حين يَعبُر مفهومُ "السِّيادة"

الحدودَ والقوميَّات

 

حبيب معلوف

 

في وقت تُطرَح قضايا "الاستقلال" و"السيادة" و"الحرية" عند معظم القوى السياسية في العالم العربي – ولبنان خاصة – باعتبارها سيادة الدول أو سيادة مجموعات شعبية على أرض محددة، حاصلة على الاعتراف الدولي المطلوب، مع الاستعانة بكلِّ المخزون الكلامي والإرث البلاغي لترسيخ ما يسمَّى "الهوية" وتجذيره، واللجوء إلى مقولات التاريخ والجغرافيا الداعمة كافة أيضًا – في هذا الوقت، نقول، تغيب تلك الأصوات كلها عن مقاربة قضايا لا تقل حيوية وخطورة وتأثيرًا، مثل "السيادة على الغذاء" والحرية في التحكم بأساليب الزراعة واختيار البذور وحفظها، بالإضافة إلى المحافظة على "استقلالية الجينات البشرية"، بعد "التطور" الذي حصل على مستوى الاستنساخ والتلاعب بجينات كلِّ ما هو حي.

فما معنى الاكتفاء بالحديث عن مفاهيم مثل "التحرير" و"الاستقلال الوطني" في ظلِّ الاستسلام التام لأسطورة التقدم والتفوق العلمي والتقني (الخارجي طبعًا) على المستويات كلِّها؟ وكيف يمكن لنا أن نفهم تلك المفاهيم الملوَّح بها، والمتداوَلة كلَّ يوم في البلدان النامية، في ظلِّ الانبهار بمنجزات العلم (الغربي)، والإحساس بالدونية، ومحاولة اللحاق والتقليد والنسخ في شتى المجالات؟ – في وقت لم يعد العلم من أجل العلم، ولا المعرفة من أجل المعرفة، ولا من أجل الإنسان، بل من أجل التوظيف العملي والربح، وذلك بالترافق مع انحسار دور الدول في الإدارة والتحكم وتمويل الأبحاث، والاستفادة منها من أجل تحقيق خير عامٍّ ما، وذلك لمصلحة القطاع الخاص الذي يهدف، في الأساس، إلى الإنتاج والتسويق والمتاجرة والربح، ولو بالإنسان وأعضائه وموارد عيشه الطبيعية الرئيسية!

ففي زمن العويل على "السيادة"، يبشِّرنا "العصر الجينومي" بأن الإنسان بات قاب قوسين من أن يفقد السيادة على نفسه، على جيناته، على خصوصيته وفرادته، وعلى حقِّه في أن يكون هو نفسه. لقد انتقل العالم من حكم الدكتاتوريات العسكرية إلى استبداد "الدكتاتوريات الجينية"، حيث تحصل عمليات الغزو الحديثة كلها عِبْر الكائنات المعدَّلة جينيًّا بدلاً من السلاح.

منذ الإعلان الرسمي عن مشروع "الجينوم البشري" في الخامس عشر من شهر شباط من العام 2001، وقبل هذا الإعلان حتى، وجدالٌ واسع يدور، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية كافة، متركزًا حول أسئلة محورية، بينها: مَن يمتلك الجينوم البشري؟ مَن يتحكم؟ مَن يراقب؟ ولِمَنِ السيادة؟ ولِمَن سلطة القرار في تعديل الجينات البشرية و"التلاعب" بها؟

فإذا كان كل إنسان عاش ويعيش أو سيعيش على هذا الكوكب يمتلك جينات لا مثيل لها على الإطلاق في تركيبها الحَرْفي، وكان يشكل نسخة فريدة في تركيبها الوراثي – ما يدل على وجود تنوع هائل في الوجود الإنساني (كما في الطبيعة)، هو الذي يحفظ للحياة ديمومتَها ومعناها – فمَن له الحق في استخدام تقنياتٍ لتغيير التركيب الوراثي لخلايا نقل المورثات من كائن إلى آخر ولإنتاج كائنات حية جديدة؟ مَن يحق له استخدام تقنيات في عمليات التكاثر البشري، كاستخدام الاستنساخ أو محاولات التحسين الوراثي للنوع عن طريق اللعب بالجينات، التي يمكن لها أن تؤدي إلى القضاء على التنوع الطبيعي الذي تتمتع به كلُّ الأنواع والأجناس التي تتعايش على هذا الكوكب؟ – مع العلم أن لا أحد يستطيع أن يعرف أو يجزم بالانعكاسات على مستقبل الجنس البشري عندما سيتم استخدام الاستنساخ في عملية التكاثر، حيث سيتم خلق أنواع متماثلة ومتطابقة، وبالتالي، تحطيم قاعدَتي التنوع والاصطفاء الطبيعي التي بُنِيَ عليها وجودُنا!

فكيف يمكن لشركة أو لهيئة أو لشخص أو لدولة أن تمتلك حقَّ التحكم بالجينات والتلاعب بها؟ – خصوصًا إذا عرفنا أن من وراء هذه القصة (المعرَّفة بأحرف الشيفرة الوراثية)، منذ بداية تطورها، رغباتٍ فاضحةً وواضحة في الربح المادي، لاسيما في مجال استخدامها في التطبيقات الطبية. وقد أصبحت هذه المخاوف يقينية بعدما بدأت المناداةُ باستصدار "براءة اختراع" عن كلِّ مورِّثة تجري معرفة حروفها، على أن تسجَّل هذه "البراءة" باسم الشخص أو الشركة التي توصلت إلى فك الحروف، وأن تُعمَّم قوانينُ البراءة (تحت عنوان "حماية الملكية الفكرية") على العالم، تمهيدًا للاتجار والاحتكار – مع ضرورة التنبه إلى أن اللغة الجينومية (التي لم تُكتَب بيد أحد!) يجب أن تبقى كما هي، دون أن يمتلكها ويتلاعب بها أحد، كائنًا مَن كان.

من جهة أخرى، يعرف المتابعون أن ما قدمتْه الهندسةُ الوراثية في مجال التحسين الوراثي لدى النباتات (وبذورها) والحيوانات هو أكثر بكثير من التطبيقات التي أُجرِيَتْ على الإنسان. فمنذ سنوات والمهندسون الوراثيون (مهندسو الشركات) يقومون بإنتاج النباتات والبذور المعدَّلة جينيًّا، ولاسيما الذرة والقطن وفول الصويا والكانولا، بحجة مقاومة الأمراض، والتخفيف من استخدام المبيدات الكيميائية، وزيادة الإنتاجية (تحت ذريعة مكافحة الجوع) – مع الإشارة إلى أن الثورة الزراعية الأولى التي أدخلت المواد الكيميائية في الزراعة كانت قد أطلقت الوعود نفسَها في بدايتها، ولم نحصد منها غير زيادة الفقر والاستغلال وتلويث التربة والمياه والغذاء إلخ؛ وكذلك الأمر بخصوص التعديلات على الحيوانات التي بدأت مع القرود، ثم مع النعجة "دولي" الشهيرة، بالإضافة إلى إنتاج سلالات جديدة من الأبقار التي "تتمتع" بقدرات أكبر على إنتاج الحليب واللحم إلخ.

هذه التعديلات على الإنسان والحيوان والنبات تعني، في الحاصل، إطلاق كائنات جديدة في الطبيعة، تمَّت معالجتُها بالطرق الجينومية، ويمكن لها أن تطلق إلى العالم أوبئة جديدة أيضًا. وكلما حصل استنساخ وتماثُل سَهُلَ انتقالُ الأوبئة وانتشارها والقضاء، بالتالي، على أفراد النوع الواحد (التي بينها النوع الإنساني) بطرق أسرع وأفعل!

ومن دون أن ندخل في الجدل الحاصل حول مدى تأثير النباتات والحيوانات المعدَّلة جينيًّا على الصحة والبيئة، هناك حقيقة أصبحت أمرًا واقعًا: لقد بدأت الأغذية المعدَّلة وراثيًّا تجتاح الأسواق العالمية قبل أن تُستكمَل دراسةُ حقيقة تأثيرها الصحي (على صحة الناس) والإيكولوجي (على المحيط الحيوي والطبيعي للنباتات المعدَّلة)، على المَدَيين المتوسط والبعيد!

فالحقيقة الثانية هي أن هناك تلاعبًا وتغييرًا قسريًّا في تكوين جينات الكائنات الحية (الإنسان والحيوان والنبات)، وتغييرًا في أنظمتها الطبيعية، وعملية خلط خطيرة للأنواع، لا أحد يستطيع أن يتكهن بمدى تأثيراتها على ديمومة الحياة على المدى البعيد!

اقتراح إعلان مبادئ

انطلاقًا مما تقدَّم، نقترح على المنظمات غير الحكومية الناشطة في متابعة هذه القضايا مسودة إعلان مبادئ عامة، تحدَّد من خلالها الخلفيةُ القيميةُ لتقييم دور لمجتمعات والحكومات، والاتفاقيات والقوانين التي يتم التحضير لها، وكيفية مواكبة هذه القضية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. من هذه المبادئ:

1.     احترام التنوع البيولوجي (الحيوي) وحمايته في أية منطقة.

2.     احترام مبادئ الديموقراطية وحفظ حقوق الأجيال الآتية.

3.     احترام تراث المزارعين وخياراتهم، ودعم الزراعات التقليدية الخالية من استخدام المبيدات والأسمدة الكيميائية والهندسة الجينية وتشجيعها.

4.     التشديد على دور الحكومات والدول في حفظ الموارد الطبيعية، وعلى استعادة هذا الدور الذي بدأت تتنازل عنه لمصلحة شركات تبتغي الربح وحده.

5.     والتشديد على دور منظمات الأمم المتحدة، واستعادة أدوارها وسلطتها في الحماية والرعاية وسنِّ التشريعات والقوانين الدولية، البعيدة عن المصالح الضيقة، وعدم التنازل عن هذا الدور لمصلحة منظمات تجارية، كمنظمة التجارة العالمية على سبيل المثال.

6.     إيقاف منح براءات الاختراع ومنع تملُّك كل ما هو حي.

7.     إخضاع مراكز الأبحاث لرقابة الأمم المتحدة، ومراقبة الهيئة الدولية والدول لتمويلها في خدمة الحياة والإنسان، لا في خدمة الاقتصاد والتجارة وبعض الشركات المعنية.

8.     ضبط التزايد السكاني، بدلاً من اللجوء إلى التعديلات الجينية للكائنات الحية.

9.     التأكيد على أن مشكلة الغذاء والفقر تكمن في سوء التوزيع والإدارة، وليست مشكلة إنتاج.

10.احترام حقوق الناس، ولاسيما حقَّي المعرفة والاختيار.

11.وضع مواصفات ومعايير عالمية للأغذية وللمختبرات والأجهزة، والتأكد من مطابقتها لهذه المواصفات والمعايير.

12.إنتاج ونشر وتعميم ثقافة غذائية بديلة، تشجع الاتجاه إلى اعتماد الأنظمة الغذائية النباتية، والتخفيف من الأنظمة الحيوانية ومشتقاتها.

13.إنتاج وتعميم نظام قيمي وأخلاق علمية بديلة، تقوم على احترام أسُس الحياة والتوازنات الدقيقة في الطبيعة، وعدم العبث والتلاعب بها، وعدم تحويل العلماء إلى مجرد "خبراء" وموظفين عند شركات تبتغي الربح، وإعادة الاعتبار لفلسفة العلم وللمعرفة المتحررة من التوجُّهات النفعية والاستغلالية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود