|
الفنُّ باعتباره
دراما إنسانية عِبْر مسيرة الفنِّ
الطويلة والمتشعِّبة، لم يتوقف التساؤلُ حول
«ماهية الفن» عن طرح نفسه، واستمرتْ حتى
يومنا هذا – دون جدوى – محاولاتُ إيجاد
تعريفٍ متَّفَقٍ عليه للفن، حيث وُضِعَتْ
للفنِّ تعريفاتٌ متنوعة ومختلفة، بل
ومتناقضة، مثل: «الفن متعة لذيذة» (كانط)؛ «الفن
مملكة الرائع» (هيغل)؛ «الفن مملكة الوهم
الجميل» (شيللر)؛ «الفن حدس» (كروتشه)؛ «الفن
رؤيا»؛ «الفن أسلوب حياة»؛ إلخ. لكني،
في مقالي هذا، سوف أخرق القاعدة، ولن أحاول
الاختيار أو التوفيق بين مختلف هذه
التعريفات؛ كما أني، بطبيعة الحال، لن أقدِّم
تعريفي الخاص للفنِّ، وذلك لاعتقادي بأن
الفنَّ عصيٌّ على التعريف، لا تحيط به
العبارة، تمامًا مثل الحياة والموت والحرية
والحب والجمال... فالفن ليس شيئًا محددًا يمكن
الإشارة إليه والقول: «هذا هو الفن». لذا سوف
أحاول مناقشة بعض الأفكار والمفاهيم عن الفن
التشكيلي تحديدًا؛ فربما، بهذه الطريقة،
نتمكن من تفكيك بعضها للوصول إلى أقرب تصور
ممكن لماهية الفن. كثيرًا
ما رُبِطَ الفنُّ بالوحي والإلهام والرؤيا
والحدس والإبداع و... الروح؛ الأمر الذي
طَرَدَ الفنَّ إلى خارج العالم والواقع
والطبيعة، ورَفَعَه فوق فضاءات الفكر والعقل
والإدراك، بحيث بات أقرب إلى اللاهوت
والمسائل الغيبية، مما أفسح المجال لقول أيِّ
شيء غير مفهوم أو بلا معنى عن المفاهيم الفنية
المتنوعة. ونعثر على مقولات كهذه لدى
المثاليين الذين يستخدمون لغة «صوفية» أقرب
إلى اللغو، على الرغم من ترفُّعها وتعاليها
الظاهري، وكذلك لدى الماديين الذين يتطرف
بعضُهم إلى درجة إلغاء الواقع والطبيعة لصالح
فنٍّ ما أسمى من الواقع والطبيعة. فبنديتو
كروتشه (المثالي الذاتي)، مثلاً، يرى أن الظواهر
المادية غير حقيقية، وأن الفكر هو الواقع
الوحيد، ليُطابِقَ بين الروح والحدس
والشعور في تعريفه للفن، وليبرهن، بالتالي،
على تعالي الفنِّ عن الواقع ومفارقته له، بل
ليصل إلى نفي الواقع المحسوس، ربما
نكايةً بالماديين، قائلاً بأن الفنَّ هو
الواقع وبأن الفنان « ينتج ما يشعر به»: ما على
الناقد الفني إلا أن يستعيد شعور الفنان
ليتمكن من الولوج إلى عمق إبداعه. لكن كروتشه
يعجز عن إفهامنا معنى كلمة «الحدس»، التي
كانت «موضة» عصره، فيُطابِق بينها وبين «الروح»
و«الخيال» و«التصور» و«التعبير» و«التأمل» و«الروح»،
ليقول لنا، في النهاية، إن «الحدس هو الحدس»،
فلا نكون قد ظلمناه إن قلنا إنه لم يقرِّبنا
بتاتًا من التعرُّف إلى حقيقة الفن! يلاقيه
روجيه غارودي (الواقعي الاشتراكي آنذاك) من
ضفة «واقعيته» – التي «لا ضفاف لها» حقًّا! –
ليقول: «لا يمكن لنا أن نسمي فنًّا إلا ما هو
إنساني حقًّا، أي ما هو ليس طبيعة، بل ينفصل
بالذات عن الطبيعة»، متكئًا على مقولة پيكاسو
(بعد تشويهها بما يتناسب مع إيديولوجيا
المفكِّر) التي يقول فيها: «الطبيعة والفن
شيئان مختلفان، ونحن نعبِّر، بواسطة الفن، عن
مفهومنا لما نفتقده في الطبيعة». وبقليل من
التمحيص لا تصعب علينا ملاحظةُ الفرق بين
المقولتين: فپيكاسو لا ينفي الطبيعة ولا
يلغيها، بل يلتقي مع ذلك المفهوم الشائع لدى
الفنانين، الذي عبَّر عنه إدغار دوغا قائلاً:
«حتى الهواء الذي في اللوحة ليس هو الهواء
الذي نتنفَّسه». قدَّمنا
نموذجين فقط؛ ويمكن العثور على المئات من
تحليلات كهذه لكتَّاب ومفكِّرين يُعدُّون «كبارًا».
وما على القارئ إلا العودة إلى أقوال
السورياليين، مثلاً، – إلى آراء بروتون
وأراغون وكوكتو، – التي ينفون فيها الموهبة
باعتبارها رياءً، والخبرة لكونها نفاقًا،
ليكتشف مدى تأثير الانتماء الفكري
والإيديولوجي للكاتب على آرائه وأفكاره، مع
معرفتنا جميعًا أن السورياليين كانوا ببساطة
«يكذبون» من باب التمرُّد: فهم لم يتركوا
بابًا للإبداع إلا وطرقوه! لكننا لن نتوقف عند
نقد تلك الآراء؛ فليس هذا هدف مقالنا المعني
بمناقشة بعض المفاهيم المتداوَلة في الحقل
الفني. من
التعريفات بالفن الملفتة للنظر هذا الذي يقول
إن «الفن تعبير عن رؤيا» – لتكرَّ سبحةُ
الكلمات المتقاطعة مع كلمة «رؤيا»، مثل «الإبداع»
و«الإلهام» وغير ذلك. وربما تكون مقولة إن «الفن
رؤيا» أكثر تسرُّعًا ولامسؤولية في هذا
السياق، لأنه إن كان الفن رؤيا «يمكن عندئذٍ
لأيِّ إنسان أن يكون شاعرًا»، كما ادَّعى
أندريه بروتون في بيان السوريالية، ليصل
في تطرُّفه ذاك إلى القول: «أيُّ فضل للشاعر
الذي يدوِّن ما يُمْليه لاوعيُه؟» (و«اللاوعي»
لعنةُ فرويد التي تقمَّصتْ معظم المبدعين
الذين عاصروا كشوفات أستاذ علم النفس.) لكننا
نعرف أن هذا غير صحيح: فليس جميع الناس شعراء
وفنانين، على الرغم من موافقتنا على أن
الحدوس والرؤى ليست حكرًا على قلَّة من «المختارين»؛
بل يمكن التأكيد، وفقًا لمفهوم أوسع للإنسان
والطبيعة، بأنها ملَكات طبيعية في
الإنسان. ولذلك فإن اعتبار الفنِّ شيئًا
متعاليًا عن الواقع، مفارِقًا للطبيعة، إنما
يستند إلى مفهوم بالغ الضيق للطبيعة والواقع،
ويرتكز على «وهم الانفصال»: انفصال الإنسان
عن العالم، الذات عن الموضوع، الداخل «الروحي»
عن الخارج «المادي»، إلى آخر هذه الثنائيات. كذلك
القول بأن الفنَّ «تعبير عن رؤيا» ليس دقيقًا
تمامًا، وليس صحيحًا دائمًا. أحيانًا يكون
العمل الفني «محاولة» من الفنان للتعبير عن لحظة
إشراق أو ما يُعتبَر وَحْيًا خارقًا أو
فكرةً عبقرية؛ لكن المحاولة تفشل دائمًا في
عكس الرؤيا على القماش. فـ«الرؤيا» ليست إلا «لمحة
خاطفة تطفو على سطح الوعي كوميض البرق»، بحسب
تعبير تولستوي؛ في حين أن العملية الفنية
تخضع – حتمًا – لعامل الزمن والتغيُّر
والتحريف، عندما يحاول الفنانُ نقلَ تلك «اللحظة»
إلى القماش عِبْر موشور الفكر والخبرة
والمهارة والأسلوب. ولذلك قيل: «إن الرؤيا
تكون دائمًا أكثر سطوعًا وإثارةً من تصويرها
على القماش». غوستاف كوربيه: "كسَّارو
الحصى" (1834) كذلك
الأمر فيما يتعلق بالفصل بين دواخل الفنان
وبين العالم الخارجي. ولنأخذ، أيضًا، مقولتين
لأستاذين كبيرين. يقول غوستاف كوربيه: «يقوم
الفنُّ على تصوير الأشياء التي يراها الفنان
ويلمسها»؛ بل يذهب إلى حدِّ رفض الخيال،
فيعتبر الفنان «عينًا فقط». في حين يقول هنري
ماتيس بأن «التصوير يتَّجه نحو التركيز
الداخلي». كلتا المقولتين تنظر إلى الفنِّ من
جانب واحد: فالفنان عاجز عن تصوير الأشياء دون
أن يتورَّط معها فكريًّا ونفسيًّا، لأن العين
ليست عضوًا مستقلاً ومنعزلاً عن الفكر
والشعور، بل هي تفكِّر وتحب وتكره وتُفاضِل
وتُحاكِم وتختار. (وهنا يكمن الفرق بين العين
والعدسة، بين الفنِّ التشكيلي والتصوير
الفوتوغرافي، الخالي من الخيال والعاجز عن
استخدام إمكانات الحذف والهدم والإضافة
وإعادة التشكيل إلخ.) كما لا يستطيع الفنان
التركيز على «الداخل» في معزل عن الذاكرة
والخبرة المكتسَبة من خلال الكينونة في
العالم. صحيح أن الفنان لا يصوِّر العالم
الموضوعي كما هو – وهذه ليست مهمة الفنِّ، إن
كانت للفن «مهمة» أصلاً – لكنه يصوِّر العالم
كما يراه الفنان، ويشعر به، ويعيشه. فبمعنى
أوسع للعالم، يمكن النظر إلى الخيال باعتباره
«في العالم»، وليس «خارج العالم»، كما يذهب
الكثير من الثرثارين الذين لا يتمعَّنون في
أقوالهم جيدًا. هنري ماتيس: "هارموني
بالأحمر" (1908) ونجد،
كذلك، في المؤلَّفات حول الفن، تكرارًا لكلمة
«إبداع»: العمل «الإبداعي»، العملية «الإبداعية»،
إلخ. ولذلك نطرح السؤال التالي: ما المعيار
المعتمَد لتقييم عمل فنيٍّ ما فيما إذا كان «بديعًا»
أم لا؟ وفقًا
لمدلول ضيِّق ومحصور لكلمة «إبداع»، التي
تعني: الجدَّة المطلقة، الخلق من عدم، يمكن
تأكيد عدم وجود أيِّ عمل فنيٍّ يمكن إطلاق صفة
«بديع» عليه. ولكن بالتأكيد ليس هذا هو المعنى
المقصود بهذه الكلمة المستخدَمة في النقد
الفني. فالإبداع في الفنِّ يعني الفرادة
والتميُّز، حيث تقوم خاصيةُ كلِّ فنان مبدع،
وكل عمل بديع حقًّا، وحيث يتمكَّن
الفنانُ من التعبير عن رؤية متفرِّدة
لموضوعه، فيعكس فيها تجربتَه الخاصة وخيالَه
المتميز، بل وأسلوبه الفريد، لينصهر ذلك كله
في عمل إبداعي لا يتكرر. وهنا يتجلَّى سرُّ
الإبداع الذي لا يمكن تفسيره، ولا ينبغي.
ولذلك نقول: «تقليد رائع» أو «محاكاة مذهلة»،
ولا نستخدم صفة «بديع» للتقليد والمحاكاة. بل
أتجرأ على القول بأنَّ الفنان نفسه عاجز عن
تقليد نفسه تقليدًا كاملاً، لأن التفرُّد
الإبداعي غير قابل للتكرار. فلو تتبَّعنا
التفاصيل والدقائق المرافِقة لبناء العمل
الفني وتشكيله، وما يعايشه الفنانُ في تلك
الأثناء، لا بدَّ أن ندرك عجزَنا عن حصر
العوامل والمؤثرات اللامتناهية الفاعلة في
العمل الذي يتغيَّر في كلِّ لحظة، مع كلِّ
شهيق وزفير وضربة ريشة وفكرة. ولعمري إن
الإقرار بهذا «العجز» لأفضل بكثير من الثرثرة
وادِّعاء المعرفة ببعض الشذرات الملتقَطة من
هنا وهناك. فالنظر إلى العمل الفني والتعاطف
معه أفضل من محاولة شرحه وتفسيره، كأية
حالة جمالية يعاينها الإنسانُ أمام منظر
طبيعي مذهل، أو توقٍ داخليٍّ جارف. ميكِلانجلو، "الخطيئة
الأصلية والطرد من عدن" ("سقوط الإنسان")،
قبة مصلَّى سِسْتينا (1509-1510) الفنان
لا يريد أن «يقول» شيئًا، – وإلا لاستخدم
الكلمات، – بل يحاول التعبير عما لا يمكن
للكلمات أن تفصح عنه، مستخدمًا قيمًا
تشكيلية ليصوِّر، لا ليقص. وليست مهمة الفنِّ
أن يعظ، بل أن يوحي بمشاعر وانطباعات وأحاسيس
وجماليات، لإشراك المُشاهد ككائن فاعل في
الفضاء الفنِّي. ولذلك نجد أن الكلمات
المستخدَمة للتعبير عن التفاعل مع العمل
الفنِّي هي: يحس، يشعر، إلخ. يقول ميلليه، على
سبيل المثال: «حين رأيتُ رسم ميكلانجلو الذي
يمثِّل سقوط الإنسان أحسستُ بالآلام
تعذِّبني كما عذَّبتْه، وشعرت بالشفقة»؛
ويقول بودلير: «أرى في الپورتريه سيرةَ حياة
محوَّلة إلى دراما». لذلك ليست مهمةً معرفةُ
دوافع الفنان ومقاصده وأفكاره ومشاعره لكي
يتذوق المُشاهدُ متعةَ العمل الإبداعي؛ بل
عليه بالحري أن يتعلم كيفية النظر إلى
اللوحة، بدلاً من الاستماع إلى الشارحين
الذين «يتحدثون عن أحاسيسهم بدلاً من تحليل
العمل الفني»، كما عبَّر بوغوميل راينوف. رِمبرانت، "پورتريه
ذاتي" (1661-1662) للفنِّ
«لغتُه» الخاصة. ومَن يراه مبهمًا وغامضًا
وغير «مفهوم» عليه أن يتعلم هذه اللغة
القائمة على التعاطف والمشاركة ورهافة
الحسِّ ورقة المشاعر ورقيِّ المدارك. لذلك
تختلف مستويات التقبُّل ومعايير التقويم بين
فرد وآخر، مع الإشارة إلى أن «الإعجاب» و«النفور»
ليسا معيارين نقديين: ففي الأعمال الفنية البديعة
حقًّا لا وجود لثنائية «جميل» و«قبيح»؛ فهنا
حتى القبيح يكون جميلاً، أو كما قال أحد
المعلِّمين (لم أعد أذكر مَن): «في الفنِّ،
القبيح أجمل من الجميل». ويقول پول سيزان: «كلُّ
ما هو طبيعي جميل». كلود مونيه، "أزهار
النيلوفر" (1905) من
كلِّ ما سبق، نكتشف أن الفن كالحياة، التي
يمكن القول إنها دراما يعيشها الإنسان
بقدر ما يخلقها ويشارك في سيرورتها. ولذلك فإن
أهم ما في الفن، في رأيي، ليس المكوِّنات، –
الفنان واللوحة والمشاهد والأدوات إلخ، – بل العلاقات
القائمة فيما بينها. فالعملية الفنية، أي عمل
الفنان على اللوحة، هي التي تخلق الفنان
والعمل الفني معًا وتنمِّيهما. كما أن
العلاقة التي تقوم بين المُشاهد والعمل الفني
تساهم في رفع سوية الحسِّ الجمالي والتعاطف
الوجداني لدى المُشاهد، من جهة، وفي رفع
القيمة العاطفية للعمل الفني، من جهة أخرى،
لأن العمل الفني لا يمكن له أن يقدِّم
للمُشاهد ما يفتقر إليه؛ فهذا الأخير غير
قادر على تخليد العمل الفني غير البديع وغير
الأصيل حقًّا. يان فِرمير، "وازِنة
الذهب" ("وازِنة اللؤلؤ") (1662-1664) الرسم
ليس فنًّا صامتًا، كما يقال؛ كما أن الزمن
غير متوقف في اللوحة: العمل الفني يتكلم،
والزمن ينبض خفقًا في القلب عندما يبرز
الانسجامُ العاطفي والمشاركة الوجدانية.
هكذا يتعرَّف الفنان إلى نفسه وإلى العالم في
سيرورة العملية الفنية، لينخرط المُشاهد في
الدراما التي خلَّدها الفنانُ في عمله. ومن
خلال هذا التفاعل المعقَّد بين الفنان
واللوحة والمُشاهد يبني كلُّ إنسان لنفسه
تصورًا متفرِّدًا لماهية الفنِّ – لنصل إلى
النتيجة التي بدأنا منها مقالَنا، ألا وهي
استحالة حصر الفنِّ في كلمات جوابًا على
السؤال الأزلي: ما الفن؟ *** *** *** مراجع ومصادر - جارودي، روجيه، واقعية بلا ضفاف: پيكاسو – سان جون پيرس – كافكا، بترجمة حليم طوسون، دار الكتاب العربي، القاهرة 1968. -
راينوف،
بوغوميل، الفانوس السحري: دراسات في الفن
التشكيلي العالمي، بترجمة ميخائيل عيد،
وزارة الثقافة السورية، دمشق 1997. - كروتشه، ب.، المجمل في فلسفة الفن، بترجمة وتقديم سامي الدروبي، طب 2، دار الأوابد، دمشق 1964. -
نادو،
موريس، تاريخ السوريالية، بترجمة نتيجة
الحلاق ومراجعة عيسى عصفور، سلسلة دراسات
نقدية عالمية (15)، وزارة الثقافة السورية،
دمشق 1992.
|
|
|