|
سُــعَـار الرَّاوية ترفع صوتَها عندما تريد!
أمام ظلال الأدمُع المقمرة، أمام زورق الأحلام الغانية وسحر النجم القصي، المتدثِّر قبة الوجود، ينحني قلمُ بثينة العيسى ليشارك في عملية تضميد جرح لا يزال ينز – جرح المرأة العربية. روايتها الجديدة سعار[*] دعوةٌ إلى فكِّ عقال المرأة، واعتبارها عنصرًا يحرك المجتمع، واحترام رأيها ومشاعرها؛ وهي ثورة ضد الخنوع وممارسة الحَجْر. سعار خطٌّ أحمر يفصل بين الهامش والمتن.
في الجزء الأول – الهامش – تنجلي قصةُ فتاة تدعى سعاد، يُنهِكها التعبُ والجمود. مهشَّمة، راضخة، تَعرِض الزواج على حبيبها السابق مشعل، بعدما رفضتْه وابتعدتْ عنه خمسة أعوام. ترسم الراوية ملامح الدهشة التي تنتاب هذا الشاب الطيب حيال تصرفات الفتاة. فما الذي حثَّها على فعل كهذا؟ من النهاية تبدأ الرواية. تعود بالأحداث إلى الوراء: اللقاء الأول بمشعل، والرسائل المتبادلة، التي تتخلَّلها بعض الأحداث الوطنية والاستغلال الذي عانى منه كلٌّ من الكويتي والعراقي في مجابهة الأجنبي. الجزء الثاني، على متن أرض تنجلي عليها حقيقةُ تصرفات الفتاة، يعرض لأساليب "حضارية" لوأد البنات بطريقة غير دفنها تحت التراب: المجتمع الخليجي يدفنها حية، يزجُّ بعقلها، ثقافتها، أنوثتها، حياتها كلَّها، في قمقم التخلف الذكوري. في أسلوب انسيابي خالٍ من الصنعة، وبلغة أدبية راقية، تلقي بثينة العيسى الضوءَ على طفولة صامتة: خلية أُجبِرَت على الخروج من رحم والدتها. لا تتكلم إلا نادرًا – فالصوت هو الرعب في ذاته! لغتها القلم، يدوِّن كلَّ ما تسمع، وكلَّ ما تريد قوله. تعيش البطلة طفولة فريدة: تمضي وقتَها في "الدولاب" (الخزانة)، تستمع إلى أحاديث زوَّار أبيها الشاذة والمرعبة، من دون أن يراها أحد أو يشعر بوجودها حتى. ترغب في معرفة كلِّ شيء، حتى خيانة والدها لأمِّها التي ماتت قديسة. يجسِّد هذا الدولاب الألم الحاد الذي ينتابها. سببُه رجلٌ يكشف مكانها السرِّي، فتحسُّ معه بالمودة والأمان. قصةٌ أوَّلها الكلام الجميل والرقيق، واستجلاء أوجُه الفضيلة والمشاعر. مشعل يحثُّ حبيبته على القراءة والكتابة في سبيل التقدم، إلى أن تبدأ عوارضه المنبعثة من الاستبداد والسلطة بالظهور. يخطِّط لامتلاكها بأنانيته وعجرفته؛ حتى إنه يريدها أن تكتب كما يريد هو، ومتى يريد هو – إلى أن تتجرأ وتصرخ: "أنا الراوي، سأرفع صوتي عندما أريد وكيفما أريد." يهزُّه صوتها المدوِّي الذي يهدِّم أسوار الجهل والحرمان. يعتريه الوهن، يفقد توازنه حين تسأله عن المستقبل. تكبِّل عزيمته وشرفه الملطخين بمحاولات الاغتصاب والتخدير، وتقطع مخالبه الحادَّة. سعار رواية تثور على القيود، تطرح قضايا إنسانية، وطنية، معادية للسلطة وللإلغاء. بطلتها، سعاد، تتمنَّى ما تتمنَّاه كل امرأة عربية: أن تعيش أفكارَها وحياتَها ومشاعرَها من دون قيد أو شرط وبلا تصنُّع. لهذا تطلب لقاء مشعل، تشعر بأنها في أمسِّ الحاجة إليه: "أرادت أن تلعب معه قصة سندريلا"، تقول العيسى. فهو لطالما أحبَّها في صدق وخجل قضى عليه: "فمع احتراقه حتى عظامه لم يتجرَّأ ويتخلَّى عن تكتُّمه" إلا بعد فوات الأوان. في لقائهما على الشاطئ، عندما أصبحت يدُه "بارعة في القبض على كتفها وصنع دوائر"، لا تستطيع سعاد إلا أن تتذكَّر الرجل الجبان الذي كان يسكنه. تلعنه، وتاليًا تفقده، ومعه تفقد الثقة نهائيًّا بالرجال الذين، في رأيها، لا يبحثون إلا عن شهواتهم. هذا العالم الروائي، بما فيه من أبطال وأحداث وأشياء، يبدو مشدودًا إلى محرِّكات خفية، تديرها بثينة العيسى وفق خطة مرسومة وجريئة، تجسِّد الواقع المعيش في صدق وشفافية وتقنية أدبية – واقع القيم القبلية المجحفة والمكبَّلة بتقاليد مجتمع تسكنه سلطةُ التملُّك الذكوري. ***
ماذا تقول الكاتبة عن كتابها؟
أنا امرأة خليجية ومن بيئة حنبلية، لكني لست ضحية
مَن تكونين، يا بثينة العيسى، ابنة الثانية والعشرين، التي نلمح في لغتكِ الكثيرَ من النضج؟ من أية خلفية تأتين؟ ومتى بدأتْ تظهر فيك ملامحُ الكاتبة، وكيف تبلورتْ؟ لا أعتقد أني أملك تلك المسافة الفاصلة بيني وبيني لأنظر إلى ذاتي من بعيد وأحدِّد معالمَها في إطار، لأعرِّف بها إلى القارئ بطريقة مرتبة أو أقل تشويشًا. معظم ما أعرفه أنني أحببتُ أن أكتب طوال حياتي، أنني قررتُ أن أكتب طوال حياتي، وأنني سأستمر. ملامح الكاتبة تخلَّقتْ في بداية سنتي الثامنة في صيغة مذكرات دونتُ فيها ما يحدث في أثناء الاحتلال العراقي للكويت. استمرَّتْ هذه العادة "النبيلة" حتى الآن، ولكنْ في صيغ متغيِّرة، وفي أجناس متغيِّرة. تقول الأديبة الفرنسية كوليت إن الأعمال الأدبية النسائية هي "سِيَر ذاتية حتمًا"، شرط أن نعرف كيف "نخفي" ذلك. إلى أيِّ حدٍّ تقترب روايتكِ من "السيرة الذاتية"؟ إلى أية درجة تشبهين بطلتكِ سعاد؟ لا أظن أن الراوية أو البطلة هي بالقرب نفسه مني أو من حياتي؛ فالشخوص والأحداث كلها مختلَقة. لكني أذكر أن يدي كانت ترتجف وأني كنتُ أنهار لحظة أهَبُ فيها ذاتي كاملة للنص. أعني أني تماهيتُ مع شخوص الرواية في مناطق معيَّنة وأني – في تمام تلك اللحظة – كنت أشهد تدفقًا منِّي للنص ومن النصِّ لي. الكتابة بنظر سعاد هويةٌ وحالةٌ وجودية أكثر مما هي مجرد فعل خلاق؛ وهي لها أيضًا أشبه بلعنة لأنها تمنحها معرفةً من نوع آخر، تجعلها ترى الحياة بطريقة مختلفة وتحوِّلها، بالتالي، غريبةً عن كلِّ الذي حولها. هل تعيشين الكتابة بالطريقة ذات النزعة المأسوية نفسها؟ ربما كان ذلك حتى حدٍّ معيَّن. لكني الآن سعيدة بهذا التورط "النبيل" في الكتابة. أقصد أن الأمر ليس بالفداحة نفسها، بل هو في الحقيقة رائع جدًّا! لنقل إن الكتَّاب هم الذين تخوِّلهم حساسيتُهم الداخلية أن يعيشوا "على تماس دائم مع سعادتهم"، على حدِّ تعبير جوزف كامبل. أحبُّ أن أنظر إلى الكتابة بهذا المنظار. الرواية مقسومة قسمين: في الأول يعيش القارئ سعاد ويراها من خلال عيني مشعل، الشاب "العادي" المتيَّم بها، فيما لا تعيره هي أيَّ اهتمام، وتبدو أحيانًا تتلاعب به بشخصيتها النزقة؛ بينما في القسم الثاني يرى القارئ سعاد على حقيقتها: نفسٌ متأججة ومتألِّمة، تخفي ما يغلي في داخلها وراء مظهر مصطنَع. ما كان هدفك الفعلي من هذه التركيبة الروائية؟ لنقل إنني كنتُ أخاف من بطلتي قليلاً، ربما لفرط ما بدتْ أناها متضخمة أمامي، فعمدتُ إلى تدشين تلك المسافة البدئية بينها وبين القارئ من خلال مشعل، لأني أردتُ للقارئ أن يتجرَّع حضورها على دفعات! وفي الوقت نفسه أردتُ أن أنقض مفاهيم ذكورية أرسطية عدة تجعل الرجل مركزًا والمرأة هامشًا. في الوقت نفسه، وجدتُ المعالجة ناجحةً في التعبير عن فكرة راودتْني طويلاً، وهي أن كثيرًا من أحداث حياة شخص قد لا تكون أكثر من "عوارض جانبية" لحياة آخر. يُتوقَع عادةً من كتَّاب الخليج أن يضيئوا من خلال كتاباتهم على مجتمعاتهم التي لا نعرف عنها الكثير. لكن المجتمع الكويتي في روايتك ليس أكثر من "خلفية" أو إطار تتحرك ضمنه الشخصيات المتفلِّتة من حدودها الجغرافية، التي يمكن أن نجد لها مثيلاً في كل زمان ومكان. هل تعتقدين أن سعاد كانت ستعيش "حالتها" بطريقة أخرى لو كانت في مجتمع آخر؟ سعار، كرواية، لم تحاكم المجتمع بالشكل الدارج في الأدب الخليجي، ولكنها كانت تتحرك في منظومته نفسها – ربما لأني مللتُ النصَّ الذي يحوِّل الورقة إلى جبهة إقصاء، ومللتُ نظرة المرأة الخليجية إلى نفسها على أنها ضحية كلِّ شيء إلا نفسها! وأنا هنا لا أتحدَّث من برج عاجي: فأنا – بكلِّ ما تحمله الكلمة – امرأةٌ خليجية، ومن بيئة حنبلية محافظة، ولي معاناتي في هذا الخصوص، لكني أحرص على أن لا أسرِّبها بهذا الشكل السافر إلى النص. بخصوص سعار، أعتقد أن البيئة الخليجية كانت حاضرة في النصِّ بطريقتها الخاصة. فلو كانت البطلة من خارج منطقة الخليج لتحرَّكتِ الأحداثُ في سيولة أكثر، ولما تشنَّج الهامش إلى هذا الحد. كما أني، في أثناء الكتابة، وجدتُني مضطرة لتبرير وجود كلِّ بطل في حياة البطل الآخر، الأمر الذي لا نجده في الآداب الأخرى: كان عليَّ أن أجعل مشعل أحد أقارب سعاد، وأجعل الحبيب صديق والدها؛ كان عليَّ أن أبرِّر وجود جميع الشخوص في لوحة واحدة وأشرح أنها علاقات "مريضة" في صلبها، وأنه مجتمع "مريض" في صلبه، مجتمع متوتر ومشلول وغير متحرك إلى ما بعد الجدران. *** *** *** حاورتْها: سيلفانا الخوري عن النهار، السبت 12 تشرين الثاني 2005 [*] بثينة العيسى، سعار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005.
|
|
|