كـانـط راهـنًا

مشـروع الإنسَـان العَـالَـمي

 

ماهر شرف الدين

 

فيلسوف التنوير والحداثة، الذي نبحث عنه بوصفه أداةً ميتافيزيقيةً تساعدنا على مواجهة "فضاءاتنا المثقوبة"، بحسب جيل دولوز، هو إيمانويل كانط (1724-1804) – الراهن دائمًا!

على ذلك، يأتي سؤال أم الزين بنشيخة–المسكيني في كتابها الجديد كانط راهنًا[1]: ماذا نستعمل من كانط، فيكون "راهنًا" في عصر يصرف الاستعمال في وجوهه الكانطية الثلاثة؟

1.     الوجه الأول: استعمال الشعوب وفق رغبات المعاصرين من الطغاة؛

2.     الثاني: استعمال العالم استعمالاً تقنيًّا مفرطًا يهدد إمكان الحياة نفسها على الأرض؛ و

3.     الثالث: استعمال الإله استعمالاتٍ أصولية مختلفة تهدد إمكان القيم المدنية والاجتماع البشري نفسه.

ضدَّ الطاغوت واللاهوت، اللذين هيمنا على عقل الإنسان في ثقافتنا المعاصرة، يساعدنا كانط، في راهنية مثيرة، على التحرُّر من ربقة الوصاية الفكرية والتعصب الديني معًا – وهي راهنية حاولت المؤلِّفة اكتشافَها من خلال بعض الحوارات الطريفة التي أقامها الفلاسفةُ المعاصرون مع أطروحاته: تارةً كان كانط راهنًا بثراء إشكاليته، كما يبرز ذلك في مناقشات پول ريكور وحنَّة أرندت وجيل دولوز، وطورًا كان مثيرًا بخطورة الحلول التي قدَّمها، كما يبدو ذلك عِبْرَ اعتراضات جاك درِّيدا ويورغن هابرماس وهانس يوناس عليه.

أما النتائج الحاسمة لمثل هذه المناقشات وتلك الاعتراضات فهي:

أ‌.       دين بلا خرافة؛

ب‌.  فنٌّ للتواصل والعيش معًا؛

ت‌.  حسٌّ جمالي بوجودنا في العالم؛ وأيضًا

ث‌.  مسؤولية أخلاقية حيال الآخر.

وفي المحصِّلة، التزام بمُواطَنة عالمية من دون حدود. معانٍ أربعة من راهنية كانط نواجه فيها أسئلةً أربعة:

1.     كيف نتدبَّر علاقتَنا بـ"الحداثة التي لم نخرج منها بعد"؟

2.     كيف نعيد ترتيب مسألة "الديني" في حضارة لها من التجربة النظرية والتاريخية للدِّين قرون طويلة؟

3.     ماذا عن تدبير المدينة؟ وهل لا يزال ممكنًا الحلمُ بالمدينة الفاضلة وبالفيلسوف–الملك؟

4.     ماذا عن المستقبل؟

في سبيل معالجة الأسئلة هذه، تتخذ الكاتبة من ترتيب هابرماس لمنزلة إشكالية كانط داخل الخطاب الفلسفي للحداثة "بوصفه أول مَن عبَّر عن العالم الحديث ضمن صرح عقلي"، ثم من تأويل ميشيل فوكو لمقالة "ما هو التنوير؟"، بوصفها ضَرْبًا من "أونطولوجيا الحاضر"، نموذجين مختلفين لامتحان معاصر لفيلسوف التنوير.

بعد ذلك، تختبر المقاربة الكانطية للدين، معتمدةً على تفكيكية درِّيدا لكتاب الدين في حدود مجرَّد العقل، باحثةً لديه عما يصلح لمعالجة هذه الآلة الميتافيزيقية التي ترهن عقول المعاصرين وأوطانهم معًا.

ومن بعدُ تتوقف لدى تأويل أرندت لفلسفة كانط السياسية للحصول لديها عمَّا يرتِّب به الفيلسوفُ الحالي علاقتَه الخطرة بالسياسة، من دون أن يسقط في يوطوپيات الحالمين، ولا في استقالة العدميين، ولا في تمرُّد الفوضويين.

أخيرًا، تختتم الكاتبة بكانط في عيادة دولوز، ملتمسةً لديه ضربًا من ضروب "الراهنية التأويلية"، التي يبدو فيها كانط مستبقًا بنفسه (كتاب نقد ملكة الحكم على وجه الخصوص) مشكلاتِ الحداثة كلَّها، المتعلِّقة بالزمن، الذات، الآخر، والإنسان الحديث عمومًا.

لقد راهن كانط على دور الفيلسوف ومسؤوليته أمام الفضاء العمومي وتدبير المدينة وسياستها، وذلك من دون السقوط في أيٍّ من أوهام الفلاسفة التقليدية: الدور البطولي للفيلسوف، الحلم بالمدينة الفاضلة، إمكان تغيير العالم. لذلك وفَّر لنا نمطًا من التعلُّق الراهن: تعلُّق لا يكون على جهة الحلم بالمستقبل، مثلما تتعزى بذلك اليوطوپيات الحديثة (إرنست بلوخ نموذجًا)؛ ولا هو على جهة الخوف من الكارثة (فالتر بنيامين)؛ ولا هو أيضًا على جهة تمجيد للحاضر واحتفال بطولي به (أوغست كونت): فمع كانط، لم يعد في وسع الفيلسوف أن يكون بطلاً!

أما عن مستقبل الشأن البشري، فحتى الآلهة، على ما يقول كانط، "عاجزون عن التنبؤ به لأنه تاريخ الحرية". لكننا نحتاج إلى قسط كبير من تفاؤلية كانط بالمستقبل من أجل أن يكون الإنسان العالمي، الحرُّ والجريء على استعمال عقله، قريب التحقق، وليس مجرد حلم من أحلام الفلاسفة. في مقابل التفاؤلية هذه، تزعزع فلسفةُ كانط لدينا وهمًا تاريخيًّا خطيرًا يخصُّ ممارسة المحدثين المشحونة بالضغينة وبالوعي التعيس للعلاقة بين الذات والآخر. وهي علاقة رسمت للشرق صورةً نمطية: الضحية أو موطن الإرهاب، في حين اتخذ الغربُ فيها صورةَ البطل المستنير أو المستعمر المتقدِّم، موطن الديموقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.

"ينبغي أن نفكر دومًا عن كلِّ كائن بشري آخر": إنها قاعدة التفكير المنفتح على الآخر التي تجد مبدأها الميتافيزيقي في الصياغة العالمية بوصفها ممارسةً أخلاقيةً طريفةً للعلاقة مع الآخر أو الغير.

ربما يكون كانط هو الفيلسوف "العالمي" الوحيد، أو هو، على الأقل، أكثر مَن شرَّع لعالمية العقل وأحرص مَن دافع عنها. فالحداثة التي فكَّر فيها، وخصوصًا في مقالته عن التنوير، لا تبدو البتَّة وقفًا على أحد، بل هي مهمة خاصة بالإنسانية جمعاء، بوصفها انتماءً جغرافيًّا محضًا إلى الأرض ككل.

لم يؤمن كانط كثيرًا بالتاريخ ولا بالتقليد والانتماء، لأنها لديه "ذات مسار عبثي، لا حكمة فيه"، ولأنه، إذ يعوِّل على البشر بما هم كذلك وبالحرية الأصلية التي لهم، يراهن على العالمية ضد الهوية، وعلى المدنية ضدَّ القوميات، وعلى العقل مرجعًا لقيم البشر كلِّها، ضدَّ الوصايا اللاهوتية أو الميتافيزيقية. لقد راهن كانط على الجغرافيا السياسية والجيوفلسفة بدلاً من التاريخ وفلسفة التاريخ، وعلى النقد والتحليل بدلاً من "اسم الأونطولوجيا الطنَّان"، بحسب عبارة لكانط نفسه. لقد خفَّفتْ فلسفتُُه من وطأة الانتماء ومن ضروب الشوفينيات في اتجاه التدرُّب على دخول أفق استكشافي كوكبي لشكل من المُواطَنة العالَمية.

هي، إذن، فلسفة تعلِّمنا كيف "يمكن أن نوجد معًا"، وكيف نستعمل معًا العالم والمدن بوصفنا مواطنين عالميين. إننا مع كانط نتعلَّم كيفية التخلُّص مما سمَّاه فوكو "ابتزاز الحداثة". وذلك يعني أنه في مقدورنا تجاوُز حدود الثنوية المنطقية البلهاء: هل نحن مع التنوير أم ضده؟ هل نحن مع الحداثة أم ضدها؟

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 14 تموز 2006


[1] أم الزين بنشيخة–المسكيني، كانط راهنًا: أو الإنسان في حدود مجرد العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء 2006.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود