|
أجمل
تاريخ للأرض "فردوسنا"
رائعٌ، لكنَّه هش! لماذا
الأرض؟ لماذا قُيِّض لهذه الهباءة "التافهة"،
الضائعة في شَسَاعة الكون، هذا المصيرُ
الخارق؟! كيف تشكَّلتْ رويدًا رويدًا لتتحول
إلى كوكب متغير، احتضن، في زاوية مهملة من
زوايا المجرة، تلك الظاهرةَ الفريدة من نوعها:
الحياة في تنوعها المذهل؟ كيف سيكون وجهُ
الأرض غدًا؟ موضوع هذا البحث، في معظمه،
قراءةٌ إجمالية لكتاب أجمل تاريخ للأرض[1]
الذي يحاول، في ضوء أواخر المكتشفات العلمية،
أن يجيب عن الأسئلة السابقة، ساردًا مغامرةَ
كوكبنا: "طفولتَه" العنيفة في الفضاء،
"نضجَه" الذي وازَنَه وبثَّ الحياةَ
فيه، ومستقبلَه الغامض، الذي يتماهى مع
مستقبلنا كبشر: ثلاثة فصول في مسرحية مضطربة،
من شأنها أن تتحول إلى مأساة – ما لم نتحلَّ
بما يكفي من الحكمة لنمسك زمام مصيرنا
بأيدينا.
الكتاب من تأليف أربعة
مؤلفين: يروي أندريه براهيك (أستروفيزيائي
وأستاذ في جامعة باريس السابعة) لجاك
جيراردون (صحفي متخصِّص في العلوم) الفصلَ
الأول من المسرحية؛ في حين يقص پول تاپونييه (باحث
في معهد فيزياء الكوكب، باريس) الأحداثَ
الكبرى التي وسمتْ تاريخَ الأرض؛ أما لِسْتِر
ر. براون (مؤسِّس ومدير معهد Worldwatch،
واشنطن)، فيحذرنا من مغبة الاستهتار بمستقبل
كوكبنا الأزرق الجميل. هذا الكتاب، الصادر
ضمن سلسلة كتب "أجمل تاريخ..."[2]
الشائقة، مثال على التبسيط العلمي الناجح، من
حيث إنه يقدم رؤية مكثفة، شاملة وواضحة،
للقارئ المثقف غير المتخصص. مقدمة على هباءة كونية صغيرة،
اجتذبها نجمٌ لا يتميز عن غيره من النجوم
الواقعة على الأطراف الشاسعة لمجرة عادية،
ظهرت الحياةُ، النادرةُ والهشةُ على حدٍّ
سواء. وقد حولت الحياةُ الأرضَ إلى عالم خارق،
مُعجِز! فهل كوكبنا فريد من نوعه
حقًّا؟ بالنسبة لنا، نعم، هو فريد – وسيظل
كذلك لفترة طويلة –، ذلك لأننا فريدون في
المجموعة الشمسية. هذا ما بات العلماء على
يقين منه. أما خارج المجموعة الشمسية، فتوجد
كواكب أخرى، تدور حول نجوم أخرى، لكنها أبعد
جدًّا من أن نتصور أيَّ اتصال معها. إن تاريخ كوكبنا يضعنا أمام
مسؤولية مستقبل الحياة على الأرض. ربما لسنا
وحدنا في هذا الكون؛ لكن ما من أحد سيتحمل عنا
مسؤوليةَ خياراتنا على هذا الكوكب. المشهد
الأول بعد نحو 10 مليارات سنة من
ولادة الكون، انهارت سحابةٌ على نفسها، وولد
نجمٌ تحيط به حلقةٌ من الجسيمات التي التصق
بعضُها ببعض من فرط تصادُمها، لتشكِّل تسعة
كواكب. ومن بين هذه الكواكب كان واحدٌ مميزًا:
الأرض. بدأت القصة
بحَمْلٍ طويل جدًّا: فقد لزم في البداية تصنيع
الذرات التي تشكِّل الأرض حتى أمكن لها أن
تولد. وقد تطلَّب ذلك نحو عشرة مليارات سنة.
لكن الذرات الثقيلة لم تكن قد ولدت بعد، وكانت
النجوم هي التي تابعت تصنيع الذرات. وهناك في
الواقع نوعان من النجوم – النجوم "الأنانية"
والنجوم "الكريمة": النوع الأول، مثل
الشمس، يوقف عملية التصنيع بعد عنصر الفحم؛
فكتلة النجم تكون أقل بمرة ونصف من كتلة
الشمس؛ وهذه النجوم تصرف القليل وتعيش "بخيلة"
وتحيا طويلاً – مليارات السنين – ويبقى ناتج
تصنيعها في قلبها عندما تنهي حياتها على شكل
بقية نجم في طريقه للابتراد. أما نجوم النوع
الثاني فتحيا حياة باذخة؛ وهي لامعة جدًّا،
وتصرف الكثير من الطاقة؛ وهي تصنِّع، على
التوالي، الفحم والآزوت والأكسجين
والألمنيوم والسيليسيوم والكبريت والكلور
إلخ، وصولاً إلى الحديد. لكن هذا لا يدوم
طويلاً: فهي لا تحيا إلا بضع عشرات من ملايين
السنين، قبل أن تنفجر، مقدِّمة لنا مشهدًا
رائعًا من الألعاب النارية؛ وهذا ما نسميه
"سوپرنوفا" supernova أو "مستعرًا فائقًا". عند ذاك،
تُقذَف العناصر المصنَّعة بسرعات أعلى من
سرعة الصوت في الكون؛ ولا يبقى من هذه الحياة
المفعمة سوى الجزء المركزي، الكثيف جدًّا،
على شكل "ثقب أسود" أو "نجم نوتروني". وهكذا فقد
ولدنا مع الشمس في وقت واحد، لكننا لم نأتِ من
الشمس: فالأرض ليست قطعة انفصلت عن الشمس
وابتردت، كما اعتقد بعض العلماء طوال قرنين
من الزمن، بل لقد جاء الاثنان من الشرنقة
نفسها؛ لكن الكواكب نتجت عن محيط السديم، وهو
الجزء الأقل حرارة. هناك،
مبدئيًّا، طريقتان لتصنيع كوكب: إما من خلال
انكماش جسم أضخم، بما يشبه بعض الشيء انهيار
نجم، أو من خلال تجمُّع قطع متناثرة – ويبدو
أن الطريقة الثانية هي المرجَّحة فعلاً في
حالة الأرض. ففي الواقع، لكي ينهار جزء من
القرص البدئي على نفسه وينكمش مباشرة إلى
كوكب، يجب أن يكون غير مستقر – ولم تكن الحال
كذلك بسبب وجود الشمس. عندما انتهت
الشمس من الانكماش أصبحت أقل ضياء بشكل واضح،
وذلك في بساطة لأن الانهيار الثقالي لنجم
يحرِّر من الطاقة أكثر بكثير مما تطلقه
التفاعلاتُ الحرارية النووية، لكنه يدوم
فترة أقل بكثير. وهذا يعني أن القرص المؤلَّف
من الغاز والغبار، الذي كان حارًّا جدًّا في
البداية، بدأ يبترد هو الآخر. وعند ذاك ظهرت
حبيباتٌ صغيرة يمكن أن يصل حجمُها إلى بضعة
مليمترات؛ وكان تركيبها يتعلق بالتأكيد
بدرجة الحرارة، أي ببعدها عن الشمس. لكن تراكم هذه
"الحبيبات" لم يؤدِ إلى تشكيل الكواكب
مباشرة؛ إذ إن ولادة الكواكب بهذه الطريقة
يتطلب زمنًا أطول من عمر الكون! لقد تدخلت
صيرورات عديدة للوصول إلى ولادة الأرض. فقد
ظهرت تقلُّبات محلِّية أو دوامات بقطر بضعة
مئات من الأمتار؛ وكانت الحبيبات تتجمع عند
كل تقلُّب لتشكل أجسامًا صغيرة بقطر يتراوح
بين 500 متر وكيلومتر واحد. ونسمي هذه الأجسام
– وهي أسلافنا – "الكويكبات". كانت
الأجسام الصغيرة تتصادم خلال دورانها، وكانت
تتجزَّأ عندما تكون الصدمة عنيفة – ولنسمِّ
هذا اللقاء "طلاقًا"؛ ولكنها كانت
تتلاصق عندما تكون الصدمة لطيفة – ولنسمِّ
ذلك "زواجًا". ومن هذا التوالي من
الزيجات وحالات الطلاق تم العبور من أجسام
صغيرة بقطر مئات الأمتار إلى أجنَّة كواكب
يمكن أن يصل قطرها إلى 1000 كيلومتر. وشكَّلت
التصادمات بين هذه "الأجنَّة" فيما بعد
كواكبَ مثل الأرض. وهكذا، خلال فترة أقل من
100000 إلى 200000 سنة، تم الانتقال من قرص غازي إلى
الكواكب التي نعرفها؛ وهي فترة قصيرة جدًّا
قياسًا إلى أربعة مليارات سنة ونصف من عمر
المجموعة الشمسية؛ ويمكن لنا، بالتالي، أن
نعتبر أن الأرض "معاصرة" للشمس. إن مليارات
الاصطدامات المتبادلة قادت إلى منظومة كواكب
يدور كلها في المستوي نفسه، وعلى مسارات شبه
دائرية. وفي الواقع، إنما بفضلها بلغت
المنظومةُ الشمسية، التي كانت شواشية في
البداية، حالة فائقة التنظيم. كانت الأرض
آنذاك تبدو مثل جحيم! فسطح الأرض، الذي كانت
درجةُ حرارته تصل إلى آلاف الدرجات، كان مغطى
بالحمم. لكن صيرورة هامة جدًّا بدأت تتحقق: التمايز،
الذي كان قطعًا أحد أهم الأحداث في تاريخ
كوكبنا. فالتمايز هو أصل تشكُّل "النواة"
و"المعطف" و"القشرة" الأرضية، مما
سمح للبراكين والمحيطات والقارات والمَشاهد
التي نعرفها اليوم والغلاف الجوي بالظهور.
ففي هذه الأرض المنصهرة، كانت العناصر
الأثقل، مثل الحديد والنيكل، تهوي باتجاه
المركز لتشكِّل نواةً كثيفة جدًّا؛ وعلى
العكس، كانت العناصر الأخف، مثل الأكسجين
والسيليسيوم والألمنيوم والكالسيوم
والپوتاسيوم أو الكبريت، تصعد باتجاه السطح
وتشكِّل قشرة رقيقة تعوم على المعطف. كان كلُّ
شيء يجري كما في حالة صلصلة الخل: فلو انتظرنا
وقتًا طويلاً كافيًا فإن الخل الأكثف يهوي
شيئًا فشيئًا إلى القاع، في حين يعوم الزيت
على السطح. كانت
المركَّبات الأساسية التي تشكلتْ منها الأرض
هي: أولاً الحديد، ويشكِّل 35% من الكوكب؛ ثم
الأكسجين: 30%؛ ثم السيليسيوم: 15%؛ والمغنيزيوم:
13%؛ والنيكل: 2.4%؛ يأتي بعد ذلك الكبريت
والكالسيوم والألمنيوم (وكلٌّ منها أقل من 2%)،
في حين يمثل الباقي كله أقل من 1%. أما الغلاف
الجوي، فكان على الأرض أن تصنِّعه بنفسها: فقد
حمل تحرُّر الغازات عِبْر صخور القشرة، كما
والنشاط البركاني، المركَّبات الغازية
الأساسية إلى الغلاف الجوي. إن الكواكب
العملاقة كبيرة الكتلة لأنها أسَرَتْ
الهيدروجين والهليوم البدئيين؛ فبسبب بُعدها
عن الشمس، في البرودة الشديدة، بقيت غازات
السديم البدئي موجودةً بعد اللحظات الأولى.
أما قرب الشمس فكانت درجة الحرارة عالية، مما
أدى إلى تبخُّر العناصر الأخف، حتى قبل
تشكُّل الكواكب. كانت الأرض والزهرة والمريخ
وعطارد قد تشكلت من وسط عديم الهيدروجين
والهليوم، أي أنها ولدت من البقايا بعد أن كان
99% من المواد قد تبخَّر. ولهذا السبب نجد أن
الكواكب الداخلية صغيرة إلى هذا الحد؛ وهي
ليست لها حلقات، ولا نظام متكامل من الأقمار،
ولا هيدروجين ولا هليوم. إنها بقايا ومخلفات
– لكننا نحب كثيرًا كتلة "البقايا" هذه
التي نحيا عليها اليوم! كم
استغرقت ولادة الأرض هذه؟ بين اللحظة التي
بدأ فيها السديم البدئي بالانكماش واللحظة
التي تكتَّلت فيها الأرض مرَّ أقل من مئة
مليون
سنة. كانت مغامرة الأرض على وشك أن تنطلق. المشهد الثاني في بداية
حياتها، كانت الأرض تدور بسرعة أعلى بكثير
مما هي عليه الآن، ولم يكن اليوم يدوم سوى نحو
عشر ساعات. كانت هذه السرعة الابتدائية ناجمة
عن الاصطدامات بين الكويكبات الأولية. ومنذ 200
مليون سنة فقط، كانت السنة لا تزال تشتمل على
400 يوم، حيث كان طولُ اليوم أقل بقليل من 22
ساعة. وحاليًّا، يزداد طول اليوم بمقدار 0.002
ثانية في القرن؛ وهذا يعني أننا نستيقظ كلَّ
يوم متأخرين بعض الشيء عن اليوم السابق! ويلعب
القمر والمد والجَزْر دورًا أساسيًّا في ذلك
– فمن دون القمر ما كانت الأرض لتكون على ما
هي عليه، وربما ما كنَّا نحن أنفسنا لنوجد!
فالقمر لعب، على الأرجح، دورًا أساسيًّا في
تاريخ الحياة؛ وتشكُّله معاصر لتشكُّل الأرض:
إننا نعرف ذلك منذ رحلات أﭙولو Apollo. إن دوران
الأرض يتباطأ في استمرار. فالقمر يبتعد عنَّا
حتمًا؛ وآثار المدِّ والجزر، الناتجة عن
تأثير كلٍّ من الشمس والقمر، عملت دائمًا على
كبح دوران الأرض. إن أثر المدِّ والجزر لا
يُحدُّ بشاطئ البحر! فبسبب تنوع أشكال
السواحل يكون مشهد المد والجزر مختلفًا. لكن
نقاط الكوكب الأرضي كافة (أكانت في الداخل أو
على المحيط) يجذبها القمر. وبشكل أعم، فإن
كافة الأجرام يشوِّه بعضُها بعضًا عندما تكون
قريبة أحدها من الآخر. ويغير فقدان الطاقة
الذي يرجع إلى هذا التشوُّه من سرعتَي
الجرمين الدورانية والمسارية. وبما أن الجذب
يتعلق بالمسافة وأن كافة نقاط الكوكب تقع على
مسافات مختلفة من القمر، فإنها تولِّد جذبًا
مختلفًا. وهكذا فقد تشوَّهت الأرض. والحق أن
الأرض تتشوَّه في كلِّ مكان. إن تشويه جسم مثل
الأرض يستهلك الكثير من الطاقة، مما يجعل
سرعةَ الدوران تُستنفَد في آخر المطاف. لكن هل يعني هذا أن الأرض
ستكف يومًا عن الدوران؟ يقول العلماء إن
الجواب هو لا. فتشوُّه الكرة الأرضية ليس
أمرًا آنيًّا: فما إن اتخذت الأرض شكلاً
بيضاويًّا حتى شرعت في الدوران، وكان محور
"كرة الركبي" هذه منحرفًا انحرافًا
طفيفًا بالنسبة للقمر. وقد تم قياس هذا
الانحراف، وهو نحو 3 درجات؛ وهذا الانحراف هو
الذي يبطئ الأرض. وعندما يتقلَّص دور دوران
الأرض حول نفسها إلى حدِّ أن يصبح مساويًا
لدور دوران القمر حول الأرض، أي عندما يصبح
اليوم مساويًا للشهر، فإن تناغمًا معينًا
يتحقق: عند ذاك لا يعود هناك تباطؤ؛ وعند ذاك
تبدي الأرضُ الوجهَ نفسه دائمًا للقمر: فنصف
الأرض سوف يرى القمر في استمرار، في حين أن
النصف الآخر من الأرض لن يراه أبدًا. المشهد
الثالث ولدت الأرض، إذن، منذ 4.5
مليار سنة. فمتى ظهر البحر؟ لا شك أن المحيط
ظهر بسرعة كبيرة. نعرف ذلك بفضل الزركون، وهو
عبارة عن بلورات تكاد لا تكون قابلة للتدمير،
ويستخدمها الصائغون كمادة بديلة عن الماس.
ويتميز الزركون بخاصية النموِّ عبر طبقات
متتالية، مثل البصل؛ ولكننا نجد في قلب هذه
المعادن ذاكرة بدايات تبلورها. ويعرف العلماء
كيفية تأريخها، لأنها تحتوي على اليورانيوم
المشع الذي يتحلَّل في بطء شديد. وبعضها عظيم
القِدَم: فقد جمعنا منها من أستراليا ما عمره
4.3 مليار سنة. وعند تحليل محتواها
الجيوكيميائي اكتشف العلماء أنها انتقلت بعد
تشكُّلها عِبْر وسط مائي، ثم عادت فغُمِرَتْ
في أعماق الأرض، قبل أن تعود من جديد إلى
السطح؛ وهذا يعني، بالتالي، أنه كان يوجد
محيط مائي قبل أقل من 300 مليون سنة من ولادة
الكوكب – محيطٌ حفظ الزركون علامتَه بعد
عملية تغير إضافية في المعطف الأرضي؛ وهذه
"العلامة" هي عبارة عن النسبة بين شكلين
خاصين من الأكسجين. لا شك أن هذا المحيط الأول
كان يغطي معظم سطح الأرض: فالقارات الكبيرة
تشكلت خلال فترة متأخرة من هذه القصة. أما
الماء، فمن الواضح أن قسمًا كبيرًا منه كان
مصدره من الداخل. فانطلاق الغازات من الكوكب
كان يطلق كميةً هائلة من بخار الماء إلى
الغلاف الجوي. ولكن كان هناك العديد أيضًا من
المذنبات، وهي عبارة عن كرات من الجليد؛
وكانت هذه المذنبات تمطر في ذلك الوقت على
طبقة الستراتوسفير، لكنها كانت تذوب بسرعة،
حتى قبل أن تصل إلى المحيط الذي كان في الأصل
حارًّا جدًّا. ثم تبرَّد المحيط شيئًا فشيئًا
على مدى مئات ملايين السنين التالية. أما تحت المحيط، فكانت
تتشكل القشرةُ الأرضية: كانت أشبه بالبشَرة
التي يوضع عليها حليبٌ ساخن! وفي أعماق الأرض،
كانت قد سقطت العناصرُ الأثقل، مثل الحديد
والنيكل، وتكاثفتْ لتشكِّل "النواة". ثم
تشكَّل حول النواة "المعطفُ" الأرضي،
المكوَّن من سيليكات الحديد أو المغنيزيوم،
الذي سُمِّي القسمُ الرئيسي منه بـ"الأوليفين"[3]؛
وهو عبارة عن نوع من الحجر الكريم الشفاف،
أخضر اللون، من عائلة الزبرجد (حجر شبه كريم).
فلو ذهب المرء متنزهًا على مقربة من إتنا Etna (صقلية) أو فيزوف Vesuvio
(قرب مدينة ناپولي الحالية) أو
هاواي Hawaii
أو براكين أخرى كثيرة نشطة، يمكن له العثور
على دُرَيْنات صغيرة من البلورات الخضراء
الساحرة: إنها كِسَر من "المعطف". إن المعطف
حارٌّ جدًّا: 6000 درجة على عمق 2900 كلم؛ وكان
أكثر حرارة من ذلك في الماضي. أما سطحه فبارد:
بضع عشرات من الدرجات فقط. فهناك، بالتالي،
عدة آلاف من درجات الحرارة تفصل بين الأسفل
والأعلى؛ وفي وضع من هذا النوع، فإن المواد في
باطن الأرض تبادل حرارتها بالانتقال. في
عبارة أخرى، إن ما هو حار، أي خفيف، يصعد؛ وما
هو بارد، أي أكثف، ينزل. ففي الغلاف الجوي،
عندما يُرى في سماء يوم صيف عاصف صعودُ ركام
مكفهر، فإن ما يُرى هو هواء حار ورطب، أخف من
الهواء البارد المحيط به؛ وسوف يتفتح وينمو
على الارتفاعات العالية بما يشبه الفطر نوعًا
ما. إنها ظاهرة معروفة في السوائل كافة، وهي
ما نسمِّيه بـ"الحمْل الحراري". لكن هذا لا
يعني أن الزبرجد الجميل سائل. فعندما نغوص لا
نجد سائلاً حقيقيًّا سوى في الجزء الخارجي من
النواة المؤلَّفة من صهارة من الحديد والنيكل.
أما في مركز الأرض تمامًا فإن النواة صلبة:
فقد تبلور الحديد، على الرغم من الحرارة
الكبيرة، بسبب الضغط الهائل. أما المعطف فليس
بصلب ولا بسائل، بل هو رخو؛ فيمكن له أن يسيل
في بطء، بما يشبه قليلاً الحديد المحمَّى
الأحمر. وهذه المادة لا تنفك تُمزَج وتُخلَط
بواسطة حركات الحمل الحراري. وهكذا فإن
المادة الحارة تصعد فتبرد، ثم تعود فتهبط
وتتسخن، فتصعد – إنها آلة حرارية. وكانت هذه
الآلية نشطة جدًّا خلال الفترة التي نتحدث
عنها، أي بعد نحو 200 مليون سنة من ولادة
الكوكب؛ فبما أن درجات الحرارة كانت "جهنمية"
كانت حركاتُ الحمْل وآلياتُه نشطة جدًّا. ومما لا شك فيه
أن النشاط البركاني كان أكثف منه اليوم.
ولا بدَّ أن الأمر كان يجري على نحو مماثل لما
نرصده تحت المحيطات الحالية: سلاسل بركانية
كبيرة تحت البحار تقذف بكميات هائلة من
المادة. فلا بدَّ أنه كانت توجد تحت الماء
صدوعٌ وفوالق مفتوحة تقذف بحممها على بعد
آلاف الكيلومترات. وكان ذلك كله يصنِّع "القشرة"،
المشابهة تقريبًا للقشرة المحيطية الحالية؛
ولكن ذلك كان يجري في سرعة أكبر بكثير مما هو
الأمر عليه اليوم، لأن قوة الحمل الحراري
كانت تؤدي إلى نشاط بركاني فائق الديناميَّة. إن الخطوط
الفقارية[4] – هذه السلاسل الكبيرة من البراكين ما
تحت البحرية – تقذف المادة بلا هوادة. إن
المعطف يذوب وهو يصعد، قاذفًا حممًا سوداء
اللون هي البازلت؛ وتسيل هذه الحمم على قيعان
المحيطات والبحار، ومع تبردها تشكِّل "الصفيحة
المحيطية". فهذه الصفيحة ليست، بالتالي،
سوى القسم الأعلى من قشرة قاسية، لكنها رقيقة:
من 6 إلى 10 كلم فقط. نجمت القارات
عن إعادة تشكيل القشرة المحيطية البدئية؛ فلم
تتشكل القارات، بالتالي، إلا في غضون مرحلة
ثانية. فمع الابتعاد عن الخطِّ الفقاري كانت
القشرة، ومعها أيضًا المئة كيلومتر الأولى من
المعطف الواقعة تحت القشرة، تشكِّل صفيحةً
صلبةً هي الصفيحة المحيطية، كما ذكرنا؛ وكانت
هذه الصفيحة تصير أثقل كلما ابتردت. لقد كان
من الممكن أن تغوص وتعود إلى المعطف السائل
الذي كان سيغمرها؛ ولكن القشرة كانت قد تغيرت
في غضون ذلك الوقت: فقد كانت على تماس مع الماء
خلال عدة مئات من ملايين السنين، وكان الماء
فائق الأكسدة في ذلك الحقب، وكان قد غيَّر
تركيبه الكيميائي في جملة أشياء وعناصر أخرى
غيَّرت تركيبَها. وهكذا كان جسمٌ مادي، مختلف
عن الجسم المقذوف، يغوص في الأعماق، حيث كان
يخضع من جديد لدرجات حرارة وضغط جهنمية. كان
نوع من "المصنع الكيميائي"، الذي سيعمل
على تمايُز المعطف، قد تشكَّل وانطلق. كان هذا
المصنع ينتج المغما magma
والحمم البيضاء، مثل الغرانوديوريتيات granodiorites، كما والغرانيتيات granites والريوليتيات rhyolites، التي نجد فيها الزركون الشهير.
كان بازلت القشرة المحيطية، المشبع بالماء،
الذي عاد فذاب في المعطف ثم لفظتْه البراكين
بعد ذلك، قد تحول إلى حمم أكثر لزوجة، معطيًا
صخورًا أخف بشكل ملحوظ؛ وهذه الصخور كانت قد
بدأت بتشكيل "قشرة قارية". وكانت هذه
القشرة عائمة، على الرغم من أنها كانت أسمك،
مادامت تصل إلى 35 كيلومتر وسطيًّا. وهكذا يتميز
كوكب الأرض بوجود مجموعتين كبيرتين من
المناطق، وصفيحتين، لكلٍّ منهما ارتفاعات
متوسطة مختلفة جدًّا. إن سطوح القارات توجد
إجمالاً على مستوى سطح البحر، في حين أن
السهول العميقة تقع على عمق 5000 متر تقريبًا.
توافق السهول الأولى "القشرة القارية"،
بينما توافق السهول الثانية "القشرة
المحيطية". هكذا بدأت
القارات بالظهور في هذا العالم المائي. في
البداية، ظهرت رؤوسُ جزر من الماء، مازلنا
نرى بعضها اليوم: الكاريبي، الجزر الأليوتية،
الماريانية، إلخ. كانت ثمة براكين كبيرة
تتجاوز بارتفاعها مستوى سطح المحيط. وبما أنه
كانت هناك أمطار ورياح عاصفة، فقد تعرضتْ هذه
النتوءات إلى حتٍّ كثيف؛ وقد أدى ذلك إلى نشوء
بقايا، سرعان ما انتشرت على سطح الجزر. كان المشهد
أشبه بالجحيم البركاني البحري – مع ما رافق
ذلك من إطلاق طاقات هائلة. وكان مصدر هذه
الطاقات من أصل داخلي، بسبب هذه الكرة الحارة
جدًّا، كما ومن أصل خارجي: محيط يغلي، تجتازه
تياراتٌ من الصعب تصورها! وكان هناك أيضًا
غلاف جوي حارٌّ وكثيف ومتدوِّم جدًّا؛ وكان
يتألف، في معظمه، من الآزوت، ويحوي غاز الفحم
أكثر مما يحوي منه الآن بسبب هذه البراكين
كافة. إن نواتج إطلاق الغازات البركاني هي غاز
الفحم والماء في صورة رئيسية؛ ولكن كان يوجد
أيضًا الميتان والأمونيا (النشادر). وفي هذا
الوسط لم يكن هناك ما هو مستقر؛ فالجغرافية
كانت تتغير بسرعات لا تصدَّق. وقد أُطلِقَ على
هذه الأزمنة الرهيبة، التي ترجع إلى نحو 4
مليارات سنة، مصطلح "العصر الجهنمي"،
نسبة إلى إله الجحيم اليوناني Hadès. "الفردوس الأرضي" لم يأتِ
إلا بعد فترة متأخرة. فمن هذا العالم العدواني
إنما ولد كوكبنا الأزرق الرائع! وكان ذلك بفضل الماء
السائل: فقد حفظتْه الأرض، على خلاف
الكواكب التي نعرفها كافة. فكوكب الزهرة فقد
ماءه، بينما يحتوي كوكب المريخ على الماء،
إنما في شكل صلب. كذلك فإن حجم الكوكب مهم:
فكوكب المريخ الصغير جدًّا لم يستطع، بسبب
هذا الصغر حصرًا، الحفاظَ على غلافه الجوي،
ولا الحفاظ بدرجة كافية على حرارة داخلية. أما
أرضنا، التي ولدت في خضم هذه الأحداث
العنيفة، فقد انتهت إلى العثور أخيرًا على
استقرارها المدهش: فهي ذات "معطف" يعمل
وفق نظام دائم، مثل محرِّك، ومحيط ساكن، وذلك
لأنها توجد على مسافة مناسبة من الشمس ولأنها
ذات كتلة مناسبة في الوقت نفسه. إن سلسلة
كاملة من التوافقات الظاهراتية أدت إلى أن
يكون كوكبنا على ما هو عليه: فلو كان هناك أكثر
قليلاً من الأشعة الشمسية لكان "أثر
الدفيئة" effet
de serre قد
تحرَّض، مما يحول الكوكب إلى أتون؛ ولو كانت
الأشعة الشمسية أقل قليلاً، أو لو كان بُعد
الأرض عن الشمس أكبر قليلاً، لتحولت الأرض
إلى كرة من الجليد. وقد أصبحنا نعرف مؤخرًا أن
ذلك حصل في الماضي. لنعد إلى قصتنا. لقد تشكلت
المحيطات، وظهرت بداياتُ القارات على شكل
أقواس من الجزر. فكيف تطورت هذه الأخيرة؟ لا
بدَّ لنا من الحديث هنا عن الحياة أيضًا. ربَّ
قائل يقول إن الحياة لم تكن قد وُجِدَتْ بعد!
لكن ليس في العلم أي يقين نهائي. ففي هذا
الكوكب الفائق النشاط، في هذا الغليان من
الغازات المختلفة، وفي هذه الحرارة وهذه
الطاقة التي لم تكن تُستنفَد، من المحتمل أنه
وُجِدَ، منذ الدقائق الأولى، كامل "الحساء"
الكيميائي الضروري لتصنيع الحياة. وكما هو
معلوم، فقد وجدنا كائنات قديمة لم تكن في حاجة
إلى التركيب الضوئي ولا إلى التنفس بالمعنى
الذي نفهمه اليوم؛ كما توجد أيضًا، على عمق 4000
متر، تحت المحيط الهادئ، وعلى طول محور
البراكين تحت المحيط، حيوانات مدهشة وغريبة
جدًّا. إن عالم الأعماق المائية هذا هو أحد
أكثر الاكتشافات روعة في السنوات الثلاثين
الأخيرة. ففي المياه الكبريتية، التي تغذيها
ينابيع حارة والتي لا يصلها ضوءُ الشمس، تحيا
بكتريا تتغذى على الكبريت. وهناك رخويات
تقتات بهذه البكتريا؛ وهي عبارة عن أنواع من
الديدان ذات ألوان نارية، يصل طولها إلى عدة
عشرات من السنتمترات. ونجد هناك أيضًا قواقع
وأنواعًا من السرطانات، وحتى أسماكًا صغيرة
لاحمة، عمياء، تقتات بكلِّ ما سبق ذكره. يمكن أن يكون
ذلك عبارة عن أشكال حياة أحدث، وجدت لنفسها
بؤرةً بيئية ونجحت في التأقلم مع هذا الوسط –
وهذا لا شك يصح على الأسماك وعلى المتعضِّيات
المتطورة. أما فيما يخص هذه البكتريا في الوسط
ذي الشروط الحدية القصوى، الحارة جدًّا
والمُهلِكة والعادمة الأكسجين، فإن كلَّ شيء
ممكن قطعًا. لكن الاحتمالات بأن تكون موجودة
هناك، منذ البدايات، احتمالاتٌ كبيرة جدًّا،
لأنه في هذه الأماكن تحديدًا، في أعماق
المحيطات الحالية، وعلى امتداد السلاسل
البركانية، إنما يمكن لنا أن نشكِّل تصورًا
بسيطًا عما كان يمكن أن يجري في المحيط البدئي.
فليس من المستبعَد، بالتالي، أن يكون "مصنع
الحياة" قد انطلق من هنا، قبل أن يتطور
باتجاه بؤر أبرد قليلاً وأكثر سكونًا بقليل،
حيث أمكن للحياة أن تزدهر وتتفتح، وحيث
ابتكرت "العوالق الزرقاء" الشهيرة
التركيبَ الضوئي اليخضوري. هناك أمر مؤكد واحد: منذ 3.5
مليار سنة كانت العوالق الزرقاء موجودة؛
لكننا لا نعرف منذ متى كانت موجودة قبل ذلك.
وهذا يعني أنه كان قد حصل ابتراد كبير خلال
بضعة ملايين من السنوات فقط؛ فالحرارة
الداخلية كانت قد تناقصت. أما الحرارة
الخارجية، أي درجة الحرارة التي نقيسها في
الخارج، فهي تتعلق بأثر الدفيئة؛ وبالتالي،
فهي مرتبطة ارتباطًا أساسيًّا بنسبة
الميتان، وبغاز الفحم بخاصة، في الغلاف الجوي.
فهذان الغازان يمرِّران الأشعة القادمة من
الشمس عبر الغلاف الجوي، لكنهما يمنعان
الأشعة ما تحت الحمراء الصادرة عن الأرض من
التبدد في اتجاه الفضاء. والحق أن الصيرورة
الأكثر فاعلية التي تسمح بتقليص نسبة غاز
ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي هي
الحياة. لقد شكَّلتْ الحياةُ،
بالتالي، الكوكبَ منذ بدايات تاريخه. نقول
عمومًا إن الأرض تأقلمت مع الحياة؛ لكن الأصح
هو قولنا إن الحياة هي التي أقلمت الأرض مع
نفسها! إن علمًا جديدًا ومثيرًا يولد الآن:
الجيوبيولوجيا؛ وهو يحاول أن يربط بين
المقاربة الجيولوجية والمقاربة البيولوجية.
وسيكون هذا العلم بين علومنا موضعَ الاهتمام
الأكبر في القرن الحادي والعشرين. لقد قدمت
الأرض الشروط المواتية لتطور حياة ما؛ وقد
أثَّرتْ هذه الحياة فيما بعد في الأرض
تأثيرًا خارقًا. لقد أصبحنا مذ ذاك ضمن منظومة
متوازنة: فشروط فلكية، مثل الكتلة والبعد عن
الشمس، كما وشروط جيولوجية خاصة، مثل النشاط
البركاني المعتدل ووجود الماء السائل، هي
التي سمحت بتفتُّح الحياة التي تحافظ،
بدورها، على بيئتنا ملائمةً للحياة. إن هيكلَي الحياة هما:
مغنزيوم الكلوروفيل (اليخضور) عند النبات،
وحديد الهيموغلوبين (الخضاب) عند الحيوان! كانت
توجد، إذن، في المحيط، في تلك الحقبة، كمياتٌ
كبيرة من الحديد، المنحل هو الآخر. وفجأة،
تفاعَل الأكسجين، الذي كان قد نتج حديثًا
بواسطة العوالق الزرقاء، مع الحديد،
فأكْسَدَه، ليشكِّل صدأً هوى باتجاه الأعماق.
وهكذا، تشكَّلت ترسبات نسميها bifs
(من عبارة banded iron formations).
ونجد منذ ما بين 3 مليارات و2.5 مليار سنة مناجم
عجيبة، تتتالى فيها طبقاتُ أكسيد الحديد
وطبقات الكوارتز، أو لنقُل، طبقات من الصدأ
وطبقات من السيليسيوم. ويوجد منها الكثير في
أستراليا وجنوب أفريقيا وموريتانيا. في عبارة أخرى، كان
الأكسجين الذي تنتجه العوالق الزرقاء يستخلص
الحديدَ من المحيط، كما والمنغنيز أيضًا، وفق
الطريقة نفسها. إن المناجم الكبرى للحديد
والمنغنيز في العالم موجودة اليوم في هذه
التشكيلات التي ترجع إلى أحد عصور الحقب ما
قبل الكامبري، حيث كان التركيب الضوئي
اليخضوري يعمل مذ ذاك في شكل كثيف. ما
قبل الكامبري إنه أول
الأحقاب الجيولوجية؛ وهو أطولها لأنه أكثرها
غموضًا. والحياة هي التي خلَّفتْ أعظم معالم
الجيولوجيا عندما ابتكرتْ هياكل اجتازت
العصور. فالهياكل خلايا تُبَلْوِر معادن في
الجسم، مثل فوسفات الكالسيوم، ومعادن أخرى،
مثل المغنتيت. ولدى سمك السلمون والسلاحف
والطيور المهاجرة الكثير منها؛ وهي تستخدمها
من أجل التوجُّه. ويحتوي دماغنا أيضًا على
القليل منها؛ لكنه تخلَّى عن استخدامه بأن
أصبح أكثر إمكانية على إعمال الذهن: فقد أصبح
قادرًا على استخدام منظومة كاملة من
المَراجع، مثل الشمس والقمر والنجوم إلخ. لقد كان ظهور الهيكل،
بالتالي، لحظةً هامة جدًّا في تاريخ الأرض
وفي تاريخ الجيولوجيا! ذلك لأنه، انطلاقًا من
تلك اللحظة، نستطيع تتبُّع تطور الكوكب عِبْر
تتبُّع تطور الحياة، وذلك ضمن شروط مقبولة.
أما ما قبل ذلك فهو ضباب في ضباب! أما بالنسبة
للقارات، فغالبًا ما نجد الـbifs
على قواعد قارية. ويعني ذلك أنه كان يوجد منذ 3
مليارات سنة أجزاء من قارات ذات حجم لا يستهان
به. ونلاحظ أيضًا، منذ ما بين 3.2 و2.5 مليار سنة،
تغيرات كبيرة بما يكفي للتشغيل الداخلي
للكوكب. ونعتقد في الواقع أن معظم القارات
وُجِدَتْ في ذلك الحقب. ولكن كيف تمَّ العبور من
سلسلة الجزر البركانية إلى القارات؟ مادام
الأمر لم يكن يتعلق إلا بجزر صغيرة، فقد كانت
تختفي ويُعاد بناؤها، مما يعطي صخورًا جديدة
أخف. ولكن عندما كانت هذه التشييدات تصير أكبر
حجمًا، كانت تغوص في سهولة في المعطف، وكانت
حلقاتُ نموٍّ بركانية تتطور عند محيطها، مما
كان يزيد شيئًا فشيئًا من مساحتها. كانت نوى
القارات تنمو نموًّا مركزيًّا، بما يشبه إلى
حدٍّ ما نموَّ حلقات الأشجار؛ وكانت هذه
النوى تتوسع باطراد. ولكن كان بالإمكان أيضًا
أن تنكسر، أو تُشرَخ، أو تتصادم، ويلتحم
بعضُها ببعض. الحقب
الأول بعد أربعة مليارات سنة
مضطربة، ها هي ذي الأرض تنتقل إلى عصر جديد:
الحقب الأول (الذي بدأ منذ نحو 600 مليون سنة).
فماذا كان يشبه الكوكب صبيحة هذا العصر
الجديد؟ كان التركيب الضوئي يعمل بكامل
طاقته، وكان الجو قد صحا: السماء صارت زرقاء،
والشمس والقمر والنجوم باتت مرئية. وكان
البحر قد فقد صبغته المحمرَّة، ليتلون بلونَي
الأزرق (الأكسجين) والأخضر (اليخضور). لقد ظهرت الحياة وانتشرت.
ومنذ 600 مليون سنة، حدث تفجُّر للحياة مذهل:
فقد أخذت بالتكاثر والنموِّ في حشود لا
تصدَّق من الدويبات والحيوانات الصغيرة، كما
تثبت ذلك الهياكل التي وُجِدَتْ في مناجم
مختلفة. إن هذه الفترة من الخلق المطلق العنان
تَلَتْ بقليل نهاية آخر عصر معروف من كرات الثلج. هل أجبر هذان القَسْر
والضغط المناخيان الحياةَ على إيجاد
متعضِّيات أكثر فعالية وتكيفًا؟ وهل شكلت
الشروطُ الكيميائية في النهاية، التي
تعدَّلتْ تعديلاً عميقًا، مُعامِلاً ملائمًا
ومساعدًا؟ يسود لدينا الانطباعُ بأن فترات
الضغط والتوتر تجبر الغلاف الحيَّ (البيوسفير
biosphère) على تجاوُز ذاته. إن الكامبري
هو العصر الأول. وقد تلاه العصر الأوردوفيسي Ordovicien والسيلوري Silurien، ومن بعدُ، الديفوني Dévonien والكربوني Carbonifère. وتتوافق هذه العصورُ وتغيراتٍ
كبيرةً في الحيوانات والنباتات. لقد بقينا
مدة طويلة دون أن نستطيع أبدًا فهمها، وكنَّا
نستنتج فقط وجود انقطاعات جذرية: الحيوانات
لم تعد هي نفسها، المناظر كانت مختلفة؛
وفجأة، اختفت أنواعٌ وظهرتْ أنواعٌ غيرها –
وكان الزمن الذي يفصل بين السابق واللاحق
قصيرًا جدًّا. وحتى اليوم، مازلنا لا نفهم
دائمًا ما حصل فهمًا جيدًا. دام الحقب
الأول 300 مليون سنة؛ وهو رقم للمقارنة مع
الرقم الأكبر بكثير منه، 4000 مليون سنة، للحقب
ما قبل الكامبري. ومنذ ذاك الحين، أصبح تاريخ
الأرض كلُّه، حتى أيامنا هذه فصاعدًا، خاضعًا
لتكتونية الصفائح. إن "تكتونية
الصفائح" هي إحدى الخصائص التي تجعل الأرض
فريدة ونسيجًا وحدها في المنظومة الشمسية.
إنها الآلية التي تشكِّل سطحَها، كما نعرفه
حاليًّا، والتي تعطيها في آنٍ واحد سحرها
ومناظرها الطبيعية وبيئاتها الحيوية؛ إنها
هذه الحركة التي لا تتوقف، ومن خلالها
تتجلَّى الحياةُ على كوكبنا. وقد حصل
الانقسام في البداية داخل صفيحة قارية وحيدة؛
وكانت الحدود عند ذاك تتوافق تمامًا مع حدود
القارات. وبعده تباعدت القطعتان لأن محيطًا
كان ينفتح بينهما، وكانت سلسلة من البراكين
ما تحت البحرية تفيض البازلت وتصنِّع الصفيحة
المحيطية من على طرفَي خطِّ الانقسام. وكانت
هذه الحمم تلتصق بالنواتين القاريتين اللتين
كانتا تتسعان، كلٍّ منهما بنصف محيط يزداد
اتساعًا. كانت المحيطات في طور
التشكل، إذن، هي التي سمحت للقارات بالانفصال
والتباعُد – وهي لا تزال تقوم بذلك:
فالمحيطات تنفتح وتنغلق، وتولد وتختفي؛ وهي،
بالتالي، أكثر شبابًا من القارات بكثير. لقد
اختفى المحيط الأول الكلِّي منذ فترة طويلة:
كافة المحيطات التي نعرفها حاليًّا عمرها أقل
من 250 مليون سنة؛ في حين أن القارات تحمل ذاكرة
ماضٍ جهنمي وقديم جدًّا للأرض! تعوم "الصفائح"
على "المعطف". فمادته الحارقة، الصلبة
إنما اللزجة، التي تصل سماكتُها إلى 2900
كيلومتر، هي مادة مضطربة، كما رأينا، بسبب
حركات الحمْل الحراري. وهي لدى صعودها تبدأ
بالذوبان؛ وعند السطح تشكل قشرة صخرية رقيقة
جدًّا، هي الليثوسفير، لا تتجاوز سماكتُها
أبدًا 100 كيلومتر؛ وهي أثخن قليلاً تحت
القارات، وأرق تحت المحيطات. وهذه القشرة
قاسية ومقاوِمة لأنها باردة؛ ومنها إنما
تنطلق الهزاتُ الأرضية الكبرى. وترتكز هذه
القشرة القاسية والباردة على شيء ما رخو وحار
ومتحرك؛ وهو ينقسم إلى ما يشبه لوحة فسيفساء
مكونة من عدة قطع: تلكم هي "الصفائح"؛
وهذه الأخيرة لا تنفك تتحرك بلا توقف. وتغطي الصفائح
الكوكب بكامله. فلا يمكن لإحداها أن تتحرك دون
أن تتحرك الصفائح الأخرى وتنتقل. وبإمكان هذه
الصفائح أن تتباعد، ولكنها، في هذه الحالة،
تتقارب في أماكن أخرى. وحيثما تكون ثمة حركة
نازلة في المعطف، تكون ثمة صفيحة تغوص وتمرُّ
تحت الأخرى. ويتعلق الأمر دائمًا تقريبًا
بصفيحة محيطية تكون كثافتُها قريبةً من كثافة
المعطف وذات حرارة مساوية له. ولكن بما أن
الصفيحة باردة، فإنها تكون أثقل بعض الشيء،
فتغوص بالتالي مثل سفينة تغرق: وهذا ما نسميه
بانزلاق الصفائح subduction، أي العودة إلى الأعماق. إن كافة المحيطات تنتهي إلى
الغوص من جديد في المعطف – فلا يوجد محيط قديم.
إن أرضية المحيط الهادئ، عند سواحل اليابان،
لا يزيد عمرها على 200 مليون سنة؛ ومع ذلك، فهي
من أقدم أرضيات المحيطات الحالية. في حين أن
عمر القارات التي تنمو ببطء، مثل حلقات
الأشجار، يمكن أن يصل إلى مليارات السنين. أما القارات، فهي أخف بكثير من المعطف،
وهي بالتالي، عمليًّا، غير قابلة للغرق فيه.
لكن القارات تتفتت وتنتقل وتتصادم وتلتحم
وتصنِّع جبالاً وتهزها الزلازل. الأرض هي
الكوكب الوحيد الذي يغيِّر مناظره في استمرار. الحقب
الثاني على مدى الحقب الأول، وجدت
الآلةُ الأرضية إيقاعًا تطورت الحياةُ
عِبْره. بعد ذلك، ومع نهاية الحقب الأول، أي
منذ نحو 230 مليون سنة، تغيَّر الحقب. وبدأ
الحقب الثاني بكارثة جنونية: 90% من الأنواع
البحرية اختفت. ففي تلك الفترة حصلت ثورانات
بركانية هائلة، لكنها لم تكن تشبه شيئًا مما
نعرفه اليوم. هناك نوعان من النشاط البركاني
لم نرهما أبدًا يعملان: الاندفاقات الواسعة
المدى من البازلت، التي غطت مئات آلاف
الكيلومترات المربعة، والتي لا تزال باقية،
وترجع إلى نهاية الحقب الأول، في الصين
وسيبيريا؛ وكذلك المداخن البركانية أيضًا،
التي كانت تؤدي إلى ولادة الصخور الحاملة
للماس: الكيمبرليت، الذي نجده خصوصًا في جنوب
أفريقيا وكندا وسيبيريا. لقد اجتاحت
الجوَّ غازاتٌ ورمادٌ مُهلِكان، وتشكَّل ما
يشبه الزجاج العاتم. إن الثورانات التي
نَصِفُها اليوم بالكبيرة جدًّا يمكن أن يكون
لها تأثيرٌ كبير على المناخ. وهذه الثورانات
قادرة على إنقاص درجة الحرارة المتوسطة
بمقدار نصف درجة طوال سنة؛ لكنها ليست إلا بعض
الظاهرات البسيطة جدًّا بالمقارنة مع القبعة
البركانية التي سبق ذكرُها. وقد قارن بعضهم
الوضع بشتاء نووي يلي حربًا ذرية: تظلم
السماء، فيتباطأ التركيب الضوئي تباطؤًا
كبيرًا، بل يتوقف حتى. تتناقص الپلانكتون (العوالق
الزرقاء)، كما وجزء من النباتات، وكذلك
الحيوانات التي تقتات عليها والحيوانات التي
تقتات على الحيوانات – كل شيء يتوقف! وحدها
تستطيع الاستمرار في الحياة أنواعٌ مقتصِدة
وقليلة التخصص. انتهى الحقب
الأول، إذن، بكارثة بركانية وجليدية قاسية!
ونعرف أنها أدت إلى ابتراد البحار وإلى تراجع
كبير فيها. دام الحقب الثاني 180 مليون سنة، أي
أكثر بقليل فقط من نصف الحقب الأول. الحقب
الجيولوجية تتقاصر مع الزمن، لأنه تتوفر
لدينا معلوماتٌ أكثر فأكثر بفضل آثار الحياة،
فنستطيع أن نحدد، بالتالي، الانقطاعات
تحديدًا أدق. إن الحقب الثاني ينقسم إلى ثلاثة
عصور: الترياسي Trias والجوراسي Jurassique والكريتاسي Crétacé –
وخلال هذا الأخير اجتاحت الديناصورات الكوكب.
ونشهد انطلاقة جديدة هائلة للحياة. وبعد 30
مليون سنة، في نهاية العصر الترياسي، نجد
آثار أولى الثدييات؛ وفي الجوراسي كانت أولى
الطيور الطائرة؛ وفي الكريتاسي ولدت
النباتات الزهرية. وقد استمرت رقصةُ باليه
الصفائح التي لا تتوقف: محيطات تنفتح وأخرى
تنغلق، قارات تتباعد وأخرى تتقارب. ولكن خلال
هذه الفترة، كانت الأرض قد بدأت تتخذ تشكيلاً
أقرب إلى الشكل الذي نعرفه لها اليوم. ففي
بداية الحقب الثاني، كانت البانجي، القارة
الفائقة التي تجمعت في الحقب الأول بسبب
التصادمات، في طريقها إلى الانفجار؛ وكان
تيثيس Téthys، الخليج البحري الشاسع الذي
كان يفصل بين لوراسيا وغوندوانا، قد بدأ
بالانغلاق. في زمن المحيط
تيثيس، كان البحر يمتد على مدِّ البصر، بدءًا
من ساحل أوراسيا – البحر ولا شيء آخر سواه!
ومع ذلك، كان هذا السكون مضلِّلاً؛ إذ كان
يحصل شيء هام: فتيثيس كان يتقلص، وقعره
المحيطي كان يغوص في المعطف. وفي الوقت نفسه،
كان المحيط الأطلسي قد بدأ ينفتح. خاتمة: الأرض والبشر لا شك أن ظهور
البشر أدى إلى تغيير كبير في مُعامِلات تطور
الكرة الأرضية. فالاستهلاك البشري لموارد
الأرض يتم عشوائيًّا، بصرف النظر عن أية
معايير بيئية أو إنسانية. ولعل أخطر المشكلات
التي ستواجه كوكب الأرض قريبًا هي مشكلة
المياه. لكن هناك مشكلات، لا تقل خطورة، بدأت
آثارُها في الظهور منذ الآن، مثل ارتفاع
درجات الحرارة وذوبان الجليديات والنمو
السكاني والتلوث البيئي وانقراض الأنواع إلخ. لا شيء سيء عند
للأرض؛ ولا شيء حسن عندها أيضًا. فعندما نتكلم
على البيئة فإنما نتكلم على أنفسنا وعلى
حياتنا وعلى مستقبل نوعنا. لا يزال الوقت يسمح
لنا بالتصرُّف المناسب. فيمكن لنا أن نحدَّ من
ضخِّ النفايات أو أن نجد توازنًا. ولدينا
الوسائل الكفيلة بذلك، دون أن نضطر، في
سبيله، للعودة إلى نمط حياة بدائي أو شبه
طبيعي. خلاصة ما
نتوصل إليه من قراءة هذا الكتاب الجميل
والشائق هي أنه ليس لدينا سوى سفينة واحدة،
شاردة في رحاب الكون، – من دون زوارق إنقاذ
وبلا مأوى آخر ممكن! إن فردوسنا الأرضي رائع،
لكنه هش. وعلينا نحن أن نعتني به عناية فائقة
إذا أردنا ألا يكون هذا العصر هو "المشهد
الأخير"! *** *** *** [1]
André Brahic, Paul Tapponnier, Lester R. Brown, Jacques Girardon, La
plus belle histoire de la Terre, Éditions du Seuil, Paris, 2001. [2]
صدر منها بالعربية،
بترجمتي، كتابان هما: أجمل تاريخ للكون
وأجمل تاريخ للإنسان، عن دار "أكاديميا
إنترناشيونال" ببيروت؛ والمأمول أن تصدر
ترجمتي للكتاب الذي نحن بصدده قريبًا عن
الدار نفسها. (م.د.خ.) [3]
الأوليفين olivine هو الزبرجد الزيتوني اللون
المائل إلى الاصفرار. [4]
صفة "الفقارية" ترجمة
للفظة dorsales، بمعنى النقاط البارزة تحت
الماء، كمثل العمود الفقاري.
|
|
|