آفـاق نـورانـيَّـة

البحث عن الحقيقة

 

نجيب البعيني

 

تتوالى تباعًا طباعةُ المخطوطات التي تركَها الأستاذ كمال جنبلاط والتي لم تتسنَّ طباعتُها إبان حياته. إذ تقوم "الدار التقدمية" في المختارة، بين الحين والحين، بطبع كتاب بعد الآخر، متيحةً في المجال لآلاف من القراء لاستعادة ما كان يكتنز فكرُه من روحانيات في ميادين المعرفة والعلم والإنسان والكون والحياة والموت والعلوم الباطنية والقضايا الاجتماعية.

فبعد صدور ديوان سعادة الروح، الذي تتجلى فيه صوفيةُ كمال جنبلاط الراقية، صدر كتابُ وجه الحبيب الذي يكشف عن خلجات روح وصفات الحب والصفاء التي كان يتمتع بها بين كبار العلماء. ففي هذا الكتاب، يسلك كمال جنبلاط سلوك الموحد العرفاني الذي يغوص في العقل والصلاة والمناجاة والتصوف والأخلاق، يرفده إيمانٌ قوي يشده إلى الرقي وإلى نهاية محتومة يتجلى فيها الموت والثواب والعقاب والنفس والروح والرضا والتسليم.

ثم صدر كتابٌ بعنوان آفاق نورانية[1] كتتمة لعدة كتب تصدر تباعًا[2]. وهذا العمل خرج إلى النور بمساعدة بعض الصديقات اللواتي كن قريبات من فكر كمال جنبلاط وكن من تلميذاته، فساهمن في تحقيق نصوص الكتاب وتصنيف أبوابه، وهن: نهاد أبو عياش، مراجَعةً، وليلى الغصيني تصنيفًا، وريما أبو ضاهر تعريبًا.

في هذا الكتاب، نصل مع كمال جنبلاط إلى "آفاق" طالما نشدها وطاب له المقامُ في أرجائها باحثًا، مفكرًا، متسائلاً، محللاً، مستفهمًا، فجاءت "نورانية" الحقيقة لتنعكس في ذاته وفي أفكاره وأقواله التي تتجاوز مفهومَي الزمان والمكان، لينتفي معها كل وطن وكل انتماء، وتتلاقى النفوس المطهرة المتجردة عن كلِّ غاية وأنانية، فتنصهر في حقيقة خالدة، منها تتفرع النزعاتُ أو الإراداتُ الأخرى.

يقول جنبلاط عن تفسيره للدين ومنطوقه:

الدين وسيلة لتحقيق الشخصية والحرية في ذاتك، بتكامُل عناصر المعرفة والمحبة والقوة والخير والجمال. فإذا لم يُتِم الدين في نفسك هذا كلَّه، بطلتْ غايةُ الدين، وبطلت وجهةُ العبادة. ووجب عليك إذ ذاك أن تتخير أنت بذاتك الطريق الذي يحررك من الضعف ومن الشر ومن الخطيئة، أي في أعماق ذاتك، حيث ينبع الطهر والصفاء والخير والمحبة والسلام، وحيث تتفجر قوى الحياة والحرية الكامنة.

ويقول عن الإنسان والمعرفة، في عمقٍ واستشرافٍ للولوج إلى معرفة حقيقية وصولاً إلى العلم والحكمة:

إن ما يميز الإنسان ويفصله عن الحيوان، كما كان يقول الحكيم آتمانندا، هو أن الإنسان يعيش ويعرف أنه يعيش، أما الحيوان فيعيش ولا يعرف أنه يعيش. [...] فالمعرفة هي الفاصل الوضعي بينهما، على حدِّ تعبير الآية القرآنية الكريمة: "وما خلقتُ الإنس والجن إلا ليعبدونِ" أي "ليعرفونِ"[3].

عن نفسانية الإنسان وتطلعاته إلى الغد ومنطلقاته في الحياة، وعن الحقيقة الأزلية في داخله وعن الأولياء الصالحين، كتب:

في منطلقات الحياة وفي أوج تحقق البطولة والولاية، الإنسان يبطن الحقيقة الأزلية في داخله، تضحك وتصدح كالأزاهير وكسواقي الربيع في تحركات أطفالنا، وتغفو في مقلة الأبطال، وتسبِّح في موسيقى نفوس الأولياء، لأنها في الواقع جزء لا يتجزأ منا. [...] فهي الصميم وغنى المظهر والغلاف، وهي الطفل: وهذا الطفل هو كل شاكلة أرواحنا الساذجة الخالدة، على مثال الحقيقة فينا. [...]

ينقسم الكتاب إلى فصلين: الفصل الأول: "في مناسك الحقيقة"، والفصل الثاني: "محاورات روحانية". وهناك عناوين بارزة ضمَّها الكتاب، منها: "الإنسان والعالم"، و"السياسة في شرعة العقل الأرفع". وهذا العنوان يُبرِزُ حرصَ جنبلاط على تحديد مفهومه الأساسي لممارسة السياسة، ضمن قواعد وأخلاق لا تخرج عن نهج قويم ومرتجى مطلوب:

السياسي الحقيقي هو الذي يحترم تطور الإنسان نحو تحقيق إنسانيته، على قدر ما يمكن ذلك وما أظهره اختبارُ التاريخ، بخاصة بالنسبة للعامة من الناس. المهم، في النهاية، ليست الأفكار والمبادئ والعقائد السياسية التي ندين بها، بل طريقة تصرفنا في الحياة، كما يقول الحكيم شري آتمانندا.

الكتاب جولة في عالم الروحانيات والفلسفة، في أعماق نفس الإنسان، وفي حقائق ومظاهر اجتماعية؛ وهو إطلالة على النفس والعقل والإيمان والإنسان والعالم ومصير الإنسان.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 27 نيسان 2003