|
حقُّ
الإنسَان في مُقَاوَمَة القَوَانين
الجَّائرة منذ
القديم، دَرَجَ الفكر البشري على محاولة
التمييز بين ثنائيات متعارضة، كالخير والشر،
والفضيلة والرذيلة، والحقِّ والباطل، والعدل
والظلم، والحُسْن والقبح، إلى آخر ما هنالك
من تنوع في هذه الثنائيات التي تتبدَّى في
جميع مجالات نشاط الفكر وفي حياة البشر. وإذا كان يبدو أن العالم
كان، على الدوام، في صورة واحدة على وجه
التقريب من هذه الثنائيات، وكانت فيه، في
العصور كلِّها، النِسَبُ نفسها من الخير
والشر، وإذا كان هذا الخير وهذا الشر قد قاما
بتغيير مواقعهما في بعض الأحيان، وانتقلا من
إمبراطورية إلى أخرى، فإنه لا يوجد شيء ثابت
تحت الشمس، ولن يتصف شيء بثباته أبدًا: فالشر
يخلف الخير، والخير يخلف الشر. ولكن هذا لا يعني استسلام
الإنسان وتوقُّفه عن الكفاح. فعلى مدار
التاريخ، وُجِدَ أناسٌ يتطلعون إلى الخير
والعدل والفضيلة والقيم الأخرى الرفيعة التي
تعرَّف إليها الإنسان؛ وعلى مدار التاريخ،
كانت حياة هؤلاء هي النقاط المضيئة للبشرية
في تطلُّعها لمَثَل أعلى. وإذا كان الوقوف في
وجه التيار غير ميسور دائمًا، فإن من
المستطاع، على أقل تقدير، التوجُّه إلى قنوات
يتم بها، إلى حدٍّ ما، كَبْحُ جماح النهر عند
اندفاعه. وفي هذا تؤدِّي رسالةُ الفكر دورَها
الباهر، لاسيما أن أسمى ما يتميَّز به العقلُ
البشري قدرته على إلقاء الضوء على نفسه وعلى
ما يتعارض معه، وقدرته على الكشف عن الحقيقة
والزيف، على حدٍّ سواء. إن مسألة الفكرة والواقع،
أو النظرية والممارسة، كانت – ولا تزال – من
أبرز الهموم التي تؤرق الإنسانَ المتطلِّع
إلى التقدم والرقي. وقد تصدى الكثيرون، في
أزمنة مختلفة، للبحث في هذه المسألة؛ حتى إن
تعاليم الأديان قد أشارت إلى ما في التنافر
بين القول والفعل من خطر. فقد نبَّه على ذلك
القرآن الكريم بالقول: "يا أيها الذين
آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند
الله أن تقولوا ما لا تفعلون." ومع ذلك،
استمرت الفجوة بين القول والفعل، وبين
النظرية والتطبيق، واستمرت نظرية السياسي
الإيطالي ماكيافيللي تُمارَس عمليًّا في حكم
الشعوب: صياغة الأنظمة والعمل بخلافها،
وبقي قولُه في كتاب الأمير: في
الحياة السياسية لا تستطيع وَضْعَ حدٍّ فاصل
بين الفضيلة والرذيلة؛ فكثيرًا ما يتبادل
الاثنان موضعيهما. ولو استعرضنا الأمور من
نواحيها كافة، سنرى أن بعض الأشياء التي تبدو
فاضلة للغاية سيكون لها تأثير مهلِّل على
الأمير عندما تتحول إلى أفعال، على حين تتصف
أشياء أخرى بالنفع، وإنْ كان يُنظَر إليها
على أنها شريرة. ففي السياسة، كلُّ الأشياء
تغيِّر موضعَها ويصير الظلمُ عدلاً والعدلُ
ظلمًا. ومع ما في هذا القول من
انطباق على الواقع أحيانًا، إلا أن الشر، وإن
كان يصح أن يُنعَتَ ويتَّسم بالكمِّ وبالكيف
– كأن نسأل: كم هو؟ وكيف هو؟ – لكنه لا يصح
نعتُه وتصنيفه إلى حَسَن وقبيح – كأن نسأل:
أحَسَنٌ هو أم قبيح؟ قد يقال: سرقة قبيحة
وسرقة أقبح؛ ولكنه لا يقال: سرقة حسنة وسرقة
قبيحة. وهكذا الاستبداد: لا يمكن تصور الحُسْن
له ولا الشرعية، في أية حال من الأحوال، لأنه،
في ذاته ووجوده، قبيح وشر وغير شرعي. فالحرية
حقٌّ طبيعي لكلِّ إنسان ولكلِّ أمَّة.
والإصلاحات التي توهِمُ بها حكومةٌ مستبدة (كأن
تسمح بحقِّ الانتخاب، مثلاً) هي ما كان عبَّر
عنه الروائي الروسي العظيم تولستوي عندما قال:
"إن إباحة الانتخاب للمسجونين كي ينتخبوا
سجَّانيهم بالأصوات لا يجعل هؤلاء المسجونين
أحرارًا." نعم، قد يوجد استبداد أخف
وطأة وأقل ظلمًا وأكثر لينًا؛ ولكن ذلك لا
يجيز وَصْفَ هذا الاستبداد بالحسن، لأنه في
أصله شرٌّ ويعادي حقَّ الإنسان الطبيعي في
الحرية، ويبقى موسومًا بالاستبداد وبصفة
استعباد ورقٍّ، مهما حاول المستبد أن يضفي
عليه من أسماء ونعوت. ومن البداهة بمكان أنه لن
يتأتى لأيِّ فكر متواضع مقاومةُ الظلم، سرًّا
أو جهرًا، ما لم يعرف أين هو الظلم وأين هو
العدل، ومَن هو الظالم ومَن هو المظلوم.
فالقضية كلُّها أن الظلم متداخل في جنبات
العدل، وأن الظالم قد يضم بين جوانحه قبسًا –
ولو كان باهتًا – من العدل. وكما أن الفرد
مسؤول تجاه الجماعة، والجماعة تجاه الفرد،
فإن الظالم والمظلوم أيضًا مسؤولان، كلٌّ
منهما أمام الآخر وأمام الجماعة، مسؤولية
ضمير، لا مسؤولية شكل وظهور. وبعبارة أدق، إن
مسؤولية كلٍّ منهما تحدِّدها المنظومة
الأخلاقية، وليس تلك النصوص الباهتة
الغامضة التي يصوغها الحاكم أحيانًا دعامات
للرِّياء، لا إنسانيةً للحقِّ والعدالة. ولكن هل توجد فعلاً نواميس طبيعية
للأخلاق؟ وما هو موقف العلوم الإنسانية منها؟
إن الغوص في بحث هذه الأمور معقَّد ويطول شرحه.
وبذلك يمكن الاكتفاء بالقول: إن مصدر العدل
والظلم كان – ولا يزال – عقدة عويصة في تاريخ
الفكر البشري، تشعَّبت الآراءُ فيها واختلفت.
وقديمًا، جاء في الحديث ما معناه: إن الناس
على دين ملوكهم، وإنهم بأمرائهم أشبه منهم
بآبائهم. ومن وقت غير بعيد كثيرًا قال جان جاك
روسو في كتابه الاعترافات: "أصبحت أدرك
أن كلَّ شيء مرتبط ارتباطًا جذريًّا
بالسياسة؛ وحيثما اتَّجهنا سندرك أن كلَّ شعب
لن يستطيع أن يمثِّل غير طبيعة الحكومة التي
صنعتْه." لقد عرف القرن العشرون
تجارب للأنظمة التوتاليتارية totalitaires،
المبنية على إخضاع الفرد لنظام الدولة، وعلى
السيطرة الصارمة على جميع مظاهر حياة المجتمع
وطاقاته المنتجة، وذلك على أساس افتراضات
عَقَدية dogmatique
تحكُّمية معينة، تُعلنها الزعامات في جوٍّ من
الإجماع الظاهري المفروض على الناس كافة.
وبخاصة منذ مطلع القرن العشرين، ومع بداية
تلاشي هذه الأنظمة مع مطلع العقد الأخير من
القرن المنصرم، أخذت تبرز على السطح العالمي
مجددًا نغمةُ الديموقراطية بزخم قويٍّ، وفي
مقدمتها حقوق الإنسان. ومع انبعاث موجة
الديموقراطية هذه في مدِّها الواسع، أخذت بعض
الدول، التي تعيش على أفكار القرون الوسطى
وتمارس على مواطنيها أقسى أنواع الاستبداد
والطغيان، تتكلَّم في الديموقراطية وفي حقوق
الإنسان، على الرغم من أنه لا يوجد عندها لا
دستور ولا قوانين تضمن الحدَّ الأدنى من هذه
الحقوق أو تلمِّح إليها من بعيد حتى! في هذا البحث، سوف نحاول
معالجة حقٍّ من حقوق الإنسان، القائم على مقاومة
الأنظمة والقوانين الجائرة، وسوف نحاول،
بقدر الإمكان، إلقاء الضوء على هذا الحقِّ
الذي سَبَقَ لبعض وثائق حقوق الإنسان
والدساتير في العالم أن أشارت إليه، والذي تطور
في ظلِّ دولة القانون، وعالَجَه الفِقْه
والاجتهاد في بعض البلدان، ونصَّتْ عليه بعض
الدول في دساتيرها، خاصة في الفترات التي
وقفتْ فيها المجتمعات على عتبة تغيرات هامة
كان لها دورها في الارتفاع بهذه الدول في
معارج الحضارة وفي تطورها. 1. التعريف
بدولة القانون يَرِدُ اصطلاح "القانون"
في كثير من العلوم. وقد استحوذت اللغة
القانونية على هذا المصطلح لتعبِّر فيه، بوجه
عام، عن مجموع قواعد السلوك المُلْزِمة
للأفراد في المجتمع بقصد إقامة نظام هذا
المجتمع. وإلى جانب هذا المدلول العام
للمصطلح، فإن هنالك مدلولاً خاصًّا تُطلَق
فيه كلمة "القانون" على قواعد معينة،
هي التي تصدر عن السلطة التشريعية العادية،
وتسمَّى التشريع، وبها يعرَّف، مثلاً،
قانون الضرائب، قانون الملكية، قانون العمل،
إلخ. وأمام تشابُك مصالح الأفراد
في المجتمع، فإن القانون الذي يتصدَّى في
الأصل لحكم سلوك الأفراد في هذا المجتمع
حكمًا ملزِمًا لا بدَّ أن يغلِّب بعض المصالح
على بعض، وأن يجعل من أصحاب بعض المصالح
المغلَّبة في مركز ممتاز بالنسبة لغيرهم، أو
يخوِّلهم اقتضاء عمل أو امتناع من جانب شخص
آخر يُلزَم بالخضوع لهذا الاقتضاء. وبهذا
تتفرع الحقوق عن القانون – وتلك هي
الظاهرة الأساسية التي تتميَّز بها قواعد
الحقوق عن قواعد الأخلاق، وتمثل أهمية أكبر
في المنظومة القانونية. وفي المنظومة القانونية
يوجد تلازُم بين القانون والمجتمع، من جهة؛
إذ لا يوجد مجتمع من دون قانون، كما أن
القانون يوجد لإقامة نظام في المجتمع. ومن جهة
أخرى أيضًا، فإن هنالك تلازمًا بين القانون
والجزاء؛ ومن هنا كان التعريف الأشمل للقانون
بأنه "مجموع القواعد التي تقيم نظام
المجتمع، فتحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم فيه،
والتي تناط كفالتُه باحترامها بما تملك
السلطة العامة في المجتمع من قوة الجبر
والإلزام"[1].
من تحليل هذا التعريف يستبين أن القانون
يتضمن تكليفًا بالسلوك الواجب؛ وهو تكليف
عام مجرد، يقضي بتحقيق المساواة، التي لا
تتيسر، فعلاً وابتداءً، على أساس الوضع
الغالب في المجتمع؛ ولهذا فهو يحتِّم أخذ
التكليف الموجَّه للأفراد بمعيار موضوعي،
لاشخصي، ويواجه كلَّ واقعة تتوافر فيها شروط
معينة، لا واقعة معينة. وبذلك لا بدَّ للقانون
من التأثر بالقواعد الأخلاقية السائدة في
المجتمع؛ ولا بدَّ أن يتطلَّع إلى أساس مثالي،
مادام يوجد في هذا المجتمع رجالٌ يكافحون في
سبيل مُثُل عليا.[2] ونصل هنا إلى تعريف "دولة
القانون"، التي أدى التطورُ إليها وعرَّف
بها الفقهُ الحديث بأنها وضع ينشأ عن تطبيق
قواعد ومبادئ القانون العام تطبيقًا سليمًا،
بفروعه الثلاثة: القانون الدستوري،
والقانون الإداري، والقانون الدولي
العام – أي احترام التوازن المقرَّر في
الدستور بين سلطات الدولة العامة، دون طغيان
من إحداها على الأخرى، لكفالة حُسْن سير
العمل التشريعي، تحقيقًا للخير العام الذي
يهدف إليه كلُّ مجتمع. إن الطابع المميِّز لدولة
القانون هو توفيرها للوسائل الناجعة وتأمين
الضمانات التي تحول دون السلطة العامة وإحباط
هذه الوسائل. ومنذ القديم قال أفلاطون ما
مفاده إن البداية هي إصلاح الدولة لو
أردنا تغيير الحياة الأخلاقية للناس. كيفما
كان الأمر، فإن الحقوق التي تحميها القوانين
هي حقوق محددة قانونًا، أي من قبل الدولة
ذاتها. بيد أن عليها أن تأخذ في الحسبان
السلطات الواقعية، كسلطة الرأي العام
والمعارضة إلخ؛ فهذه السلطات الواقعية نفسها
تتدخل أيضًا للسهر على احترام القانون،
وإليها يعود، في شطر كبير، العمل على أن لا
تتحول الدولة إلى سلطة واقع.[3] 2. فكرة عدالة
القانون فكرة العدل في القانون هي
العنصر المثالي أو المَثَل الأعلى. وإذا كانت
خصائص الحياة الاجتماعية هي الأساس الذي
تُبنى عليه القواعد القانونية، فإن هذا لا
يكفي وحده لتكوين القاعدة القانونية، لأنه لا
بدَّ لحقائق الحياة الاجتماعية من الاهتداء
بمَثَل أعلى يفرضه العقل. ولهذا فإن إخضاع
الواقع إلى المَثَل الأعلى – وهو العدل –
وموافقته عليه هو الذي يعطيه صفة الواجب،
أي يجعله قانونًا.[4] لكن ما هو
المثل الأعلى للعدل، أو ما هي فكرة العدل في
ذاته؟ هنا تتشعب المسألة وتختلف الآراء. وفي
هذا غاص فلاسفة اليونان وفقهاء الرومان،
وتناولها الفقهاء المسلمون، وخاصة جماعة
المعتزلة. وقد تباين النظرُ فيها بين المذاهب
وأدى الخلاف أحيانًا إلى مذابح وأحداث يضحك
العدل عليها أو يبكي منها! فمنذ القديم اعتبر أفلاطون
أن العدل هو أصل الفضائل كلِّها.[5] وأوجز أرسطو
العدل بقوله إنه إحدى الفضائل التي تتلخَّص
في إعطاء كلِّ واحد حقَّه أو ما هو واجب له.[6] ووصفه
يوستنيانوس في مدوَّنته بأنه "حَمْلُ
النفس على إيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وإلزام
ذلك على وجه الثبات والاستمرار"[7].
واعتبر فقهاء الإسلام أنه إنفاذ ما يأمر به
الشَّرْع. مع ذلك، لم يكفِ هذا لاعتبار أن
معنى العدل قد أصبح واضحًا؛ إذ تبقى مسألة ما
يعود للفرد وما لا يعود له إحدى المسائل
الهامة التي يدور حولها الخلاف الكبير. وتبقى
صور العدل متعددة، حاول الفقهاء المحدَثون
جمعَها في ثلاث صور، واختزلها جمهورُهم في
صورتين، بحسب ما إذا نُظِرَ إلى الفرد
باعتباره كائنًا منفردًا، قائمًا بنفسه،
أو باعتباره كائنًا اجتماعيًّا لا كيان
له إلا بالجماعة، أي جزءًا من كل، وأنه على
أساس هذه التفرقة يمكن تمييز نوعين من العدل:
العدل الخاص، أو ما يُسمَّى بالعدل التبادلي،
الذي يقوم على أساس المساواة التامة، باعتبار
أن كلَّ فرد يساوي الآخر فيما له من كيان
مستقلٍّ، والعدل العام، وهو الذي يسود
علاقات الجماعة بالأفراد، باعتبارهم أعضاء
فيها، أيًّا كان مَن يجب له العدل: الجماعة أم
الأفراد. وقد تولدت من هذه الآراء
والخلاف فيها مذاهب: أهمها المذهب الفردي،
القائم على أن الفرد هو هدف القانون الأسمى،
والمذهب الاجتماعي، الذي يعني بالفرد
كائنًا اجتماعيًّا مرتبطًا بغيره من الناس؛
ثم المذهب الذي يقوم على الجمع بين المذهبين،
ليقيم توازنًا بين العدل الخاص والعدل العام.[8] على كلِّ حال، ومهما كان
الخلاف، فإن السؤال يبقى قائمًا ليطرح نفسه،
وهو عما إذا كان القانون رديفًا للعدل. وإن لم
يكن، فما هو العدل؟ لقد تباينت الإجابات في
هذا الشأن منذ القديم، وتعددت المدارس
والنظريات. وحسبنا القول هنا بوجود قبول عام
يعتبر العدل رديفًا للقانون، وأن القانون
دون عدل هو مسخرة، إن لم يكن تناقضًا. ومع استمرار اختلاف الآراء
منذ القديم فإن الفلسفة القانونية الأخلاقية
الحديثة تعتبر أن تحقيق المساواة هو
الوظيفة الحيوية للعدل.[9]
وهو أيضًا ما ألمح إليه بناةُ الحضارات. وهذا
ما يُستشهَد عليه في حضارتنا العربية
الإسلامية بالحديث: "الناس سواسية كأسنان
المشط"؛ وهذا أيضًا ما أشار إليه توماس
جيفرسون في السنة 1776 عندما عُهِدَ إليه
بإعداد مسوَّدة لإعلان الاستقلال الأمريكي،
فبدأها بعباراته المشهورة، المقتبسة من
الفلسفة الرواقية القديمة: [...]
إننا نرى أن هذه الحقائق بيِّنة في ذاتها:
فكلُّ الناس قد ولدوا متساوين [...] لقد منحهم
الله حقوقًا لا يمكن التنازل عنها. ومن بين
هذه الحقوق: الحرية والبحث عن السعادة. ولقد
أُنشِئَت الحكومات لضمان هذه الحقوق. فهي
تستمد سلطاتها العادلة من رضاء المحكومين. إن فكرة ارتباط العدل
بالمساواة في المعاملة القانونية مدينة
بوجودها إلى ارتباط العدل بأصول قانونية.
فالقانون الذي يطبَّق على الجميع من دون
تمييز هو تجسيد للعدل. لكن هذا لا يعدو كونه
المبدأ الشكلي للمساواة – هذا المبدأ
الذي سخر منه الكاتب الفرنسي الساخر أناتول
فرانس بقوله: "إن مساواتكم القانونية تسمح
للمشرَّدين ولابن روتشيلد بالمبيت تحت قناطر
نهر السين." وعبَّر عن ذلك بقول مشابه أحد
قضاة العصر الفكتوري في بريطانيا بقوله: "القانون
مثل فندق ريتز المفتوحة أبوابه للأغنياء
والفقراء على حدٍّ سواء." إن كلَّ المحاولات للتخفيف
من وطأة مفهوم العدل الشكلي في القانون، سواء
بالإعفاء من بعض الرسوم لشرائح معينة من
المجتمع أو بإيجاد مؤسَّسة الدفاع المجاني عن
المعوزين، لم يكفِ لحلِّ المشكلة. فكان لا
بدَّ من البحث عن تكملة لمتطلَّبات العدل
الشكلي. وفي هذا توصَّل الفكر إلى البحث فيما
يُسمَّى بالعدل الثابت، أي كيف نقرر أن
القواعد الفعلية هي نفسها عادلة؛ كما توصَّل
إلى الشعور بالحاجة إلى إصلاح صرامة القانون،
وذلك بتخويل سلطة رشيدة نزيهة تفسير
القانون بروح العدالة، بدلاً من التركيز
على حرفية الألفاظ وضبط أعمالها أو تحديدها
في حالة الظلم. وبهذا لم يعد هنالك محلٌّ
للقواعد الحمورابية والتوراتية القديمة –
العين بالعين والسن بالسن إلخ – بل أخذت تجد
تعبيرها في القول المأثور: "ويجب إقامة
العدل مع الرحمة"، خاصة في نطاق القانون
الجنائي وميدان العقاب والقصاص. من هنا كان مفهوم
العدل أوسع من مفهوم القانون؛ ويمكن أن
يمارَس حيثما وُجِدَ تقنين للقواعد، سواء
أكان هذا قانونيًّا أم غير قانوني. 3. الظلم
القانوني من المألوف في المجتمعات
التي يمارس فيها طغاةٌ مستبدون الحكمَ أن
الظلم يتأتى من تجاهُل القواعد القانونية
وإهمالها، ومن تسلُّط عصابات تنتهك حكم
القوانين وتبتز شعوبها بتحريف تفسيرها
للقوانين – هذه القوانين التي يُفترَض أن
تطبيقها على الجميع دون استثناء يحمل سمات
العدل الذي هو رديف القانون. وهنا يَرِدُ
التساؤل حول عدالة القوانين ذاتها: هل يمكن
إدانة قانون ما بالظلم؟ – لاسيما وأننا كلَّ
يوم نطالب بتطبيق القانون، ونعتبر أن في هذا
التطبيق استجابةً للعدل وفي الانحراف عن
تطبيقه والتنكر له عنوانًا للظلم. هذه المسألة دقيقة وعويصة
جدًّا. وقديمًا نُسِبَ إلى السيد المسيح
قولُه: "إذا فَسُدَ الملح فبماذا يُملَّح؟"
إن القانون، كما قلنا، إنما يرتبط بقيم يؤمن
بها المجتمع الذي تطبَّق فيه وعليه؛ وهذه
القيم تختلف بحسب المكان والزمان، وتتبدل
وتتطور بتطور حياة الشعوب. فتطبيق قانون
تسليم العبد الآبق لسيده كان نافذًا ومقدسًا،
وأصبح الآن مثل هذا التسليم – بل أصبحت
العبودية في ذاتها – جريمة. ولكن أليست القيم
ذاتها التي يسعى المجتمع إلى تجسيدها في
قوانينه مجرَّد تعبير فرديٍّ عن الكفاح
باتجاه العدالة؟ وإذا كان العدل هو أساس
القاعدة القانونية والعنصر الأهم في تكوين
جوهرها، أفلا يكون من مقتضى ذلك أنه ينبغي على
القانون أن يستلهم أحكام العدل ومبادئه في
نصوصه، وأن يتقيد بها فيما يقرِّر من تكاليف،
فلا يجاوز حدودها، وأن على مشرِّع القانون
ومنفِّذه أن يستلهم مبدأ العدل الذي استقر في
ضمير المجتمع أنه عدل؟ لكنه أيضًا كثيرًا ما
يحدث، في العمل، أن يتضمن القانون أحكامًا
ظالمة تُناقِض المَثَل الأعلى للعدل. وكثيرًا
ما يكون القانون عادلاً في فترة ما، إذ يتفق
مع مصلحة المجتمع، ثم يصبح ظالمًا في فترة
أخرى اقتضاها التطور. وهنا تتنازع الأفراد
قوتان: قوة الدولة، أو قوة الجماعة
المادية التي تفرض طاعة القانون، وقوة العقل
المعنوية، التي توجِب طاعة المَثَل الأعلى
للعدل. وبين هاتين القوَّتين تتوزع آراءُ
الفلاسفة والكتاب والفقهاء وتتراوح.[10]
فمنهم مَن يغلِّب قوة العدل على قوة السلطان،
فيبيح تحدي قوى الدولة فيما تفرضه من قوانين
ظالمة. ويتدرج ذلك من مجرَّد العصيان إلى
الثورة. وهذا ما أخذت به الثورة الفرنسية فيما
أعلنتْه من حقوق الإنسان؛ إذ اعتبر أحد
الدساتير التي تمخضت عنها أن الثورة على
الظلم ومقاومته هو من ضمن هذه الحقوق. لكن هذا
الحل، وإن يكن منسجمًا مع هيمنة فكرة العدل
على القانون، إلا أن الاعتراف به كحلٍّ يخلق
الفوضى ويقوِّض الدولة، لاسيما إذا فسَّر
كلٌّ من الناس العدل على هواه. ومن هنا يتجه
الفقه الحديث إلى البحث عن حلٍّ داخل نطاق
المنظومات القانونية الوضعية ذاتها، فيضع
أمله في القضاء، كما أكد على ذلك بعض الفقهاء
في أمريكا. ويُنتظَر بذلك شلُّ القوانين
الظالمة عن طريق رقابته الواسعة على
دستوريتها، أي البحث في مدى موافقتها
للدستور، الذي يتضمن عادة كثيرًا من القيم
العليا ومبادئ العدل وقواعده وحقوق الإنسان؛
أو على الأقل يُنتظَر من هذا القضاء الحدُّ من
مدى هذه القوانين الظالمة، بما يمتلك من حرية
واسعة في التفسير. وهذا ما دَرَجَ عليه القضاء
الأمريكي في قضايا بارزة، وبصورة خاصة في
مجال حقوق الإنسان، حيث أصبحت الأحكام في هذه
القضايا من السوابق القضائية التي لها قوة
القانون. 4. أنماط الظلم
القانوني ومظاهره لا بدَّ من الإشارة –
بدئيًّا – إلى أن كثيرًا من المجتمعات في
العالم قد عرفت أنواعًا من حكم الطغاة
المستبدين الذين يمارسون السلطة، ويحتقرون
القوانين التي تعيق طغيانهم، أو قد يصدرون
أحكامهم استنادًا إلى قوانين يضعونها على
هواهم. وفي هذا الشأن يمكن القول إن المفكرين
والفقهاء، في بحوثهم لأنماط مظاهر الظلم، قد
ميزوا الأشكال التالية: أ.
القانون،
كما قلنا، شديد الارتباط، في الرأي العام،
بفكرة العدل. ويشار إلى محاكم العدل كرديف
لمحاكم القانون، مع أن محاكم القانون تقصِّر
كثيرًا في العمل عن الارتقاء إلى مستوى
المعيار المثالي لمحاكم العدل. ويقع الظلم
القانوني عندما يصدر حكمٌ في قضية ما بشكل
يخالف ما نصَّ عليه القانون نفسه – هذا مع
العلم أن مطابقة أحكام القانون أو نصِّه مع ما
يُعتبَر عدلاً جوهريًّا هي مسألة أخرى تمامًا.
ولتلافي مثل هذه الحالة يسلك التشريع في
البلدان المتطورة تعدُّد المراجع القضائية
للقضية الواحدة بهدف الحرص على تطبيق القانون. مع ذلك، وتبعًا لأوضاع
الخصوم المادية وقدرتهم على اتخاذ أوضاع
وأساليب متنوعة، يبقى المجال مفتوحًا لصدور
أحكام مخالفة للقانون، لاسيما في البلدان
التي تختل فيها معايير القيم وتتردَّى مفاهيم
الأخلاق ويسود التسلط. والأخلاق والقيم أمور
جوهرية في القانون. وهنا يتصل الأمر بمفهوم
السياسة والسلطة والحكم ودوره في حماية
القانون وتطبيقه من العبث والظلم؛ وليس هذا
فحسب، بل العمل على إزالة غموض القانون الذي
يكون سببًا في الانحراف، إضافة إلى لزوم
تغيير القوانين البالية التي لم تعد تأتلف مع
منطق العصر والتطور والحداثة. ب.
ويتكون الشكل الثاني للظلم عندما لا
يطبَّق القانون بروح النزاهة والاستقامة
التي يستلزمها، كأن يكون هذا التطبيق مبنيًّا
على المحاباة أو الرشوة أو التسلط إلخ. وفي
هذا ظلم من وجهة نظر العدل المطلق والقانون
معًا. ويظل الافتقاد إلى النزاهة خرقًا
لمفهوم العدل الشكلي. إن اختلاط القيم وتردِّي
الأوضاع والموازين الاجتماعية والاقتصادية
أدى – ويؤدي – إلى طرح مسألة تبرير السلوك
المنحرف وتحديد المسؤول عنه. وقد صار شائعًا
ومتداولاً القول بأن فكرة العدالة وتطبيقها،
إذا كانت تستند في أهمِّ جانب منها إلى فكرة المساواة،
فإن انعدام المساواة بين حياة سَدَنَة
العدالة والمسؤولين عن تنفيذ القانون وبين
شرائح أخرى من المجتمع، إنْ لجهة التمتع
بخيرات الوطن أو لجهة ضمان الحدِّ الأدنى من
وسائل العيش، يبرِّر لبعض سَدَنَة القانون
والمسؤولين عن تنفيذه عدم الالتزام
بالاستقامة، وبخاصة لأن التراتبية في القدوة
والمجتمع تفرض وجودها، وهي المتحكمة في جميع
أنواع القواعد. ت.
ثم إن هنالك الشكل الثالث من الظلم
القانوني؛ وهو يقع عندما يكون القانون، على
الرغم من تطبيقه تطبيقًا نزيهًا وفقًا
لمضمونه ومحتواه، هو في حدٍّ ذاته ظالمًا وفق
أيِّ معيار قانوني قيمي لاختبار جوهر العدالة
في القاعدة القانونية. صحيح أن بعض فلاسفة القانون
– هوبز، على سبيل المثال – قد رأى أن المعيار
الأوحد للعدل هو القانون ذاته، بحيث إن أية
قاعدة يضعها القانون يجب – كأمر واقع – أن
تكون عادلة في ذاتها. لكن هذه المقولة لم تصمد
للدفاع عنها، لأنه ليس هنالك سبب معقول
يمنعنا من أن نملك السلطة لتقييم جوهر العدل
في قاعدة قانونية بقرينة خارجية، وإن لم يكن
ضروريًّا أن تكون هذه القرينة، من حيث
سريانُها، مطلقة وعامة وثابتة. إن القانون الظالم، بهذا
المعنى، مفهوم جليُّ الوضوح: فعندما يحجب
قانون ما عن المواطن حقَّ التقاضي؛ وعندما
يفرض عقوبة لا مجال فيها لإعمال مفعول الرحمة
أو التخفيف؛ وعندما يمنع قانونٌ ممارسةَ حقِّ
إخلاء السبيل لمجرَّد التهمة (في حين أن كلَّ
قوانين العالم تعتبر الإنسان بريئًا حتى
يُدان قضائيًّا)؛ وعندما تصادَر عقاراتُ
إنسان أو تُستملَك دون دفع تعويض عادل عنها،
ودون غاية النفع العام؛ وعندما تُفرَض ضرائب
على إنسان توْدي بكلِّ دخله، من دون مراعاة
لمبادئ المساواة وتكافؤ الفرص وملاحظة
التضخم النقدي؛ وعندما يُحرَم إنسانٌ، بموجب
قانون، من حقِّه الطبيعي في الكلام والحركة؛
إلخ – فإنه لا يمكن اعتبار مثل هذه القوانين
عادلة. فتعارُض القانون مع سلَّم القيم
الأخلاقية والاجتماعية المتعارَف عليها
يدفعه إلى عدم العدل. كذلك فإن مخالفة قانون
ما لمبادئ إنسانية وحقوق يصونها الدستور
تُبطِل وصفه بالعدل. وهذه الفكرة يمكن
تطبيقها تطبيقًا مناسبًا، ليس على القوانين
الفردية التي تجرح قيمنا الإنسانية فحسب، وبل
على المنظومات القانونية كلِّها التي يمكن
شجبها لأنها توجَّه لمصلحة جماعة خاصة، أو
لأنها ذات صفة قمعية شديدة تجاه جماعة أو فئة
معينة. وإذا كان هنالك بعض
العبارات الشائعة التي يَرِدُ تداوُلها في
المجتمع (مثل عبارة "الظلم بالسوية عدل في
الرعية")، فإن مثل هذه الأقوال البالية،
كغيره من أقوال أخرى مهترئة، دخلت في قاموس
حياتنا إبان عصور الانحطاط، ومازالت تفرض
وجودها؛ ومنها القول بالحاجة إلى "المستبد
العادل" – ولا يُعرَف كيف يأتلف الاستبداد
مع العدل، أو كيف يوصَف الظلم بالعدل،
لمجرَّد شموله كلَّ الناس! وهكذا نصل إلى التمييز
الجوهري نفسه الذي أشرنا إليه، من حيث إن
قانونًا ما يمكن أن يتحقق فيه العدل الشكلي
بتطبيقه بالتساوي، ولكنه في جوهره يكون
ظالمًا. وبهذا المفهوم الواسع لما يُسمَّى
جوهر العدل نجد أن هنالك فرقًا ضئيلاً بين
الخير والعدل، وإن كان باب الخير يظل أوسع
بكثير من باب العدل. فلا يكفي، إذن، أن تتفق
منظومة قانونية مع خصائص العدل الشكلية، حتى
لو طُبِّقَت بروح من المساواة؛ ذلك أن
القانون يحتاج أيضًا لأن يكون محتواه
عادلاً، أي متفقًا مع القيم الإنسانية
الكريمة، لأنه من دون هذه القيم، تُرتكَب
أسوأ أشكال الظلم الجوهري باسم العدل نفسه. وإذا كنَّا لا نستطيع هنا
إحصاء القوانين الظالمة والإشارة إليها
بأسمائها، فإننا جميعًا نشعر بوجود الكثير
منها، ونشعر بخطرها وبما تسبِّبه من إرساء
قيم سيئة في المجتمع، وبخاصة معاداة
المواطنين لها لشعورهم بظلمها، الأمر الذي
يدفع بهم إلى الاحتيال والكذب والمواربة في
معرض تطبيقها، دون سلوك الطريق الصحيح
لمجابهتها علانية، لأن هذه المجابهة غير
متيسرة في ظلِّ قوانين أكثر ظلمًا. وفي حالة
كهذه، يمكن وصف المنظومة القانونية برمَّتها
بالظلم؛ وفي ذلك ما فيه من نتائج خطيرة، أقلها
اغتراب المواطن، وسيادة اللامبالاة، وانهيار
القيم القومية والوطنية، وتبرير الفساد
وكلِّ الأدوار الاجتماعية. ث.
إن
الدستور – وهو في المرتبة العليا من
التشريع – يُفترَض فيه أن يعبِّر عن قيم
إنسانية مستقاة من حقوق الإنسان. ولهذا فإن
كلَّ تشريع لا يستوحي أحكام هذا الدستور
يُعتبَر، في منطق الأشياء، ظالمًا. وهنا يَرِدُ التساؤل: هل
يمكن للدستور أن يكون ظالمًا؟ في هذا يَرِدُ
القول: إن الدستور قد يكون ظالمًا طبقًا
لمعايير وقيم إنسانية تعارفتْ عليها
المجتمعات، شأنه شأن البلدان التي لا يوجد
فيها دستور البتة، أو يوجد فيها دستور مخالف
لمنطق التقدم والعصر. وتقرير مثل هذا الظلم
واستبعاده يبقى ضمن دائرة قيم المجتمعات
والسلطات المرتهَنة له، وكذلك الأنظمة ووعي
المواطن وتطلعه إلى المُثُل العليا. وفي هذا
يتدخل عامل التخلف وعامل التقدم، كما يتدخل
عامل وجود الحاكم العادل المستنير أو المستبد
الضيق الأفق والجاهل في سدَّة الحكم. وقد عرفت
الشعوب – قديمًا وحديثًا – مثل هذه الأمور في
تاريخ تطورها الحضاري. ج.
ومن الظواهر المتصلة بالظلم القانوني تلك
الحالة التي عرفها التاريخ ويستمر تكرارها،
وهي أنه كلما طغت القوات الحاكمة ورفعت
السلاح في وجه الحرية والحقِّ، كانت المحاكم
آلة مسخَّرة بأيديها، تفتك بها كيفما تشاء.
ولا غرو أن المحكمة تملك قوة قضائية يمكن لها
استعمالها، في العدل والظلم على السواء:
إنها، في يد الحكومة العادلة، أعظم وسيلة
لإقامة العدل والحق، وفي يد الحكومة الجائرة،
أفظع آلة للانتقام والجور ومقاومة الحقِّ
والإصلاح. ويدلنا التاريخ على أن قاعات
المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بعد
ميادين القتال: فكما أُريقَت الدماء البريئة
في ساحات الحروب، حوكمت النفوس الزكية في
ساحات المحاكم، فقُتلت وصُلبت وأُلقيت في
غياهب السجون. وليس هنالك ثلة صالحة، مُحبة
للحق، من الحكماء والعلماء والصالحين، إلا
ونراها قد وقفت كالجناة والمجرمين في قاعات
المحاكم أمام القضاة: فالمسيح أُوقِفَ مع
اللصوص في محكمة أجنبية؛ وسقراط اضطر إلى
تجرُّع السمِّ لأنه كان أصدق رجل في بلاده؛
وكذا غاليليو الذي لم يكذِّب مشاهداته
العلمية لمجرَّد أنها كانت جناية في عين قضاة
محكمة التفتيش. وهكذا يستمر التاريخ البشري
بقصصه العجيبة! 5. مسألة مقاومة
القوانين والأنظمة الجائرة أما وقد ذكرنا آنفًا وجود
مجال واسع للظلم القانوني والقوانين
الجائرة، فإن المسألة التي تنطرح الآن هي
كيفية المقاومة وإمكانها ووجوبها. وهاهنا بيت
القصيد، نظرًا لما يلمحه كلُّ ملتزم حريص على
العدالة وعلى وجود المجتمع السليم من مآسٍ
وثغرات تتسع تباعًا، وقد تصل – إذا لم تُلجَم
ويُكبَح جماحُها – إلى هوة فاغرة الأشداق
تعصف بالإنسان والمجتمع. وإذا كانت الثقافة
تواصُلاً، وكان المجتمع الحديث ابن المجتمع
القديم، وهكذا دواليك، فإن من المفيد – ونحن
في مجتمع نقلي، يعيش ماضيه في حاضره، بحيث
يتحكم هذا الماضي بقوة في هذا الحاضر كلِّه –
أن نتلمس في تراثنا معالم تحدي الظلم
ومقاومته، ومدى إمكانية الاستهداء بهذا
التراث في هذا الخصوص. وعلى سبيل المقارنة،
ولإعطاء صورة كاملة، نشير إلى فكرة الحقِّ في
مقاومة النظام الجائر، في الشريعة المسيحية
أولاً، ثم في التراث الإسلامي. 6. المقاومة من
خلال الشريعة المسيحية يردِّد الناس، حتى يومنا
هذا، حديثًا منسوبًا إلى للسيد المسيح: "أعطوا
ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ويدللون بذلك
على الفصل بين الدين والدنيا، حيث يتولى
الرسول الجديد مع المؤمنين شؤون دينهم فصلاً
عن الدولة القاهرة، حيث كان المؤمنون بالدين
الجديد مستضعَفين في الأرض، وذلك مخافة الفسق
وخشية الانسحاق. وقد كان همُّ المؤمنين
الانعزال في كهوف العبادة، يقنتون ويتقون؛
ولم تكن تقواهم خشية الله فحسب، ولكن أيضًا
اتقاءً لغضب حاكم يملك الرقاب والعباد، من
أمثال كاليغولا وكلاوديوس ونيرون. ومن أجل
ذلك، أكد القديس بولس أن كلَّ سلطة تقوم
بإرادة الله، ومن يقاومها يُعَدُّ مقاومًا
لهذه الإرادة. لكنه سرعان ما اشتد ساعد
الكنيسة، فوجدت تفسيرًا لما ذهب إليه بولس،
فذهبت إلى أن الأمير مكلَّف بمراعاة القوانين
الإلهية لأنه يتلقى سلطانه من الله؛ فإذا خرج
عنها فقد خرج، بدوره، عن طاعة الله، وكان ذلك
جورًا تسقط معه طاعتُه وتحقُّ مقاومته وعزله.
وقد استندوا في ذلك أيضًا إلى قول السيد
المسيح نفسه: "لا تظنوا أني جئت لأحمل
السلام إلى الأرض؛ ما جئت لأحمل سلامًا بل سيف"[11]،
وقوله: "كل من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك"[12].
ويأتي الفقيه القديس توما الأكويني، فيقرِّر
أنه في حالة وقوع الجور من السلطة نتيجة
لتجاوز الأمير حقوقَه، يسقط عن رعاياه واجبُ
الطاعة بمقاومة سلبية، لا تصل إلى حدِّ
الثورة عليه؛ أما إذا كان الجور متعلقًا
بالقوانين الإلهية أو مجافيًا لها، فإن
المقاومة الإيجابية تصير مشروعة، بل لا يمنع
من الثورة التي تهدف إلى إكراه الحكومة على
العدول عن سلوكها أو إسقاطها. والشعب، إذ يقوم
بهذا الواجب، فإنه يكون قد قام بعمل عادل
ومشروع، لأن الحكومة المستبدة الطاغية جائرة
لأنها لا تعمل للصالح العام، وإنما لصالح
الحاكم وحده، ولأن الصالح العام لا تدعمه
العدالة وحدها، وإنما يدعمها النظام كذلك. ولئن أنكر كثير من البابوات
مقاومة الحاكم الظالم، اكتفاءً بالصلوات
والاعتكاف والانعزال والدعوات إلى الله،
فكثيرون من علماء اللاهوت الكاثوليك أقروا
المقاومة الدفاعية للظلم، سلبية كانت أم
إيجابية، وذلك عند الضرورة، إذا توافرت
شروطُها: كأن تكون نزعة الحكومة القائمة ضارة
بالصالح العام، أو يكون في مجرد وجودها هدرٌ
للقيم التي يقوم عليها النظام الاجتماعي.[13] وإذا كان بعض المصلحين
الدينيين، كمارتن لوثر وكلفن، قد أنكروا حقَّ
مقاومة السلطة الزمنية، على الرغم من أنهم
كانوا يمثلون ثورة على القيم الدينية السائدة
في عصرهم، إلا أن خَلَفَهم لم يقتصروا على
الإصلاح الديني وحده، بل تعرضوا في صدق
للإصلاح الدنيوي، بأن حضُّوا الناس على
مقاومة الظلم والطغيان والثورة على الجور
والقهر، طلبًا للعدالة وتقديسًا لها. وفي هذا
يقول فرانسوا سواريز في العام 1613 في مؤلَّفه الدفاع
عن العقيدة: إن
السلطة العامة إنما خُلِقَتْ للصالح العام.
فإذا تخلَّت عن هدفها تخلَّى عنها التأييد
الشعبي. ومن ثمَّ فليس الأمر مقصورًا على أن
يتولَّى الفردُ مقاومةَ السلطان الضالِّ،
وإنما الأمر أخطر من ذلك، لأن الهيئة
السياسية هي التي تنحل من تلقاء نفسها إذا ما
ذهبت السلطة العامة إلى العمل على تحقيق هدف
آخر غير صالح الشعب. إذ ذاك، ليست "الثورة في
هذه الحالة إلا مجرد عودة إلى الحالة
الاجتماعية السابقة على قيام السلطة العامة"[14].
وبمثل هذا يؤكد الفقيه البروتستنتي بيريه
غرييه، في رسائله الدينية الصادرة في
العام 1689، على أن: سلامة
الشعب وصيانته هما هدف الميثاق المبرَم بينه
وبين الأمير ودستور الجماعة. ومن ثمَّ فإن
الجميع مكلَّف بطاعة السلطان فيما يحقق هذا
الهدف، وفي حدود الدستور. فإذا هو تعدَّى هذه
الحدود، فلا طاعة له على أحد، وجازت مقاومتُه.
فالأوامر التي تهدف إلى إسعاد الشعب وحدها
تستحق الطاعة؛ وأما ما عداها فالثورة عليها
مشروعة، لأن الأمير لا يملك الخروج على
القوانين الطبيعية والإلهية. وبذلك تكون الشريعة
المسيحية قد بدأت أولاً بإنكار حقِّ
المقاومة، ثم انتهت بالانتصار له، ووصفت
معاييره وأساليبه، ولكنها، في الأغلب
الأعمِّ، لم تنكره. وإن كانت قد تنكرت له في
بعض العصور لظروف سياسية باطشة باغية، فإن
هذه الظروف لم تستطع أن تطمس فجره الذي قام
الفلاسفة والمفكرون والفقهاء، على ضوئه،
ببناء فكري متَّسق ومتكامل ومتنامٍ حول أصل
هذا الحق وجذوره ومداه.[15]
وبذلك تخلصت أوروبا من عصور الظلام، حيث كان
الحكم والسلطة في أيدي رجال الدين والرهبان،
حتى إن مفاتيح دخول الجنة كانت في أيديهم،
وكانوا يحكمون على أيِّ معارض لهم بالحرق
حيًّا أو بوضعه على الخوازيق! – وذلك كلُّه
كان يتم باسم الدين والكنيسة والمسيح. 7. المقاومة في
الشريعة والفقه الإسلاميين حَدَثَ لِلَفْظ "الشريعة"
في العقل الإسلامي تعديل عدة مرات. فقد بدأ
استعماله على معناه الأصلي: "منهج الله"
أو "سبيل الله" إلخ. ثم اتسع المعنى ليشمل
القواعد القانونية (التشريعية) الواردة في
القرآن الكريم. ثم امتد ليضم هذه القواعد
والقواعد المماثلة التي وردت في الأحاديث
النبوية. ثم تغيَّر المعنى، ليشمل الشروح
والتفسيرات والاجتهادات والآراء والفتاوى
والأحكام التي صدرت لإيضاح هذه القواعد، أو
القياس عليها، أو الاستنتاج منها أو تطبيقها،
أي الفقه. وفي الوقت الحالي، منذ زمن بعيد،
فإن لفظ "الشريعة" يُقصَد به، في
الاستعمال الدارج، معناه الاصطلاحي الذي
يشير إلى الفقه الإسلامي أو إلى النظام
التاريخي للإسلام.[16] وبالرجوع إلى الشريعة
الإسلامية، في أيِّ معنى أخذتْه، نتبيَّن أن
الكلام لا يَرِدُ حول قانون عادل أو ظالم، لأن
الشريعة لا تخضع لمثل هذا المعيار؛ فهي قمة
العدل المقدس. ولذلك فإن البحث ينصبُّ على
الإجراءات والممارسات الظالمة التي يمارسها
أولو الأمر. وفي هذا النطاق، تُطالعنا نصوص
كثيرة في القرآن الكريم وفي الحديث تؤكد على
حقِّ المواطن في مقاومة الظلم؛ كما أن هنالك
كثيرًا من التفسيرات والآراء الفقهية التي لا
تنسجم مع هذه النصوص، فتعتمد تفسيرات
مختلَقة، وتدعو إلى الطاعة الذليلة والضعة
والاستكانة – الأمر الذي لا ينسجم مع النصوص
الأولى وسلوك الرسول والصحابة الأجلاء. ولهذا
اتُّهِمَتْ الآراء والأحاديث المناقضة لحقِّ
المقاومة بأنها موضوعة، أي مختلَقة. ولا غرو
في ذلك؛ إذ إن عوامل السياسة وتنطُّع رواةٍ لا
وازع لديهم من إيمان أو ضمير، ومَن سوف
يُسمَّوْن بـ"فقهاء السلاطين"، لرواية
الحديث، كما يذكر التاريخ، ترجِّح اعتبار مثل
هذه الأحاديث مختلَقة. وكعيِّنة من النصوص الشرعية
الإسلامية التي تؤيد حقَّ المقاومة، نورِد
بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ففي
سورة النحل (الآية 90) يقول القرآن الكريم: "إن
الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم
تذكَّرون." وجاء في سورة الحج، الآية 41: "الذين
إذا مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا
الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر
ولله عاقبة الأمور." وقد أمر القرآن
بالطاعة، فجاء في الآية 59 من سورة النساء: "يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردُّوه
إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً." وجاءت في الحديث، المعتبَر
شرحًا على القرآن، أحاديثُ عديدة تدعو إلى
المقاومة. من ذلك، على سبيل المثال: "على
المرء المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ
وكَرِهَ، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا
طاعة"؛ و"إن الطاعة فقط لا تكون إلا في
المعروف". وجاء: "مَن رأى منكم منكرًا
فليغيِّره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان." وجاء:
"سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام
جائر، فأمره فنهاه فقتله." وجاء: "لا يكن
أحدكم إمَّعة يقول: أنا مع الناس، إن أحْسَنَ
الناسُ أحسنت، وإن أساؤوا أسأت. ولكن وطِّنوا
أنفسكم إن أحْسَن الناس أن تُحسِنوا، وإن
أساؤوا أن تتجنَّبوا الإساءة." وجاء: "ما
من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن
يغيروا، ثم لا يغيرون إلا يوشك الله أن
يعمَّهم بعقابه." ومن النصوص المعارضة لهذا
الاتجاه الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان:
"قال رسول الله: يكون بعدي أئمة لا يهتدون
بهديي، ولا يستنُّون بسنَّتي. قلت: كيف أصنع
إن أدركت ذلك؟ وقال: تسمع وتطيع للأمير، وإنْ
خرَّب ظهرك وأخذ مالك." وكذلك الحديث الذي
رواه الحسن البصري: "لا تسبُّوا الولاة،
فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر،
وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر. وإنما
هم نقمة ينتقم الله بهم ممَّن يشاء. فلا
تستقبلوا نقمة الله بالحميَّة والغضب،
واستقبلوها بالاستكانة والتضرع." وفي تفسير النصوص، ونتيجة
للخلافات السياسية، انقسمت آراءُ الفقهاء
والمفسرين: رأى بعضهم وجوب الطاعة للأمير،
سواء كان بَرًّا أو فاجرًا، أهلاً للأمانة أو
غير أهل، عادلاً في حكمه أو ظالمًا – إلا أن
يمرق من الدين جهارًا أو يترك الصلاة؛ لكن
البعض الآخر من الآراء أن الطاعة في المعروف،
ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومنذ البدء،
اختلف الخلفاء والولاة والفقهاء في تفسير
النصوص. وكلمة عثمان بن عفان، عندما ردَّ على
أحد منتقديه الذي ذكَّره بعدالة عمر بن
الخطاب في توزيع الفيء، فقال ما معناه إن عمر
كان يجتهد في تقرُّبه إلى الله بحرمان ذوي
قرباه؛ أما هو، أي عثمان، فيتقرَّب إليه
بإعطائهم. ولم يمر زمن طويل بين قول أول
خليفة، أبي بكر: "أيها الناس، إني وُلِّيت
عليكم، ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن
أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم؛
فإن عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم"،
وبين قول الخليفة عبد الملك بن مروان: والله
لا يأمرني أحد بطاعة الله إلا قطعت رأسه"! وإذا كان الخليفتان
الراشدان الأول والثاني قد عبَّرا بوضوح عن
تخويل الأفراد حقَّ مقاومة الحاكم الجائر
بشتى وسائل المقاومة ودرجاتها، سلبية
وإيجابية، بالنصح والنقد والقهر، بما في ذلك
قتل الجائر المصرِّ على جوره – وذلك كله من
خلال تفسيرهما لنصوص الشريعة – فإن جُلَّ من
أتى بعدهم من حكَّام، حتى يومنا هذا، ممَّن
يحكمون باسم الإسلام، كان يدعو إلى الموقف
الذليل من الطاعة؛ وهو ما نادى به الفقه
السائد، وطبَّقه الفقهاء عمليًّا، حتى قال
بعضهم معبِّرًا عما كان سائدًا في زمانه: "إذا
جعلك السلطان عبدًا فاجعله ربًّا" – وإن
كان الأمر لا يخلو من بعض الآراء التي فنَّدت
آراء من ذهب إلى الاستخذاء والصبر بالحجة
القرآنية الدامغة؛ وهو ما فعله، على سبيل
المثال، الإمام ابن حزم الظاهري (المتوفى في
العام 456 هـ) في كتابه الفصل في الملل
والأهواء والنحل، عندما قال: إن
الأحاديث التي تدعو إلى المسالمة والصبر قد
نُسِخَتْ بالأخرى التي تدعو إلى الخروج وحمل
السلاح ضد الخليفة الذي صار مستحقًّا للعزل
بسبب تصرفاته، لأن تلك التي فيها النهي عن
القتال موافِقةٌ لِمعهود الأصل ولِما كانت
عليه الحال في أول الإسلام بلا شك.[17] وقد علَّق على هذا الرأي أحد
أعلام أساتذة الشريعة في مصر[18]
في عصرنا هذا بقوله: لعل
الحقَّ بعد ذلك أن نقرِّر أن هذا الرأي الذي
جلاه ابن حزم، ودلَّل عليه على ذلك النحو، هو
الرأي الصحيح في هذه المشكلة التي تتعلَّق
بكيان الأمة وكرامتها وتدبير أمورها على ما
ينبغي ويرضاه الله ورسوله. فما كان لأمَّة
وصفها الله بقوله: "كنتم خير أمة أخرجت
للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر،
وتؤمنون بالله"، أمَّةٍ جعلها الله ميزان
الحقِّ، وأقامها مقام الإمامة والتوجيه
للناس جميعًا – نقول: ما كان لأمَّة هذا شأنها
أن تقبل الدونية في أمورها، وأن تقف ساكنة
أمام من يسومها الخسف، وتخالف عن أمر الله
ورسوله من خليفة أو حاكم، وهي قادرة على
عَزْلِه واستبدال غيره به. وهكذا فإن قضية مقاومة
الجور في التاريخ الإسلامي كانت دائمًا، في
رأي بعض الفقهاء – وهم قلة –، حقًّا للمواطن
وواجبًا عليه، عبَّر عنه قديمًا سعيد بن
المسيب، التابعي الكبير الذي كان يقول على
رؤوس الأشهاد منتقدًا ولاة زمنه: "يُجيعون
الناس ويُشبعون الكلاب"، وعبَّر عنه سفيان
الثوري عندما قال صراحة للخليفة العباسي
المنصور: "اتَّقِ الله، فقد ملأتَ الأرض
ظلمًا وجورًا." ولكن قضية المقاومة هذه لم
يُكتَب لها الدوام، إلى أن وصل الحال في القرن
العشرين ببعض من طالَبوا بتكفير المجتمع
وبتطبيق الشريعة فورًا، أمثال أبي الأعلى
المودودي في كتابه نظرية الإسلام والسياسة،
وسيد قطب في كتابه معالم في الطريق،
وغيرهما كثيرون، إلى رفض الديموقراطية
وتجريد الشعب من كلِّ حقٍّ في التشريع. وفي
هذا يقول المودودي: إن
الله تعالى نَزَعَ جميع سلطات الأمر والتشريع
من أيدي البشر، لأن ذلك مختص بالله وحده. ولما
كانت الديمقراطية السلطة فيها للشعب جميعًا،
فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام
الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيرًا
كلمةُ الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية. والحكومة الثيوقراطية أو
الدينية هي ما عرفتْه أوروبا في عصور الظلام،
حيث كان الحكم والسلطة في أيدي رجال الدين
والرهبان، وتحميها محاكم التفتيش، السيئة
السمعة في تاريخها. هذا ويلاحَظ من مجمل
كتابات الأصوليين في هذا العصر المدى الواسع
من هالة التقديس والعصمة التي يضفيها أغلب
هذه الجماعات على شخص الخليفة الذي يقترحونه:
فهو حاكم مدى الحياة، وليست له مدة محدَّدة،
وهو غير قابل للعَزْل إذا أهمل أو أخطأ أو
ظَلَم، والمبرِّر الوحيد لعَزْله هو الكفر
البواح، أي أن يبوح نفسه بالكفر ويقر على نفسه
به (وهو أمر مستحيل الحدوث في عصرنا). ويقول
أصحاب هذا الرأي أن الخليفة، إذا انحرف، فعلى
الرعية أو مجلس الشورى الذي يمثِّلهم، أن
ينصحوا له وينبِّهوه إلى خطئه؛ فإذا رفض
النصيحة ولم يعدل عن ظلمه أو خطئه، فليس لهم
حقُّ عزله أو إجباره على الاستقالة؛ وهم
يستشهدون في رأيهم بالحديث النبوي الذي يقول:
"سيكون أمراء تعرفون وتنكرون. فمَن عرف
برئ، ومَن أنكر سَلِمَ، ولكن مَن رَضِيَ تابع.
قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا." (رواه
مسلم) فهم يفسِّرون هذا الحديث بأنه أمرٌ إلى
الأمَّة الإسلامية بالرضى بالأمر الواقع،
بعدم عزل الحاكم إذا استبدَّ أو ظلم مادام
يقيم الصلاة. ومع وجود أحاديث معارضة أشرنا
إلى بعضها، يستمر المتعصبون في القرن العشرين
على انتقاء ما يخدم موقفهم. 8. حقُّ
المقاومة في الفكر السياسي يذهب الرأي الغالب لدى
الفلاسفة والمفكرين السياسيين في تكييف
العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى تصور وجود
عَقْد بين الطرفين، نشأ عندما اتفق الناس، في
وقت ما، سعيًا وراء السعادة والسلام والعدل،
على الخروج من حالة الطبيعة، إلى الحياة في
جماعة سياسية، فأبرموا عقدًا اتفقوا فيه على
خَلْقِ سلطة تعلو إرادتهم، نازلين لها عن شطر
من سلطاتهم الطبيعية وحقوقهم القديمة، نظير
أن يُصان ما كانوا محتفظين به من هذه الحقوق.
أما إذا تنكَّر الأمراء للشعوب، وطرأ ما
يُبطِل العقد أو يخلُّ بشروطه، فإنه يتمخض عن
ذلك واجبُ الثورة على الأمير، لأن الشعب لم
يفوِّضه السيادة تفويضًا مطلقًا، بل تفويض
كان مقرونًا بشرط فاسخ. ومع هذا وُجِدَ من
فلاسفة القانون العام، أمثال هوبز (1588-1679)،
ممَّن لم يعترف للفرد بحقِّ مقاومة السلطة
العامة، ويرى ضرورة إذعان الأفراد لأوامر تلك
السلطة العامة المركَّزة في يد الأمير – وإن
كان أجاز، في حالات استثنائية، حقَّ المقاومة.
وقد وقفت مدرسة القانون الطبيعي من حقِّ
مقاومة السلطة العامة بالقوة والتمرد موقف
المعارضة: فكتَّاب هذه المدرسة ليسوا من
أنصار هذا الحق، ولا يسمحون به إلا بتحفظ، كما
ذهب أحد كتَّاب تلك المدرسة – وهو لايبنتس
(1646-1716) – إلى محاولة التوفيق بين السلطة
وحقوق الأفراد، وذلك بإيهام الحاكم بأن
للأفراد حقَّ المقاومة، حتى يتحفظ ويحتاط في
استخدام السلطة، فلا يتعسف فيها حتى لا يثير
حفيظة الأفراد عليه. وهو ينتهي إلى الاعتقاد
بأن إطاعة السلطة العامة أمرٌ واجب على
الأفراد بصفة دائمة. وفي الواقع أن تطور فكرة
المقاومة في الغرب لم يكن على وتيرة واحدة.
فمنذ القرن السادس عشر شرح جون لوك نظريته
عمَّا أسماه "مبدأ الحقِّ الخفي للثورات"،
حيث سلَّم بالحق في الثورة ضد السلطة
التنفيذية وضد السلطة التشريعية بسبب مساوئ
الحكم والتشريع؛ وقد دافع عن حقِّ الشعب في
العصيان. وقد أدت هذه النظريات التي تبنَّاها
فلاسفة القرن الثامن عشر في أوروبا إلى
اندلاع الثورة الفرنسية على الملكية بسبب
مساوئ الحكم. وكان أول عمل للجمعية التأسيسية
وضعُ "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"
وإقراره؛ وقد تضمَّن نصًّا واضحًا بحقِّ
مقاومة الاضطهاد (مادة 2). ولكن هذه النصوص لم
تَرِدْ في كلِّ الدساتير التالية، وإنما
وَرَدَتْ في دستور العام 1793، الذي نصَّ على أن
الحكومة، عندما تعتدي على حقوق الشعب،
فالثورة لكلِّ الشعب (أو لفئة منه) هي أقدس
الحقوق وألزم الواجبات. وقبل ذلك وَرَدَ في
"وثيقة الاستقلال" التي وضعها الثائرون
الأمريكان في العام 1776 أن الحكومة، إذا هي
عطَّلتْ حقوق الإنسان في المساواة والحرية
وانتفاء السعادة، يمكن للشعب أن يثور عليها
ويقلبها ويضع مكانها هيئة تعيد نظام العدل
والحرية. وقال أبراهام لنكولن في السنة 1861 أن
البلاد الأمريكية هي مُلك للشعب، وإذا ضاق
هذا الشعب بأخطاء الحكومة القائمة، فله أن
يستعمل حقَّه الدستوري في تعديلها أو حقَّه
الثوري في هدمها. وقد استقر الاعتراف بحقِّ
المقاومة في فقه القانون العام. فيقول العميد
هوريو: "إن حقَّ المقاومة ليس إلا استدعاءً
لحقٍّ قديم في الحرية، يعود ليؤكد حقَّ
المواطنين في الدفاع الشرعي ضد سوء استخدام
السلطة." ويقول العميد جني: "إن حقَّ
المقاومة هو الضمان الأعلى للعدالة وسيادة
القانون." ويقول لوفور: "إن المقاومة هي
ممارسة لحقِّ مراقبة السلطة المعترَف به من
المحكومين." ويذهب الفقيه الألماني إهرنغ
إلى حدِّ جعل المقاومة هي النظرية الأصلية
للقانون كلِّه، فيقول: إن
القانون ليس هو المبدأ الأسمى الذي يحكم
العالم؛ إنه ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة
لتحقيق غاية. إن الحياة فوق القانون؛ وعندما
يصبح المجتمع في موقف الخيار بين احترام
القانون والحفاظ على الوجود، فلا محلَّ
للتردد، وعلى القوة أن تضحِّي بالقانون لتنقذ
الأمة. ويذهب العميد دوغيه في
كتابه أصول القانون الدستوري إلى أن حق
الثورة ما هو إلا نتيجة منطقية لخضوع الحكام
للقانون. وإن كلَّ إجراء يتَّخذه الحكام
مخالفٍ للقانون يخوِّل المحكومين سلطة
قَلْبِ الحكومة بالإكراه؛ وهم، إذ يحاولون
ذلك، يهدفون إلى إعادة سيادة القانون وسموِّه. 9. حق المقاومة
بين النظرية والممارسة توجد في دولة القانون، كما
ذكرنا وكما سوف نشير لاحقًا، ضمانات للحرية
الفردية، كما توجد جزاءات مقرَّرة لحمايتها؛
وهي جزاءات منظَّمة، مقرَّرة بنصوص قانونية
تتولَّى السلطة القضائية توقيعها. بيد أن هذه
الضمانات، مهما بلغت من الدقة والإحكام، قد
تبدو أحيانًا قاصرة عن تحقيق الغرض المنشود
منها، وهو حماية الحرية الفردية للمواطن،
وضمان حقوقه، وإلزام الحكومة باحترامها. إذ
قد تسوء نية الحكام، ويتَّبعون سياسة تؤدي
إلى مخالفة القوانين، ولا يهدفون في تصرفاتهم
سوى إلى تحقيق مصالحهم الخاصة. ومادامت
الدولة هي التي تشرِّع القوانين، فقد تغيِّر
وتبدِّل فيها كما تشاء، فتكرِّس حُكمًا
للقانون لا تريد من ورائه إلا تحقيق مصالح
الحاكمين، ولا تقيم وزنًا كبيرًا للشعب؛ بل
كثيرًا ما تستولي زمرة من الأشرار على مقاليد
السلطة بالقوة، وتتخذ إجراءات إرهابية
لتعطيل الحريات العامة وتوقيف الأشخاص دون
محاكمة، خلافًا للقوانين التي كان معمولاً
بها حتى تاريخ تسلُّمها السلطة، ولا تراعي
حقَّ الدفاع المعطى للمتَّهمين، وتُنزِل
المظالم بالناس وتزج ُّبهم في السجون دون سبب
مشروع يقبل به الوجدان والعقل، وتصادر أموال
بعضهم، ليس في سبيل المصلحة العامة بل
لتسليمها إلى أخصائها لينتفعوا بها. وإزاء
مثل هذه الحالة، يصبح هدف الأفراد في مجموعهم
تغيير هذا الوضع؛ ولكنهم يجدون أنفسهم
مجرَّدين من الوسائل المنظَّمة المقررة
سلفًا لإمكانية التغيير. وفي مثل هذا الوضع
الشاذِّ، وأمام هذه الاعتبارات، يجوز
أدبيًّا، وبمقتضى الحقِّ الطبيعي للمواطنين،
أن يسعوا إلى قَلْبِ النظام القائم، وذلك كي
يعيدوا للبلاد نظامها الشرعي ويضعوا حدًّا
للعذابات التي يُنزِلها الحكامُ الظالمون
بأفراد الشعب. وقد سجَّل التاريخ، في عصور
مختلفة، ثوراتٍ قامت للمحافظة على القانون
بمعناه الصحيح، وذلك لعجز الوسائل المقرَّرة
لحمايته. وقد كان لثورات الشعوب (أو بعضها) على
حكومات الظلم والعدوان مبررُّها الأدبي؛ فلا
يلام الثائرون، بل يتجه إليهم عطفُ محبي
العدالة والحرية وتقديرهم. وهم، إذا فازوا
ببغيتهم وأسقطوا حكومة الطغيان، لا يجدون من
يناقشهم الحساب، بل قد يعتبرهم الشعب أبطالاً
وطنيين. ولكنهم، إذا فشلوا في محاولتهم، فلن
يمكن لهم الاحتماء دفاعًا عن أنفسهم وراء
الحقِّ المقرَّر، فكريًّا أو دستوريًّا،
بحقِّ الشعب في مقاومة الطغيان؛ إذ لا شكَّ في
أن محاكم السلطة التي تغلَّبتْ وأخمدتْ
ثورتهم، ستقضي عليهم بالحكم؛ وأحكامها،
بموجب ظاهر القانون الوضعي، تُعتبَر
صحيحة، وذلك لأنه ما من سلطة تعتبر نفسها "طاغية"،
ولأنه لا يُنتظَر من المحاكم عادة أن تقضي
بمشروعية الثورة بعد إخمادها، وأمامها نصوص
وضعية تقول بمجازاة مَن تسوِّل له نفسُه شقَّ
عصا الطاعة على السلطة، مهما عمَّر فسادُها
وطغيانها. وفي هذا الصدد، لا يمكن
اعتماد "الرأي العام" للقول بأن نظامًا
معينًا جائر؛ إذ كثيرًا ما يخطئ الرأي العام
في تقديره للأمور. وقد حصل في التاريخ أن
قوانين وإجراءات أوْحَتْ بها مُثُل
الإنسانية كانت هدف انتقاد من الرأي العام،
كما حصل في الولايات المتحدة عندما ألغت
الرقَّ: فقد بقيت، لفترة طويلة بعد العمل به،
عرضة لانتقاد الرأي العام. ولا يغرب عن البال أن اللجوء
إلى الثورة هو السهم الأخير الذي لا
يسوَّغ استعماله إلا إذا نَفَدَتْ جميعُ
الوسائل الأخرى لحمل السلطة على الإقلاع عن
سياستها الطاغية. هذا ويلاحَظ من تجارب
التاريخ أن الأساليب والطُّرُق التي
اعتُمِدَتْ في مقاومة الطغيان إنما تندرج في
فئات ثلاث هي: أ.
المقاومة السلبية:
وذلك باللجوء إلى العصيان المدني والإحجام عن
دفع الضرائب إلى الحكومة الجائرة. ب. المقاومة
الدفاعية:
وتتضمن اللجوء إلى القوة لمنع تنفيذ كلِّ عمل
جائر يقوم به رجال النظام. ت. المقاومة
الإيجابية:
وتكون عندما يهاجم الإنسان، وحده أو مع
آخرين، الحكومة القائمة، بجميع
الأساليب، سواء أكانت مشروعة أو غير مشروعة،
لحَمْلِها على إبطال القوانين الجائرة. وطبيعي أن مثل هذه الأفكار
والمبادئ إنما ظهرت – وتظهر – في عهد
الحكومات الاستبدادية؛ وهي الطريقة الوحيدة
التي يمكن للشعب أن يلجأ إليها لإظهار
استيائه. أما في الأنظمة الديموقراطية،
فالمفروض أن القوانين يسنُّها نوَّاب الشعب.
وعلى ذلك، ففي ظلِّ النظام الديموقراطي،
تختلف طُرُق مقاومة الجور، بدءًا من الطعن
بدستورية القوانين، مرورًا بانتقادها علنًا
في وسائل الإعلام وتقديم الاحتجاجات والقيام
بالمظاهرات، وانتهاءً بانتظار عملية التصويت
الدورية لاختيار ممثلي الشعب – وهذا كلُّه من
مميزات الأنظمة الديموقراطية التي توجد فيها
دساتير محترمة، تكفل للمواطن ممارسة هذه
الحقوق بحرية، ضمن دولة القانون التي أصبحت
مفهومًا حديثًا للدولة، ويعني وضعًا ينشأ عن
تطبيق قواعد القانون العام ومبادئه تطبيقًا
سليمًا، بفروعه الثلاثة: القانون الدستوري،
والقانون الإداري، والقانون الدولي العام،
كما أشرنا إلى ذلك في مطلع هذا البحث. 10. حق المقاومة
بالطرق القانونية النافذة والسليمة لا مناص من تمتُّع الحكام
بالقوة التي لا غنى عنها لاستقرار الأمن في
الداخل وللمحافظة على الدولة في الخارج. كما
أن العدالة لا قيمة لها إذا لم تحمِها القوة،
إذا حدث اعتداء أو محاولة اعتداء عليها. وإذا
كان عنصر الإكراه الذي تتمتع به الدولة
غالبًا ما يكون ضروريًّا ليؤكد سطوة القانون
وسيادته وحماية الأمن في العلاقات
الاجتماعية، فإن هنالك خطرًا يبدو من جرَّاء
ظاهرة القوة وعنصر الإكراه، مادام كلُّ مالكٍ
للقوة قد يسيء استعمالها. ومن هنا تلمَّس
الإنسان، منذ القديم، الوسائل للتوفيق بين
القوة والعدل، ولحماية إنسانية الإنسان
وحريته. وبهذا ظهرت الأهمية القصوى لدُوْر
القضاء، الذي بواسطته يمكن رقابة استعمال
القوة لخدمة القانون. إذا كان من الملحوظ أن
المجتمع الدولي لا يزال بدائيًّا من ناحية
التطور القانوني – إذ لم توجد فيه سلطة
تنفيذية فوق الدول، كما لا توجد فيه سلطة
قضائية عليا تؤكِّد على سيادة القانون
الدولي، الأمر الذي أفسح المجال لسيادة
القوة، وبهذا استمرت الحروب لأغراض
استعمارية واستبدادية – فإن القانون الداخلي
في الدول الحديثة قد تجاوز زمن استخدام
الأفراد للقوة لأخذ حقوقهم، وأصبح استخدام
القوة اللازمة لتنفيذ ما يُعتقَد حقًّا يعود
إلى السلطة العامة؛ وبهذا حدث تغيير فيمن
يحقُّ له استعمال القوة، حيث انتقل هذا
الحقُّ من الأفراد إلى الدولة. ويترتب على ذلك أن الحكام
الإداريين (وهم بشر يمثلون الدولة) قد يسيئون
استعمال القوة. وقد يكون الخطر في هذه الحالة
أشد، لأن سلطة الدولة واسعة، وقوتها ضخمة،
ويكون الفرد أعزل في مواجهتها. ومن هنا كان
سعي الفكر المتنور إلى إيجاد حلٍّ يوفِّق بين
عناصر متعارضة، هي السلطة والحرية، القوة
والقانون. وهذا ما يجري التعبير عنه حاليًّا
بما يُسمَّى "دولة القانون" – هذه
الدولة التي يقوم فيها نظامُ الحكم على قواعد
دستورية مُلزِمَة، تنصُّ صراحةً على تساوي
المواطنين أمام القانون، لا تمييز بينهم بسبب
الجنس أو اللغة أو العقيدة الدينية؛
وتُستمَدُّ القوانينُ التي تشرِّعها الدولة
من هذه المبادئ، بحيث يتساوى الجميع في
الخضوع لهذه القوانين، ولا يستطيع الأقوياء
خَرْقَها. وبذلك يستقر النظام العام، وتزول
الفوضى، ولا يعاني أحد من ظلم القانون أو يخشى
من فساد تطبيقه، كما قال فيلسوف يوناني قديم:
"إن القانون سيف في يد الأقوياء تُحنى له
رؤوس الضعفاء: فهو لا يطبَّق إلا حين يكون
المطلوب مجازاة الضعفاء. فإذا كان في تطبيقه
مساس بامتيازات الأقوياء أُهمِلَ وازدُرِيَ
وعومل معاملة ابن الجارية"؛ أو كما عبَّر
في صيغة أخرى نيتشه، حين وصف القانون بأنه "كبيت
العنكبوت، تعلق به الحشرات الضعيفة؛ أما
القوية فتخترقه وتسير غير مبالية". ومع تقدم الشعوب وتقرُّبها
من مبادئ سيادة القانون، لا تزال هنالك بلدان
كثيرة (وبخاصة ما يُعرَف منها بالبلدان "المتخلِّفة")
تعاني من الاضطهاد والظلم القانوني، بل الظلم
بانتهاك ما يوجد من نصوص قد تكون متطورة حديثة.
وبمقدار ما تتوصَّل الشعوب إلى الرقيِّ
الحضاري، تتمكن من إقامة مؤسَّسات تكفل
للإنسان، بصفته خلية في المجتمع، حقَّه في
الحياة والكرامة والحرية. وقد يمكن أيضًا عكس
العبارة، بحيث يصح القول إنه بمقدار ما
تمكَّنتْ الدول والمجتمعات من إقامة
مؤسَّسات تكفل للإنسان الحقَّ والكرامة،
ترتقي في سلَّم الحضارة. إن نظرة تُلقى في عصرنا على
نُظُم الغرب أو الشرق وفي العالم قاطبة، الذي
أصبح، بفضل وسائل الاتصال الحديثة، قرية
صغيرة، تُظهِر أن هاجس البشرية الحديث أصبح
حقوق الإنسان والديموقراطية. وجميع نُظُم
الحكم الحالية، في مختلف دول العالم، تؤكد
على لزوم احترام الدولة وهيئاتها لحقوق
الإنسان وكفالة هذه الحقوق بالطُّرُق
القانونية السليمة، البعيدة عن التحكم
والانحراف والطغيان، حتى ولو كانت هذه الدولة
أو تلك النظم تمارس أنواع الظلم والطغيان
عمليًّا. وعلى الرغم من إغراءات
الطغيان في بعض الدول المتخلِّفة (التي
توصَّل بعضُ حكامها إلى ممارسة الدكتاتورية
في أبشع صورها)، لم يستطيعوا التنكر نظريًّا
لحقوق الإنسان. وهم – وإنْ كانوا، في مثل هذه
الظروف، يستعملون الكلمات من دون أية علاقة
بمعانيها، بحيث تُمتدَح الطاعة العمياء
وكأنها الحرية، أو تمجَّد الوحدة المفروضة
بالإكراه وكأنها تحقيق للديموقراطية – لكن
كلَّ هذا التضليل لا يحجب الحقائق عن الشعوب،
ولا يضفي على الانتهازيين والمنافقين صفات
الوطنية والديموقراطية، ولا ينجح إلا في كبت
العقل الاجتماعي وتقييده لفترة معينة، لأن
الشعب الجاثي على ركبتيه، الذي – وإن كان لا
يمكن له أن يفكِّر وهو في مثل هذه الحالة –
يُمهِل ولا يُهمِل. وأحداث التاريخ، القريبة
والبعيدة، تؤكد على هذا في أبلغ تعبير
وأوضحه، كما تؤكد على أن دولة القانون هي
وحدها المؤهلة للبقاء. إن كلَّ تدبير حكومي أو
إداري لا بدَّ أن يثير حفائظ مَن يعنيهم، حتى
ولو بدا عادلاً، لأن الإنسان أسير ضعفه
ونزواته. وإذا أعطى للأحقاد والنزوات حقَّ
الانتفاض والتمرد، تصير البلاد مسرحًا
للفوضى ونهبًا لدُعاتها. ومن هنا تعمد دولة
القانون الحديثة إلى وضع ضمانات للحرية
الفردية وجزاءات مقرَّرة لحمايتها؛ وهي
جزاءات منظَّمة ومقرَّرة بنصوص قانونية
آمرة، تتولى السلطة القضائية توقيعها عندما
تخالف الدولةُ القانونَ وتخرج عن الحدود
المرسومة لها (وقد يحصل أن تتولَّى الإدارة
بنفسها تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها). أما ما
لا يمكن تفسيرُه ولا علاجه فهو أن يأتي خَرْقُ
القوانين والأنظمة من المستويات السياسية
التي تستصدر القانون وتراقب تطبيقه، في وقت
ينبغي فيه أن تدرك أهمية تحقيق الاستقرار
والحفاظ على النظام العام برضى المواطن
وتلبية مصالحه – في وقت يعرف فيه الجميع أن
الدولة التي لا تحترم قوانينها لا يحترمها في
العالم أحد. 11. دور القضاء
ورسالته في المجتمع الحديث إن الحلول السلمية للمشكلات
الناجمة عن الجور والظلم، اللذين هما من أكبر
العوامل في تعريض البلدان والدول لخطر
الزوال، أُلقِيَتْ، في المجتمعات الحديثة،
على عاتق القضاء بالدرجة الأولى – هذا القضاء
الذي اعتبره بعض الفقهاء أكثر من مطبِّق
للقانون – بل صانع للقانون – لأن ظلم
القانون، مهما كان عاتيًا، يمكن له، عن طريق
القضاء العادل، المتفهِّم لمنطق الحياة
والمتحرِّر من رواسب التخلف، أن يصلح عيوب
القانون وظلمه، وذلك عن طريق تفسيره للنصوص
بمنطق العدالة والتقدم والإنسانية. ومن هنا أدركت الشعوبُ
المتحضِّرة كافة أن القضاء لا يستطيع أن يؤدي
رسالته كحكم، ولا يمكن لهذه الرسالة أن
تحقِّق أغراضها في تأمين الاستقرار وتجنيب
البلاد الهزَّات التي تنجم عن مساوئ الحكم
وضغوطه أو عن سوء العمل الإداري، إلا إذا
توافرت له شروطُ الاستقلال والقوة والصَّلاح
والولاية العامة على جميع الخلافات، بما فيها
المنازعات التي تنشأ عن الانتخابات وعن
دستورية القوانين. وعلى ذلك، كانت أنظمة
البلدان المتطورة وكانت دساتيرها الحديثة
تشدِّد على أمور أساسية تخصُّ القضاء، دون
غيره. فاستقلال السلطة القضائية، وإقامة
الضمان الفعلي له، هو الوسيلة الأولى لتمكين
المواطن من الشعور بالعدل والانتماء للوطن.
وفي دساتير العالم المتقدِّم كلِّها، توجد
نصوص خاصة تؤكد على استقلال القضاء. وقد
أسهب الفقهاء والباحثون في مدى هذا
الاستقلال، وفي واجب السلطتين التشريعية
والتنفيذية حياله، وفي الخطر الذي يهدِّد
البلاد بالزوال عندما يصير القضاء أداة إرهاب
وقمع بيد الحاكم، بدلاً من أن يكون مؤسَّسة
عدل للجميع. وقد عانى الكثير من البلدان
المتخلفة، التي يمارَس فيها الحكم ممارسة
استبدادية، من عبث هذه السلطات بالقضاء،
وإقامتها لأنظمة قضائية استثنائية، توجَّه
بإرادة أجهزة الدولة الاستبدادية، ولا تحمل
من القضاء إلا اسمه، بينما هي في الواقع أجهزة
قمع وتذليل ضد من تسوِّل له نفسُه التفكير في
مقاومة الجور والظلم والفساد. ومن هنا، فإن
القضاء العادل المطلوب في نظام ديموقراطي،
كأسمى وسيلة للمقاومة، لا بدَّ أن يتمتع
بالاستقلالية والحصانة. ويتأتى الاستقلال من صفة
القضاء غير السياسية، لأن الصفة السياسية
للقضاء تتنافى مع رسالته كحكم لفضِّ
المنازعات بين المتخاصمين، وتجعله خاضعًا
للميول السياسية، خاصة وأن النظام
الديموقراطي يعني التعددية السياسية. ولذلك
يجري التشديد، في هذا النظام، على إمكانية
تحييد القضاء وتعزيز استقلاليته. وبهذا
يُعتبَر في النظام الديموقراطي سلطة سيادة
يستمدها من سيادة الأمَّة. والقضية هي قضية
مفوَّضة déléguée،
ويصدر أحكامه فيها باسم الشعب، لا باسم رئيس
الدولة، ولا باسم الحكومة. وكون القضاء مستقلاً – وتلك
أهم ميزاته – فإنه لا يرتبط بممثِّل السلطة
التنفيذية في وزارة العدل، ولا يتلقَّى
توجيهاته منه. وهذا ما تشدِّد عليه النصوص
الدستورية في بلدان العالم قاطبة؛ وهو ما
أوردتْه شرعة الأمم المتحدة في ميثاقها،
حيث نصَّتْ المادة العاشرة من "الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان" أن لكلِّ
إنسان الحق على قدم المساواة في أن يُنظَر في
قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرًا عادلاً،
سواء أكان ذلك للفصل في حقوقه أو التزاماته أو
الاتهامات الجنائية الموجَّهة إليه. أما حصانة القضاء
فترتبط باستقلال القضاء وتتلازم معه؛ وهذه
الحصانة، مع الاستقلال، اللذين توصَّل
إليهما الفكر القانوني في العالم، من خلال
الصراع بين السياسة والعدل، ليسا وقفًا على
بلد معين، بل هما من معالم الحضارة الحديثة
التي أبرزت شرعة الحصانة القضائية، لتفرض
حكمها ضمانةً للحقِّ ودرعًا واقيًا يحمي
القضاة من الانتقام والاستبداد. وقد تكرَّس
هذا المبدأ عند رجال القانون في مختلف
الهيئات العاملة على الصعيد الدولي أو على
الصعيد الوطني – وذلك كلُّه في سبيل أن يصبح
القضاء الحصن المنيع لحقوق الإنسان وحرياته
من تجاوز السلطات. وهو ما أوجب إثباتَ حكمه في
الدساتير الحديثة وإعلان حقوق الإنسان، وفي
إقامة هيئة رقابة عليا لرقابة تجاوُز السلطة
التشريعية على هذه الحقوق. وبذا تمَّ ارتباط
نظام استقلال القضاء، ونظام حرمة حقوق
الإنسان، ونظام حرية الدفاع – وذلك كلُّه
بهدف إقصاء شبح الظلم والاستبداد. ومن هذا
المنطلق، استوحتْ المؤسَّسات الدولية
مقرَّراتِها العامة العديدة، المنعقدة
بإشراف الاتحاد الدولي للقضاة ولجنة
الحقوقيين، المبدأ المؤكَّد عليه مرارًا،
وهو: إن
استقلال السلطة القضائية يبقى خير ضمانة
لمبدأ الشرعية، وإن تنظيم هذه السلطة تنظيمًا
صحيحًا وكافيًا لتأدية الخدمات المطلوبة
منها لم يعد امتيازًا موقوفًا على أمَّة، بل
هو النظام الأساسي والضروري لحياة اجتماعية
راقية في أية مجموعة من البشر. هذا ويمكن القول إنه، منذ أن
ترسَّختْ فكرةُ استقلال القضاء وحصانته، لم
يتوقف البحث عن ضمانات لهذا الاستقلال
المطلوب، الذي رأى الكثيرون أنه لا بدَّ له،
ليكون حقيقة راهنة، من تمتُّع القضاء بنظام
خاص، لا يقوم، كما هي الحال بالنسبة للموظفين
الآخرين، على تفاوُت الدرجات المسلكية،
والترقية، والتعويضات مقابل أعمال إضافية،
وغير ذلك من منافع تستهوي القاضي وتسيطر فيها
السلطةُ السياسية على القضاء بهذه الوسائل
التي سَبَقَ للكاتب الفرنسي بلزاك أن عبَّر
عنها بقوله: "مهما يكن أمر القضاء، فإن
تنظيمه على أساس تفاوُت الدرجات والترقية
محفوف بالمحاذير، ومن شأنه أن يهدِّد نزاهة
القضاة." وهذا ما دفع ببعض البلدان إلى
ابتداع حلول، تهدف جميعها إلى ضمان استقلال
القضاة وحصانتهم، وبخاصة تأمين مورد عيش كريم
لهم يكفيهم عن التطلع إلى مداخيل جانبية تمس
– ولو من بعيد – بهذا الاستقلال. ومن هذا
المنطلق، كان النظام في بلجيكا، على سبيل
المثال، يقوم على عدم وضع حدٍّ معين لسنِّ
القضاة لإحالتهم على التقاعد. وعندما رُئِيَ
لزوم التحديد، تلافيًا لإشكالات كبر السنِّ
والعجز، احتفظ القانون لِمَن بلغ السنَّ
المعينة بجميع حقوقه في المرتَّب كما لو بقي
في وظيفته. وفي فرنسا، على الرغم من تحديد
سنٍّ معينة للقضاة للإحالة على التقاعد، بقي
مبدأ الحصانة محترمًا. وفي بريطانيا، تُضفَى
هالةٌ خاصة على القضاة، ويتمتعون بامتيازات
كبيرة من حيث الراتب والتقدير. ولا تزال كلمة
تشرشل في هذا الشأن تعبِّر عن هذا عندما رأى
أن القضاء بقي سليمًا في أثناء الحرب
العالمية الثانية، فاعتبر أن بريطانيا بخير،
ولو انكسر جيشُها وتهدَّمتْ مدنُها. 12. واجب
السلطتين التشريعية والتنفيذية تجاه استقلال
القضاء مهمة القضاء في أن يكون ملجأ
ومعاذًا لتحدِّي الظلم، بجميع أنواعه، في
الدولة الحديثة يجعل واجبًا على السلطتين
التشريعية والتنفيذية ضمان هذا الاستقلال.
وأول ما يتمثَّل هذا الواجب بامتناع السلطة
التنفيذية عن التدخل في شؤون القضاء،
وبالابتعاد عن كلِّ ما يقلِّل من احترامه في
النفوس؛ وليس هذا فحسب، بل إن على السلطتين
تفهُّم واقع القضاء وأعبائه ومهمته، من غير
منظار الوظيفة البحتة، بل من منظار الرسالة
الخاصة الموكولة إليه، من حيث إنه الملاذ
الأخير للمواطن – وحتى لأعضاء السلطتين –
لإرساء حُكم القانون العادل والإرشاد إلى
القوانين الجائرة. فالقضاء عنوان سيرة الأمة،
بل هو سيرتها اليومية، في الداخل والخارج؛
والمساس به، أو عدم تأمين الوسائل الكفيلة
بأن تقيه الحاجة، يضطره إلى الانحراف،
وبالتالي تضعف الثقة العامة به (ومنها الثقة
العامة بالدولة)، مما يؤدي إلى تشجيع الإجرام
بأنواعه، وغلِّ أيدي الناس عن العمل،
والتعامل خوفًا على مصائر مصالحهم. وينبغي أن يكون معلومًا أنه
لا جدوى من الاستعاضة عن القضاء بهيئات أو
أجهزة أخرى تتولَّى حَسْمَ النزاعات؛ هذه
الهيئات كلُّها، وإنْ أُعطِيَتْ صلاحيةَ
الحسم السريع، فإنها تولِّد حزازات خطيرة في
نفوس المواطنين، وتحرم الوطن من الميزة
الكبرى التي يحقِّقها القضاء، وهي أنه
الوسيلة لامتصاص العنف والحقد، وللتصالح بين
المصالح المتعارضة. وقد أثبتت التجربة، في
كثير من البلدان، مدى الخطورة في سلوك بعض
الأنظمة بسنِّها لقوانين تمنع فيها على
الأهلين حقَّ اللجوء إلى القضاء في نزاعات
معينة. فوجود مثل هذه النصوص وَضَعَ الدولة
وجهًا لوجه مع أصحاب العلاقة، مما بعث في
النفوس الشحناء والبغض والحقد وأضعف ثقة
المواطن بالقانون، الذي يُعتبَر "الدفاع
عنه كالدفاع عن أسوار المدينة"، كما قال
سقراط. إن القضاء المستقل، القوي
والشجاع والمتمرِّس بكامل اختصاصاته،
تتجلَّى فيه مصلحة السلطة الحاكمة ومصلحة
المجتمع معًا، مادامت به تتكون "دولة
القانون"، سواء أكان بإعلانه قانونية
أعمال الدولة، أو بتقويم سلميٍّ لما هو مخالف
منها للنظام العام وللدستور، وذلك بطُرُقه
ووسائله الرصينة المتزنة الهادئة. وبهذا وحده
يجنَّب المجتمع الاحتمال الرهيب للعنف
والثأر والاحتمال الخطير للاستبداد والطغيان.
وبهذا تتحقق قدرةُ المواطن على تحدِّي الظلم
ومقاومة مظاهره، ولو كانت هذه المظاهر في
القانون نفسه – وذلك كلُّه من خلال القانون،
ووفق أحكامه، وبالصورة السليمة من خلال
اللعبة الديموقراطية وحقوق الإنسان، التي
توصَّل إليها الإنسان في العصر الحديث والتي
كلَّف وصولُه إليها كثيرًا من العناء والدماء
المسفوكة. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة *
عبد الهادي عباس محامٍ وباحث من سورية.
صَدَرَ له العديدُ من الكتب في القانون،
كما صدر له العديد من الكتب المترجمة عن
الفرنسية، من أهمِّها: العنف والمقدس
لرونيه جيرار وتاريخ الأفكار والمعتقدات
الدينية (3 أجزاء) لمرشيا إلياده. (المحرِّر) [1]
انظر في هذا الشأن: روبييه، النظرية
العامة للحق، ط 1941، باريس؛ وانظر كذلك:
منصور مصطفى منصور، المدخل إلى العلوم
القانونية، جزء 1، "نظرية القانون"،
ط 1964. [2]
راجع: ريبير، القاعدة الأخلاقية في
الالتزامات المدنية، رقم 14-15. [3]
راجع: لوران ريشيه، حقوق الإنسان
والمواطن، ط 1984، ص 18. [4]
راجع: دوغيه، رسالة في القانون الدستوري،
جزء 1، ط 1927، رقم 11. [5]
راجع: أفلاطون، الجمهورية، بترجمة حنا
خباز. [6]
راجع: السياسة، بترجمة لطفي السيد. [7]
راجع: مدونة جستنيان في الفقه الروماني،
بترجمة عبد العزيز فهمي. [8]
راجع: حسن كبيرة، المدخل إلى القانون، ص
160. [9]
راجع: اللورد ديفيس لويد، فكرة القانون،
بترجمة سليم الصويص، سلسلة "عالم
المعرفة"، رقم 7. [10]
راجع: دابان، فلسفة النظام الوضعي،
وخاصة رقم 219-237، ودوغيه، مرجع سابق، جزء 3،
رقم 98-110. [11]
إنجيل متى، الإصحاح 10، الآية 34. [12]
إنجيل متى، الإصحاح 26، الآية 53. [13]
انظر: فريد عبد الكريم، "حق مقاومة
السلطة الجائرة في المسيحية والإسلام"،
مجلة فكر، عدد 3، 1983، ص 70. [14]
المرجع السابق، ص 71. [15]
المرجع ذاته، ص 73. [16]
محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي،
ط 2، دار سينا، 1989، ص 178. [17]
الإمام ابن حزم، الفصل في الملل، ج 4، ص
173-174. [18]
محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام،
ط 1964، ص 105.
|
|
|