|
مدخل
نظري إلى التصوُّف الإسلامي التصوُّف
هو أن تعبد الله، لا طمعًا في ثواب، ولا خوفًا
من عقاب، بل أن تعبد الله حبًّا في الله – مما
يعني انتفاء الغرض؛ وهو ما تقتضيه طبيعةُ الإخلاص.
بذلك ينهض التصوف على ركن أساسي هو الحب
والإخلاص فيه. ومن هنا كان قول رابعة العدوية
تخاطب الله تعالى:
وباعث الحبِّ جمالٌ في
موضوعه يأتي مطابقًا لما عند المحبِّ من جمال
في ذاته العاشقة. فأنت، في الحقيقة، لا تحب
سواك؛ فما ثَمَّ إلا محب ومحبوب. فالجمال الذي
تراه في محبوبك هو انعكاس لجمال فيك؛ فهو فعل إسقاط
projection
منك إليه. والجمالات التي تتمرأى
في الطبيعة، من جبال شامخة، وعيون جارية،
وأودية ممرَعة، ما هي إلا مجالي أسماء الله
الحسنى. يميِّز الصوفية نوعين من
أسماء الله الحسنى: أسماء الجمال،
كالرحيم والغفور والتوَّاب والشَّكور،
وأسماء الجلال، كالجبار والمتكبِّر
والقاهر والعظيم. والمؤمن مدعوٌّ إلى
الاتِّصاف بأوصاف الجمال، والنأي بنفسه عن
أوصاف الجلال؛ ففي الحديث القدسي: "الكبرياء
ردائي والعظمة إزاري؛ من نازَعَني فيهما
قصمتُه." *** وكما
أن المحبَّ، عندما يحب، لا يحب عن اختيار،
فكذلك الصوفي، عندما يتصوف – أي عندما يحب
الله – لا يحب هو أيضًا عن اختيار. فالمحبة،
ابتداءً، تأتي من الله، لأنه هو يبدأ
الإنسانَ بالمحبة، فيكون محبوبًا قبل أن
يكون محبًّا (كما أن المريد مراد قبل أن
يكون مريدًا). ذلك لأن المحبوب يجذبك إليه قسرًا
عنك لكي تحبَّه. وهذا الانجذاب يُخرِجُك عن
نفسك ويزرعك في محبوبك، بحيث توجد في محبوبك،
لا في نفسك. الوجود في المحبوب هو ما يُعبَّر
عنه صوفيًّا بـ"الفناء عن السوى" و"البقاء
في الله"، أو بـ"الفناء عن الخلق" و"البقاء
في الحق". بعبارة أخرى، إن الحبَّ ضَرْبٌ من
الموت: موت المحبِّ في نفسه، أو عن نفسه،
وانبعاثه في محبوبه. ومن هنا قول أبي القاسم
الجنيد، شيخ الصوفية، في معرض تعريفه للتصوف:
"هو أن يميتك الحقُّ عنك ويحييك به" – أي
أن يميتك الحقُّ عن نفسك ويحييك خلقًا آخر،
أقوى وأجمل مما كنت فيه قبل موتك. ولعل هذا
يتقاطع مع ما يُعرَف في المسيحية بـ"الولادة
الثانية"، وهي ولادة روحية – وكلُّ
ولادة روحية هي، في نظرنا، ولادة من عذراء! *** وليس
يبعد عن هذه الجدلية – جدلية الحياة والموت –
قولُ بعضهم بأن التصوف يقوم على "دخول صفات
المحبوب على البدل من صفات المحب". وهذا لا
يتم إلا بعد أن يصبح العبد مع الله بلا علاقة:
بلا علاقة دنيوية تقدح في إخلاص حبِّه لله، من
مثل متابعة أهواء النفس والانقياد إلى وساوس
الشيطان. كثيرًا ما نسمع مَن يقول: "فلان
قتلني، أو فلانة قتلتْني، حبًّا." هذا
القول ينبغي أن نفهمه، لا مجازًا، بل حرفيًّا
وحسيًّا؛ وذلك لأن المحبوب ينتزع من محبِّه
حقيقةَ وجوده وينقلها إلى حيث المحبوب؛ وهذا،
بدوره، يعاني من نفس انعدام الوجود. أي أن
كلاً من المحبِّ والمحبوب ينتزع وجودَ محبوبه
وينقله إليه تبادليًّا: فالمحبوب لا وجود له
بنفسه؛ والمحب أيضًا لا وجود له بنفسه. فأين
هما؟ لقد أصبحا حقيقة واحدة، وجودًا واحدًا!
ولعل هذا ما أراد أن يعبِّر عنه جِران العَوْد
النميري في قوله:
*** أين
يوجد الإنسان؟ هل يوجد في نفسه أو ذاته، أم
يوجد في الله؟ لقد أوْهَمَه وعيُه لذاته أن له
وجودًا مستقلاً عن الله. وهذا الوعي الذاتي
هو ما اصطُلِحَ على تسميته في اللاهوت
المسيحي بـ"الخطيئة الأصلية": الخطيئة
التي أحدثتْ فجوةًً بين الله والإنسان. وهذا
الوعي الذاتي هو أيضًا مَناط التكليف: إذ لولا
الوعي لما كان نَهْيُ الله لآدم عن الأكل من
الشجرة المحرَّمة – وهي "شجرة الخير والشر"،
على حدِّ رواية التوراة. من هنا كان من أهداف التصوف
– وهو أيضًا من أهداف الشريعة – رَدْمُ
الهوَّة بين الله والإنسان والعودة (التوبة)
إلى الحال التي كان عليها "قبل أن يكون"،
على حدِّ تعبير الصوفية – لكن هذه المرة مع
إقرار منه بأنْ ليس له وجود منفصل عن الله –
العودة إلى حيث ينعدم التناقض، ويسود انسجام
كوني وسلام دائم؛ وهو ما يمكن أن نسميه "الحالة
الفردوسية"، حيث "تحيتهم فيها سلام". *** كذلك
إن من أهداف التصوف تنميةَ البُعد الإلهي في
الإنسان. ويتمثل هذا البُعد في "نفخة الروح"
التي أوْدَعَها الله الإنسانَ عندما أشْهَدَ
الملائكةَ على خلق آدم قائلاً: "إني خالقٌ
بشرًا من طين. فإذا سوَّيتُهُ ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين." وغنيٌّ عن البيان أن
هذا السجود إنما كان للـ"روح" التي
نَفَخَها الله في ذلك الجسد الفخاري، لا لآدم
المخلوق من طين. وهذا الروح المودع في الجسد
إما أن ينمو وإما أن يضمر؛ ونموُّه أو ضموره
خاضع لإرادة الإنسان واختياره بين الخير
والشر. يقول تعالى: "ونفس وما سوَّاها
فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكَّاها
وخاب من دسَّاها." فالتصوف، من هذه
الناحية، يلتقي مع سائر الأديان، من حيث إنها
تهدف إلى الارتقاء بالإنسان إلى ما فوق شرطه
البشري، الذي يتمثل في الخضوع إلى غرائز
حبِّ التملك والسيطرة والانغماس في ملذات
البطن والفرج إلخ. على أن البُعد الإلهي يحتاج
– بالإضافة إلى التخلص من الآفات المذكورة –
يحتاج أيضًا، كي ينمو ويكبر، أن ترعاه الطقوس
والصلوات والأوراد والأدعية، حتى يشيع في
كلِّية الإنسان، في كلِّ ذرة من ذراته، وكلِّ
خلِّية من خلاياه، بحيث يصير الله "سمعه
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي
يبطش بها، ورجله التي يسعى بها"، كما جاء في
حديث "قرب النوافل"، الحديث القدسي
المشهور. *** على
أن طريق الحبِّ الذي يستثيره في قلب الإنسان
توهُّجُ انعكاس الأسماء الجمالية على
الأشياء والأشخاص إنما هو أحد بُعْدين من
التجربة الصوفية؛ وهو لا يُغني عن التصرف على
البُعد الآخر – وهو الأهم عند ر. غينون وف.
شووُن – ألا وهو بُعد المعرفة أو "العرفان"
gnosis،
الذي يتحقق عندما تتوالى على الصوفي وارداتُ
الأسماء الجمالية والجلالية، بما يتيح له
معرفةَ الله من خلال مجالي أسمائه الحسنى "في
الآفاق وفي الأنفس"، عندما ينطق كلُّ شيء
بأحد أسمائه أو بجملة من أسمائه تعالى، عندما
يعرف اللهُ نفسَه من خلال معرفة الصوفي له،
تمامًا مثلما يحب اللهُ نفسَه من خلال حبِّ
الإنسان له. وهذا هو الهدف من الخلق: أن يعرف
الإنسانُ ربَّه من خلال تعريف الله له بنفسه،
وأن يعرف اللهُ نفسَه من خلال معرفة الإنسان
لله. يقول الله تعالى: "وما خلقت الجنَّ
والإنس إلا ليعبدون." يقول ابن عباس: "إلا
ليعرفون"، تفسيرًا لختام الآية السابقة.
وفي حديث قدسي (غير ثابت) يتناقله الصوفيون،
يقول الله تعالى: "كنت كنزًا مخفيًّا،
فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني."
لكن عدم ثبوت هذا الحديث لا يقدح في صحة
مضمونه، من حيث إن باعث الخلق حبٌّ فاض عن
إنائه، حتى كَشَفَ عن مكنونات ذاته في هيئة
كائن تجتمع فيه جميع الأسماء الإلهية ("الإنسان
الكامل")، هو آدم وحواء، أو "حوادم"!
وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأكبر محيي الدين بن
عربي في فصوص الحكم إذ يقول (من "فص حكمة
إلهية في كلمة آدمية"): إن
رؤية الشيء نفسَه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسَه
في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه يُظهِر له
نفسَه في صورة يعطيها المحلُّ المنظور فيه
مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحلِّ
ولا تجلِّيه له. حلب،
1 ربيع الأول 1423/ 12 أيار 2002 ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة
|
|
|