|
لا دين يحتكر الحقيقة علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء إعلامنا غير موثَّق، مناهجنا التعليمية هابطة، والتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا إلا مُفَلْتَرًا
ينفتح بك على غابة من الأسئلة... أسئلة تتعلق بتاريخك، بمعتقداتك، بحقيقة وجودك. ومن ثم يضعك وجهًا لوجه أمام باحثٍ آثَر البحث التاريخي، فكرس جلَّ جهده للبحث في الأسطورة وتاريخ الأديان، لتأتي كتبُه مغامرة العقل الأولى (1978)، لغز عشتار (1985)، دين الإنسان (1994)، الرحمن والشيطان (2000)، الحدث التوراتي (1989)، آرام دمشق وإسرائيل (1995)، تاريخ أورشليم (2001)، الوجه الآخر للمسيح (2004)، إلخ، ثمارًا لهذا المشروع، ولتطرح اسمَه كباحث عالميٍّ يتصف بالموضوعية والحياد، غدت مؤلفاتُه المؤسِّس الأساسي لتفكير أجيال أتت بعده.
دُعِيَ واثنا عشر باحثًا عالميًّا للمشاركة في مؤتمر دولي حول أورشليم العصور القديمة. وعلى الرغم من هذه المكانة العالمية التي حقَّقها إلا أن مؤلَّفاته ما تزال بعيدة عن جامعاتنا، وما يزال أمرُ اعتمادها كمراجع خاضعًا لـ"مزاج" كلِّ أستاذ! في الحوار التالي، يوضح فراس السواح علاقته بكتابه دين الإنسان، الذي يعترف صراحةً أنه لم يستطع تجاوُزه حتى الآن؛ كما يوضح رأيه باقتصار ظهور "الأديان السماوية" على منطقتنا العربية؛ إلى رأيه بإعلامنا المحلِّي ومناهجنا التعليمية، وغيرها من المواضيع "الحساسة" التي ندعوكم إلى متابعة تفاصيلها عِبْر الحوار. ر.ج. ***
روزالين الجندي: ما الذي يؤرق فراس السواح؟ فراس السواح: هذه الهوة الكبيرة بين العلم والإعلام... فهذا الأخير دائمًا ما يتناقل أية مسألة في مستوى تناقُل الإنسان العادي جدًّا لها! للأسف، إعلامنا غير موثَّق، ولا يستند إلى ركيزة موضوعية. ر.ج.: هلا وضَّحت رأيك هذا؟ ف.س.: للأسف، ليس لدينا ما يسمَّى صحفيًّا "متخصصًّا" في مجال معيَّن، بل هناك صحفي "شامل" يعمل في المجالات كلِّها – سياسية، اجتماعية، تاريخية، إلخ. وهذا يستتبع، بالتالي، ظهور أخبار في الصحف كثيرًا ما أطَّلع عليها فتضحكني؛ كأن تكون، مثلاً، خبرًا حول اكتشاف آثاريٍّ مكتوبًا بطريقة مغلوطة تمامًا. للأسف، الإعلام في بلدنا ما يزال مؤدلَجًا في كثير من نواحيه، لا يبحث عن الحقيقة بمقدار ما يبحث عن "الخبطة الإعلامية"! وللأسف أيضًا، فمعظم العاملين في التلفزيون والسينما والصحافة يعانون من هوة حقيقية بينهم وبين العلم. سأذكر لك حادثة مضحكة: منذ فترة، كان بعضهم يفكر في عمل مسلسل تلفزيوني حول أوغاريت؛ ولاستكمال جوانب تلك الفترة كاملة، لجؤوا إليَّ من أجل الأمور المتعلقة بالتاريخ. وفوجئت بأكثر من عامل في هذا المشروع يسألني: "هل كان اليهود حثيين؟" فكيف يكون اليهود حثيين؟! هذا إن دلَّ على شيء فعلى أن العاملين في المجالات الثقافية ليست لديهم معرفةٌ بألف باء التاريخ! هذه الأمور، إن كانت تجهلها الشرائح الوسطى، يجب ألا يكون الأمر كذلك عند هذه الفئة بالذات. ر.ج.: ما دور المناهج التعليمية في ذلك؟ هل أنت راضٍ عنها؟ ف.س.: للأسف، أيضًا وأيضًا، مناهجنا التعليمية "هابطة" المستوى على الأصعدة كلِّها، وخاصة المتعلق منها بتدريس التاريخ. فالتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا نقلاً صحيحًا، بل يُنقَل مُفَلْتَرًا... ر.ج.: إذا كانت معرفة التاريخ الصحيح يُستمَد بعضُها من البحث الأرخيولوجي [الآثاري]، فبرأيك، هل نحن نولي أهمية لبحوث كهذه؟ – أقصد كمؤسسات ثقافية. ف.س.: طبعًا لا! فمؤخرًا فقط صارت لدينا بعثاتُ تنقيب وطنية. ولكن هذه البعثات تعاني من نقص في الكوادر المؤهلة لأن عدد الذين نوفِدهم لدراسة علم الآثار في الخارج قليل جدًّا مقارنةً بعدد مَن نوفِدهم لدراسة الطب أو الفيزياء إلخ. نحن – فعليًّا – لا نقدم شيئًا يُذكَر لعلم الآثار؛ ولا أعرف السبب، على الرغم من كون سورية منطقة غنية بالآثار: لدينا، مثلاً، أكثر من 200 "تل" حاليًّا من الممكن التنقيب فيها. جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا ر.ج.: في كتاب أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ – وهو مجموعة أوراق العمل التي قُدِّمَتْ إلى المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم – يقول محرِّر الكتاب توماس تومپسون في مقدمته إن العديد من المشاركين في المؤتمر أعادوا كتابة أوراق عملهم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. ألا يؤثر هذا، برأيك، على مصداقية هذه الأبحاث، فيترك لدينا الانطباع بأن مؤلِّفيها ينظرون إلى التاريخ من خلال ما يحدث عالميًّا؟ هل في إمكاننا فعلاً – والحالة هذه – أن نتحدث عن باحث "حيادي"؟
ف.س.: في المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم الذي انعقد في عمان في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2001، كنت الباحث العربي الوحيد المدعو، بعد أن اعتذر الدكتور محمد محفِّل عن المشاركة لظروف عائلية. كان مخطَّطًا للمؤتمر أن يُعقَد في لندن، ثم تغيرت الخطة وتقرَّر انعقادُه في عمان؛ وهذا يعني أن معظم المستمعين إلى محاضرات المؤتمر سيكونون من العرب. وإذا أضفنا إلى ذلك الجوَّ المشحون الذي ساد المنطقة العربية والعالم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فقد أُخِذَتْ بعين الاعتبار رغبةُ بعض الباحثين في إعادة صياغة أوراق عملهم، لا من حيث المضمون والوقائع التاريخية والآثارية، بل من حيث اختيار العبارات والمصطلحات الملائمة المراعية للحساسيات. جميع المشاركين في المؤتمر هم من أصحاب الاتجاه "الراديكالي"، المتحرر من المنظور التوراتي؛ وقد كانوا، في الوقت نفسه، على درجة عالية من الحساسية لإمكانية سوء فهم جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا. ر.ج.: وماذا عن "الموضوعية" في البحث التاريخي؟ ف.س.: بصراحة، علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء الشخصية وللإيديولوجيات القومية والدينية. غير أن ما وصلتْ إليه مناهجُ البحث التاريخي وتقنياتُ التنقيب الآثاري من تطور وتقدم إبان القرن العشرين قد ضيَّق، إلى حدٍّ كبير، الهامش المتاح أمام الباحث المغرِض، المتلون بالأهواء والإيديولوجيات.
ر.ج.: في ظلِّ ما نواجهه من محاولات إلغاء وجودنا، وفي ظلِّ وجود "آخر" غير حيادي، هل على الباحث العربي أن يكون حياديًّا؟ ف.س.: قطعًا، لأنني أرى أن على الباحث العلمي لا أن يكون حياديًّا فحسب، بل وأن يلتزم الموضوعية أيضًا، بحيث لا يؤجر نفسه لخدمة إيديولوجية معينة، لأنه، إن فعل ذلك، تجرَّد من ضميره كباحث وتخلَّى عن هدفه في تبيان الحقيقة. مشكلتنا – نحن العرب – أننا، منذ عصر النهضة، نحاول تزييف تاريخنا نفسه وإظهار الجزء "المشرق" منه فقط على حساب الجوانب "المعتمة"، في الوقت الذي طلع فيه في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية – بل وفي إسرائيل نفسه – جيلٌ من الباحثين الموضوعيين الذين يقولون الحقيقة كما هي. فإذا كانت في إسرائيل نفسه مجموعةٌ من الباحثين المعاصرين الذين يقفون ضد التيار الإعلامي التاريخي الإسرائيلي برمته، متوخين الحياد، فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟! برأيي، بمقدار ما نعرف حقيقة وضعنا نكون قادرين على استلام زمام المستقبل. وأقول لكِ إنه لا ينفعنا في هذا الوضع العصيب غير البحث الموضوعي وغير قول الحقيقة! ر.ج.: إذا عدنا إلى مساهمتك في كتاب أورشليم العصور القديمة، التي تناولتْ الجانب التاريخي لهذه المدينة بعرض متميز وشامل، ما هو الجديد الذي قدَّمتَه في هذه المداخلة على ما أوردتَه في كتابك تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود؟
ف.س.: في الكتابة هنالك أمران على الكاتب مراعاتهما، هما: ماذا يقول؟ وكيف يقوله؟ وهذا يعتمد على الشريحة التي يتوجَّه إليها الكاتب، على اهتماماتها العامة وخلفياتها. في كتابي تاريخ أورشليم، توجهتُ إلى أوسع شريحة ممكنة من القراء، عربًا كانوا أم غير عرب، لأنني أضع في الحسبان دومًا أن مؤلفاتي سوف تُترجَم يومًا ما إلى لغة أجنبية. أما في ورقة العمل التي قدمتها إلى المؤتمر، فقد أعددت نفسي للتحدث أمام ثلاثة عشر باحثًا غربيًّا متمرِّسًا، ألِفوا اللغة والمصطلحات الأكاديمية؛ وكان عليَّ أن أتوجَّه إليهم بطريقة تلائم منهجيتهم ومصطلحاتهم، طريقة تفكيرهم وكتابتهم. ناهيكِ أن الكتابة باللغة الإنكليزية، التي كانت لغة المؤتمر، من شأنها أيضًا دفع تفكير الكاتب في مسارات تختلف عن تلك المسارات التي تدفع إليها الكتابةُ باللغة العربية. وكان من نتيجة هذا الوعي للمسألة أن توماس تومپسون وصف ورقة عملي، خلال ما تلا من مناقشات، بأنها "واحدة من أفضل الدراسات المختصرة التي كُتِبَتْ حتى الآن في تاريخ فلسطين". ر.ج.: ولكن المقارنة بين ما قدمتَه أنت في ورقة عملك وما قدمتْه عالمةُ الآثار مارغريت شتاينر تُظهِر خلافًا في تفسير نقص الوثائق الآثارية المستقاة من موقع أورشليم خلال فترة القرن العاشر قبل الميلاد (وهي الفترة المفترَضة لنشوء مملكة داود وسليمان). كيف تفسر لي هذا الخلاف؟ – على الرغم من أن استقصاء كلٍّ منكما اعتمد على تنقيبات كاثلين كينيون. ف.س.: مارغريت شتاينر أستاذة من جامعة ليدن في هولندا، آثارية متميزة وصديقة مقربة. ابتدأتُ بمراسلتها بعد أن قرأتُ لها عدة أبحاث في الدوريات المتخصصة؛ وفي آخر زيارة لي إلى هولندا حاولت الاجتماع بها، ولكنها كانت مسافرة. ثم التقينا أخيرًا في مؤتمر تاريخ أورشليم؛ وكانت لدينا ساعات طويلة قضيناها على مائدة الإفطار كلَّ صباح في مناقشة معضلات أرخيولوجيا أورشليم. وفي الحقيقة، لم يكن هنالك من خلاف جذريٍّ بيننا: فنحن متفقان على أن موقع أورشليم كان خاليًا من السكان؛ وهذه الواقعة لم نستمدها من تنقيبات كاثلين كينيون، بل ممَّن جاء بعدها. لقد قامت شتاينر نفسها بتنقيبات محدودة في الموقع؛ وقد ركزت على وجود حصن صغير في الموقع، على الرغم من خلوِّه من السكان، بينما كان جل تركيزي على خلوِّ منطقة يهوذا برمَّتها من السكان خلال القرن العاشر، وعلى انعدام القاعدة السكانية والاقتصادية التي تجيز افتراض قيام "دويلة" في يهوذا، – ناهيكِ عن مملكة كبيرة، – سواء وُجِدَ ذلك الحصن في الموقع أم لم يوجد. وقد استندتُ في تفسيري إلى نتائج المسح الأرخيولوجي الشامل الذي قام به المنقِّبون الإسرائيليون أنفسهم، والذي بدأت تقاريرُه الآثارية تُنشَر ابتداءً من العام 1988. معظم النظريات قابل للنقض ر.ج.: في كتابك تاريخ أورشليم، في حديثك عن مدينة "بيت لحم"، تتراجع عما أوردتَه في كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم من أن مدينة بيت لحم كانت قائمة في عصر تل العمارنة، أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتقول إنك تبنيت قراءة الباحث أولبرايت لأحد نصوص مراسلات تل العمارنة، وأن قراءته قد ثبت الآن عدمُ صحتُها[1]. ونحن، إذ نقدِّر عاليًا هذا التواضع العلمي والنقد الذاتي، فإننا نخشى، في الوقت نفسه، أن تكون معظم النظريات التي تفسر شتات اللُّقى الأثرية قابلةً للنقض استنادًا إلى مكتشفات جديدة...
ف.س.: في أيِّ فرع من فروع المعرفة، هناك كمٌّ من شتات المعلومات الميدانية التي يجب على العقل الإنساني أن يجمعها، ينسِّق فيما بينها، ويحاول فهمها من خلال صياغته للنظريات. وبعض النظريات يصمد أمام الزمن، فيما البعض الآخر يتبدل ويتعدل أو يعفو عليه الزمن، وذلك تبعًا للمعطيات الجديدة. ولكننا لا نستطيع التوقف عن صياغة النظريات المفسِّرة في انتظار الانتهاء التام من جمع المعلومات لأن مثل هذه المرحلة لن تأتي أبدًا، والعلم في حركة دائبة. إن نظريات الفيزياء في عصر نيوتن هي غيرها في عصر أينشتاين، ونظريات أينشتاين هي غيرها في عصر الميكانيكا الكوانتية. ر.ج.: إذًا هل في إمكاننا القول إن النظرية هي تلخيص لمساحة المعرفة المتاحة لنا حتى زمن معيَّن، وإنه كلما ازدادت مساحةُ المعرفة توسَّعتْ النظريةُ أو حلَّت محلَّها نظريةٌ أخرى؟ ف.س.: هذا صحيح... وهنا تحضرني دعابةٌ قالها عالم الآثار اللامع بريدوود، بعد أن كشفت التنقيباتُ الآثارية عن عدم صحة نظريته في أن القرى الزراعية الأولى نشأت عند سفوح المنطقة الجبلية المحيطة بالهلال الخصيب، – قال بريدوود: "إننا كعلماء آثار غير مهددين بالبطالة لأننا كلما صغنا نظرية كان علينا تعديلها بعد مدة؛ وهكذا فنحن في شغل دائم." ر.ج.: على فكرة، أستاذ فراس، المدقِّق في كتبك التاريخية الثلاثة، المكرَّسة حصرًا لتاريخ فلسطين القديم، يلحظ تركيزك على عنصر الخرافة الذي يحيط بالشخصيات التوراتية، مثل إبراهيم ونسله، ومثل موسى وداود وسليمان وغيرهم، علمًا بأن هذه الشخصيات قد وَرَدَ ذكرُها في القرآن الكريم. ألا يستتبع ذلك قولَك، غير المعلَن، بأن في القرآن عناصر "خرافية" أيضًا؟
ف.س.: انظري... المشكلة في كتاب التوراة هي أنه يضع قصصه وشخصياتها ضمن إطار زمني وجغرافي محدد: فإبراهيم قد خرج من أور الكلدان، فاستقر مدة في حرَّان، في الشمال السوري، ثم هبط إلى أرض كنعان في فلسطين، وتنقَّل بين عدة مدن فلسطينية معروفة، ثم سافر إلى مصر وعاد منها؛ وداود أسَّس مملكة كبرى في فلسطين اشتملت على منطقة سورية الجنوبية بكاملها، حتى وصل نفوذُه إلى الفرات؛ وسليمان كان أعظم ملوك الأرض وأغناهم، حتى إن الفضة في عاصمته أورشليم صارت مثل الحجارة؛ إلخ. ثم جاء الباحثون المحدثون، وطابقوا بين الإطار الزمني التوراتي وبين التاريخ الميلادي، فصار من المرجَّح أن خروج إبراهيم من أور الكلدان قد حصل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومملكة داود وسليمان في أورشليم قامت خلال القرن العاشر قبل الميلاد، إلخ. إن ما أحاول إثباتَه، من خلال نتائج البحث التاريخي والآثاري الحديث، هو عدم توافق الإطار الزمني والجغرافي لتاريخ فلسطين التوراة مع تاريخ الشرق القديم عامة... ر.ج.: في ضوء ما سبق، هل نفهم أن النقد التاريخي للقصص القرآني وارد أيضًا؟ ف.س.: لا، لأن القصص القرآني لم يرسم إطارًا زمنيًّا وجغرافيًّا للشخصيات؛ فهم في القرآن لا يتحركون في زمان معيَّن أو مكان معيَّن، وبالتالي، فإن النقد التاريخي هنا غير وارد بتاتًا. أنا لا أريد القول إن شخصيات القصص التوراتي لم توجد بالإطلاق، وإنما نفيت وجودها في إطارها الزماني والجغرافي التوراتي. ولو أن القرآن الكريم وضع شخصياتِه في إطار تاريخي وجغرافي يتعارض وما صرنا نعرفه عن تاريخ المنطقة وآثارها، لما ترددتُ في الإشارة إلى ذلك، تاركًا للاهوتيين والمفسِّرين التعامل مع هذه المسألة. كل دين هو طريق للوصول إلى الله ر.ج.: إلامَ يرجع، برأيك، ظهور جميع الأديان السماوية في منطقتنا العربية؟ ف.س.: يرتبط مفهوم "الأديان السماوية"، غالبًا، بحكم قيمة: فهذه الأديان "أرقى" أو "أسمى" من الأديان السابقة عليها لأنها "أديان وحي"، جاء بها أنبياءٌ تلقوا رسالة من السماء وكُلِّفوا إيصالها إلى البشر. وفي الحقيقة، إذا آمنَّا بأن الله يتصل بالبشر عن طريق أشخاص مختارين، لاستتبع ذلك إيمانُنا بأن الله على اتصال دائم بالبشر منذ ظهور الإنسان على الأرض – وهذا يذيب الفواصل بين ما يُدعى ديانات "سماوية" وديانات "وضعية": فإما أن الأديان كلها سماوية، وإما أنها وضعية كلها! ر.ج.: وماذا تعتقد أنت؟ ف.س.: أعتقد أن كلَّ دين هو طريق للوصول إلى الله، وله، بالتالي، من المشروعية ما لكلِّ دين آخر. ما من دين يحتكر الحقيقة وآخر زاغ عنها؛ وما الاختلاف بين الأديان سوى أمر يقتضيه التباين الثقافي بين الجماعات والأمم والشعوب. كتاب دين الإنسان وحده يقدِّم نظرية السواح متكاملةً ر.ج.: هذا الكلام عن الديانات ذكَّرني بكتابك دين الإنسان. لماذا قلت لي، عندما اتصلت بك أشكو صعوبته، إنه أهم مؤلفاتك وإنك، إلى الآن، لم تستطع تجاوُزه؟
ف.س.: في حياة كلِّ مفكر خطٌّ بياني يسير صعودًا حتى الوصول إلى ذروة، يليها ثباتٌ على خطٍّ واحد. فديوان سقط الزند وما تلاه من شعر المعري كان علامات على طريق صاعد انتهى بـاللزوميات التي تشكل جوهر فكر هذا الشاعر والحكيم المتميز؛ كذلك مؤلفات إدوارد سعيد السابقة على كتابه الاستشراق، ومؤلفات محمد عابد الجابري السابقة على تكوين العقل العربي. وهكذا فإن دين الإنسان هو ذروة خطي البياني: إنه الكتاب الوحيد بين مؤلفاتي الذي يقدم "نظرية فراس السواح" متكاملةً؛ إنه رؤية شمولية، وليس بحثًا في موضوع محدد، كما هي الحال في لغز عشتار أو الرحمن والشيطان. ولكن تحقيق هذه الذروة بنظر الكاتب لا يعني التوقف عن الكتابة، لأن ما ورد في "كتاب الذروة" يتطلب مزيدًا من التفسير والتطوير والبحث في مواضيع محددة.
ر.ج.: توحي مقدمات كتبك بأنك كنت في البداية مشروع فيلسوف؛ ثم انحرفت باتجاه البحث في الأساطير وتاريخ الأديان. ما رأيك في ما أقول؟ ف.س.: هذه ملاحظة صائبة! لقد اجتذبتْني الفلسفة منذ سنوات الدراسة الثانوية، فقرأت الفلسفة الوجودية؛ ثم انطلقت إلى الفلسفة الغربية عامة والفلسفة الإسلامية، حتى توصلت في، عشرينيات العمر، إلى أن الفلسفة هي خلاصة الحضارة الإنسانية. ومع دراستي للفلسفة درست التاريخ أيضًا؛ واجتذبني بشكل خاص تاريخُ الشرق القديم الذي كلما تعمقت فيه لمستُ الأصول الأولى للتحضر الإنساني. ودراسة التاريخ قادتني إلى الأسطورة وتاريخ الأديان. وفي هذه المحطة الأخيرة، توصلت إلى نتيجة مفادها أن حكمة البشر وثقافاتهم لا تجسدها الفلسفة، بل الأسطورة والدين. فالفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيغل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية. ر.ج.: بدا لكثير من القراء بأن كتابك التاو: إنجيل الحكمة التاوية في الصين يشكل حالة شاذة بين مؤلفاتك الأخرى... هل هو حنين إلى مشروعك الفلسفي القديم؟
ف.س.: على العكس، كتاب التاو الذي قدمت فيه شروحًا وتعليقات على كتاب تاو ته تشنغ المنسوب إلى الحكيم الصيني لاو تسو هو أقرب إلى فكري ومؤلفاتي مما يظن الكثيرون. فبعد أن تفرغت لدراسة التاوية، اكتشفت أنني قدمت في بعض مؤلفاتي مقاطع كاملة متلوِّنة بالفكر التاوي، وخصوصًا في لغز عشتار، فعرفت السبب الذي دفعني إلى التعمق في هذا الأثر الإنساني الخالد. لقد كنت "تاويًّا" منذ البدء، ولم أعرف ذلك إلا في مرحلة لاحقة! لا أسعى للترويج لفكر معيَّن ر.ج.: في كتابك الرحمن والشيطان يتضح منهجُه الظاهراتي الوصفي، الذي يكتفي بتقديم مادته دون التعليق عليها أو إبداء موقفه الشخصي من الموضوع. أستغرب اختيارك هذا المنهج دون سواه...
ف.س.: في دراسة أية ظاهرة ثقافية هنالك نوعان من المحاكمة: الأولى تُدعى محاكمة وجود، والثانية تُدعى محاكمة قيمة. في المحاكمة الأولى يقوم الدارس بتقصِّي طبيعة موضوعه وتقديمها وفقًا لما تبدتْ له ظواهرُها، من غير تقييمها وإصدار الأحكام عليها؛ أما في المحاكمة الثانية فيبحث في أهميتها وجدواها ويصدر حكم قيمة عليها. وأنا أحاول، ما استطعت، تبني محاكمة الوجود لا محاكمة القيمة، لأنني لا أنطلق من موقف إيديولوجي معيَّن، ولا أسعى إلى الترويج لفكر معين. ما يهمني، بالدرجة الأولى، هو إرجاع القارئ إلى نفسه، وقد صار مسلَّحًا بزاد يساعده على التفكير الحرِّ المستقل وتشكيل مواقفه الخاصة. أنا لست مهتمًّا بإقناع القارئ، بل بتحريره من كلِّ ما يعطِّل ملَكات المحاكمة الحرة لديه. إن خلاصات أيِّ مؤلَّف من مؤلفاتي ونتائجه ليست وقفًا عليَّ، بل على القراء الذين يتلقونه ويناقشونه، يختلفون معه أو يتفقون. فالكتاب، برأيي، محرِّض، لا ملِّقن؛ والكاتب هنا أشبه بمعلِّم السباحة، لا بالنوتي الذي يعبر بالناس إلى الضفة الأخرى. ر.ج.: في الوقت الذي تتهم فيه بعض المؤرخين العرب بأنهم يأخذون بأفكار المستشرقين دون تروٍّ، اتهمك أحدُ المعلقين على كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم بأنك ما تزال تعاني من إشكاليات القراءات الغربية ذات النهج التوراتي في فهم تاريخنا القديم. كيف ترد على هذا الكلام الآن؟ ف.س.: يا عزيزتي، أنا كاتب يعمل في صمت، بعيدًا عن الجدل الإعلامي، ونادرًا ما أدلي بتصريح أو أوافق على إجراء مقابلة. أولاً، أنا لم أتهم أحدًا من المؤرخين العرب – ولا أدري من أين جئتِ بهذه المقولة! فأنا أحترم كلَّ باحث جاد. في مناقشتي لكتاب التوراة جاءت من جزيرة العرب، التزمتُ جانب الحياد والموضوعية، وطرحتُ مقولاتي بكلِّ تواضع علمي وبكلِّ احترام للدكتور كمال الصليبي، الذي أكن له تقديرًا كبيرًا.
وثانيًا، أنا لو أردت الردَّ على ما قاله كاتب تلك المقالة – وهو صديق عزيز لي! – لرددتُ قبل خمسة عشر عامًا. قال المسيح في إنجيل يوحنا: "مِن ثمارهم تعرفونهم." وأنا أقول: "مِن مؤلفاتي تعرفونني، لا مِن تصريحاتي." ومؤلفاتي تقول إن فراس السواح يقف على الخندق الأول في مواجهة الإعلام التاريخي التوراتي، في الوقت الذي يكتفي فيه الإعلامُ التاريخي العربي بمقولات بالية، مثل: "سورية مهد الحضارات"، "سورية أعطت أول أبجدية في التاريخ"، وما إلى ذلك من يافطات لا تصلح إلا للمهرجانات الإعلامية! ر.ج.: تذكرتُ شيئًا مهمًّا كنت أريد سؤالك عنه منذ البداية: هل صحيح أن كتبك غير معتمَدة كمراجع في جامعاتنا؟ ف.س.: أولاً، لا توجد في جامعاتنا العربية أقسام متخصصة في تدريس موضوع تاريخ الأديان الذي أعمل في مجاله؛ من هنا لن تكون لمؤلفاتي فائدة مباشرة لطلاب أيِّ قسم من الأقسام الجامعية، بل فائدة عامة تدعم اختصاصاتهم الرئيسية. وثانيًا، إن الكتب الجامعية مخصصة أصلاً لعرض ألف باء المعرفة، لا للتعمق فيها؛ وكتبي ليست من هذا النوع الأكاديمي التعليمي. قد يحدث، في بعض أقسام الدراسات العليا، أن يوجِّه أساتذتُها أحيانًا طلابَهم لاستشارتي والاطلاع على بعض المراجع المفقودة لديهم. وبشكل عام، فإن المسألة خاضعة لمزاج كلِّ أستاذ: فهناك من الأساتذة مَن يوجِّه طلابَه للاستفادة من كتبي، وآخر لا يفعل. على كلِّ حال، كتبي معتمَدة جميعًا في الجامعة اللبنانية، وأربعة منها معتمَدة، على مدار سنوات الدراسة، في جامعة الزيتونة في تونس. ر.ج.: أخيرًا، – وأعدك أن هذا آخر سؤال، – بما أنه ليس في جامعاتنا قسم يهتم بتاريخ الأديان، كما قلت، لماذا تكرِّس جهدك كلَّه في هذا المجال إذن؟ ف.س. [ضاحكًا]: مزاج! حدا إلو عندي شي[2]؟! *** *** *** حاوَرَتْه: روزالين الجندي تصوير: وائل خليفة [1] يمكن للقارئ الراغب في الاطلاع على تفاصيل هذه المسألة مراجعة كتاب السواح تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود، دار علاء الدين، دمشق 2001، ص 111، الهامش. (المحرِّر) [2] عبارة باللهجة الشامية تعني: "المسألة مسألة مزاج، ولن أقدم حسابًا عنها لأحد." (المحرِّر)
|
|
|