|
الدُّمـيـة
الرُّوسـيَّة الواقع
وما فوق الواقع إنَّها
لمتعة حقيقية أن يغطس المرءُ في قراءة هذه
المشاهد القصصية القصيرة التي تؤلف الروايةَ
التي نشرتْها هنرييت عبودي بعنوان الدمية
الروسية[1].
وتزداد القراءةُ متعةً في نظر شخص مثلي يعيش
في البيئة نفسها التي تجري فيها معظمُ أحداث
هذه القصص، من حقيقية أو متخيَّلة أو
الاثنتين معًا. فمن ذا يستطيع أن يفرز في
العمل الروائي ما هو خيالي مما هو واقعي
فرزًا دقيقًا؟! نقول
ذلك بخاصة إذا كان الكاتب من نوعية هنرييت
عبودي التي تتفنن في الخلط بين الواقع
والخيال أو في اللعب على الحبال، حتى إنك تجد
أحيانًا صعوبةً في التفريق بينهما: عالم
الخيال هو واقع أيضًا عندها، له قوانينه
الموضوعية؛ وبالتالي، فإن متعة القراءة
مزدوجة في نظر مَن يعرف الحياة العربية
والحياة الفرنسية على حدٍّ سواء، وليس
الحياة العربية وحسب. فهو يجد نفسه، من حيث
يعي أو لا يعي، منخرطًا في المقارنة بين
كيفية رؤية المؤلِّفة للحياة الفرنسية
وكيفية رؤيته هو لها – وتزداد تجربته غنى
بعدئذٍ. فالقصة
الأولى تدور أحداثُها في أماكن باريسية
معروفة، كالمقبرة الشهيرة باسم Père-Lachaise
التي تضم رفات كبار الشخصيات، من شعراء
وروائيين وممثلين، ويقال إنها أجمل مقبرة في
العالم – هذا إذا ما اعتبرنا أن المقبرة
يمكن أن تكون جميلة! وهناك أيضًا تصوير دقيق
للمكتبة الوطنية القديمة في باريس Bibliothèque
Nationale.
وقد ذكَّرني كلام هنرييت عبودي بالحياة
الجامعية الأولى عندما كنَّا نذهب إلى هناك
في الثمانينيات كي نحضِّر أطروحاتنا
الجامعية ونطَّلع على مراجع لا نجدها في أيِّ
مكان آخر. لقد كانت للمكتبة الوطنية طقوس
وشعائر صارمة برعت هنرييت عبودي في تصويرها؛
يعرف ذلك كل مَن تردد على تلك المكتبة
الفرنسية العريقة. هناك
قصة ثانية في المجموعة تذكِّرنا بباريس
فورًا، – وربما وجد القارئ العربي الذي لا
يعرف فرنسا أو أوروبا عمومًا صعوبةً كبيرة
في فهمها أو إدراك معانيها كلها، – وهي
بعنوان "التحري". وهذه القصة تدور
أحداثها في حيٍّ آخر جميل من أحياء باريس هو Montmartre،
حيث تقع كنيسة جميلة جدًّا على هضبة عالية
نسبيًّا تحمل اسمًا رائعًا: "القلب المقدس"
Sacré-Cœur! وهناك
قصص أخرى في المجموعة تتحدث عن بعض ضواحي
باريس القريبة أو البعيدة، عن الـmétro
أو عن حيِّ الأوپرا أو الـChamps-Élysées،
إلخ؛ وبالتالي، يمكن لنا أن نطلق على
المجموعة العنوان التالي: "مشاهد من
الحياة الباريسية". إنها لمتعة حقيقية أن
تعرف كيف يرى الآخرون باريس، ومن أيِّ منظور
يرونه، وكيف توظف هنرييت عبودي هذه المشاهد
كلَّها من أجل كتابة قصصها أو البوح
بأفكارها. ميزة
الكتَّاب الكبار هي أنهم يستطيعون أن
يتوصلوا إلى خلق عالم خاص بهم، أي إلى خلق
أجواء متكاملة، ما إن تدخلها حتى تشعر
بالدفء والحميمية والنزعة الإنسانية،
فتنغمس فيها إلى حدِّ أنك لا تعود قادرًا على
تركها أو راغبًا في ذلك! عندئذٍ تشعر
بالانخطاف أو بالانجذاب نحو عالم غريب مليء
بالأسرار والمجاهل؛ وهي أسرار لا تنكشف لك
معانيها إلا رويدًا رويدًا كلَّما تقدمتَ في
القراءة. قصة
"الدمية الروسية" التي تفتتح المجموعة
تنطوي على لغز. فعلياء مازني، بطلة القصة
المحاطة بهالة من الأسرار، يتكرر وجودُها
ثلاث مرات على مدار التاريخ: 1791، 1891، 1991! وهي
تشبه (شكليًّا على الأقل) الدمية الروسية
المؤلَّفة من شقين، إذا ما فصلنا أحدهما عن
الآخر تكشَّفا عن دمية مماثلة، لكنْ أصغر
حجمًا، وهكذا دواليك. فهل يعني ذلك أن
التاريخ يكرِّر نفسه يا ترى؟ أم هي حالة تقمص
أو تناسخ؟ أم هي محاولة للتغلب على الموت
وعدم الاعتراف به؟ ربما أرادت المؤلِّفة،
بكلِّ بساطة، أن تقول إن هناك حتمية في
التاريخ، إن هناك "قدرًا" لا يمكن
للإنسان أن ينجو منه؛ وبالتالي، فلا داعي
للتملص من شيء يلاحقنا، إذ سوف يدركنا لا
محالة، مهما فعلنا أو اتخذنا من احتياطات!
أسئلة كثيرة لا يمكن للمرء إلا أن يطرحها لدى
قراءة هذه القصة التي أشعرتْني في بعض
اللحظات بنوع من القشعريرة، تمامًا كما حصل
لي مع قصة "الرحيل إلى البحر" وقصص أخرى
أيضًا. "الدمية
الروسية" مهما
يكن من أمر، فإن قصة "الدمية الروسية"
التي تبتدئ بزيارة مقبرة Père-Lachaise،
أكبر مقبرة في فرنسا، وتنتهي بموت البطلة
علياء مازني للمرة الثالثة على التوالي، على
مدار ثلاثة قرون، تطرح مشكلة الحتمية
المرعبة للقدر الذي لا فكاك منه: فنحن
ولدنا في لحظة ما، وسنموت في لحظة ما، وكل
شيء "مكتوب" سلفًا. ولكن يخيل إليَّ أن
هذه القصة، وقصصًا أخرى في المجموعة، وربما
كتابات هنرييت عبودي كلَّها، تطرح مشكلة
الموت الكرة تلو الكرة: هل هو بداية أم نهاية؟
هل نموت كي نولد من جديد، أم نموت مرة واحدة
وإلى الأبد؟ ربما
كانت الكاتبة ميالة إلى الحلِّ الأول، أي
إلى الموت كولادة جديدة أو بداية لشيء جديد،
لكنْ دون أن تستطيع البرهنة عليه تمامًا.
ومَن ذا يستطيع أن يبرهن عليه؟! ما مات أحد
وعاد لكي يقول لنا ماذا سيحصل بعد الموت! القصة،
إذن، تغوص في بحر من الأجواء الغرائبية
الخارقة، في الوقت الذي تطرح فيه تساؤلاتٍ
ميتافيزيقيةً عن الحضور والغياب، الموت
والحياة، الواقع وما وراءه. هناك عالم آخر
يتراءى خلف هذا العالم الذي نعيشه، عالم
يوازيه، عالم يتصل به وينفصل عنه في الوقت
ذاته؛ وبالتالي، فإن عالمنا الذي نعيش فيه
قد لا يكون كلَّ شيء، على عكس ما نتوهم. وربما
كانت هذه هي إحدى الطرائق لمواجهة الموت أو
عدم الاعتراف به كفناء نهائيٍّ مطلق. ثمة
عدة طرائق للانتصار على الموت: أولاها أن
نعيش إلى ما لانهاية – وهذا مستحيل، للأسف
الشديد؛ وثانيتها أن يتقدم الطب ونعيش أطول
فترة ممكنة عن طريق تغيير أعضائنا كما
نُغيِّر قطع الغيار للسيارات – وهذا ممكن
مستقبلاً؛ وثالثتها أن نؤمن بنظرية التقمص
الواردة في "الدمية الروسية" ورودًا
ضمنيًّا – وهي نظرية هندوسية/بوذية تقول
بأننا بعد أن نموت نولد في مكان آخر، في جسم
آخر جديد. على كلِّ حال، فإن الإنسان لا يريد
أن يموت: فالفناء العدمي المطلق يرعبه فعلاً؛
لذا فهو يخترع عدة حلول أو عدة أجوبة
ميتافيزيقية لإطالة عمره بعد المرور العابر
السريع في هذا العالم. أما
القصة الثانية – "الرحيل إلى البحر" –
فهي، في رأيي، من أجمل قصص المجموعة وأكثرها
دلالةً على ما قلنا سابقًا؛ وهي أيضًا محاطة
بأجواء مخيفة أو بمناخ سرِّي بوليسي،
تقريبًا على طريقة هتشكوك. فالبطلة "الراحلة
إلى البحر" في ليلة عاصفة سوداء أو في نهار
ضبابي معتم لا تستطيع أن تقاوم رغبتها في
الذهاب، على الرغم من المخاطر واحتمالات
الانزلاق والأفق المسدود. وهي تكرر تجربة
ابنة صاحبة "فندق الرحيل" نفسها (لاحظ
الاسم، فهو ذو دلالة)، وهو الفندق الذي
التجأت إليه مصادفةً في أثناء الطريق بعد أن
اشتد عليها الظلامُ أو الضباب. أقصد بذلك أن
كلتيهما ماتت بحادث سيارة وهما نازلتان صوب
البحر على طريق مليء بالمنعطفات والمخاطر. المعقول
واللامعقول وهنا
لا نملك إلا أن نطرح هذه الأسئلة: هل يعني ذلك
أن هناك قدرًا محتومًا يسوقنا نحو حتفنا إلى
غير ما رجعة؟ أم هل تريد الكاتبةُ أن تقول
بأن للموت إغراءه الذي لا يقاوم؟ – وبخاصة
إذا ما ارتبط بفكرة الخطر وشهوة المغامرة. أم
أنها تريد أن تلعب على أعصابنا بنوع من
السادية المفرطة؟ أسئلة كثيرة يطرحها المرءُ
لدى قراءته هذه القصة، المليئة أيضًا
بالغموض والأسرار، التي تُشعِرُك في بعض
اللحظات بالقشعريرة. نلاحظ
هنا أيضًا حصول نوع من التقمص أو التكرار
للتجربة السابقة نفسها التي رأيناها في "الدمية
الروسية": فالبطلة تموت مثلما ماتت ابنةُ
صاحبة الفندق وهي في طريقها إلى البحر سواء
بسواء؛ وكلتاهما تقرأ كتابًا بعنوان صحراء
التتار. مهما يكن من أمر، فإن القصة تطرح
أيضًا مسألة الموت، لكنْ بطريقة أخرى:
فصاحبة الفندق تتغلب على الموت الفاجع عن
طريق المكابرة وعدم الاعتراف به. والدليل
على ذلك أن غرفة ابنتها في الفندق ظلت مخصوصةً
بها، لا تؤجَّر لأحد، كما ظلت أنيقة،
تُنظَّف يوميًّا كما كانت عليه في حياتها. ثم
إن صورها الغضة لا تزال معلقة على الجدران –
إنها تنتظرها! ويمكن
لنا أن نقول الشيء ذاته عن قصة أخرى بعنوان
"الدعوة": ففي كلتا الحالتين، نلاحظ
نوعًا من التمفصُل ما بين الواقع وما فوق
الواقع، أو بين المعقول واللامعقول؛ وهو
تمفصُل يؤدي إلى مقاطع سوريالية خالصة
أحيانًا، لكنه ليس منحصرًا في هاتين القصتين
في الواقع، وإنما يخترق المجموعةَ من أولها
إلى آخرها، فيخلع عليها نوعًا من الشاعرية
الأخاذة: لِمَ
أصررتُ على الذهاب إلى البحر؟ لِمَ ركبتُ
رأسي وعزمتُ على الرحيل، رغم هبوط الليل
وتلبُّد الغيوم في السماء؟ لِمَ هذا التعنت،
لِمَ هذه المجازفة، لِمَ هذا الغرور؟ الحنين
إلى البحر؟! ولِمَ لا أقصده غدًا أو بعد غد؟
في وضح النهار، في يوم مشمس، لا تحت وابل من
المطر وفي ظلمة دامسة! لقد نبهوني. قالوا:
العاصفة قادمة لا محالة. ولقد حذروني. قالوا:
الأحمق وحده يغامر بهبوط دروب البحر
الملتوية في ساعة متأخرة من الليل. فخلف كلِّ
منعطف هاوية، والمنعطفات فيها أكثر من أن
تُحصى. مع ذلك صعدتُ إلى سيارتي، أدرتُ
محرِّكها، وانطلقتُ بحماسة فائقة مخلفةً
ورائي المدينة وأنوارها. انطلقتُ لأستقبل
الظلمة الزاحفة ولتداهمني عاصفةٌ لم أحسب
لعنفها حسابًا. وها أنا ذا وحدي في بحر من
السواد، لا يخفف من وحشته ضوءُ سيارة عابرة
أو حتى بصيص نور في الأفق البعيد. حلمتُ
بالبحر الأزرق... (ص
29) هذا
المقطع الذي يفتتح القصة مشحون بالشعر. وما
معنى رواية دون شعر؟! ألم يقولوا عن بلزاك
إنه أكبر شاعر في الرواية الفرنسية، على
الرغم من "واقعيته" الصارمة؟ وفلوبير؟
ألا يبلغ ذروة الشاعرية عندما يحلِّق عاليًا
في مدام بوفاري؟ وماذا نقول عن مارسيل
پروست؟ عنوان رائعته وحده يُعتبَر بيتَ شعر: بحثًا
عن الزمن الضائع! – وبالتالي، فكل كتابة
لا تتحول إلى شعر في بعض اللحظات ليست كتابة.
الشعر هو زبدة الفن، خلاصته، منتهاه... في
قصة "الدعوة" تبلغ المؤلِّفة درجةً
عاليةً من السيطرة على الفن القصصي واللعب
بأعصاب القارئ، إلى حدِّ أنه ينسى كلَّ شيء
ويلتهم الصفحاتِ واحدة تلو الأخرى كي يعرف
نتيجة هذه "الدعوة" السرية الغامضة،
المحاطة بهالة من الأسرار، على طريقة
الأجواء البوليسية. وفي أثناء ذلك، لا يعدم
أن يقع على مقاطع شعرية تستحق التسجيل: كانت
كلما ارتفعتْ أكثر شعرتْ بارتياح أعمق. فعدد
السيارات كان يتضاءل، موحيًا لها بأن الطريق
قد غدت ملكها، وحجم المساحات المبنية كان
ينحسر لينفرش مدُّ الغابات الأخضر. ثم أخذ
الضباب ينتشر. ضباب أبيض خفيف له طعم الحنين...
(ص
112-113) في
هذه القصة أيضًا نلاحظ رفض الموت نفسه، لكنْ
بطريقة جديدة. فالبطلة تستحضر الغائبين
الأعزاء كما لو كانوا أحياء. إنها ترفض قطيعة
الموت التي لا قطيعة بعدها. وهي تقول ما
معناه: مادمنا نتذكر الذين ماتوا فإنهم
ما ماتوا! إنهم لا يزالون أحياء بشكل من
الأشكال مادامت صورهم أو محبتهم لم تُمَّحَ
من ذاكرتنا. بعد
أن قرأتُ هذه القصة الرائعة لم أتمالك من طرح
الأسئلة التالية: ما علاقتنا بالشرائح التي
كانت حيَّة من حياتنا قبل عشر سنوات أو عشرين
سنة، ثم بادت وماتت؟ وكيف يمكن لشيء كان
نابضًا بالحياة أن يموت ويندثر؟ كيف يمكن أن
يصبح غريبًا عنا أو علينا؟ – هو الذي كان ملء
السمع والبصر. كيف يمكن لمن أحببنا يومًا ما
أن يصبحوا لاشيء في نظرنا؟ – أقصد في حياتنا
الحاضرة التي امتلأت بأشخاص آخرين غيرهم.
بمعنى آخر: كيف يمكن لنا أن نكون "خونة"
إلى هذا الحد؟! للانتصار
على الموت والخيانة والنسيان والقطيعة
والفراق، تخترع المؤلِّفة عدة أساليب فنية:
فتارة نجد شبهًا بين وجه فتاة شابة وامرأة
تقدمت في العمر قليلاً؛ وتارة أخرى نجد
الشخصيةَ نفسَها تتكرر على مدار القرون؛
وتارة ثالثة نجد "البديل" أو الشبيه
المطابق يظهر هنا أو هناك؛ ورابعة نجد الذين
غابوا كأنهم حضروا بكلِّ شخوصهم وأشكالهم،
وحتى نبرة صوتهم... لا شيء يموت في عالم
هنرييت عبودي إلا لكي يحيا من جديد، إما في
هذا العالم أو في العالم الذي يوازيه أو يقبع
خلفه مباشرة. فالبطلة،
عندما تلبي "الدعوة" وتعود إلى البيت
المهجور، تجده عامرًا بالذين غابوا: من
أمِّها وأبيها وخالها العجوز، إلى جدتها حتى
التي لم تتعرف إليها إلا في الصور لأنها ماتت
قبل ولادتها... هؤلاء كلهم يعودون كي
يستقبلوها، وقد لبَّت "الدعوة" بعد طول
غياب! عالم بأسره تستحضره البطلة لأنها ترفض
فكرة الموت، لأنها تريد أن تنتصر على الموت
بالحب، بالحنان، بالذكرى العارمة التي هي
أقوى من الموت! لا،
لم يمت مَن أحببناهم مادمنا نحبهم، نتذكرهم،
نشتاق إلى رؤيتهم، نعانق صورَهم كأنها حية
تنطق. مادمنا قادرين على استحضار وجوههم،
أشكالهم، ضحكاتهم، قصصهم، فإنهم ما ماتوا
ولن يموتوا – أحبَّتنا الذين غابوا... ***
*** *** [1]
هنرييت عبودي، الدمية الروسية،
دار المدى، دمشق، 2006. |
|
|