "الحكمة" ليست الوحيدة. إذ ثمة حِكَمٌ
كثيرة أخرى تتبدى على امتداد سيرة محبوكة
ببراعة لداي عظيم يُعرَف بـ"أحمد الأكبر".
سيرة حاكم "مثالي" في توزيع الظلم بين
رعيته، عرف من أين تؤكل الكتف، وعمل وفق
المبدأ القائل إن جزاء الإحسان هو دائمًا
الخيانة والطعن في الظهر. حاكم أجاد استخدام
السلاح، وساير قدره، فمنَّ عليه الأخيرُ
بالمجد فقط – لا بالسعادة ولا بالخلاص! ينجح
الكوني في رسم عالم جذاب، غريب، متوحش، هو
حيِّز واقعي–خيالي تتعرى فيه الطبيعة
البشرية حتى العظم. عالم لا تزال تسيِّره
معتقداتٌ وثنية قديمة، على الرغم من القشرة
الإسلامية الرقيقة التي طُلِيَ بها. عالم
خلاسي، فيه الحكَّام وقطَّاع الطرق وأصحاب
الكرامات والدراويش والعلوج والحسناوات
والقراصنة والقبائل الصحراوية والعسس ومردة
الجان – وفي مقدم هؤلاء جميعًا العرافون،
أصحاب النبوءات، أو ممثِّلو روح الصحراء
الخفية الذين لا يتردد الحكَّام في استشارتهم
والوقوف على آرائهم عند كلِّ مفصل من مفاصل
حُكمهم. هذا المجتمع المتنوع، القابع تحت حكم
العثمانيين، لا تضخُّ الروحُ فيه سوى دماء
القتلى الغزيرة: "دم الأنام، لا دم الأنعام"
– قرابين تُرفَع كلَّ يوم على مذبح إله الطمع
الرملي الذي لا يرتوي أبدًا، وفرمانات غبية
تأتي من الآستانة البعيدة، الجاهلة تمامًا ما
يحدث على الأرض، مادام همُّها منحصرًا في جمع
ما أمكنها من المكوس والضرائب. الممتع
في هذه الرواية هو التحليل الذي يسوقه الكاتبُ
حول التكوين الإنساني لسكَّان الصحراء. فهم
يفرُّون من رائحة البحر كما يهربون من
الطاعون: كانت رائحة الماء الفاسد [كما
اعتادوا أن يسمُّوا مياه البحور] تزكم
أنوفهم وتصيبهم بالصداع والغثيان، وحتى
الحمَّى، فيتركون العدو الذي أقبلوا
للانتقام منه، ليفرُّوا على أعقابهم لا يلوون
على شيء. هكذا
كانوا يهزمون أعداءهم دائمًا، ويهزمهم الخوفُ
من الاستقرار في قبر يسمِّيه سكان السواحل
بيتًا، فيفرُّون إلى صحرائهم ليعتقوا
أرواحهم ويدَعوها تمتزج في بوتقة الصحراء
السرمدية، لأنهم، كما يقولون، "ملَّة
معجونة من ضياء الشموس الصحراوية الخالدة". ولأن
الصحراء ليست وطنهم، بل أرجوحةُ أرواحهم
الضخمة، يمكن لهم تحمُّل أيِّ نوع من الجور –
إلا الجور الذي يفضي إلى تكبيل حرِّيتهم. ويصل
الأمر ببعضهم إلى حدِّ التحرر من أولادهم من
طريق تركهم في الصحراء تحت رحمة الغزاة، على
اعتبار أن أبناء الجسد لا يأتي منهم سوى نكران
الجميل وعقوق الوالدين اللذين يبذلان
نفسيهما في سبيل تربيتهم. لكن
على العكس مما يعتقد السكَّان، يؤمن البطل،
ذو الأصول الأناضولية والصحراوية في آن، بعدم
وجود تضادٍّ بين البحر والبر، بل يعقد أواصر
الشبه بينهما: "البحر برٌّ من ماء، كما البرُّ
بحر من خلاء"، شارحًا أن المسافر في البرِّ
يموت عطشًا بسبب غياب الماء، والمبحر يموت
عطشًا بسبب غياب الماء! إذ إن مياه البحر ليست
ماء، لكنها ظل مياه: مياه البحر كسراب البرِّ، لم تُخلَقْ
لتروي الظمآن إلى مياه البدن، ولكنها خُلِقَتْ
لتروي الظمآن إلى مياه الروح. تلعب
"الإشارات" التي يبعث بها القدرُ أهميةً
قصوى في حياة أبطال هذه الرواية التي تتمحور
حول محاولات البشر المستميتة لفهم هذه
الإشارات وتطويعها لمصلحتهم. وتُستَهلُّ
الإشاراتُ بكابوس يراه أحمد القرمانلي قبل أن
يصبح حاكمًا، وفحواه أنه يدس يده في جيبه
ليفاجَأ بشيء رجراج مثير للغثيان، يُخرِجُه
ليكتشف أنه أفعى، يرميها ويجري على الحصى
التي تصبح رؤوس أفاعٍ لا تنتهي! من خلال هذا
الكابوس، يعرف القرمانلي أن الرسالة التي
حمَّله إياها داي طرابلس محمود أبو مويس إلى
شيخ المحاميد ليست سوى طلب بقتل الرسول، أي
القرمانلي نفسه. فيغيِّر الأخيرُ محتواها
ويحمِّلها شتائم ليوغر صدر المحاميد،
فيقومون بحملة تؤدي إلى تنصيبه حاكمًا على
طرابلس. ينتهي هذا الانقلاب كما تنتهي
انقلابات المدينة التي لا تعرف السكينة عادةً:
يخرج السكان ليهتفوا بحياة الطاغية الجديد
ويشكرونه على تخليصهم من جور الطاغية السابق! فترة
حكم القرمانلي لن تختلف كثيرًا عن فترة حكم
سابقيه: الحاجة إلى المال تدفعه إلى الانقلاب
كلَّ مرة على مَن أحسن إليه وإلى قتل كلِّ مَن
يمكن له أن يشكِّل خطرًا عليه. أما الإنجاز
الأهم الذي يُحسَبُ له فهو تخليص العامة من
الإنكشارية، عِبْرَ استدراجهم جماعاتٍ إلى
داخل القصر الذي ستتخَضَّب ساحاتُه وتُروى
أشجارُه بدماء هؤلاء الذين تسعى السلطنة
العثمانية إلى التخلُّص منهم عبر تصديرهم إلى
أبعد أصقاع السلطنة المترامية. لكن
الرياح لم تجرِ كما تشتهي سفن القرمانلي، لأن
السلطان العثماني يصدر فرمانًا بتعيين خليل
باشا الأرناؤوطي واليًا على طرابلس قبل أن
يتمكَّن الحاكمُ الجديد من تثبيت دعائم حكمه.
لكن القرمانلي، بدهائه، يقضي على خليل باشا
ويشتري سكوت العثمانيين بالرشوة. وهذا ما
يعني، عمليًّا، إفراغ خزائن الدولة والحاجة
إلى القيام بغزوات سلب جديدة، نظرًا لاستحالة
فرض ضرائب جديدة على السكان الذين يعانون
الجفاف، أي الدخول في الدوامة المتكررة
والمضجرة. في
القلاع الطينية، حيث ينفِّذ رجالٌ رماديو
البشرة وواسعو الدهاء مؤامراتِهم، تعيش
أيضًا حسناوات كثيرات أتت بهن السفن البعيدة
أو جادت بهن الصحراء، نساء لا يقللن ذكاءً عن
الرجال. وأكثرهن فتنة هي زينوبة، زوجة خليل
باشا، التي ستستمتع بإذلال أحمد الأكبر قبل
أن تمكِّنه من نفسها. زينوبة لن تعود حلمًا
حين تتحقق. وخيبة المخدع هي ما سيقود الحاكم
إلى شنِّ حروب أخرى والدخول في دوامته من جديد.
المرأة في الصحراء، إذن، كنز كالذهب؛ لكنه
كنز–ينبوع يستخرج الرجالُ من أحشائه كنوزًا
أخرى هم الأبناء. وكونها لقية ثمينة، فإن
نيلها يستوجب أيضًا ضحية بشرية. ولأنها كذلك،
فهي تؤدي، وفق النبوءات، إلى هلاك مَن يخضع
لها! أحمد
الأكبر، الذي طبَّقتْ شهرتُه الآفاق وقدَّم
قرابين لا تُحصى، تلاحقه "لعنةُ الكنوز".
وحين يستنتج أن الحياة برمَّتها ليست سوى "كنز"
هائل، يسارع إلى الانعتاق منها... إلى الأبد! *** *** *** عن
النهار، الاثنين 27 تشرين الثاني 2006 [1]
إبراهيم الكوني، نداء ما كان بعيدًا،
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،
2006. |
|
|