|
في العاصفة[1] يا ألله! أمس
جاءني رسولُك نيسان، وعلى حقويه منطقةٌ من
شقائق النعمان والأقحوان، وعلى رأسه إكليلٌ
من النسرين والوزال، وقد لفَّ ذراعيه بالورد
والياسمين والريحان، وساقيه بالأرز والسرو
والسنديان. وكان
جبينُه سماواتٍ صافية زرقًا، وفي عينيه شموسٌ
وكواكب وأقمار، وفي فيه بلابل وحساسين
وشحارير وهمهماتُ مياه كثيرة، وعلى صدره
بحيراتٌ ومروج، وفي راحتيه جواهر لا تزال
مغلَّفة بالأسرار وعجائب ما برحت في الأكمام،
وقد تدلَّت من أطراف بَنانه عقودٌ من الآمال
الخضر تدغدغها وشوشاتُ نسمات بليلات. فما
إن وطئ عتبة داري حتى أعشبتْ عرصاتُها
واخضلَّت وكانت قبل جردًا ويابسة. وما إن
اجتاز العتبة إلى الداخل حتى أشرقت داري
وكانت عابسة، ورقصتْ حجارتُها وكانت جامدة،
وعبقتْ بالطيب وكانت معفونة. وما إن صافحتُه
حتى ماع قلبي في داخلي نعمةً وحبورًا. لقد
وددت لو يقيم الرسول عندي إلى الأبد. لكنه كان
على سفر. فما كاد يسلِّم حتى راح يودِّع. وإذ
ودَّعني ناولني كأسًا من الماء الزلال وقال: -
"اشربْها، ففي شُربها
الريُّ كلُّه." وانصرف. وحينما
رفعت الكأس إلى شفتي ألفيتُها مِلحة كالدموع.
فوضعتها جانبًا، وسألتك بحرقة العطاش وحيرة
التائهين: -
"دموع مَن في الكأس، يا
ألله؟" فما
أعطيتني جوابًا. * وبعد قليل، جاءني رسولُك تموز،
يا ألله. فاقتادني
إلى حقوله الذهبيَّة، حيث السنابل والمناجل
والبيادر، وحيث البهائم والعصافير، والفئران
والضبَّان، والنمل والنحل، وكلُّ ما هبَّ
ودبَّ، تسرح وتمرح في بحبوحة من كرم الأرض
وجود السماء. فحصد
كلانا مع الحاصدين، وجلسنا على النوارج مع
الدارسين، وذرَّينا القمح من الأحساك مع
المذرِّين. وشربنا الماء قراحًا من عيون
الأرض الحنون. وأكلنا الخبز مبلَّلاً بندى
ألف كفٍّ وألف جبين. وسهرنا تحت النجوم مع
الساهرين. ومشينا
كذلك – أنا ورسولك تموز – في الرياض
والبساتين. فصفَّق لنا الحَوْر والصفصاف
والزيزفون، وبخَّر لنا الرمَّانُ بمباخره،
ومال علينا التفاحُ بخدوده الحمر، ورنا إلينا
الخوخُ بعيونه السود، وعقد الكلُّ فوق رأسينا
سُرادقًا من الزمرد والياقوت والمرجان،
يقينا لفحةَ الشمس والرياح. فأثملتْني
غبطتي. ورحت أتمنى على الرسول أن يقيم معي إلى
آخر الدهر. لكنه
– هو كذلك – كان على سفر. فما عتم أن ودعني
تاركًا في يدي تفاحةً فائقة الجمال. وقد قال
لي عند الوداع: -
"كُلْها، ففي أكْلها
الشبعُ كلُّه." ومضى. إلاَّ
أنَّني عندما هممت بأكل التفاحة وجدتها قلبًا
آدميًّا ينبض. فاعترتْني قشعريرةٌ من أمِّ
رأسي حتى أخمصيَّ. وبيدٍ مرتجفة وضعتُ القلب
بجانب الكأس. وبشفتين مرتجفتين سألتك: -
"قلب مَن ذلك القلب، يا
ألله؟" وظلَّ
سؤالي دويًّا هائلاً في أذني. * وبعد قليل، أقبل عليَّ رسولُك
أيلول، يا ألله. وفي مشيته جذل يترنَّح، وعلى
شفتيه شهادةٌ من دم الكرمة، وفي عينيه وهجٌ من
روحها، وفي يديه فلذاتٌ من أكبادها، وعلى
ظهره دنٌّ من النبيذ المعتَّق. فهششت
للرسول وبششت، وألحفت عليه في دخول بيتي
للاستراحة من أثقاله ومن عناء الطريق. لكنه
أبَى الدخول، وأخذني بيدي وسار بي على بساط من
الكلأ الشائب والأوراق الكالحة، المفطومة عن
ثدي أمَّهاتها، والهائمة على وجوهها مع كلِّ
ريح ونسيم. وكانت
الشمس كأنَّ على وجهها نقابًا من غبار،
والهواء كأنَّ برأسه دوارًا وفي رئتيه
احتقانًا، والأرض كأنَّ بها نزيفًا
مستعصيًا، والسماء كأنَّها الرِّق ما خُطَّ
عليه شيء. ومازال
الرسول بي حتى بلغنا عين ماء رقراق. وما إن
جلسنا إليها حتى أنزل رفيقي الدنَّ عن ظهره،
فسقاني منه وشرب، وأطعمني من عناقيده وأكل –
وما كان أطيب ما أكلت وما شربت! فتمنيت عليه
ألاَّ يفارقني حتى يفارقني نَفَسي. لكنه
– هو كذلك – كان على سفر. فما لبث أن ودَّعني
من بعد أن ناولني حبَّتين من العنب لا غير،
وقال: -
"أشعِلْهما عند الحاجة،
ففي نورهما النورُ كلُّه." ثمَّ
تناول الدنَّ وأفرغه على الأرض قائلاً: -
"لتسكر هي كذلك." وعاد
من حيث جاء. ولما
رجعت إلى بيتي وفتحت يدي عن حبتَي العنب
ألفيتهما عينين بشريتين مغمضتين. فألقيتهما
على مائدتي بجانب الكأس والقلب وصرخت إليك
مذعورًا: -
"لِمَن هاتان العينان، يا
ألله؟" لكنك
ما أجبتني بشيء. * وأخيرًا، جاءني في ليلة
ليلاء رسولُك كانون – كانون الثاني الأصم.
فسلَّم بالعواصف والصواعق، وصافح بالبروق
والرعود. وما
هي غير ساعات قصيرات حتى وجدتُني قابعًا في
زاوية من زوايا بيتي، وأمامي موقدٌ فيه حطبات
نحيلات تلحس أبدانهنَّ ألسنةُ نار لعوب طروب،
فيقهقهن ويزغردن، وتطفر منهنَّ قلوبُهنَّ
شراراتٍ راقصات، ويرسب ما تبقَّى منهنَّ في
أسفل الموقد رمادًا بلا حراك. وعلى
قيد فترٍ مني هرَّتي البيضاء، وقد التفَّتْ
على ذاتها في شكل كعكة وراحت تغط غطيط مَن
يجهل الهمَّ والخطيئة. والريحُ
في ثورة وجنون، والبرقُ ينهش جِلد الجَلَد،
والرعدُ في غضبة الموتور، والبَرَدُ كأنه
وابلٌ من الرصاص، والظلمةُ قد دغمت الأرضَ
بالسماء. وعندما
خمدتْ أنفاسُ ناري، ونضب الزيتُ في سراجي،
وانطلقت هرَّتي إلى مسامرة الفئران
والجرذان، أويت إلى فراشي – وكان كأنَّه من
جليد – وقلت في نفسي: هنيئًا لمن له مأوى
وفراش في مثل هذا الليل، وإن يكن مأواه من طين
وفراشه من جليد! لكن
نومي كان سهادًا، وكان ليلي جهادًا. فالعاصفة
ما انفكَّت تدور من حول بيتي وتدور، نافخةً
بأبواق الجنِّ والعفاريت، صافرةً صفير
الهاويات السفلى، معولةً عويل الثكالى،
عاويةً عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود،
صاخبةً، ناقمةً، مولولة. وللرعد قصفٌ ودويٌّ
وترجيع، وللبَرَد على سطح بيتي ونوافذه
وجدرانه قعقعةُ آلاف الطبول يرشقها آلافُ
الصبية بالحصى، وللصقيع في بدني لسعاتٌ
موجِعات. حتى
خُيِّلَ إليَّ أنَّ العاصفة لن تهدأ قبل أن
تقوِّض بيتي من أسُسه وتطمرني تحت أنقاضه
بالثلج. وعبثًا حاولت طرد ذلك الخيال بخيالات
السماوات الزرق، والمروج الخضر، والخمائل
الغنِّ، والصحارى الملفوحة بأنفاس الهجيرة.
فما كنت أُبصرني غير لقمة ضئيلة في أشداق تلك
العاصفة الغضوب. عبثًا
حاولت أن أصمَّ أذنيَّ دون الفحيح والصفير،
وأن أزرع فيهما أغاني الجنادب، وزقزقة
العصافير، وحفيف الأوراق، وخرير الجداول،
حتى نقيق الضفادع في ليالي الصيف المقمرات.
فما كنت أسمع غير هدير الرياح وزمجرة الرعود. فرأيتني
صغيرًا، وصغيرًا جدًّا، ورأيتني ضعيفًا،
وضعيفًا جدًّا، يا ألله. وكان
آخر ذلك الليل – ولكلِّ ليل آخر. لكن آخر
الليل ما كان آخر العاصفة. فقد صبَّحتْني بمثل
ما مسَّتني من الضجيج والصخب، وبزمهرير أشدَّ
من زمهرير المساء. وما بُحَّتْ لها حنجرةٌ ولا
وهنتْ عزيمة. نهضت
من فراشي، والصقيع يلاحقني بألف منخز وناب،
فيعضُّ أصابع يديَّ ورجليَّ، ويَخِزُني في
كلِّ مسام بدني. فتصطكُّ أسناني وترتجف
مفاصلي. فأسرع إلى موقدي، وأضرم فيه نارًا،
وأشعر أني ربحت جولةً – ولو قصيرة – من جولات
عراكي مع العاصفة. فأستكن
إلى حين وأطمئن. وتحين
مني التفاتةٌ إلى النافذة، فأرى الثلجَ قد
غمرها حتى نصفها، وأرى الريح لا تزال تبذر
الأرض ببذار أبيض عجيب، وقد مَحَتْ منها
معالمَها، وخنقتْ كلَّ أصواتها، وحبستْ كلَّ
أنفاسها. فلا الجبال جبال، ولا الأودية أودية.
ولا أثر لبهيمة أو إنسان، أو لدويبة أو حشرة.
وبين الأرض والسماء لَبَدٌ من السحاب الأغبر
لا تنفذ العينُ من خلاله إلاَّ لمسافة خطوات
قليلات. وتدوم
حالي كذلك مع العاصفة ثلاثة أيَّام متوالية،
تنسدُّ في نهايتها منافخُ الريح، ويخرس في
خلالها الرعد، وتنفد جعبةُ البرق، مثلما تنفد
مؤونتي القليلة من الوقود ومن المأكول
والمشروب، وتحترق آخر نقطة من الزيت في سراجي.
فلا يبقى بيدي غير ثقاب واحد، لا أكثر ولا
أقلَّ. ويزحف
الجوع والعطش والبرد والظلام عليَّ من كلِّ
جانب. ولا يذر الثلج حتى لعيني منفذًا إلى
الخارج سوى نافذة صغيرة في أعلى الجدار.
فأتسلَّق سلَّمًا وأرسل بصري إلى الآفاق
القريبة والبعيدة. وهناك
أبصر ما لم تبصره عين، وأسمع ما لم تسمعه أذن. وماذا
أبصر وأسمع، يا ألله؟ أبصر
بساطًا فائق البياض، لا أوَّل له ولا آخر.
وأبصرك في وسط ذاك البساط، ومن حواليك جمٌّ من
بني الإنسان ومن سائر مخلوقاتك، وقد اشتبك
الجمعُ في عراك دامٍ عنيف. وأسمعك تعطي
الأوامر وتدير دفَّة العراك. ثمَّ أبصر – ويا
لهول ما أُبصِر! – أبصر سواقي من الدم القاني
تنساب على ذلك البساط الأبيض. والسواقي الحمر
تتجمَّع في بحيرات حمر. والبحيرات تتلاقَى في
يمٍّ أحمر هائج. وأنت في وسط ذلك اليمِّ تدور
من حولك أمواجُه الحمر وتتعالى، فتغمرك أعلى،
فأعلى، فأعلى – حتى منكبيك. ولكنك
لا تتزحزح. فأدعوك،
وأدعوك، وأدعوك. ولكنك لا تجيب. فأرتمي
خائبًا، خائرًا، مذعورًا، من أعلى السلم إلى
الحضيض. ولا أعلم مدى غيبوبتي عن نفسي وغيبتي
عنك. وأخيرًا،
أفيق وبي رجفةٌ من شدَّة الجوع والعطش
والبرد، وفي عيني ظلمةٌ دامسة. فأندب نفسي.
ويستسلم قلبي لشبح الفناء. * وإذ ذاك يهتف بي هاتف. فأذكر
نيسان وما أهدى إليَّ، وتموز وما أهدى إليَّ،
وأيلول وما أهدى إليَّ. فأجمع ما تبقَّى لي من
قوَّة وأزحف في ظلمتي إلى حيث الكأس والقلب
والعينان، وفي داخلي يأس صارخ: "أهذا كلُّ
جناي من ربيعي وصيفي وخريفي، يا ألله؟!" وأُقبِلُ
على الكأس فأجرعها ولا أبقي فيها ثمالة. وتجري
قطراتُها جَرْيَ السحر في بدني، فأحسها في
عروقي دمًا سخينًا وقويًّا. وأظفر
بالقلب النابض فألتهمه بشراهة. وللحال أشعر
بنشاط ما شعرت قبلُ بمثله قط، فأراني قديرًا
على امتطاء صهوات العواصف. وأقع
على العينين المطبقتين فأشعلهما بالثقاب
الباقي لديَّ. وفي لمحة تشرق عيناي بنور لا
عهد لهما بنظيره، فينحسر سقفُ بيتي من فوق
رأسي، وتتقلَّص جدرانُه، ثم تذوب في فضاء
طافح بالنور، عابق بالأريج. وإذا
بالبساط الأبيض سهلٌ فسيح، فسيح. وإذا ببحور
الدم مروجٌ تموج، وتموج بالأخضر وبالأصفر
وبالأحمر وبكلِّ ألوان الأرض والسماء. وإذا
بمخلوقاتك المشتبكة منذ لحظة في عراك الموت
والحياة تتعانق عناق الأخوَّة الأبدية في
أحضان أبوَّتك السرمديَّة، وبينها هرَّتي
البيضاء، تحيط بها جماعةٌ آمنة من الفئران
والجرذان. وإذا
بك، يا ألله، في وسط الكلِّ، ومن حول الكلِّ،
ومن فوق الكل، تغمرهم ببسمة من بسماتك،
وتُحْييهم بنسمة من نسماتك، وتهمس في كلِّ
أذن من آذانهم: "مَنْ لم يرتوِ بدموعه لن
يرتوي إلى الأبد" "مَنْ لم يتغذَّ بقلبه لن
يشبع إلى الأبد" "ومَنْ لم يُحرِقْ عينيه
لن يبصر إلى الأبد" والذين
ما سمعوا وما فقهوا اليوم سيسمعون – لا شكَّ
– في الغد ويفقهون. فما أجملك وما أعدلك وما أكملك يا ألله! *** *** *** [1]
ميخائيل نعيمه، البيادر
(1940-1944)، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت، 1980، ص 7-17.
|
|
|