المَغزَى الأخلاقيُّ لوُجود الإنسَان

 

ندره اليازجي

 

شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر في التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوق، والقانون الأخلاقي في صدري.

عمانوئيل كنْط

 

يوجد تبايُن بين وجهات النظر الأخلاقية. ويعود هذا التباين إلى الموقف الذي يتخذه الإنسان حيال الوجود الروحي والمادي والاجتماعي. لقد صيغتِ الأخلاقُ في قواعد مختلفة ومتعددة قال بها أناس متباينو الفكر والعقيدة والمذهب. ومن بين وجهات النظر هذه، تسوِّغ المكيافيلِّية الوسيلة بالغاية: فالغاية تبرِّر الوسيلة بأيِّ شكل من الأشكال[1]. لذا تُعَد أخلاقُ مكيافيلي أخلاقًا نفعية ترتبط بالمصلحة الخاصة وتسوِّغ الخير الذاتي المؤقت[2]، وذلك لأنها لا تعتمد قبْلية a priori هي قانون نُحِتَ في صدر الإنسان، بل تعتمد المهارة والذكاء المبطَّن بالسلب، وتشجع على ربط الأخلاق بالموقف الآني. وهكذا، تكون نظرية مكيافيلي في الخير هدامة لأن الخير، في نظره، يعني المنفعة التي تسوِّغ ذاتها. وبما أن المنفعة تختلف من شخص إلى شخص آخر، ومن فئة إلى أخرى، فإن أخلاق مكيافيلي تخلو من قاعدة عمل.

ومن وجهات النظر الأخلاقية الأخرى، نورِد رأيَ نيتشه الذي قسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق العبيد وأخلاق السادة. وقد أدت هذه النظرة إلى خلق سوپرمان نيتشه، أي "الإنسان الأعلى" الذي يتخذ من "إرادة القوة" قاعدةً لفعله ومن تقويض القيم وإعادة تقويمها مثالاً.

ولا ندري كيف تستطيع وجهتا النظر المذكورتان أن تصقلا شخصية الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته. كل ما نستطيع قوله هو إنهما لم تعبِّرا تعبيرًا صحيحًا عن حقيقة مازلنا نبحث عنها ونسعى إليها لكي نكونها[3].

وإلى جانب هاتين النظريتين، طُرِحَتْ آراءٌ أخرى تحاول أن تضع الأخلاق في قواعد ثابتة لا تتبدل؛ وتُعَد هذه القواعد مجموعة من الأوامر والنواهي. وفي هذا المجال نذكر أنواعًا أربعة منها:

1.    الأخلاق التي تعتبر البساطة والتواضع والتسامح قيمًا عليا: هي أخلاق تمت بصلة وثيقة إلى الشريعة التي تشمل مجموعة الأوامر أو النواهي التقليدية، كما تمت إلى الفعل الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان كائنًا أخلاقيًّا متفوقًا[4].

2.    الأخلاق التي تعبِّر عن الفضيلة والمعرفة. وتعود هذه الأخلاق إلى فلاسفة أبانوا أن الفضيلة معرفة والمعرفة فضيلة. وتُظهِر لنا هذه الأخلاق أن المعرفة هي الوسيلة والغاية وأن الجهل مصدر الشر.

3.    الأخلاق "الديموقراطية" التي تفرض على الإنسان أن يحترم غيره وفق قاعدة القانون، وأن يقف وإياه على صعيد واحد، بغضِّ النظر عن بعض الفروق البسيطة. وتُعَد هذه الأخلاق قاعدةً ذهبية لتوطيد العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الناس.

4.    الأخلاق الاقتصادية التي تجعل أخلاق الإنسان نتاجًا لوضعه الاقتصادي. وتجعل هذه النظرية الإنسان فردًا تجمعيًّا واقتصاديًّا، يخضع لقوى الإنتاج المادي ومستواه.

وهكذا تختلف وجهات النظر الأخلاقية، بحيث إنها لا تلتقي في نقطة واحدة. فالمكيافيلِّية لا تُعَد أخلاقيةً في صميمها لأنها لا تطبِّق الأخلاق في كلِّ زمان ومكان، في كلِّ سلوك أو فعل؛ ونيتشه لا يعلِّم أخلاقيةً صحيحة لأنه يعتبر الأخلاق نتيجة لفرض "إرادة القوة" التي هي، في أصولها، غير واعية. ونحن نغفر لنيتشه إن كان قَصَدَ بـ"إنسانه الأعلى" الهدفَ الذي يحققه التطور، أي الصورة المثلى للإنسان. أما القول بأن الأخلاق تقوم في المعرفة، فإنه يحصر مفهوم هذه الأخلاق في فئة الفلاسفة والحكماء والعلماء دون سواهم، وذلك لأنهم وحدهم قادرون على بلوغ المعرفة والفضيلة عن طريق التفكير والتأمل، فتجرِّد مَن لا ينتمون إلى هذه الفئة من الأخلاق لأنهم لم يحققوا مستوى عاليًا من المعرفة، وتجعل من الفئة القليلة العارفة أسيادًا ومن الفئة غير المفكرة الكثيرة عبيدًا – وهذا ما لا تقره الأخلاق التي نعتبرها التعديل الدائم لتحقيق غاية إنسانية شاملة. لذا بقي علينا أن ننادي بنوع واحد من الأخلاق هو أخلاق البساطة والتواضع والمحبة لأنها قادرة أن تكون قاعدة عامة لبني الإنسان قاطبة.

نحن لا ننكر أن أخلاق المعرفة والفضيلة درجة عليا في سلَّم ارتقاء الإنسان، ولكننا نأخذ عليها ضيق إطارها؛ فهي تترعرع ضمن حدود فئة واحدة من الناس – فئة قليلة من المفكرين – فيما يبقى الجزء الأكبر من الإنسانية متخلفًا. ولا نشك في أن المعرفة أخلاق عالية إنْ هي طُبِّقَت في سبيل إعلاء شأن الإنسان – ذلك أن أخلاق الإنسان تتطور وتتعدل كلما ازداد الإنسان معرفة، وبالتالي فضيلة. إن معرفتنا للكون تقرِّبنا من شعور خفيٍّ يحتوينا ويرينا حقيقة عظمى هي الاتصالية الكونية؛ ومن معرفتنا لهذه الحقيقة، أو من شعورنا الطبيعي بها، تنشأ فينا فضيلة كبرى.

أما أخلاق نيتشه، المعبَّر عنها بأخلاق السادة وأخلاق العبيد، فإنها تجزئ العالم إلى قسمين: العبيد والسادة. وما لا نشك فيه أن السادة يمثلون الأقلية، بينما يمثل العبيد الأكثرية. وتؤدي هذه النظرية إلى خلق فئة قليلة قائدة وفئة عديدة تابعة، كما تؤدي إلى الديكتاتورية وإلى المساوئ الناجمة عنها، ناهيك عن فوضى تقويم أخلاق السادة والعبيد. لذا لا يمكن لنا أن نقرَّ بأخلاقية إنسان نيتشه الأعلى لأنه إنسان تفوَّق على أقرانه بإرادة وهمية استخلصها من عظمة وهمية!

والأخلاق الديموقراطية تعتمد، من جانبها، المنفعة الاجتماعية العامة؛ لكنها تفتقر إلى التقويم الأخلاقي الذي ينبع من وجود قبْلي a priori. ويكون الإنسان، بحسب هذه الأخلاق الديموقراطية، عنصرًا اجتماعيًّا يعمل للمجتمع ويضحِّي في سبيله. لذا لا تتسنَّم هذه الأخلاق الذروة المثلى لأنها تستجيب للدوافع الاجتماعية وتتغاضى عن حقيقة عظمى هي أن الإنسان غاية في ذاته. لذا لا نزال نرى شيئًا من التخلف الأخلاقي في الأنظمة الديموقراطية التي حوَّلت أخلاق الإنسان الطبيعية إلى أخلاق "اجتماعية"، يعمل فيها عامل الحرية بصورة غامضة، وعامل المساواة الذي لا يقوم على قاعدة للمساواة أصيلة، وعامل الإخاء الذي لا يُطبَّق كما ينبغي.

يتعذر، في نظرنا، أن تكون أخلاق الإنسان نتاجًا لواقع اقتصادي، ذلك لأننا نفرِّق بين المعيشة والحياة: المعيشة هي الواقع المادي الذي يشير إلى مستوى العيش؛ والحياة هي الوجود الإنساني بكامله وكلِّيته. وفي رأينا أن الإنسان يحيا في نظامين: نظام المعيشة – وهو نظام الزمن – ونظام الحياة – وهو النظام الكلِّي والكوني. وإن كان نظام المعيشة يعتمد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، بما يجعل الإنسان فردًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فإن نظام الحياة يعتمد على الوجود في معناه المطلق: دراسة الوجود وفهمه، دراسة الإنسان وفهمه، دراسة الحياة وفهمها، ودراسة الغاية من وجود الإنسان وتطبيقها. وهكذا تتفوق الحياة على المعيشة: الإنسان يحيا أكثر مما يعيش، ويستطيع أن يحيا بقليل من المعيشة وبكثير من الحياة. وهكذا يحيا الأخلاقيون ويعيشون في نطاقات الحياة الإنسانية المتنوعة.

ونحن نقف أمام هذه التناقضات الظاهرية، التي ترمي بنا في هوة الحيرة، نسأل أنفسنا: ما الغاية الأخلاقية من وجودنا؟ كيف نبرِّر أخلاقية وجودنا؟ لماذا تجعل هذه الأخلاقية الإنسان غايةً في ذاته؟ كيف يكون الإنسان ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن؟ وما معنى الأخلاق الإنسانية التي نقول بتطبيقها في كلِّ زمان ومكان، وتكون قاعدة عامة، كونية وشاملة؟

نود، في هذا المجال، أن نجعل من موضوعنا بحثًا يؤدي إلى إرساء قاعدة نتخذها سلوكًا إنسانيًّا عامًّا، تتضمن في ذاتها الجوانب الإيجابية من النظريات العديدة المطروحة. ولتحقيق هذه القاعدة، يجدر بنا أن نبحث في الأخلاق من منظار بعض الخصائص التي هي مكوِّنات لجوهر الإنسان.

أولاً: الأخلاق مفهوم قبْلي

في الإنسان قدرة فاعلة للخير، هي طاقة طبيعية كامنة فيه. وتتجلَّى هذه الطاقة في تصرفات بسيطة وفي دوافع متعددة للسلوك، كالرأفة، والعطف، والمشاركة الوجدانية، والإصغاء إلى نداء الضمير، وبعض التصرفات الأخرى التي تظهر حتى عند الأطفال الصغار عندما ينبِّهون الكبار بأنهم، على سبيل المثال، لم يكونوا صادقين. وتتجلَّى هذه الطاقة، أيضًا، حتى في أشد الحالات النفسية ظلمًا وكبرياء، عند مَن نُطلق عليهم تسميات اصطلاحية من نحو "مجرمين" و"خطاة" و"قساة"، الذين، في حالات صفائهم، يلجون إلى أعماق نفوسهم ويقرون بضعفهم وتصرفهم الشائن: إنهم يعودون إلى حالتهم الطبيعية الحقيقية التي، من خلالها، يشاهدون الصورة المشوهة التي رسموها لأنفسهم.

في الإنسان قاعدة أخلاقية تفعل فيه فعلاً مباشرًا وغير مباشر، واعيًا وتلقائيًّا، روحيًّا وماديًّا، عقليًّا ووجدانيًّا. وتبدو هذه الطاقة كنور ينبعث من أعماق الإنسان ويضيء طريقه. ومهما سار الإنسان في ظلام فكره وقوته الوهمية ورغبته، فإنه يظل يعاين هذا النور الذي يحاول إطفاءه.

إن أحكامنا الأخلاقية أحكام قبْلية، تنبثق من أعماقنا؛ ومواقفنا مواقف قبْلية لأنها كائنة فينا، وتجعلنا نقف أمام موضوع ما موقفًا معينًا؛ وسلوكنا الأخلاقي سلوك قبْلي من وجوهٍ العديدة. ونحن نوافق عمانوئيل كنْط الذي يشدد على وجود قانون أخلاقي في صدورنا، هو فعل آمر يرشدنا إلى تطبيق الحقيقة الكائنة فينا.

ثانيًا: الأخلاق غاية وهدف

القبْلية الأخلاقية منظَّمة في الإنسان، وهادفة أيضًا: إنها تهدف إلى تحقيق مراتب الوجود العليا. ويُعَد السمو الإنساني الهدفَ الذي يرنو إليه واحدُنا لكي يحقق طاقته تحقيقًا أفضل. ويُعَد الهدفُ الأخلاقي طبيعةً متأصلةً فينا، يعمل في نشاط وفاعلية ليسمو الإنسانُ على انغلاقه المادي المعروف بـ"الأنا". وعندئذٍ يُعتبَر الإنسان غايةً في ذاته لأنه يسعى إلى تحقيق غاية وُجِدَتْ فيه وملازمة له، هي قانون كوني.

تتركز غاية الإنسان في تحرره من ماديته – من انغلاقه – والارتقاء بها إلى درجات عليا وسامية. ولا يمكن لتلك الغاية أن تكون عشوائية لأنها متضمنة فيه وداخلة في صُلب تركيبه – فهي قبْلية؛ وبقدر ما هي قبْلية هي هادفة وغائية. إذن، فالفعل الأخلاقي ينطلق من أعماقنا ليرينا أنفسنا في حالة أفضل – كما يجب أن نكون – ويسير بنا إلى مستوى أسمى من وجودنا. وهكذا يحقق الإنسان نفسه؛ أي أنه يحقق الصورة التي سيكونها، التي هي نفسه ذاتها وهي في صيرورتها. وهذا يعني أن الإنسان يحقق نفسه عن طريق الفعل الأخلاقي الفعال والخلاق. وتُعَد كل صورة سامية يرسمها الإنسان لنفسه فعلاً أخلاقيًّا ساميًا وسيرًا باتجاه وجود أفضل، هو تحقيق لغاية وُجِدَتْ فيه في صيغة قانون كامل منذ البدء. وكما نعتقد، فإن التطور الإنساني، في المرحلة الأخيرة لوجود الإنسان، هو تطور أخلاقي إلى مثال أسمى يعمل على تجاوز مملكة المادة المغلقة التي سيطرت عليها التلقائيةُ وكانت تبحث عن عقل لتعي ذاتها. فالتطور يعني تجاوز الانغلاق إلى الانفتاح بفعل وعي كامن يحقق ذاته في غاية قصوى. وبالمثل، يمثل التطور الأخلاقي سيرَ الإنسان المثابر في طريق تحقيق إنسانيته – ونعني تحقيق الإنسان الأسمى الذي يعتمد قاعدةَ تفعيل الوعي الكامن من أجل إدراك مبدئه الأول.

ثالثًا: الأخلاق محاكمة فكرية ومنطقية

الإرادة فعل، والأخلاق فعل، والوعي فعل. والفعل الإرادي محاكمة فكرية وقرار عقلي. إني أريد بعد أن أفكر. وتفكيري هو تعقُّل ذاتي للموضوع. الإرادة تنفيذ لموقف عقليٍّ سليم حيال الموضوع. ويُعَد هذا الموقف الذي يتخذه الإنسان سلوكًا أخلاقيًّا؛ إذ لا يخرج هذا السلوك عن دائرة الأخلاق لأن غاية التفكير، أو هدفه، تكمن/يكمن في الموقف الذي نحقِّقه كسلوك أخلاقي.

من هنا يمكن لنا أن نقول: إن الأخلاق محاكمة منطقية، وليست فعلاً تلقائيًّا أو انفعاليًّا أو نتيجةً لدافع غامض لا ندركه؛ هي وضوح شامل يسطع أمامنا لأنها نتيجة محاكمة عقلية وفكرية مجردة من الانفعال. فالأخلاق السامية تفكير واضح. وعلى غير ذلك، يُعَد كلُّ موقف غامض، وكل تصرف مشوَّش، نتيجة لتفكير غامض ومضطرب. وهكذا تكون الأخلاق صافية بقدر ما يكون التفكير صافيًا ومنطقيًّا.

بذا نعترف أن الأخلاق محاكمة منطقية أو فكرية غير انفعالية؛ ونعني أن الفعل غير المنفعل يحاكم، فيعقل، ثم يصدر قرارًا نسميه حُكمًا أو فكرة سليمة. وعندئذٍ يتخذ الإنسان موقفًا رصينًا أو يحقق سلوكًا وتصرفًا متزنين. وتكون أفكارنا واضحة بقدر ما تكون محاكمتنا واضحة؛ وبالتالي، تكون أخلاقنا واضحة بقدر ما تكون أفكارنا، التي هي نتاج أحكامنا، واضحة. وهكذا تكون الأخلاق خلاصة التفكير الحي الذي يعتمد الوعي.

رابعًا: الأخلاق محاكمة وجدانية

تخطئ أحكامُنا العقلية والمنطقية أحيانًا. ويعود خطؤها إلى أن العقل لا يستطيع أن يحيط بأبعاد الموضوع إحاطةً كاملة. وعندما تخطئ "محكمة" العقل، تستأنف القضية إلى الوجدان؛ وتنظر محكمة الوجدان في القضية الماثلة أمامها، وبعد محاكمة عادلة تتخذ قرارًا. وتختلف محكمة الوجدان عن محكمة العقل في أنها أدق وأعدل وأصوب، وأحكامها أقرب إلى الحقيقة.

إن أخطاء محكمة العقل تخلق معضلاتٍ عديدةً لا يكون العقل قادرًا على حلِّها دومًا. من هذا المنطلق، نلتجئ إلى محكمة الوجدان التي تعيد النظر في قرارات محكمة العقل ومواقفها، تمامًا كما تعيد المحاكمُ العليا النظر في قرارات المحاكم الدنيا. ويعبِّر القرار الصادر عن محكمة الوجدان عن القدرة الإنسانية، لأنه نتيجة فعل العقل والوجدان معًا. وهذا يعني أن الوجدان يقوِّم أخطاء العقل المنفعل ويُخرِجه من تشوُّشه. ولا شك أن كلَّ إنسان يرتاح إلى قرار وجداني يتخذه حيال موضوع، فيعتبر أن حلاً نهائيًّا قد وُجِد.

تختلف محكمة الوجدان، في دراستها للموضوع أو في اعتبارها له، عن محكمة العقل. فللعقل أسُسه الواقعية، كالحواس والموضوعات الخارجية والداخلية التي تقدَّم له. وبما أن ملَكة الحُكم العقلي ناقصة – لأسباب منها: عدم توفر الأدلة والبراهين الكافية، اختلاف الأزمنة والأمكنة، المستوى الذي بَلَغَه العقل، عدم معرفة العلل، عدمُ نضوج العقل، إلخ – فإن العقل يستأنف حُكمَه أو قرارَه إلى محكمة الوجدان. وعندئذٍ يكون حكمُ الوجدان أعظم فعل أخلاقي لأنه يتخذ قاعدةً مادية له يستمدها من المحاكمة العقلية المنطقية، ليرتقي إلى قاعدة أعلى تتجاوز حدود العقل. وهكذا تكون للوجدان أسُسه غير المحسوسة التي تعتمد على قوى باطنية عميقة تمت إلى حقيقة الروح بصلة. فالحكم الوجداني حكم روحي؛ وخلاصته فعل أخلاقي بامتياز.

خامسًا: الأخلاق تعبير عن الشخصية الإنسانية

لا تكتمل الشخصية الإنسانية بالمهنة والعلم وحدهما؛ وهذا لأن العلم وسيلة مادية لمعرفة الوجود والمهنة وسيلة لكسب العيش. أما الشخصية الإنسانية فهي تعبير عن كيان الإنسان بوجه عام؛ والذات الإنسانية تعبير عن الوجود الاجتماعي والمعيشي. وهكذا يتعلق العلم والمهنة بالفردية، بينما تتعلق الأخلاق بالشخصية. فالشخصية وليدة الأخلاق التي تطبَّق في العلم والمهنة معًا.

نحن لا ننكر العلاقة القائمة بين العلم والأخلاق؛ ولكن هذه العلاقة لا تعبِّر دومًا عن اتحاد الاثنين معًا. ويمكن أن تتحقق هذه العلاقة – هذا الدمج – حينما يهدف العلم إلى الأخلاق، ليصار إلى تطبيقها في مجال المهنة والعمل. ويؤسفنا أن نرى عددًا كبيرًا من الناس يسعون وراء المراكز التجمعية أو المهن المربحة الرائجة، ولا هدف لهم سوى المعيشة. إن بشرًا كهؤلاء لا يكلِّلون أعمالَهم بالفعل الأخلاقي، بل يعملون على تحقيق مشروع تجمعي يعبِّر عن الأنانية. ولا يرى هؤلاء في أعمالهم سوى وسيلة للكسب وطريقة للرفاه والبحبوحة المادية وحسب، الأمر الذي يؤدي إلى تحوُّل الفكرة الأخلاقية المتضمنة في العمل إلى مجرد مهنة. ولهذا لا يحقق أولئك الناس شخصيتهم الإنسانية، بل يهملونها ويتغاضون عنها.

إن احترام الشخصية الإنسانية وتحقيقها لا يتمَّان إلا بالفعل الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان غايةً في ذاته. وعندئذٍ تكون قيمة الإنسان أجلَّ من علمه أو مهنته أو مركزه الاجتماعي، لأن كيانه أشمل من ذاته أولاً، ولأن المهنة مجالٌ للتطبيق ثانيًا. وتندثر الشخصية الإنسانية إذ تنتصر الذات self، في وجهها الأناني، على الكيان Self، في صورته الإنسانية. وعلى هذا الأساس، تعتمد الأخلاق على القاعدة الإنسانية التي تجعل شخصيةَ الإنسان أسمى وأجلَّ من قيمته الاجتماعية التي يحيطها بهالة من التبجيل. والحق هو أن الشخصية الإنسانية تعبِّر عن ثقافة الإنسان وترفُّعه وعن الدرجة التي بلغها في سلَّم التطور؛ وهذا لأن التطور، بعد وجود الإنسان، تطور عقلي وأخلاقي وروحي. وتتجلَّى هذه الشخصية في العمل الذي يعرِّف بها: فهذا العمل إما أن يرفعها وإما أن يحطَّ منها، يدنِّسها أو يقدِّسها، لأنه الوسيلة التي تُظهِر كيف تُطبَّق الأخلاق.

سادسًا: الأخلاق قيام بالواجب

حين أفكر في "واجباتي" أراني بعيدًا عن تحقيقها؛ وحين أفكر في "حقوقي" أجدني أطالب بها. فأنا أرغب في كلِّ شيء أطالب به وأدعي بأنه من حقِّي؛ فتكثر مطالبي وتزداد حقوقي. وأما واجباتي فإني أهملها. لذا أدركت أن الحياة الإنسانية تقوم على فلسفة الواجب، لا على فلسفة الحق.

وهكذا أتساءل: ما الواجب؟ ما هو واجبي في الوجود الأرضي؟ وأجيب: واجبي هو أن أفهم الوجود، أن أتوافق مع أحكام وجداني وأحكام عقلي السليمة، أن أفعل الخير وأحترم غيري. فالواجب حقل واسع لا ينتهي. وهكذا يبدو أن وجودي يفرض الواجب أكثر مما يفرض الحق.

تُعَد فلسفةُ الواجب أصدق من فلسفة الحق وأكثر أصالة؛ وهذا لأن الواجب يعني العطاء والتضحية، بينما الحق يعني الأخذ فقط. وإذا شئنا قياس الواجب والحق بمقياس العظمة، لوجدنا أن "العظيم" هو مَن يعطي أكثر مما يأخذ، وأن "الناجح" هو مَن يأخذ أكثر مما يعطي. الواجب هو حق الوجود على الإنسان، وليس هو حق الإنسان في شيء. وعندما يقوم الإنسان بواجبه خير قيام يحصل الناس على حقوقهم دون أن يطالبوا بها.

فأنا إذًا أمام حق: حقي الوحيد هو أن أقوم بواجبي. ويتم هذا الحق عندما أدخل هيكل وجداني، فأرى هناك حقوقَه عليَّ. وعلى هذا الأساس، أقوم بواجبي الإنساني لأنه مطلوب مني أن أطبِّق الحق. وأوضح سبيل أستطيع أن أحقق به هذا الحق هو القيام بواجبي. فالحق يصرخ في أعماقي ويطالبني بما للطبيعة وبما للوجود من حقوق عليَّ. وهكذا تضعني فلسفةُ الواجب أمام مسؤوليتي الأخلاقية كإنسان. وتتبلور هذه المسؤولية بمقدار ما أحقق من واجب. فأنا مسؤول إلى حدٍّ كبير؛ وكلما حققتُ واجبي تحملتُ مسؤوليتي. وإن واجبي قد يبلغ حدَّ التضحية بالنفس. لذلك وجدت في التضحية أعلى مراتب الأخلاق.

سابعًا: الأخلاق مفهوم اجتماعي

لا تكون الفلسفة – وهي "محبة الحكمة" philo-sophia – صافية ونقية ما لم تطبَّق. فالفلسفة يجب أن تُعاش؛ والأخلاق يجب أن تُعاش أيضًا – وإلا فإنها تصير وبالاً على الإنسان، لأنها تتحدث عن موضوعات لا تمت إلى الواقع بصلة. لذلك ظل عالم الفكر منفصلاً عن عالم الواقع الاجتماعي، بعيدًا عنه؛ ولذلك تعاني الأخلاق كثيرًا، وتُتَّهم بأنها تمت إلى عالم الوهم بصلة كبرى. وينظر الجاهل إلى الأخلاق على أنها وسيلة لتخدير الضمير، لا أكثر ولا أقل، بينما هي في الواقع وسيلة لتفتحه وإنعاشه وانطلاقه؛ كما يُنظَر إليها على أنها بعيدة المنال وصعبة التحقيق، تختلف عن الواقع أو تتناقض معه. وتعود هذه الاتهامات بجذورها إلى علَّة واحدة هي أن الإنسان لا يطبِّق ما ينادي به، بل يتنكَّر له عندما تصطدم مصلحتُه به، ويرفضه في كثير من الأحيان؛ ويكون هذا الرفض أو التنكُّر نفيًا للأخلاق ولإنسانية الإنسان.

عندما تطبَّق الأخلاقُ في المجتمع وتعبِّر عن حقيقة إنسانية، يتأكد الإنسان من أنها الوسيلة الوحيدة التي تحقق المجتمع الفاضل. فالمجتمع امتحان لأخلاقي؛ وهو الحقل الذي أطبِّق فيه خبراتي ومواقفي وسلوكي وتصرفاتي. وفي هذا الحقل، ينطبق الفكر على الواقع، ويتم الانسجام بين تفكيري وبين تطبيقي لهذا التفكير. وإذا تناقضتْ مواقفي بين تفكيري في الأخلاق وبين تطبيقها ينهار المجتمع ويصير حقلاً لحضارة بائسة لا تمت بصلة إلى الإنسان الذي يفقد عندئذٍ صفته الإنسانية.

تعلِّمني أخلاقي ألا أستغل غيري؛ ومن واجبي الإنساني والاجتماعي ألا أتنصل من هذا الواجب عندما تسنح لي فرصةٌ مؤاتية لتحقيق رغباتي. وتعلِّمني أخلاقي ألا أستجيب لانفعالاتي لكي لا أقع في خطأ جسيم ولكي أُجنِّب غيري مغبةَ الخطأ. وتعلِّمني أخلاقي ألا أسعى وراء قيم زائفة تحقق ذاتي وتتنكر لكياني. وتعلِّمني أخلاقي ألا أتهرب من أداء واجبي الاجتماعي، حتى لو لم تكن هناك عينُ رقيب عليَّ. وتعلِّمني أخلاقي أن أفكر ببني الإنسان قاطبة لأنني إنسان، ولأن تفكيري في الإنسانية تعبير آخر عن تفكيري في نفسي. وتعلِّمني أخلاقي ألا أتكبَّر على غيري، أو أسيء معاملتَه، أو أقلِّل من شأنه، أو أحقِّره.

وهكذا تكون الأخلاق الدافع الأساسي لكلِّ فضيلة اجتماعية. ولا يمكن أن تكون المجتمعات البشرية على وفاق ما لم تعمل على تحقيق وجودها الأخلاقي وعلى تطبيقه في نطاق المجتمع. ومن واجب الشعوب أن تبني نفسها من الداخل، من القلب والعقل والروح. فلا شيء يضع حدًّا لأنانيتي المجسَّدة في رغباتي وشهواتي سوى الأخلاق التي تنبع من داخلي. وبما أن هذه الأخلاق تنبع من تعقُّلي ووجداني، فإنني أحقق المجتمع المثالي عن طريق تطبيقها.

ثامنًا: الأخلاق تعني البساطة والتواضع

عنيتِ الفلسفةُ بتهذيب الإنسان، أي بصقل طاقاته. وطالب سقراط بتحقيق فضائل الإنسان دون تحويلها إلى شهوات. ونادى الحكماء بعدم تحويل الصدق إلى كذب، والهدوء إلى انفعال، والتواضع إلى كبرياء. وتُعَد هذه الصفات النفسية الإيجابية أخلاقًا لأنها لا تخرج عن نطاق شخصية الإنسان وكيانه.

لم تنظر الأخلاق إلى عقل الإنسان فقط، بل نظرت إلى قلبه، مركز العواطف؛ وعملت على أن تخلق من هذا "القلب" مركزًا هامًّا يرفع من قيمة الإنسان ليسمو بنفسه. وهكذا علَّمتِ الفلسفاتُ المثالية بساطةَ القلب ونقاء السريرة وصفاء النية وسموَّها؛ علَّمتِ الإنسان كيف يتعالى عن ذاته. لمست هذه الفلسفاتُ الروحية ضمير الإنسان وحركته، وشددتْ على الناحية الأخلاقية التي هي الوسيلة الفضلى لتقريب الإنسان من حقيقته – وهذا لأن سموَّ الإنسان وعظمته وتعاليه ينتج من حياة أخلاقية توجِّه قواه إلى الخير المطلق. وسموُّه هذا لا يعتمد قواه العقلية وحدها بقدر ما يعتمد قواه النفسية والروحية التي تجعله نقيًّا صافيًا. لذا أصبحت الأخلاق، في عرف الفلسفات المثالية، كلمةً مرادفةً للبساطة والتواضع والتعالي عن الصغائر والنقاء الفكري والقلبي؛ وأصبحت قاسمًا مشتركًا بين جميع الناس، لا يحتكره أحدٌ أكثر من غيره، ولا يُعطى لواحد أكثر مما يُعطى للآخر. ويتساوى جميع الناس في هذا المفهوم إنْ هم تساووا في تطبيقهم أخلاق التواضع والبساطة والنقاء التي هي الجوهر البسيط الذي لا يقبل الانقسام.

تاسعًا: الأخلاق نظرة ميتافيزيائية

إذا كان حقًّا أن الإنسان يولد في هذا العالم وترافقه، منذ ولادته، نزعتان: الخير بمعنى الإيجاب، والشر بمعنى السلب، فمن المؤكد أن مفهومًا ميتافيزيائيًّا يولد معه. ويُعتبَر هذا المفهوم الميتافيزيائي دافعًا طبيعيًّا يحثه على تحقيق وجوده. لذا لا يخرج وجود الإنسان عن كونه وجودًا أخلاقيًّا له غاية قصوى. وتتمثل هذه الغاية في الانتصار على قوى السلب التي تقاوم طاقاتِه العلوية مقاومةً مستمرة. ويُمثِّل التعارض بين الإيجاب، المتمثل بالخير، وبين السلب، المتمثل بالشر الذي يحدث داخل الإنسان، نظرةً ميتافيزيائية إلى الوجود وإلى الغاية التي وُجِدَ من أجلها الإنسان، المتمثلة بتحقيق الكمال.

في أعماقنا دافع خفي يحثنا على الخير والمعرفة والفضيلة، في صورة ميتافيزيائية أو اجتماعية. ويفعل هذا الدافع حتى عند أكثر الناس تخلفًا من الوجهة الأخلاقية. وإذا ما سألنا أنفسنا: لِمَ يعمل فينا هذا الدافع؟ لِمَ وُجِدَ فينا منذ أن وُجِدنا؟ لِمَ يحثنا حثًّا مستمرًّا ويلومنا عند الخطأ؟ ما الغاية غير المرئية (أو المرئية) التي لا تني تفعل فينا جاهدةً من أجل تحقيق ذاتها؟ أين الغاية؟ وكيف نراها ونحس بها؟ – إذا ما سألنا هذه الأسئلة أجبنا: إن هذه الغاية تمثل الغاية من وجودنا لأنها دأب دائم ونشاط مستمر لتحسين أحوالنا النفسية والروحية والعقلية؛ ولهذا قلنا بأن التطور بعد الإنسان تطور أخلاقي.

إننا نعمل أخلاقيًّا في سبيل غاية لا نستطيع أن نلمسها أو نحسَّ بها؛ وهذا لأن الطاقة الأساسية الموجودة في أعماقنا تفعل دومًا وأبدًا لتحسين واقع الإنسان ورفعه في سلَّم الوجود. وإذا ما سألنا: ما هو الوجود؟ وما درجاته؟، أجبنا بأنها الدرجات الأخلاقية التي نتسنَّمها، الدرجات التي تساعدنا على أن نتعالى عن واقعنا، عن مادتنا، وأن نرتقي بها إلى مستوى الروح. وهكذا تكون الأخلاق مفهومًا ميتافيزيائيًّا يجعل من الإنسان غايةً في ذاته.

عاشرًا: الأخلاق قمة التطور الإنساني

يقول أحد المفكرين إن الإنسان كائن يتأرجح بين الألوهة وبين تلقائية المادة. فما هي العوامل التي تنحدر به إلى تلقائية المادة أو ترفعه إلى مستوى الألوهة؟ الفعل الأخلاقي هو الذي يقرِّر المصير؛ والأخلاق هي التي ترفع الإنسان حتى يبلغ درجة عليا في سلَّم التطور، بينما انعدامُها ينزل به إلى أسفل السلَّم. والحق أن الإنسان عالم كامل، يحمل في كيانه العناصر المادية كلَّها؛ فيه يلتقي العالمان الروحي والمادي: يعبِّر الكون المادي عن الدوافع الحيوية والتلقائية الكامنة؛ بينما يعبِّر الكون الروحي عن الطاقة الخلاقة، الأخلاقية والفكرية، التي تفعل في الإنسان لكي ترفعه إلى مستوى أعلى وتسمو به في عالم كيانه اللامنتهي. وهذا يعني أن تطور الإنسان يتم من ذاته إلى كيانه، من مادته إلى روحه – ونعني أن المادة تتطور لتصبح روحًا: تترَوْحن. وبديهي أن تطوير المادة حتى تبلغ درجة أخلاقية عليا تحتاج إلى فعل إرادي وإلى سموٍّ عقلي: فللانتصار على الحقد نحتاج إلى طاقة كبرى من المحبة والتسامح؛ وللانتصار على الكبرياء نحتاج إلى طاقة كبرى من التواضع والبساطة؛ وللانتصار على انفعالاتنا نحتاج إلى طاقة كبرى من الوعي. إذن، فإرادة القوة تتحقق في هذه المفاهيم البسيطة، وليس في "إرادة القوة" بحسب نيتشه[5]. إن الغاية من تطورنا غاية أخلاقية وروحية؛ والإنسان يسير، من خلال العلم والمعرفة وتحقيق العقل الناضج، باتجاه عالم روحه. تلكم هي الغاية من وجودنا.

11: الأخلاق تضع نهاية لظاهرة القلق

القلق الروحي هو مظهر من مظاهر الوجود لأنه يعبِّر عن توق الإنسان الدائم إلى الحقيقة واضطرابه الوجداني أمامها. أما القلق المادي فهو ظاهرة اجتماعية–اقتصادية تتغلغل في الإنسان وتجعل منه كائنًا يهتم بتحقيق وجوده المادي الظاهري فحسب. فهو يقلق إن لم يحقق معيشةً "مريحة" بالقدر الذي يرغب فيه، ويقلق حيال عالم "فارغ" يلمس عبثه. وهكذا يكون القلق المادي وليد الاضطراب الداخلي الذي يهيمن على مَن لا يحقق رغباته.

تعاني البشرية من القلق الناجم عن الحروب والويلات وعن عدم الحصول على درجة معيشة جيدة. وينتج هذا القلق عن الصراع الداخلي الذي يجعل من المرء عبدًا لرغباته، الضروري منها وغير الضروري. ويأخذ القلق شكل الخوف: يخاف الإنسان من مستقبل غامض، من واقع اجتماعي اقتصادي مضطرب وغير مستقر.

إن وضع نهاية لهذا القلق يحتاج إلى قاعدة تنبثق من الإنسان، نسمِّيها القانون الداخلي أو الأخلاقي أو الروحي؛ إنه قانون يبرهن للإنسان بأن وجوده أسمى من أي موضوع يقلق بشأنه. وتُعَد هذه القاعدة قانونًا سرمديًّا يوجِّه الإنسان، ويرسم له طريقًا يوطد الإيمان بنفسه، بحياته ومجتمعه، ويجعله ينظر إلى الحياة الاجتماعية من منظار آخر يختلف كلَّ الاختلاف، ويقوِّم وجوده على أساس أنه غاية تسمو عن الغايات الأخرى.

12: القاعدة الذهبية

يقول عمانوئيل كنْط: الأخلاق فعل يتفق مع "قانون وضعته لنفسي ولا أجني شيئًا من ورائه". وعندما أطبق هذا القانون على الإنسان أجعل منه غايةً في ذاته. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نقول بأن الأخلاق قاعدة سرمدية لا تتبدل. فالفعل الأخلاقي أمرٌ لا يمكن التراجع عنه؛ وليس في مستطاع الإنسان أن يبدل من هذا الأمر شيئًا، كما لا يجوز له أن يُحدِثَ فجوةً في الفعل الأخلاقي لكي لا يُعتبَر ناقصًا.

أستطيع، وأنا أحقق فعلاً أخلاقيًّا، أن أجعل منه قاعدة عامة لسلوكي. ولا أستطيع أن أخرق هذه القاعدة إطلاقًا لئلا تتداعى أو تنهار. وإن أيَّ خَرْق لقاعدة الأخلاق، مهما يكُ بسيطًا، يُعَد تهديمًا للقاعدة كلِّها. فأنا لا أستطيع أن أوصي الآخرين بالامتناع عن الربح الفاحش غير المشروع، أو أنهاهم عنه، إن كنت أسمح لنفسي أن أربح بالطريقة التي نهيت عنها! تنهار قاعدتي الأخلاقية عندما أخرقها، جزئيًّا أو كليًّا.

لا تصبح قاعدتي الإنسانية فعلاً أخلاقيًّا ما لم أضع لها قانونًا لنفسي أطبِّقه، على نفسي وعلى غيري على حدٍّ سواء. وإذا اختلف التطبيق انهارت قاعدتي. لذلك تُعتبَر القاعدةُ التالية قاعدةً ذهبية للأخلاق: "لا تفعل بالغير ما لا تريد أن يفعله الغيرُ بك." من هذا القول تنطلق أخلاقي: أنا قاعدة الأخلاق. وهذه القاعدة تُطبَّق بالتساوي عليَّ وعلى غيري: لا يجوز لي أخلاقيًّا أن أطبِّق على غيري ما لا أطبِّقه على نفسي؛ كما لا أستطيع أن أفعل بالغير ما لا أفعله بنفسي. وهكذا تكون قاعدتي الأخلاقية نقطة انطلاق للإنسان في عالمه، فتكون للإنسان غايةً وهدفًا، بل ويكون الإنسان غايةً في ذاته. وقد أصاب عمانوئيل كنْط في كتابه تأسيس ميتافيزياء الأخلاق عندما قال: "افعل الفعل بحيث تُعامِل الإنسانية في شخصك وفي شخص كلِّ إنسان سواك باعتبارها دائمًا، وفي نفس الوقت، غايةً في ذاتها، ولا تعامِلْها كما لو كانت مجرد وسيلة."

هاهنا، في أعماقنا، يجثم وجدان نسميه الضمير. وقد وُلِدَ هذا الوجدان، أو الوعي، معنا ليكون دافعًا وهدفًا وغاية. فنحن ننطلق من الضمير لنعود إليه. إن هذا الوجدان يسجِّل أفعالنا كلَّها ويوجِّهها عندما نترك له المجال ليفعل فينا، ويهجرنا عندما نهمله. يموت هذا الوجدان بإهماله، وينهار الإنسانُ بموته هذا. ويُعَد هذا الوجدان قانونًا أخلاقيًّا في صدر الإنسان، نُحِتَ فيه منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد.

*** *** ***


[1] الغاية تعني الخير المطلق: لا غاية دون خير. وهكذا لا يجوز للإنسان أن يقول: غايتي هي أن أكون لصًّا أو كاذبًا أو مخاتلاً أو مستغلاً!

[2] ليس الخير الذاتي خيرًا لأنه ينقلب إلى شرٍّ في نهاية المطاف؛ هو لذة مؤقتة.

[3] الأخلاق هي الواقع أو الوجود كما يجب أن يكون. وينطبق هذا التعريف على الطبيعة والإنسان. الأخلاق فعل مبدع للطاقة الداخلية وطاقة الكون التي تسعى إلى تحقيق الوجود في كمال وجوبه.

[4] الشريعة المكتوبة هي مجموعة من "النواهي"؛ هي أخلاق وُضِعَتْ للنهي عن واقع وللردع عن خطأ. والشريعة الروحية هي شريعة غير مكتوبة بالحرف، بل شريعة مكتوبة في القلب والعقل؛ هي مجموعة من "الأوامر" – وهذا لأن الفعل الأخلاقي فعل آمر. الشريعة المكتوبة تنص على القاعدة الناهية "لا تكذب"، بينما الشريعة الروحية والخلقية تنص على القاعدة الآمرة "كن صادقًا" – والفرق بينهما كبير جدًّا!

[5] أعتقد أن نيتشه نفسه، وهو يرسم صورة السوپرمان، قصد أن يعبِّر عن أخلاقية عليا، تسمو عن الأخلاق الاجتماعية الضحلة المنافقة، لكنه أضاع الطريق والهدف.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود