معرض "غرفة"[1] للرسام أسامة دياب

 

دارين أحمد

 

في إحدى حدائق دمشق، وعلى قمة مدورة لعمود تزييني صغير هو أحد الأعمدة المحيطة ببركة راكدة، تتوضع عينان بيضاويتان وفم يبتسم، وجهٌ بلا خطٍّ يحدده، وجهٌ سيستوقفك – إنْ لاحظتَه – ويمنحك ابتسامتَه الخاصة. ربما لأنك ستدرك عفويًّا أن تلك العيون المرسومة بخطٍّ متعرج وأن تلك البقعة السوداء المفترَض فيها أنها أنفٌ وأن الفم المرسوم على شكل صحن هي نتاج أصابع صغيرة أغراها بياضٌ كلسي بارد بكسره!

هذا التشكيل الفني هو واحد من مجموعة كبيرة من التشكيلات الفنية العفوية التي يتركها الأطفالُ على سطوح تفتتح حوارها معهم مبتدئة بالجدار. هي سطوح بلغة مختلفة عن لغة الورق أو القماش، يميزها أنك ترسمها وتمضي، أنك عندما تتعلم لغة اللون والفرشاة والسطح تكون قد كبرت وأصبح للجدار ارتفاع وعرض، وأنك عندما تقف أمامه لن يبدو لك "كبيرًا" كما كان في السابق.

ماذا عن محاولة الرسام أسامة دياب الجمعَ بين هاتين اللغتين في معرضه "غرفة"؟ هل تشكل هذا الاستعادة حالةً فنيةً جمالية؟ أم أنها تندرج في الإطار الفكري المعبِّر عن انكسار إنساني شامل؟ أم أنها تجربة استطاعت الارتقاء إلى تجاوُز التضاد بين اللغتين، من جانب، والتضاد بين الحالة الجمالية والحالة الفكرية، من جانب آخر، لتمنح المتلقي تلك اللحظة الاستثنائية من النشوة الجمالية والفكرية أمام بنائها – لوحاتها – الذين هم، في النهاية، أطفال أسامة دياب المقيمون داخل اللوحات وخارجها؟!

إن المتلقي، ما إن يدخل "غرفة"، حتى يتوقع أن اسم المعرض لاحق لكون غالبية لوحاته جدرانًا حاول الفنان أمامها أن يطلق عنان اللغة الأولى، – لغة الطفل أمام سطح واسع، – راسمًا أشكالاً مضلعةَ الجذع بأعناق متطاولة مستطيلة الشكل وبأطراف غرائبية التوزيع، تميِّزها القدرةُ على خلق انطباع سوداوي بالصراع، وكأن الشخص المتجسد أمامنا في اللوحة إما مُدافع عن نفسه أو مهاجم! وحتى عندما تقف تلك الشخوص عارضةً أمامنا إدانتها/رعبها في بعض اللوحات، نشعر أن مأزقها ذاتي خالص، أي أنها مسبِّب رعبها ونتيجته!

تحضر بعض الأطياف كخلفيات لونية في بعض اللوحات، لكنها لا تخرج من هذا المأزق: فحضورها يعزِّز حالة الصراع بتنديدٍ لا يصل إلى موقع الإدانة؛ فهي انعكاسات إضافية للشخوص الرئيسية ليس إلا.

تتوازى حالة الرعب في شخصيات أسامة مع كونها خارج منطق زماني معيَّن: فالخطوط المُشكِّلة لها حاولت أن تكون خطوط طفل؛ أما الشخصيات ذاتها فليست شخصيات طفولية – وهذا ما يتضح في تعبيرات الوجوه التي يمكن وصفها بالمعمِّرة، لا بالطفولية. وهذا ما يترك انطباعًا بضآلة البراءة فيهم، معززًا شخصانية أزماتهم.

يمكن لنا أن نقول، انطلاقًا مما سبق، أن تأطير اللوحات في إطار فكريٍّ، يعكس هشاشةَ الحضور الإنساني في العالم وضآلتَه، هو أمر محقَّق في "غرفة" أسامة.

أما الجانب الجمالي، فهو موضع تساؤل في هذه التجربة. فبتجاوز الغنى الرمادي في اللوحات وبعض الإسقاطات المميزة للأحمر، نكون أمام تشكيلات لونية عشوائية، لا تبرِّرها لغةُ الطفل اللونية الممثَّلة بالخربشة. فالخربشات في لوحات أسامة هي خربشات "مدروسة"، مما يعطينا الحقَّ بانتقادها، ليس عِبْرَ مقارنتها مع مدارس فنية معينة، إنما بمعيار مدى تلاقيها مع الأثر الجمالي الذي نطلبه من اللوحة – أية لوحة – أو بُعدها عنه.

فهذه "الخربشات" التي لم تعتمد على اللون فقط، بل على إدخال مواد أخرى، كالقماش والأدوات الحادة الحازة في سطح اللوحة، جاءت في شكل مبالَغ فيه في بعض اللوحات أو كزوائد يمكن الاستغناء عنها دون أن يُخدَش أثرُ اللوحة لدى المتلقي. وهذا ما يتعارض مع التجربة برمتها، القائمة على محاكاة ما تتركه الطفولةُ على "جدران" هذا العالم، أي على محاكاة البساطة في أشد أنواعها نقاءً.

"غرفة" أسامة غرفة تستحق طرقَ بابها، وإن كانت تقف على ضفة أخرى مقابل مقولةٍ نعتقد أن لها من الأهمية الكثير:

التأثير الجمالي هو، إلى حدٍّ ما، كالتأثير الغرامي. فلا يجوز أن نبدِّده سريعًا، ولا أن نعلنه سريعًا. فللفتاة شعر أشقر وضرسان محشوان؛ أما سمعتها في الحي فلا تُحسَد عليها. وسيكون لدينا الوقت دائمًا من أجل خيبة الأمل. فالروعة نادرة وثمينة.[2]

*** *** ***


[1] دام العرض من 6 إلى 16 كانون الأول 2006 في صالة مصطفى علي (دمشق، سورية)، بتمويل من مؤسسة عبد المحسن القطان، ونُقِلَ المعرضُ من بعدُ إلى رام الله (فلسطين).

[2] بوغوميل راينوف، الفانوس السحري، ص 97.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود