المشترَك الإنساني

الحياة والموت، توحيد الألوهية،

مُلك السماوات والأرض للإله الواحد

 

رشيد أوراز[*]

 

ما الذي يشترك فيه الناسُ جميعًا؟ ما هي الأمور التي تبقى مشترَكةً بيننا على الرغم من اختلافاتنا كلِّها؟ ما هي الروابط التي يمكن لنا اعتمادُها في التعامل بيننا، نحن المختلفين جدًّا من بني الإنسان؟ ما الذي يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن؟ وما الذي يشترك فيه اليهودي والمسيحي والمسلم؟ ما هو حد الاختلاف الذي لا يمكن العيش معه على أرض واحدة؟ وما هو المشترَك الذي يمكن معه ضمان العيش للجميع؟

مثل هذه الأسئلة ليست لها أجوبة دقيقة مطلقًا؛ وكل محاولة للإجابة ستكون ناقصة إلى حدٍّ كبير. فإذا ما أردنا، مثلاً، أن نحدد عناصر الاختلاف بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، يجب أن نكون يهودًا ومسيحيين ومسلمين لكي نكون موضوعيين في تحديد المختلَف حوله.

إن الاختلاف بين بني البشر، أو بني الإنسان، قد أخَّر مسيرة البشر التاريخية قرونًا طويلة؛ وكل الحروب التي شهدها تاريخُنا سببها الاختلافات (رغم كون الاختلافات لا تؤدي دومًا إلى حروب). إلا أن للحرب سببًا واحدًا هو الاختلاف، الاختلاف الذي ينمي إرادة الاستعلاء عند القوي، فتقع الحرب، ويأكل الكبير الصغير، طبقًا لسنَّة حيوانية في أصلها. هكذا اختار الإنسان أن يكتب تاريخه.

لكن ما هو الطارئ الذي دخل التاريخ الإنساني، فغيَّر مجراه إلى حدٍّ ما؟

إنهم الأنبياء. الأنبياء هم صنَّاع السلام. وما ينعم به قلةٌ من الناس اليوم من طمأنينة وسلام إنما هو من إرث الأنبياء. والذي قال إن الأنبياء يأتون من أجل إشعال الحروب لن يجد أيَّ دليل أو حدث يسند به قوله؛ بل الأتباع هم الذين يفسدون سيرة الأنبياء بالاندفاع المطلق لما يعتقدون أنه حق يجب الدفاع عنه، ولو بشريعة الدماء. أما الأنبياء فهم وحدهم الذين حاولوا إطفاء الحروب خلال مسيرة التاريخ الطويلة؛ هم وحدهم صنَّاع السلام؛ ويتبعهم الصالحون، فالراشدون. أما ماعدا هؤلاء فهي دماء إلى فجر تاريخيٍّ آخر، مع نبي أو راشد، حاكمًا كان أو حكيمًا.

يمكن لنا أن نحصي كلَّ شيء في تاريخنا، إلا الأشخاص الذين قُتِلوا بسبب اختلاف في الرأي، – هؤلاء اللذين حصدتْهم الحروب والمحارق والمشانق؛ – فهؤلاء لا يمكن إحصاؤهم، ولكن بأرواحهم ودمائهم فقط نضيء حقبتنا هذه المبكرة جدًّا من تاريخنا. إننا جئنا مبكرين إلى هذا العالم، جئنا في المرحلة الفاصلة، المرحلة التي تميِّز تاريخ الإكراه والعنف عن تاريخ الرشد والاصطفاء الذي وُعِدَ به الإنسان.

التاريخ البشري يسير نحو إنهاء ظاهرة القتل بسبب اختلاف في الرأي. ومَن يقتل اليوم بسبب اختلاف في الرأي إنما هو شخص لم يعِ بعد المرحلة التاريخية التي يعيشها. ومَن يعلن الحرب يصلح أن تؤخذ له صورةٌ تذكارية يُحتفَظ بها في متحف التاريخ عِبْرة لِمَن سيأتي بعدنا. العالم سيضحك يومًا على شخص مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش وهو رافع يده إلى السماء ينادي بالحرب! ولكن هاته الضحكة لن نسمعها إلا بعد ثلاثة عقود على الأقل. فقد جئنا مبكرًا، ووجدنا ما لم يكن ينبغي أن نجده. فالذين أضاءوا الكون بأنوارهم نَسَوا أن يطفئوا لهيب الشمعة الذي يحرق أبناءهم من حين لآخر – أو هكذا نتصور على الأقل.

لكن، "هل هناك من مخرج؟ هل إلى خروج من سبيل؟"، على حدِّ تساؤل داعية اللاعنف جودت سعيد. وكيف يمكن لنا أن ننقذ أنفسنا، وننقذ باقي الناس معنا؟

يجب أن نعرف ما الذي نشترك فيه، ثم نبحث عن حلٍّ للاختلافات. يجب أن نحدد "المشترَك الإنساني". إن تحديد المشترَك الإنساني بين البشر كافة قد يكون سبيلاً مؤقتًا، إلى أن يتطور تاريخنا نحو الأفضل، نحو الأعلى. نحن نفكر دائمًا في نقاط الاختلاف حينما يظهر الآخر أمامنا، وقليلاً ما نفكر فيما نشترك فيه. يجب أن نفكر في المشترَك الإنساني لكي نحس بأننا إخوة، لا أن نُظهِر الاختلافات فنصير أعداء.

إن ما نختلف فيه بسيط إلى حدٍّ لا يطاق. وحينما نكتشف ذلك سيتضح مدى سذاجتنا ومدى جهلنا. إننا أقوام ترفض العقل والعلم والتدبر؛ ولو كنَّا نؤمن بهذه الأمور وأمثالها لتجنبنا عددًا كبيرًا من المعارك والحروب. ولكن ذلك لم يحدث، لأن مَن يدقون طبول الحروب يغلقون الأبواب بإحكام أمام العقول؛ هؤلاء هم الذين ينقلوننا إلى جبهات القتال لكي نترك رشد العقول. ولكن هيهات! فنحن جميعًا ندق طبول الحروب، كلٌّ بطريقته الخاصة. نحن جميعًا نود قتل الآخرين، وإنْ بأشكال متباينة.

ولكن ما هو "المشترَك الإنساني" الذي نريد الحديث عنه؟ لنقف مع الآية 158 من سورة الأعراف لنرى ما الذي تقوله:

قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له مُلك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيِّ الأمِّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتَّبعوه لعلكم تهتدون.

ما الذي تقوله الآية؟ ما الذي يقوله ربنا في هذه الآية؟ ولِمَن يوجِّه خطابه؟ ما هو "المشترَك الإنساني" الذي حدَّدتْه هذه الآية؟ وهل نشترك في هذا فعلاً؟ وهل هذا أدنى ما نشترك فيه أم أقصاه؟

إن الآية توجِّه دعوةً عامة ومفتوحة إلى الناس كافة. والخطاب هنا إلهي، فـ"يا أيها الناس" تعني الناس كافة، وليس ثلة منهم فقط، أو طائفة بعينها؛ إنما هم الناس، كيفما كان لونهم ولسانهم ودينهم وفكرهم – كل الناس من دون فرق. ومثل هذا الخطاب لا يوجد في غير القرآن: إننا لن نجد في الكتب السماوية كلِّها، وفي كتب البشر كلِّها، خطابًا إنسانيًّا مطلقًا كهذا. إن القرآن العظيم يصيِّر الخطاب الإنساني خطابًا مطلقًا، كأنْ لم يعد هناك من فرق بين فرد وآخر.

ولكن هذه الدعوة الإنسانية المطلقة بُنِيَتْ على ثلاثة أمور مشترَكة، هي ما نسمِّيه هنا بـ"المشترَك الإنساني"، أو ما يشترك فيه بنو الإنسان، وهي تباعًا:

1.     "له مُلك السماوات والأرض"

2.     "لا إله إلا هو"

3.     "يحيي ويميت"

هذا هو كلُّ ما يشترك فيه الناس في الحدود الدنيا (أو ما يجب ألا يختلفوا حوله إطلاقًا). وهو يبدأ بالذي سنختلف فيه أكثر، ثم يدنو إلى الأمر الذي قد لا نختلف فيه، ثم يصل إلى أمر ثالث لا سبيل إلى الاختلاف فيه أو حوله، وهو مسألة "الحياة والموت": "الحياة والموت" سنَّة كونية لا يمكن لنا الاختلاف فيها ولا حولها، كيفما كنَّا ومهما اختلفنا.

وقبلها "وحدانية الألوهية": فهذا هو "المشترَك الإنساني" الثاني الذي يقترب جميع الناس وجميع الأديان من إقراره: فنحن جميعًا نعترف بأن هناك إلهًا واحدًا؛ وكل ما نختلف فيه هو ماهية الوجود الإلهي ثم تجلِّي الفعل الإلهي في الكون. ولذلك أبقى الله نفسه مجردًا، لأن ظهوره يعني مزيدًا من الدمار لنا – وهذه حكمة إلهية.

والمشترَك الثالث الذي يجب أن نتفق حوله هو "مُلك السماوات والأرض": إنما هو مُلكٌ للإله الواحد الذي نؤمن به؛ وينبغي ألا نتصارع حول هذا المُلك. والدماء التي سُفِكَتْ حول مُلك الأرض كثيرة؛ وكذلك حول مُلك السماء: فكلنا يعتقد أن له حقَّ السماء وحده دون غيره.

ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني أن تكون هناك ثلاث مشتركة بين جميع الناس؟ هل هو الحد الأدنى للعيش الذي ما فتئ القرآن يدعو إليه؟ أم هي الحقيقة والسنَّة القرآنية التي لا بدَّ منها؟

إن مشترَك الحياة والموت لا يترك أدنى سبب لاختلاف بيننا، نحن بني الإنسان؛ وهو المشترَك الأول الذي لا يمكن الاختلاف حوله: إذ لا يمكن أن يموت البعض ويبقى البعض حيًّا، مهما طال به أمدُ العمر. والطرق التي نموت بها تسري علينا جميعًا، مهما اختلفت معتقداتنا: فإما أن نعمِّر ونهرم فنموت، أو نموت من جراء حادث، كأن نقع من أعلى السطح أو تدهسنا سيارة في الشارع العام، أو من جراء التعذيب في سجون الطغيان، أو أن نقبع تحت أنقاض زلزال مدمِّر، أو أن نذوب في سائل اللاڤا الذي ترسله علينا الأرض بين الفينة والأخرى. فالموت مشترَك، في حقيقته وفي طريقته.

وكذلك الإحياء: فنحن نأتي من الرحم نفسها وبالطريقة نفسها. والحياة والموت تسري على الأفراد وعلى الأمم: فالأمم كذلك تحيا وتموت، وسنَّة حياتها ومماتها مشتركة بينها كافة، كيفما كان دينها وعقلها. ويبقى الدين هو الباعث، والعقل هو الذي يضمن الاستمرار والحيوية في حياة أمة ما. الأمم القطبية تتجمد، فيما أممٌ أخرى تحترق – ويبقى ذلك كله من الطبيعة. أما السنن المشتركة بيننا وعلينا فتغييرها في النفوس.

المشترَك الثاني، الذي قد نتفق جميعًا حوله، هو وحدانية الألوهية: إله واحد – وهذا يؤمن به اليهود والمسيحيون والمسلمون وغير هؤلاء، كلٌّ يوحِّد إلهه. والناس منذ القدم لا يتجادلون في وجود الله، بل في وحدانيته. وتوحيد الله مطلب سياسي وديني: يجب ألا يكون هناك أكثر من ربٍّ واحد. والقرآن حارب تعدد الأرباب، لأن تعدد الأرباب يعني تعدد المصالح والصدامات والحروب.

والمشترَك الثالث هو مُلك السماوات والأرض للإله الواحد: يجب أن نضع هذا المُلك في يد الإله الواحد الذي نؤمن به، لأن الصراع يدخل إلى علاقاتنا انطلاقًا من هذا الباب الواسع، باب المُلك والحكم. يجب أن يجتمع سكان المعمور جميعًا في مكان واسع على الأرض (كمقرِّ الأمم المتحدة مثلاً)، فيقرِّروا عدم التنازع حول هذا المُلك؛ يجب أن يقولوا جميعًا: "هذا مُلكٌ لإلهنا"، لكي ينتهي الصراع حوله ولئلا يجد أحد منَّا مبررًا للمطالبة بمُلك ليس له حق فيه. والله وضع مُلك السماوات والأرض في يده لكي يُضيِّق المُختَلف حوله بيننا ويُحدِث "مشترَكًا إنسانيًّا".

إن كلَّ اختلاف نلغيه بصيغة متوافق حولها بيننا يصبح "مشترَكًا إنسانيًّا". وإذا ما ألغينا اختلافاتنا كلَّها أصبحنا شركاء في كلِّ شيء. إن إشراك الناس في "الحياة والموت" و"وحدانية الألوهية" و"مُلك السماوات والأرض للإله الواحد" سيلغي الحروب والدماء. وعلى الرغم من ذلك كلِّه فالقرآن كان دقيقًا جدًّا في تحديد هذا "المشترَك الإنساني".

إلا أن الناس لا يبحثون عن تحديد المشترَك بينهم، بل يعمدون إلى الدفاع عن الذات، واحتقار الآخرين باحتلال أراضيهم، أو نسف أبراجهم، أو إعلان الحرب عليهم. إننا سفكنا كثيرًا من الدماء.

فجر تاريخي جديد يلوح في الأفق، سيعلن عن نفسه قريبًا. قريبًا سنبدأ ألف خطوة جديدة إلى الأمام في ظلِّ الاحترام المتبادل. ولكن هذه الخطوات لا بدَّ أن تبدأ بخطوة الاعتراف بالآخر، ثم بخطوة ثانية بالاعتراف بالمشترَك الإنساني، ثم بخطوة أخرى نحو إلغاء الاختلافات. وآنذاك تبدأ خطوات إظهار الحق وتحقيقه، واكتشاف الباطل وإلغائه.

يجب علينا جميعًا أن نوجد جوًّا صالحًا للحوار وتبادل الأفكار، لكي نصحح آراءنا، لكي نكون إخوة، فننهي الصراعات، ثم نضحك بعد ذلك قليلاً على تاريخنا المليء بالحروب وسفك الدماء.

والآية 158 من سورة الأعراف تتجه إلى هذا، لأنها لا تحدد المشترَك الإنساني فقط، بل تَعِدُنا بالهداية (وفق شروط محددة). و"الهداية" هي السلام الدائم، والعلم الوافر، والكون الهادئ الذي يقرَّر مصيرُه بالسلم، لا بالعنف.

*** *** ***


 

[*] كاتب وباحث مغربي. بريده الإلكتروني: aourraz@maktoob.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود