|
حول النص
والتاريخ ليس
بالتراث وحده تنشأ الأمم! ينطلق سالم يفوت، المحاضر في كلية
الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط، في
مبحثه النص والتاريخ: قراءات تاريخية[1]،
من مقولة تلح على أن البنية الذاتية الداخلية
للنصِّ التراثيِّ المحكم ترتبط "بشروطه
الخارجية التاريخية والموضوعية وسياقه
الفكري وأجوائه الإيديولوجية والمعرفية" (ص
5)، فيختار أربعة نصوص تراثية هي: رسالة
السقيفة لأبي حيَّان التوحيدي، والكلِّيات
في الطب والضروري في صناعة النحو لابن
رشد، ورسالة التوحيد للإمام محمد عبده.
واضح، إذن، أمران: أولهما أن الباحث يختار
نماذج متباعدة زمنيًّا ومعرفيًّا، وثانيهما
أنه "منحاز" إلى ابن رشد. ولا عجب! – فهو
جغرافيًّا جاره، وتراثيًّا نسيبه، و"الانحياز"
إلى ابن رشد فضيلة ومكرمة. وعندنا في المشرق
أحياه من القاهرة فرح أنطون. يرى
المؤلِّف أن رسالة السقيفة لأبي حيان من
روائع النثر الفني في القرن الرابع الهجري.
وهي رواية أخذها عن أستاذه المروروذي، يدعو
فيها أبو بكر عليًّا إلى ترك المبالغة في حبس
نفسه بالبيت وترك المغالاة في العبوس. حمل
الرسالة أبو عبيدة، وحمَّله علي تأكيدًا أن
قعوده في بيته لم يكن بقصد الخلافة، بل حزنًا
على فراق النبيِّ وفقده. نحن مع تحليل يخلص
إلى أن رسالة السقيفة كُتِبَتْ تلبيةً
لأغراض ومقاصد إيديولوجية ومذهبية تتمثل
أساسًا في إيصال دعوى الرافضة أو الروافض
لإمامة الشيخين، سواء كانوا شيعة أو معتزلة. أما عن
كتاب الكليات في الطب لابن رشد، فيشير
المؤلِّف إلى أن رغبتين حكمتا الموقف الطبي
الرشدي فيه: الرغبة في التمسك بالبرهان،
ممثَّلاً في أرسطو – الأصل الخالي من الشوائب
– والمنظومة العلمية الأرسطية، وبالرغبة في
الوفاء لجوهر الصناعة الطبِّية، الذي يظنه
ممثَّلاً في التجربة والاختبار (ص 43). وإلى هذا
العنصر الأخير يعود سرُّ إعجاب ابن رشد بكتاب التيسير
لأبي مروان بن زهر لأن صاحبه دخل ميدان الطبِّ
من باب الطبِّ وليس من باب الفلسفة. إلى
مخطوط لابن رشد بعنوان الضروري في صناعة
النحو[2]
الذي يرى فيه سالم يفوت منزعًا فلسفيًّا
أرسطيًّا في تناوله "صناعة النحو"، حيث
اللجوء إلى مصطلحات "المادة" و"الصورة"،
والركون إلى "الكلِّيات": فلا علم إلا
بها، وطريق بلوغها هو استقراء الجزئيات
وتتبُّع القواسم والسمات والخصائص والأصناف
والأجناس والأنواع. ومن هنا نجد ابن رشد
يقرُّ، مثلاً، أنه لمَّا
كان مخرج الضمَّة أرفع من مخرج الفتحة
والكسرة، سَمُّوا المعنى الذي تدلُّ عليه
الضمَّة والضمَّةَ نفسها رفعًا، وسَمُّوا ما
يقابل هذا الأخير خفضًا، وسمُّوا المتوسط
نصبًا، تشبيهًا بهذه الحروف في مخارجها، أي
في مخرج الحرف الواحد. (ص 56-57) ففي
نحوه ابتعد أبو الوليد عن طريق النُّحاة
وفارَق المألوف. إلى
النص الرابع، رسالة التوحيد لمحمد عبده،
الإمام والشيخ الأزهري ومفتي الديار
المصرية، والمنفي عندنا في بيروت لبعض السنة
والمدرِّس في حوض الولاية – ومدرستها قائمة
حتى الساعة قبالة الحديقة. يشير الكاتب في
قراءته لهذه الرسالة إلى أنها من بين آخر ما
ألَّفه الإمام، فيرى أنها التأليف المعوَّل
عليه في محاولة التماس مواقف الشيخ من علم
الكلام. ويمهِّد يفوت بعودته إلى عقائد
السَّلف ومذاهب متكلِّمي الخلف، ليبيِّن أن
تقليدًا تبلور في الثقافة العربية الإسلامية
"يدعو في مجال العقيدة إلى التمسك بعقائد
السَّلف، وقد أدرجنا نماذج من هذا التقليد[3]
بهدف الوقوف على الهاجس المشترك الذي
يحرِّكهما" (ص 77-78). هذا الهاجس – يعلمنا
سالم يفوت – هو البعد عن الخلاف والفرقة
والمذهبية التي طبعت مواقف الخلف؛ ومن هنا
تمسُّك رموز ذلك التقليد بلفظ "التوحيد"
بدلاً من لفظ "الكلام" أو "علم الكلام".
فلا عجب، إذن، أن يستهلَّ الإمام عبده رسالته
بقوله إنه سلك في العقائد مسلك السَّلف و"بعدًا
عن الخلاف بين المذاهب وبعدًا ممليه عن
أعاصير المشاغب" (ص 87). وفيما يخصُّ علاقة
الفلسفة بالدين وطبيعة علم الكلام، يلاحظ
المؤلِّف الشبه القوي مع ابن رشد: فالإمام
عبده أعلى من شأن الفلسفة باعتبارها مبحثًا
يستمدُّ آراءه من "الفكر المحض" (ص 80). كان فرح
أنطون ومحمد عبده قد اتخذا موقفين متغايرين
من الفلسفة الرشدية: كان عبده، وإنْ أُعجِبَ
بالفلسفة، أميل إلى نظام الأولويات
والأسبقيات؛ فنحن مع أزهريٍّ وإمام ومُفْتٍ.
أما أنطون فأول مَن جهر بالاشتراكية؛ ويصعب،
والحال هذه، الوصول إلى موقف مماثل من
الفلسفة عامةً وابن رشد خاصة. فلا عجب في
اتساع هوة الخلاف في السِّجال بينهما حول ابن
رشد وفلسفته. يرى يفوت أن ما كان يهم الشيخ
الأستاذ ليس أن "يتحول إلى فيلسوف محترف،
بل أن يدافع عن قيم الفكر الحرِّ والتسامح
والاختلاف" (ص 97)، فيلحُّ على أن المنطق
الثاوي خلف رسالة التوحيد أملتْه لحظةُ
المواجهة مع الغرب الليبرالي و"المهام
المستعجلة التي أصبحت منوطة بالأمة كي تستوعب
مكتسبات التقدم والحداثة والليبرالية" (ص
101). لكن هل يكفي أن لحظة المواجهة مع الغرب
الليبرالي تستدعي هذا المنطق الثاوي خلف رسالة
التوحيد؟! ثم مَن قال بأن هذا الغرب
الليبرالي – يا ما شاء الله من طبَّل له
وزمَّر! – "ليبرالي" غير مجموعة من
مثقفينا القابعين هانئين في أحضانه،
المتربعين على كراسي المعرفة الرطيبة؟! ثم ألم
يحن الوقت للإقرار بأن هذا الغرب "ليبرالي"
مع غربه، لكنَّه كاسرُ عظم مع شرقه؟! ونحن
الذين سلخ الغرب جلدنا باسم "الليبرالية"
عند أقدام الدولة العبرية، كيف نأمن أنه لن
يشوي لحمنا باسم "الديموقراطية" على
مرأى من الإمبراطورية الأمريكية؟! – لا سمح
الله بقيامها! ألم يقتنع المطبِّلون
للِّيبرالية الغربية والمزمِّرون لها عندنا،
بعد ضياع فلسطين – والأرجح إلى الأبد! –
وسقوط بغداد تحت سنابك الحملة الأنكلوأمريكية – ربما لوقت طويل –، أن
المطلوب عنق المنطقة، من مسقط إلى طنجة؟ – ود.
يفوت، في الرباط، غير بعيد عنها، وأغلب الظن
أنه يدرك تمامًا أن هذا البرقع الليبرالي
للحضارة الغربية لا يحجب النَّصل اللامع فوق
عنق مَن يعاندها! وما
عندي شك أبدًا في أن المؤلِّف يتفق معي – ولو
جزئيًّا، إنْ لم يكن كليًّا – على رؤية نيتشه
القائلة بأن هذه الحضارة الليبرالية الغربية
نفسها نهضت على سفكٍ وكبتٍ وقمع – فكيف لو
تلفتتْ صوبنا! والبرهان جليٌّ – وعلى عينك يا
تاجر! – يوم نهب بغداد من حضارة بانيها على
مدى خمسة آلاف عام، حتى صرنا نترحَّم على عظام
ناپوليون حيث هي في الپانثيون! ومتفائل أكثر
منِّي د. يفوت لو اعتقد أن تراثنا ينحو نحو
الليبرالية. فمثقفونا، لو حكمونا، لأبادونا
– والتجربة معهم، حتى على ورق، أكبر برهان!
وفي هذا الاتجاه أصاب في اختياره نصَّ الإمام
عبده. فهل يُعقَل أنه حتى اليوم، وبعد قرن
ونيِّف على رسالة التوحيد، لم يصدر ما
يضاهيها دعوةً إصلاحية، تحت خانة الذرائعية
الواعية، عن دعاة الليبرالية عندنا – كي لا
نقول من مشايخ الأزهر – اللهم سوى عن تلميذَي
عبده نفسه: علي عبد الرازق وطه حسين. ففي
الإسلام وأصول الحكم (1925) خرج عبد الرازق
على "الأصول" وطُرِدَ من المشيخة إلى
الأبد؛ أما طه حسين في في الشعر الجاهلي
(1925 أيضًا)، فطوَّح بالموروث وعُزِلَ من عمادة
الجامعة المصرية التي أنشأها لسنوات. وإذا
كان طه حسين لم يقر في الأيام سوى بفضلِ
معمَّم واحد عليه، هو أستاذه عبده، فتلك
دلالة ما بعدها على "ليبرالية" عبده في
دفع عبد الرازق وطه حسين إلى مقاعد أكسفورد
والسوربون، وعلى أثرها على الحركة الوطنية في
مصر مع سعد زغلول ومصطفى كامل – وإن كان كتاب
عبده الإسلام والنصرانية (1902) ورسالته
في التوحيد قوبلا بهجوم عنيف وشرس من نجل
خليل سعادة، الوثيق الصلة بزغلول وكامل،
المُهاجر إلى القاهرة آنذاك هربًا من حركة
التتريك في لبنان. فمن مهجره في الأرجنتين،
عقد ابنُه أنطون سعادة، بعد أربعين عامًا على
صدور مؤلَّف عبده، فصولاً في الإسلام في
رسالتيه، فلم يفاضل فيه بين المحمدية
والمسيحية، متصديًا لعبده، مسوِّيًا حساباته
معه، وكذلك مع ناصر الكواكبي. أسوق
هذا – وإنْ شططت – كي يلتفت د. يفوت إلى هذا
المبحث الذي صاغ أفهام عدد كبير من
العقائديين شرق السويس. وإذا كان يفوت غرب
السويس ودار نشره شرقه، فدلالة على أن نصَّ
التراث عندنا بنيتُه وعناصرُه من
مكوِّناتنا، أي ما سعى الباحثُ إليه فأضاء
جوانبه، وعلى أنه ليس بالتراث وحده تنشأ
الأمم! ***
*** *** عن النهار، الأربعاء 15
كانون الأول 2004 [1] صدر
لدى "دار الطليعة"، بيروت، 2004. [2] اكتُشِفَ بالأمس
القريب في نواكشوط، فحقَّقه في العام 2000
باب ولد هارون ولد الشيخ سيدي ونَشَرَه في
العاصمة الموريتانية. [3] في كتاب يفوت محمد
بن عبد الوهاب، كتاب التوحيد، بيروت، 1991.
|
|
|