|
شبكة الحياة 2 القيم الاجتماعية والبصيرة الروحية
في كلِّ زمن "انتقالي"، إبان الفترات التاريخية التي تحصل فيها تغيراتٌ خارجية ملحوظة، يوضع وعيُ الناس على المحك: فإما أن يستمدوا زخمًا جديدًا من التحدي الذي تطرحه الظروفُ المتبدلة سريعًا ويمهدوا بـ"قصف فكري" مكثف لتعزيز النمو الثقافي والعقلي والروحي للحضارة؛ وإما أن تطغى عليهم الأحداثُ المتسارعة، كونهم أكثر جمودًا وعطالة واتباعية من أن يستجيبوا استجابةً ملائمة للتغيير الحاصل؛ – وإذ ذاك، يبدأ كل شيء من حولهم في التحلل والتفسخ والانهيار. *** بتنا نحيا الآن في عصر يشهد تغيراتٍ خارجية هائلة: فالتكنولوجيا قد طالت بالتغيير حتى العشائر "البدائية" القاطنة في أنأى مناطق المسكونة؛ والمشاريع الحالية الضخمة، التي تيسِّر التكنولوجيا الحديثةُ القيامَ بها، باتت تؤدي إلى تدهور مناخ الأرض، فتتسبب في هطولات مطرية حامضية، وتُخِل بالتوازنات الحيوية في الغابات الاستوائية المطيرة، – رئة الأرض، – وهكذا دواليك، مؤثِّرة بذلك في حياة الناس ضمن نطاقات أوسع فأوسع. ففي المناطق المعمورة صار وَقْعُ التكنولوجيا على البيئة يتفاقم تفاقمًا مرعبًا. والثورة الإلكترونية، هي الأخرى، مجلبةٌ لتغيرات حاسمة، من شأنها أن تضع في خانة البوائد سيروراتٍ ونشاطاتٍ ذهنيةً مختلفة ووظائفَ كانت لا تستغني عن الذاكرة وعن الحسابات المتكلة على الذاكرة. وبعض الإنجازات الهامة في مجال العلوم إبان العقود الأخيرة غدا يستدعي إعادةَ نظر جذرية في النظرات النقلية التقليدية إلى العالم. ففي ظل إمكانية الخراب الرهيب التي تضعها أسلحةُ الدمار الشامل وبعضُ أنماط التكنولوجيا الفائقة التطور بين أيدي الناس، بصرف النظر عن أخلاقهم ومناقبهم، لم تعد مجديةً ممارسةُ ساما sāma، دانا dāna، بهيدا bheda، ودندا danda، كما كان الأمر في العصور السالفة[1]، لأنه من قبيل الجنون المطبق لعبُ هذه اللعبة السياسية في زمن يمكن لأيِّ نزاع محليٍّ أن يتسبب في كارثة على الصعيد العالمي. لم يعد في وسع البشرية قطعًا أن تفكر بالطريقة البالية نفسها في مسألة العلاقات بين الأمم والجماعات والشعوب. لقد أدى التطور التكنولوجي الجامح إلى تعزيز الوهم بأن التقدم مرهون بتحسين الأدوات والمهارات. صحيح أن الإنسان وُصِفَ بأنه "صانع آلة" Homo faber، لكنه دُعِيَ كذلك، منذ أيام أرسطو، بـ"الحيوان الناطق"، أي "العاقل"؛ وهذه العقلانية حصرًا هي التي مكَّنتْه من تحصيل المعرفة التي أثمرت عن العجائب التكنولوجية الباهرة. غير أنه يكاد أن يكون من غرار "عدم العقلانية" السعيُ المحموم في حياة تنافسية عدوانية تعوِّل على امتلاك أدوات تتصف بقدرة غير مسبوقة على التدمير. واليوم، بات الناس يدركون أكثر فأكثر أن الأزمة التي تكتنف المجتمع البشري، على الجبهات كلِّها، ليست ناجمة عن التكنولوجيا أو الأدوات التي ابتكرها الإنسان في حدِّ ذاتها؛ فالمشكلة كامنة في الإنسان نفسه، في إخفاقه وعجزه عن فهم القيم الجوهرية. المدنية المعاصرة لن تربح أو تخسر بمحض قدرتها على الإنتاج أو شن الحرب، بتضخيم مدنها أو توسيع تجارتها وحسب. فقط حين يتم إدراك الشروط الجديدة كليًّا للعالم الحديث، بوصفها تحديًا يستدعي إعادة النظر جذريًّا في القيم السائدة حاليًّا في مجتمعنا الاستهلاكي القائم على الصراع والداروِنية الاجتماعية المعمَّمة، يمكن لنا أن نأمل بحصول تقدم حقيقي. *** إن مفهوم "الغزو" من التغلغل في أذهان الناس بحيث صار شن الحرب واحدةً من أكثر السمات دمغًا للتاريخ البشري. وهذا المفهوم الشاذ، الذي لم ينجُ منه حتى الفضاء، يشمل اليوم، بالطبع، الاستيلاءَ على المصادر الطبيعية واستغلالَ القوى البشرية وتبنِّي جميع الوسائل والتقنيات المتوفرة في سبيل تحقيق أهداف من هذا القبيل. من هنا غالبًا ما تأسست القيم الاجتماعية على النفعية والمحلية. فنظام العبودية وقمع النساء والمستضعفين والتعذيب والفقر وسائر أشكال القسوة والمعاناة التي وُجِدَتْ في المجتمع البشري، في العصور والبلدان كلِّها، هي العاقبة المباشرة للإخفاق في الفحص عن صلاحية القيم المصوغة تلبيةً للمصالح الحصرية لمنطقة أو دين أو طائفة أو طبقة أو أية فئة أخرى من المجتمع وفي الاعتراف بإفلاسها إنسانيًّا – فالتفكير الاتباعي البليد مافتئ هو الغالب. ولكن مهما بلغ حجم الأدلة على الإفلاس الروحي للمجتمع الراهن – ودوام المعاناة هو أبلغ الأدلة قطعًا! – يزداد البشر تمسكًا بالقيم الأنانية الراسخة. مازالت العقائد السلطوية الجامدة للدين، في مناطق واسعة من العالم، تشكل أساس القيم الاجتماعية. المبادئ الإنسانية تُنتَهَك كل يوم من خلال فرض عقوبات همجية حتى على مخالفات طفيفة، حيث يُرجَع إلى حدود سلطة الدين "المعصومة". وهذه السلطة الدينية المزعومة هي التي تكرس كذلك منزلةً دنيا للنساء في المجتمع، فتحرمهن من حقوقهن الأساسية. وهذا مجرد مثال بسيط على كيفية انتهاك صارخ لقيم أساسية، من نحو المساواة والحرية، لصالح عصبة ضيقة من الأشخاص يستأثرون بالسلطة باسم الدين. والمصالح الضيقة الراسخة فاعلة كذلك في إشراط الناس على تبنِّي مواقف قومية أنانية وعدوانية، بحيث لا يستطيعون إلا أن يقسِّموا العالم ويوجِدوا اختلالات مأساوية في توازنه: بعض العالم يزدهر وينمو في الوفرة والبحبوحة المادية، بينما بعضه الآخر يُستغَل ويعيش في فقر مدقع. التشديد على القومية يحوِّل الرياضة حتى، كما في مباريات الألعاب الأولمپية وكؤوس كرة القدم، إلى ميادين لتنافس شديد يضفي عليها مظهرَ الاقتتال أكثر من اللعب. وآلة الپروپاغاندا تُستَخدَم لإشراط الغالبية الساحقة من الناس على الاعتقاد بأن قادتهم وحكامهم فضلاء وصانعو سلام، بينما الآخرون عكس ذلك. وبهذا تصير القومية الشوفينية ذريعةً وأداةً لبثِّ الشك والعداء؛ تتستر بلبوس الفضيلة، لكنها تنسل سوء النية والكراهية. والإنسان لم يكتفِ باستلاب نفسه من رفاقه البشر المنتمين إلى فئات أخرى وباستعدائهم – وهذه "الفئات" في التحليل الأخير من بنات أفكاره – بل عدَّ نفسه أيضًا خارج الطبيعة. كل شيء في الطبيعة، كل شكل من أشكال الحياة، يبدو، من خلال السلوك الذي يتبعه الإنسان المعاصر، كأنما هو مسخَّر له حصرًا، كأنه وُجِدَ من أجل استعماله الخاص. لقد باتت لذته و"معرفته" من الأهمية الفائقة بحيث إنه لا يستطيع إلا أن ينظر بعينيه النفعيتين نظرة منحرفة. فالفظائع المروعة الملازمة لتشريح مليارات الحيوانات وإجراء تجارب بالغة القسوة عليها في مختبرات الدول المتقدمة تُرتكَب، في الغالب الأعم، لمجرد التوصل إلى نتائج معروفة سلفًا أو للحصول على معلومات لا تفيد أية غاية نافعة[2]؛ يصح الأمر كذلك على الهمجية في معاملة الحيوانات في "المزارع الصناعية"، إلخ – كل ذلك يفتح "صندوق پاندورا"[3] النفعية. إن تدمير الطبيعة هذا التدمير الساحق وتصحير الأرض لا يتم إلا بدافع تلبية شهوات نفعية آنية. ولقد أشار عدد من التكنولوجيين "العقلاء" إلى أن المشكلات الناجمة عن سوء استخدام التكنولوجيا لا يمكن للتكنولوجيين وحدهم أن يحلُّوها. فمادامت شهوةُ الاستهلاك الجامحة متواصلةً، ومادامت الأخلاقُ النفعية تحكم العالم، لا بدَّ لمشكلات من نحو التلوث بأنواعه والتصحير من أن تتفاقم. لقد نبذ العالمُ القيمَ السامية، من نحو أهِمْسا ahimsā (كف الأذى، اللاعنف) والبساطة والكرامة، التي شددت عليها ثلةُ المستنيرين في العالم (ومنهم المهاتما غاندي)، لأنها تبدو "شخصية"، يوطوپية، ولا تتصل بالتقدم الأساسي للمجتمع. غير أن الأحداث في التاريخ الحديث بينت أنه لا يجوز التمييز بأيِّ شكل بين القيم الشخصية والقيم الاجتماعية: تغذية موقف قاسٍ في الفرد تضر بالمجتمع ككل. والقسوة الممارَسة منهجيًّا على الحيوان ترتد على البشرية؛ إذ إن الأذهان المعتادة على ممارسة القسوة والفظاظة على الحيوان لا تلبث أن تعامِل غيرها من البشر بالقسوة المجردة من الرحمة التي ظهرت في معسكرات اعتقال الحرب العالمية الثانية، وأقرب إلينا زمنيًّا، في سجن أبو غريب. حسب الضحايا أن يُنعَتوا بـ"الحثالة" و"أكياس الزبالة" scumbags (كذا!) حتى يصير كل شيء ممكنًا[4]. لقد بلغت القسوة المجانية حدًّا من الجنون يصعب تصوره لدى كائن يدَّعي المدنية نظريًّا، لكنه في الواقع "يفسد فيها ويسفك الدماء"، على حدِّ العبارة القرآنية البليغة. الذهن الذي لا يبالي بألم سواه في مجال معيَّن واحد لا يمكن احتواؤه أو الحؤول بينه وبين أن يكون عامل دمار في مجال آخر. فالكراهية والخوف والريبة، المبثوثة في أذهان شعب من أجل بلوغ أهداف "قومية"، يتشربها السلوكُ البشري برمته. والرفع من منزلة "التملك" قيمةً عليا يحرم العالم من موارده ومقدَّراته. فالرخاء الاجتماعي للإنسان يتوقف على صفات شخصية، كاللطف وبساطة العيش والصدق إلخ؛ وهذه باتت، أكثر من أيِّ وقت مضى، ضروريةً، لا لصحة المجتمع البشري وسلامته وحسب، بل لنجاة النوع الإنساني برمَّته من الانقراض! *** ما انفك العلم يكتشف يومًا بعد يوم تواكُل العالم بعضه على بعض، موفرًا بذلك للإنسان المعاصر أساسًا برهانيًّا للعمل على تحقيق وحدة الحياة بأسرها. لكن على الرغم من الأدلة التي لا تحصى المتوفرة حاليًّا لبيان أن الأجسام الحية جميعًا لا تبقى حية إلا من خلال منظومة معقدة من التعاون والتكيف والتوازن والتكامل – لعلها من تصميم عقل كوني – يستمر الإنسان في التصرف والسلوك وكأنه المرجعية النهائية لتقرير الصالح والطالح بين أشكال الحياة: مَن يجوز وما يجوز له أن يبقى ومَن لا يجوز وما لا يجوز له، وما هي الطرق التي يجب على المخلوقات الأخرى أن تواصل حياتها وفقًا لها. لقد ارتكب الإنسان حماقاتٍ بغير عدٍّ من جراء غروره وتوهمه الواثق اللذين يحجبان الفطنةَ الراقية للطبيعة عن بصره: أباد، مثلاً، ملايين عصافير الدوري في محاولة منه لتوفير الحبوب التي كانت تقتات بها، ليواجه هَلِعًا كارثةً أسوأ تسببتْ فيها الديدان والحشرات التي تكاثرت تكاثرًا مروعًا في غياب العصافير؛ فهذه العصافير التي عدَّها من "أعدائه" كانت في الحقيقة تُعاوِنه[5]. ضمن شبكة التعاوُن الشاملة للطبيعة، كل شيء يعاون كلَّ شيء، يتكل عليه، ويتكامل معه؛ جميع المخلوقات – كبيرةً وصغيرةً وضئيلةً – تتعاون من أجل تحقيق غاية مشتركة: الديدان تمضع التراب شاقةً لنفسها طريقًا عِبْر التربة، فتهوِّيها وتُخْليها من النفايات وتسمِّدها بغائطها؛ والوطاويط تطير في رشاقة مخترقةً هواء الليل، ملتقطةً البعوض المحتقن لتوِّه بالدم. ومن وراء مَضْغة هنا وطحن بالأسنان هناك، يستتر هديرٌ متبادل، كهدير أمواج بعيد يتكسر على الشاطئ – هو الصوت المتراكم لمليارات المخلوقات غير المرئية، المحوِّلة الصخرَ إلى تراب، المستخلِصة الآزوت من الهواء، المحوِّلة نفاياتِ الحياة إلى مغذِّيات تقتات بها النباتاتُ والحيواناتُ ونحن.[6] ويلحظ جون پ. وايلي، الذي أخذنا عنه المقبوس أعلاه، أننا لا نستطيع أن نحيا من دون الميكروبات وأن هذه تقوم بمعظم عمل العالم مجانًا؛ و"فيما تزداد الأمور ضيقًا قد ينتهي الأمرُ بها إلى القيام بالمزيد من عملنا نحن أيضًا"، على حدِّ قوله. فالمتعضِّيات المجهرية micro-organisms تنتج المضادات الحيوية والحموض الآمينية والكحول وموادَ أخرى لا تحصى؛ وقد تصنِّع يومًا النفط الخام، أو تقتات به حين يتسرب من ناقلاتنا العملاقة؛ وقد تركِّب الإنسولين والإنترفرون وهرمونات أخرى ضرورية للبشر. إذا تعاون الإنسان والطبيعة، فإن الطبيعة، بدورها، سوف تتعاون معه. مع أن المتعضِّيات المجهرية، التي يرتبط التفكير فيها عادةً بالأمراض، هي المعاوِنات غير المنظورة للإنسان ولسيرورات الحياة إجمالاً، فهي ليست وحدها تؤدي هذا الدور؛ إذ لكلٍّ من أشكال الحياة اللانهائية دورُه. والحكمة القديمة تشير فعلاً إلى وجود فئات عديدة جدًّا من الخلائق لا يعرفها الإنسانُ بعد وتشكِّل منظومةً إيكولوجية ecosystem واحدة، هي شبكة الحياة الخفية التي لا يطيق أي من عناصرها نبذ العناصر الأخرى. ففي الأعمال الفنية القديمة، من نحو منحوتات بوابات سانتشي Sanchi في الهند، التي تعكس النظرة البوذية إلى العالم، يظهر العالمُ بوصفه يعج بأنواع لا حصر لها من السكان، بعضها يبصره الإنسان وبعضها الآخر لا، وكلٌّ منها جزء لا يتجزأ من وجود متجلٍّ واحد، ولكلٍّ منها، ربما، دورُه في تنفيذ مخطط كوني يتخطى مدى ملَكاتنا الذهنية المحدودة.
سانتشي: البوابة الشمالية، الـستوپا الأول، تفاصيل من العَتَب. *** لعل الخطوة "التقدمية" المقبلة التي يجب على النوع الإنساني أن يخطوها لن تكون مأثرةً يقوم بها في الفضاء الخارجي، كاستيطان القمر، ولا تصنيع دواء جديد خارق يشفي من السرطان أو الإيدز، ولا ابتكار وسيلة اتصال مذهلة تفوق إمكانات الإنترنت، بل وعيُ أن كلَّ إنسان، في كلِّ لحظة، مدين لأشكال الحياة الأخرى كافة التي تساعد على المحافظة على منظومة الطبيعة التي لا يستطيع أن يبقى من دونها. إن لمعرفة الترابط والتواكل الكلِّيين، التي بات العلمُ يضعها تدريجيًّا في متناولنا، متاتًا عميقًا إلى العلاقات بين البشر أيضًا وإلى القيم التي لا بدَّ من السعي إلى ترسيخها في المجتمع البشري لكي تُكتَب له النجاة. وهذه المعرفة ذات الطبيعة العلمية والإيكولوجية إنما هي صدى خافت لسوية عميقة من البصيرة الروحية، مختصَرة في العبارة الحكمية السنسكريتية الشهيرة: سَرْفَم كهلْفيدَم برهم[7] – "الكون بأسره هو حقًّا برهمن" – التي توسع فيها الحكماءُ الهنود في عبارات أخرى عديدة، كما في أوپنشاد مونداكا: هذا الحق [برهمن] هو بالفعل مبطون في كلِّ مكان: في الأمام والخلف، يمنةً ويسرةً، تحت وفوق. هذا الكون الشاسع بأسره هو برهمن. يفترض وجودُ المجتمع والحضارة التعايشَ معًا وتعلُّمَ كيفية التعاون والقيامَ بتدابير مشتركة من شأنها أن توطد شعورًا بالنظام والتناغم والسلام والجمال، مع السعي، في الآن نفسه، إلى صون حرية كلِّ فرد، التي لا مندوحة عنها لنموِّه حتى ملء شعوره بالكرامة الحق وتفتح إمكاناته الكامنة كلها. إن تعلُّم فن العلاقة هو من سمات الحكمة. ففي المجتمعات النقلية والبسيطة، كان ثمة فهم طبيعي لترابط مظاهر الحياة كافة؛ وقد عبَّر لديها عن نفسه في الإحجام عن القتل المجاني من غير طائل في أوان الصيد: حين يصطاد محاربو الدنكا الأفارقة (منطقة النيل الأبيض) فرس النهر، يبقرون جوفه، ويدخل أحدهم فيه، فيجثو أمام العمود الفقري ويتلو لراحة نفس فرس النهر (التي يعتقد أنها كامنة في نخاعه) الصلاةَ التالية: أيا فرس النهر العزيز الصالح، اغفر لنا قتلَك، إذ لم نفعل ذلك عن خبث، بل لأننا في حاجة إلى لحمك. لا تقل لإخوتك وأخواتك إنك قُتِلْتَ، بل قل لهم إنك تحب البشر كثيرًا. فنحن أيضًا نحبك كثيرًا ونأكل لحمك راضين. أما إذا كنت مستاءً، فهلا قلتَ لإخوتك وأخواتك أن يبتعدوا، وبذلك لن نحصل على اللحم. تلي ذلك رقصاتُ "طقس الخروج" الرامية إلى تحرير الصيادين من شهوة القتل وإخراجهم من مناخ الصيد الدموي لاسترجاع المزاج السِّلمي اليومي[8]. أما الهندي الأمريكي، فكان يعلم أنه مملوك للأرض، لا مالك لها. فهذا ما قاله الزعيم أحمر الجِلْد سياتل في العام 1854: هذا ما نعرفه: الأرض ليست ملكًا للإنسان، بل الإنسان مملوك للأرض. هذا ما نعرفه: الأشياء كلها مترابطة، كالدم يوحِّد الأسرة الواحدة. ليس الإنسان مَن نَسَجَ شبكة الحياة؛ وكل ما يفعل بالشبكة فبنفسه يفعله. في أسلوب الحياة المعقد، الذي هو الأسلوب الحديث، من الأصعب بكثير وعيُ أن الحياة واحدة في تجلياتها اللانهائية وأن الإنسان ليس إلا هباءة ضئيلة في كون رائع شاسع لا حدود له. من هنا يلزم الإنسان أن يدرك أن أية قيمة يتبناها وتعاكس حقيقة الترابط والوحدة الجوهريين لا بدَّ أن تكون عاقبتُها الفوضى والشقاء. ومن هنا أيضًا ضرورة انطلاقةٍ شجاعة لإدراك أن الكثير من المواقف والمسالك التي مافتئت تُعَد "طبيعية" في نظر الكثيرين ليست من الطبيعة بخلٍّ أو بخمر، لأنها تُناقِض وقائعَ الطبيعة. إن تبنِّي قيمة عليا كاللاعنف والعمل بها بات يتطلب اليوم شجاعةً استثنائية، لأنه يبدو للمرء اليوم وكأنه لم يعد في إمكانه البقاء من غير أن يفعل ما يفعله الجميع، كما يفعله الجميع. لكن المنطق البسيط حاسمٌ في تشخيص المعضلة: بما أن الجميع يتبنى العنفَ والحربَ حلاً للخلاف، والاستهلاكيةَ والجشعَ أساسًا للاقتصاد، والنفعيةَ والأنانيةَ قاعدةً للسلوك، بوصفها حتميات لا مفرَّ منها، فقد أمست الأرض – أمُّنا جميعًا – مكانًا خطرًا تعسر الحياةُ فيه[9]. *** النظرة الروحية إلى الأمور تعني، في جملة ما تعنيه، العملَ وفقًا لمبادئ وقيم صحيحة إطلاقًا، وليس وفقًا لقيم ومبادئ "نسبية"، تتكيف بحسب الزمن والظروف. والقيم المطلقة مرتبطة بوقائع الطبيعة ومنطقها الداخلي، وليس بالتلاؤم والأنانية ووجهات نظر "الاختصاصيين". المستنيرون، المتحققون بالحقيقة، من أمثال البوذا وغيره من حكماء الإنسانية الكبار، يدركون معنى الحياة وغائيتها والقيم المطلقة متجلِّيةً في كلِّ موجود؛ ولأنهم يحيون في انسجام مع ذلك التحقق، فهم يجسدون في أشخاصهم المحبة والرحمة. أفعال حياتهم أمثلة على سلوك ليس بالضرورة "حكيمًا" من وجهة النظر الدنيوية، لكنه صحيح إطلاقًا لأنه تعبير عن مقام المحبة والرحمة الشاملة الذي بلغوه، متحررين تمامًا من أية دوافع أو مصالح شخصية. أجل، إن "الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس"، على حدِّ قول القديس بولس (1 كورنثوس 1: 25). ما من واحد من المعلمين الروحيين الكبار شدد على شيء غير معرفة النفس المفضية إلى اليقظة الداخلية على الحقيقة؛ إذ إنه من دون "يقظة" كهذه يؤول كل ما يفعله الناس إلى العبثية والشقاء. كل محاولة لإعادة البناء الاجتماعي تنتهي إلى الجمود في أُطُر ناجزة وإلى استغلال بعض الأشخاص الأنانيين للسواد الأعظم من أقرانهم، وذلك لأن تغيير القوالب الخارجية وحده، من دون اليقظة الداخلية على الحقيقة التي هي المحبة، يبوء بفساد الأشكال. لقد نشبت ثورات متنوعة إبان مجرى التاريخ، لكنها أخفقت في إنجاز ما انتدبت نفسها له: "حرية، مساواة، إخاء" يكاد ألا يكون غير شعار لإسقاط نظام سياسي وإحلال آخر؛ إذ إنه لم يجلب أيَّ تغيير في العمق. ولا فَعَلَ ذلك ادعاءُ أولئك الذين تكلموا على كيفية زوال الدولة تدريجيًّا بعد إنجاز الثورة؛ فدولتهم نفسها آلت إلى آلة استبدادية وحشية للسيطرة على الأفراد. غير أن المرء العاقل لا يجوز له أن يدحض كلَّ جهد يرمي إلى التحسين والبناء على الصعيد الخارجي؛ ولكن، إلى جانب ذلك، لا بدَّ من وجود ما يكفي من الوعي الجليِّ، البصير بأهمية التعرف إلى أسرار الحياة وحقائقها الباطنة – وإلا فلن يكون ثمة غير إخفاق مستمر. إن القمم التي تبلغها حضارةٌ ما تتوقف على عمق تجذُّر البحث عن الحقيقة، عِبْر الاستقصاء الفلسفي والجهاد الروحي والبحث العلمي، في ثقافة الناس، وعلى مدى ارتباط القيم الاجتماعية بالرؤى الروحية الحاصلة. فالفلسفة والدين والعلم يمكن أن يكون لها – ويجب أن يكون لها – تأثيرٌ ووقْعٌ على مسائل العلاقة الإنسانية ونوعية الحياة والمجتمع الإنسانيين. كل ركن من أركان هذا الثالوث درب إلى الحقيقة؛ وللحقيقة خاصية تحويل النفس تحويلاً جذريًّا لا رجعة عنه. فكما قال المعلِّم الناصري (إنجيل يوحنا 8: 32): "تعرفون الحق، والحق يحرركم." وكلمة "حق" هنا تحوي كلِّية القيم المطلقة والفاعلة إيجابيًّا في حياة الإنسان. *** *** *** [1] تشير هذه المصطلحات السنسكريتية الأربعة إلى الخطوات السياسية المتتالية الموصى باتخاذها في الفيدا الهندوسية للتعامل مع الخصوم: يشير ساما إلى الوفاق السياسي الرامي إلى تحويل الخصم إلى صديق؛ فإذا لم تُجْدِ "الحسنى"، يتم اللجوء إلى دانا، السماح والترغيب (بالهدايا)؛ فإذا لم يعترف الخصمُ بالسماح وأبى قبول التعويض المقدَّم له، يأتي دور بهيدا، الذي يشير إلى إحداث "الشقة" والتهديد المبطَّن بالقطيعة والخلاف؛ وأخيرًا، إذا لم يرتدع الخصمُ واستُنفِدَتِ الأساليبُ الثلاثة السابقة كافة، فلا بدَّ من استخدام دندا ("القوة") ضد الخصم وقتاله بغية إخضاعه. [2] من الأمثلة الكثيرة على ذلك تسبُّب شركة بريطانية لمستحضرات التجميل في إصابة مئات الأرانب بالعمى من جراء اختبارها نوعًا جديدًا من "المَسْكرة" على عيونها! [3] پاندورا، في الميثولوجيا الإغريقية، هي المرأة الأولى في تاريخ الإنسانية، قدَّمها الآلهةُ للبشر عقابًا لهم على غرورهم؛ وهي المسئولة عن استشراء الشر على الأرض، إذ فتحت الصندوق الذي وضع فيه كبيرُ الآلهة زفس أسباب الشقاء البشري، فانطلقت منه الشرورُ كلها، حتى لم يبقَ فيه إلا الرجاء. [4] نشرت صحيفة El Mundo الإسبانية مؤخرًا أن شرطة برشلونة اعتقلت ثلاثة شبان (أحدهم لم يتجاوز السادسة عشرة) أضرموا النار في امرأة متشردة بدافع التسلية (كذا!) ليس إلا؛ وقد توفيت المرأة لاحقًا في المستشفى متأثرة بالحروق التي أصيبت بها. [5] مثال آخر: شهد الساحل السوري منذ عقد ونيف تكاثرًا غير مسبوق في عدد قناديل البحر التي لسعت عددًا كبيرًا من المستحمين. وقد بين البحث أن هذا التكاثر غير السوي ناجم عن رمي النفايات الپلاستيكية في البحر، ولاسيما أكياس النايلون التي التبست في أعين السلاحف البحرية بقناديل البحر، غذائها الطبيعي، فأكلتْها وانسدت مصرانها ونفقت؛ وهكذا تكاثرت القناديل في غياب "أعدائها" الطبيعيين. [6] John P. Wiley, The Smithsonian, July 1981. [7] Sarvam khalvidam brahma. [8] كذلك، كانت ثمة حكمة ما في عقل آكل اللحم البشري، إذ صُدِمَ حين علم بمجزرة الملايين من البشر في الحرب العالمية: لم يستطع أن يتفهم وحشية القتلة الذين لم تكن بهم حاجةٌ إلى الطعام! [9] في مقابلة مع رائد الفضاء السعودي الأمير سلطان بن سلمان نشرتْها صحيفة الحياة (19 تموز 2004)، قال معلقًا على منظر الأرض من الفضاء الخارجي: "[...] منظر الكرة الأرضية كان مبهرًا أكثر، لأن الكرة الأرضية هي وطنك. ووجودك في هذا الفضاء المعتم يعطيك بُعدًا آخر لموقعك كإنسان في الكون. أنت في الكرة الأرضية كأنك تعيش في داخل بيتك، ولم يحدث لك أن رأيته من الخارج؛ ثم تذهب مرة إلى جبل، وتنظر منه إلى بيتك أو قريتك التي تسكن فيها... هذا هو الانطباع الذي خرجت به: كأن الأرض كلها منزل رأيته في محيط الصحراء الكبير أو محيط الغابة الكبيرة. هذه النظرة تؤثر في الإنسان تأثيرًا يبقى زمنًا طويلاً قبل أن يمحى... تشعر بأن كوكبنا الذي نعيش عليه، أي الأرض، هو "الكوكب–الوطن"، تشعر أن الأرض هي وطن لنا جميعًا [...]. بسبب ذلك، مازلت أجد صعوبة في فهم الصراعات التي تحصل في العالم اليوم، وفي تفسير الناس لهذه الصراعات التي لا تعطي الانطباع بأننا نعيش في وطن واحد، في بيت واحد، مصيرنا واحد ومستقبلنا واحد... الاختلافات بيننا، سواء كانت دينية أم عرقية، [...] فكرية أم سياسية، اختلافات يجب إعادة النظر فيها." |
|
|