هـمـومٌ حـضَـاريَّـة

الرهـان إيجـابي على الرغـم من الأشـواك!

 

سـليمـان بـختـي

 

يُقرَأ هذا الكتاب – هموم حضارية: في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة لأديب صعب (دار النهار) – من اليمين إلى اليسار وبالعكس. المهم هو المعنى والمثل والقيمة والجوهر. الهدف هو النهضة والتنوير والإصلاح والرقي بالإنسان والمجتمع. والمنهج هو التحليلي العقلاني، المنفتح بمحبة وإيجابية على العلوم الإنسانية. وذلك كله في لغة سلسلة طيعة لا تنسيك أن المؤلف شاعر منذ أجراس اليوم الثالث ومملكتي ليست من هذا العالم، وباحث فلسفي ومفكر جاد بعد "رباعيته" في الدين والمجتمع (1983) والأديان الحية (1993) والمقدمة في فلسفة الدين (1994) ووحدة في التنوع (2003).

الكتاب محورُه الشامل النهضة المنشودة، وتدور مقالاتُه وأبحاثه في الثقافة والإنسانيات والنقد؛ أي أنه في صلب النقد الحضاري. يميِّزه أنه مكتوب بروح تنويرية، لـ"الحفز على النهوض الدائم بالمجتمع والدولة ونظام الحكم من أجل خير الإنسان وسعادته" (ص 9). مقاربة هذه الهموم تجعلها همومًا كيانية حيوية، مآلها الأخير إلى النهضة والتغيير والإصلاح. فهنا الثقافة والإنسانيات في خدمة النهضة والمجتمع والارتقاء الإنساني، الفردي والمجتمعي. وتسعى النصوص إلى تأسيس وعي معرفي يغير الواقع وفقًا لمنهج تحليلي عقلاني نقدي، في إطار تاريخي حضاري اجتماعي، لأجل تجاوُز الواقع وتغييره – وهذه مهمة أساسية من مهمات النقد.

والكتاب، إلى ذلك، كتاب أسئلة وتساؤلات، لا يزعم فيه صعب أنه يحظى بالأجوبة النهائية أو بالكلمة الأخيرة، بل يدعو الآخرين إلى السجال والمشاركة والحوار، من خلال فهمه أن هدف النقد هو "بناء للإمكان"، على ما يقول المفكر الفرنسي ألان تورين. فالمساهمة الأساسية تتمثل في إنتاج الأفكار التي تتفاعل مع الموضوع والواقع والآخرين، وتحاول تغيير الواقع والوعي معًا.

في مبحث عنوانه "لبنان بين تعددية المجتمع ووحدة الدولة"، يقترح صعب معنًى جديدًا للتعدد ينبع من الأفراد ومواقفهم حيال الدين والإيمان، فيميز بين مفهومين للتعددية الاجتماعية: المطلقة، حيث لا رابط والدولة مرآة عاكسة وليست أداة توحيد؛ والوحدة التعسفية التي يحاول عنصرٌ آخر من عناصر التعدد فرضَها على الكل. أما الحل المقترح للبنان في رأيه فهو أن تكون الدولة وحدة ضمن التنوع وعنصرًا موحدًا في مقابل تعددية مطلقة.

ثمة ملاحظتان هنا: الأولى أن التعددية مقرونة بحق الاختلاف والديموقراطية وآلياتها، وبالتالي، أن تكون وحدة يطبعها الاختلاف؛ كما أن التعددية مفهوم باطني وليس خارجيًّا، وإلا أصبح تشرذمًا. الملاحظة الثانية في مشكلة بناء الدولة في المجتمع اللبناني وإقامة المواطَنة على أساس المساواة أمام القانون. يسأل الكاتب السؤال الصعب: كيف تتحقق الوحدة ويبقى التعدد، مذكِّرًا بقول فويرباخ: "حيث أقيم الحق على السلطة الإلهية يمكن تبرير أشد الأمور سوءًا وظلمًا" – وخصوصًا أن ثمة اليوم في لبنان والمشرق العربي دعوى إسلامية تضاف إلى الدعاوى القومية اللبنانية والسورية والعربية. يقترح صعب تجريد هذه الدعاوى من "إلغائيتها" والاحتفاظ بمحتواها الحضاري. فكيف يكون ذلك على مستوى الممارسة وعلى مستوى تحديد المفاهيم والأطُر والولاءات وعلى مستوى الآليات والتقنيات؟

أحسب أن مشكلتنا كانت منذ الاستقلال: بناء الدولة وتحقيق المواطَنة. فالحل هو في بناء الدولة المركزية التي تجسد مفاهيم الوطن والمواطَنة وتحترم حقوق الإنسان وكرامته وتدعو إلى الإصلاح السياسي وقانون الأحزاب. لكن السؤال يبقى: كيف يمكن لنا أن ننشئ آلة الحكم من الواقع الطائفي وفساد الأحزاب وتهالُك المواطن؟

يخصص أديب صعب الفصل الثاني من كتابه لبحث مهم هو الأثر الإنجيلي الأنكلوسكسوني في نخبة من المفكرين العرب وفي التربية والنهضة. يستهل مبحثه بكلام لواضع الحجر الأساس للجامعة الأمريكية في بيروت دانييل پلس في العام 1871:

هذه الكلِّية لجميع صنوف الناس وصفوفهم، بغضِّ النظر عن اللون والقومية والعرق والدين. فقد يدخلها إنسان أبيض أو أسود أو أصفر، مسيحي أو مسلم أو يهودي أو وثني، ويستخدم الوسائل التي تضعها بين يديه لثلاث سنوات أو أربع أو ثماني، ويخرج منها مؤمنًا بإله واحد أو بآلهة أو بلا إله. [...] (ص 45)

فأين نحن والجامعات والمجتمع من هذا الكلام؟ يتوقف صعب عند دور الجامعة كمكان للتفكير الحر وإعداد المثقفين والباحثين، ويعتبر أن مؤسِّس الجامعة السورية كورنيليوس فاندايك هو أحد آباء النهضة العربية، مقترِحًا دراسةً موسعة للنهضة العربية بجناحيها المصري والشامي بعنوان "عصر التنوير العربي". واستكمالاً للأثر الإنجيلي لدى نخبة من المفكرين العرب ممن سكنَهم هاجس النهضة، يذكر قسطنطين زريق وأنطون سعادة وشارل مالك وميخائيل نعيمه، ممن تظهر نهضويتُهم في تبنِّيهم مفاهيم العقلانية والنقد الحر مع نموذج الدولة الحديثة، وفي طرحهم السؤالين المهمين: ما هي عوامل التخلف في مجتمعنا؟ وما هي عوامل النهضة فيه؟

يلاحظ صعب أن زريق وسعادة ومالك دعوا إلى نهضة قومية، في حين دعا نعيمه إلى نهضة روحية، معتبرًا أن سعادة أعظم النهضويين، مفندًا الأسباب القائلة بأنه اكتفى بالتفسير، مؤكدًا أنه سعى إلى التغيير بلوغًا إلى النهضة. ويتوقف خصوصًا عند أهمية كتبه الثلاثة: نشوء الأمم، الإسلام في رسالتيه، والصراع الفكري في الأدب السوري، لافتًا إلى أن معنى النهضة لدى سعادة هو "الخروج من البلبلة والفوضى إلى الوضوح والنظام" (ص 73). وينتبه صعب إلى أن سعادة أقام السياسة على الفكر والثقافة والمناقب وعلى المنهجية العلمية، وسعى إلى الشباب الواعدين في مجالات ثقافية متعددة، وركز على مدِّ أعضاء حزبه بنوع من الثقافة الاجتماعية القومية ليولد "المواطن الجديد"، وعمل على تأمين مناخ ثقافي نهضوي ترعرعت فيه الغالبيةُ العظمى من المثقفين، أمثال هشام شرابي وأدونيس وخليل حاوي وفايز صايغ وسعيد تقي الدين ووليم صعب وغسان تويني وغيرهم. ويدعو صعب إلى إعادة النظر في إنتاج هؤلاء في ضوء الحركة النهضوية. وحتى سعادة نفسه تجدر إعادةُ قراءته مفكرًا ومعلمًا تنويريًّا من خارج الاعتبار الحزبي.

يحلِّل صعب في القسم الثاني من الكتاب مؤلَّفات حديثة لشارل مالك وخليل حاوي ووليم صعب، ويلقي الضوء على "مقدمة" مالك ومنهجه الفكري، أي منهج الفلسفة الظهورية المرتبطة بالوجودية والكيانية، متوقفًا عند لغة مالك الفلسفية السهلة والواضحة، دلالةً على انسجام اللغة والفكر عنده؛ وهو يأسى لأن مالك لم يتفرغ للفلسفة، بل انشغل بالاهتمامات السياسية والدبلوماسية والأكاديمية. أما كتاب حاوي في فلسفة الشعر والحضارة، فيُظهِره أكاديميًّا من طراز رفيع، صاحب مفاهيم عقلانية ولغة تحليلية مكثفة، مُجيدًا للصناعتين – الشعر والنثر – ومسكونًا بهاجس النهضة وهمِّ الحضارة. الدراسة الأخيرة في هذا القسم حول الشاعر الراحل وليم صعب، والد المؤلف، في كتابيه: الديوان وحكاية قرن، شاعرًا ومربيًا ومناضلاً وناشرًا لمجلة في الأدب الشعبي ومؤسسًا لحركة أدبية في الوطن والمهجر.

أما القسم الأخير، فيتضمن افتتاحيات مجلة الأزمنة التي ترأس تحريرَها أديب صعب في النصف الثاني من الثمانينيات، وكانت قضيتها المحورية النهضة العربية المنشودة، وهي في الفلسفة والمجتمع والنهضة والدين والنقد والأدب، وتحمل راهنيتها.

يبقى أن النهضة وأبعادها وتجلِّياتها هي الموضوع الأثير إلى قلب أديب صعب والهم المستحوذ على تفكيره. ففي رأيه أن النهضة "مزاوجة بين التراث والحداثة". وهنا اقتراب مما قاله هيدغِّر بأن التراث قدرنا والحداثة مصيرنا. لكن ثمة البُنى الفكرية والاجتماعية التي تؤهِّلنا لاتخاذ موقف من التراث ولكيفية التعامل مع الحداثة وفق منظار نقدي.

يغوينا أديب صعب في الدخول معه في لعبة الرهان الإيجابي على قضايانا، وعلى الأمل، مثل كلِّ مثقف أصيل، على الرغم من صعوبة الواقع وشائكيته.

*** *** ***

عن النهار، الخميس 4 كانون الثاني 2007

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود