|
الرؤيا الجبرانية لسلام عالمي
إن أكبر ثورة فكرية وروحية شهدها الغرب في وجه الثقافة المادية والملحدة والاستهلاكية إبان القرن العشرين قادها رجلٌ من الشرق، وشكَّلتْ بديلاً من التعصب الثقافي ومركزية دينية تُلازِم نظرةً إلى العالم استعماريةً لا تزال ماثلة في إيديولوجيات سياسية يمينية أو يسارية. في قلب هذه الثورة الروحية المتوقدة في الولايات المتحدة – قلب الغرب الصناعي والمادي – وصل إلى العالم الجديد في العام 1895 مهاجرٌ لبناني في الثانية عشرة من عمره يُدعى جبران خليل جبران، لا يعرف الإنكليزية ولا يمتلك من ناصية الدراسة إلا حدها الأدنى. وفي العام 1923، أصدر بالإنكليزية كتابَه المشهور النبي، فاحتل فورًا مرتبة أكثر الكتب مبيعًا.
جبران خليل جبران (1883-1931) لم تكن لآلية النقد في الأوساط الأدبية الغربية معايير ملائمة لتقويم جبران. ومع أن أعماله لاقت أصداء، تراوحت بين الثناء المفرط والشجب القاسي، لم يقبله تمامًا جمهورُ النقاد والأكاديميين الغربيين. إلا أن الثابت اليوم هو أن كتاب النبي كان – ولا يزال – بين أكثر الكتب قراءة في القرن العشرين، مع أنه لم ينعم لدى صدوره بحملة إعلانية واسعة تنعم بها الكتبُ الصادرة اليوم، وهو لا يزال في منزلة غامضة في الأدب الإنكليزي أو الأدب بالإنكليزية، مما حرمه من اتخاذ مكانة نقدية مهمة في الغرب. فرؤيا جبران الروحية الخالصة لم تتضح لمألوف معظم النقاد الغربيين في لغة الفلسفة أو المنطق المادي. والثناء الذي ناله كان، في أكثره، من شعراء مكرَّسين، كالشاعر الإيرلندي جورج رسل والأمريكي روبرت هيلير، اللذين قدَّرا عبقرية جبران الفريدة ولفتا الانتباه إلى هذا النوع من الأدب والى اعتماد منهجية نقدية جديدة تعتمد مناخين نقديين مختلفين، لا تقيِّدهما أفكار مسبقة وعوائق تقليدية. أحدثُ اعترافٍ بمكانة جبران الحقيقية جاءنا من الشاعرة والناقدة [المرحومة] كاثلين رين: استُبعِد جبران [...]، لأنه خاطب الرجال والنساء العاديين؛ إذ إنه لبَّى حاجة عميقة في العالم الغربي، الجائع إلى غذائه الروحي. فالشيوعية والرأسمالية، على حدٍّ سواء، اعتقدتا بأن البشرية يمكن لها أن تتغذى بـ"الخبز وحده"، فيما أنبياءُ الروح الحي أبدًا أظهروا أن "كلمة الله" هي الغذاء الضروري للروح. لكأن عقلاً واحدًا نطق من خلال أصواتهم المتعددة، لم يكن بأبلغ أو أجمل من الصوت المتوحد للعربي المسيحي اللبناني، خليل جبران.[1] لم يبقَ مهمًّا أن يحظى كتاب النبي بشهادات تقدير من أساتذة الجامعات. قوَّته في أنه بعيد عن العبارات الفلسفية الغامضة، مكتوب بلهجة بسيطة مباشرة مسالمة، أثَّرت حتى اليوم في ملايين الذين غيَّرت حياتهم بشتى الطرق وبعثت فيهم العزاء والأمل والفرح. ففي النبي أعطانا جبران أحد أوائل النصوص المساعِدة على حلِّ الأزمات؛ ورسالته الداعية إلى اللطف والمحبة والتسامح علاجٌ كوني وشفاءٌ روحي في عالم هو اليوم في أمسِّ الحاجة إلى توازن ومصالحة بين القلب والعقل، بين الإيمان والمنطق، بين القيم الروحية وواقع التطور التكنولوجي المعاصر. لعل وليم بطلر ييتس (1865-1939) هو الأقرب إلى جبران بين معاصريه: كلاهما اهتم عميقًا بمسألة الوحدة وتحقيقها في عالم منقسم. ففي إيرلندا، كما في لبنان، واجهتْ هذه الرؤيا – ولا تزال – خطرَ الانقسامات الدينية والثقافية والاجتماعية والجغرافية. ومثلما كتب جبران بالعربية وبالإنكليزية في طلاقة واستلهم التقاليد والصور المسيحية والثيوصوفية والبهائية، كذلك ييتس دمج التقليد الأدبي الإنكليزي–الإيرلندي وثروة الأساطير والإرث الشعري الغني والتقليد الإنكليزي الصرف في قالب صَهَرَ فيه أفضل ما في العناصر الثلاثة؛ وحتى فلسفيًّا يشترك ييتس وجبران في الشغف بالوحدة الكاملة، من دون أن تقتصر على "عولمة" للقرن العشرين عقيمة لا وجه لها، وعلى صهر ثقافات مختلفة لا تمييز بينها، بل هي مصالحة حقيقية بين التقاليد الفردية واعتراف بصحة كلٍّ منها، مما يتيح لها التعايش في تناغم ديناميٍّ يعود بالخير على الجميع. وعلى الصعيد الفردي، كان لتجربة ييتس مع مسرح "نو" الياباني، ولانغماس جبران في الإنكليزية، أثر بالغ، ولَّد لدى كلٍّ منهما تجددًا خلاقًا. وإذ أدركا مدى العنف والدمار اللذين يهدِّدان عالمًا متهاويًا، اضطلع كلٌّ منهما بدور نبوي يحذِّر العالم من عواقب وخيمة تترتب على سيره في درب التفكك والفوضى. كأن جبران، أكثر من أيِّ شاعر أو روائي في القرن العشرين، يجسِّد تلك السيرورة الدقيقة والمضنية لخلق الوحدة بين ثقافات وتقاليد ولغات وآداب مختلفة تمامًا. فالجمع بين تيارات مختلفة، مثل نيتشه والمسيحية والإسلام، وبين شعراء رومانسيين، مثل بليك وووردزوورث ومعاصريهم، وبين البيئة الفنية في باريس ونيويورك، قد يبدو غريبًا وغير منطقي؛ لكن جبران حقق ذلك في براعة، فغدا رمز رؤيا توحيدية قادرة على توحيد العالم كلِّه، واحترام حقوق الجميع، وتحرير شعوب العالم، لتعيش حياة خالية من القسوة والخصام. استوحى جبران مبدأ "وحدة الوجود" من ابن عربي وابن الفارض والغزالي، فطوَّره إلى رؤيا أعمق في طبيعة الكون. وما يعكس تمامًا رؤيا جبران مقطعٌ من تمثيليته إرَم ذات العماد يشدِّد فيه، على لسان آمنة العلوية، على تواكل كلِّ ما في الوجود: كلُّ ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكلُّ ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حدٍّ فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة.[2] هذه الرؤيا الثورية تتطلَّب إعادة تفكير جذرية في توجُّه البشرية اليوم. وجُل إنتاج جبران محاولةُ جمع بين مصالح وشيع ومعتقدات، وكل لمحة من فكره لمعة ضوء من حرصه على الوحدة، يأتي من مصدر إلهام غريب في عصره وبين معاصريه، أسُّه منطق الجمع بين المصالح المتضاربة. وكم يؤسف أن يظل الاشتغال على السلام غير تامٍّ بعد، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين. من هنا أهمية أن جبران، ككبار الشعراء، سعى إلى إظهار إمكان الجمع بين نقيضين: السهولة والصعوبة، الفرح والحزن، النجاح والفشل، الجسد والروح، والحياة والموت. كما جمع في ذاته الشرق والغرب، الوثني والمسيحي، القديم والحديث، في تناغم تامٍّ يؤكد عقيدة "وحدة الوجود" التي بثَّها في رائعته النبي، حيث من جذور "شجرة الحضارة الهرمة المهترئة" توغل في مرض نفسيٍّ ناجم عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في الشرق والغرب معًا، وبشَّر بانبلاج فجر جديد من الأمل والإلهام، ليس عفويًّا ولا سهلاً، لكنه مشبع بحسٍّ عميق بوحدة الخلق والمحبة الغامرة. وهذا ما أذاع شهرته، من الصين إلى نيوزيلاندا، ومن الفيليبين إلى روسيا، معروفًا بـ"جبران الولايات المتحدة" وبـ"جبران لبنان"، صوت وعي كوني، مدوٍّ جيلاً بعد جيل. ولو كان له أن يفرح بشهرته المتزايدة فليس تفاخرًا وتعاليًا، بل فرحًا بتوطيده أواصر المصالح المشتركة والتعاطف والتفاهم بين الأمم، فيكون – وهنا نستعير منه رمز الشجرة – أن ينحني غصن قليلاً ويعلو غصن آخر قليلاً، فيلتقيان في مناخ الحقيقة والسلام. كان ذلك خلال القرن العشرين، بعذاباته وآماله، ووعي الفكر الغربي يذوي عقدًا بعد عقد، حتى بلغنا اليوم إلى رؤيا للكون جديدة، متصل بعضها ببعضها الآخر، كلُّ جزء منها جزء من الكل، والكل واضح في كلِّ جزء على حدة. كانت البشرية تعتمد بالنار وتختبر روحًا محيية في العالم، بما أتاح لجبران أن يتحدث في تفاؤل عن "عهد جديد" وجيل جديد من البشر، فرسم، بتطلعه إلى المستقبل، تلك الرؤيا الطليعية بمُواطِن عالمي جديد. ولعله بذلك، أكثر من سواه، وعى ماهية نور موعود آتٍ إلى العالم، نورٍ يضيء القلب بشعاع تحوُّل ذاتي وولادة جديدة وبداية جديدة. من هنا قوله، على لسان خليل الكافر، في الأرواح المتمردة: النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبيِّن سرائر النفس للنفس، ويجعلها فارحةً بالحياة، مترنِّمة باسم الروح.[3] *** *** *** ترجمة: أنجليك بعينو [1] Kathleen Raine, from the Foreword to Kahlil Gibran, Man and Poet – A New Biography, by Suheil Bushrui and Joe Jenkins, OneWorld, Oxford, 1998. [2] "البدائع والطرائف"، ص 585، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية، قدم لها وأشرف على تنسيقها ميخائيل نعيمه، دار صادر، بيروت. [3] "الأرواح المتمردة"، ص 130-131، المصدر نفسه.
|
|
|