|
عودة
الحياة إلى معسكر السَّلام الإسرائيلي قبل
شهرين، ولدت حركةُ سلام جديدة في إسرائيل.
وهذه الحركة ليست وراءها أحزابٌ يسارية، ولا
أمَّهات لجنود يخدمون على خطوط النار، إنما
طلاب جامعات. الحركة حملت اسم "الخط
الأخضر – الطلاب يرسمون الحدود". وكما يدل
اسمُها فهي حركة تنادي بضرورة اعتبار الخطِّ
الأخضر الفاصل بين إسرائيل والضفة وغزة حدود
دولة إسرائيل، وتطالب بوقف الاستيطان،
وإزالة الاحتلال الإسرائيلي للمناطق
الفلسطينية، وقيام دولة فلسطينية. ولدت الفكرة [...] في أثناء
الاحتفاء بذكرى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق
إسحق رابين. يومئذٍ شَعَرَ طالبُ الفلسفة
والعلوم السياسية في الجامعة العبرية
إيتامار روز، ابن الثانية والعشرين، أنه لم
يعد باستطاعته تحمُّل هذا الوضع طويلاً، وأنه
ينبغي عمل شيء ما. واكتشف، في الآن نفسه، أنه
ليس وحيدًا في حالته هذه؛ فثمة شباب آخرون،
طلاب جامعات، يشاطرونه الرأي والشعور. وهكذا ولدت حركة "الخط
الأخضر". والرسالة التي أرسلها منظِّموها
إلى رئيس الحكومة هي بمثابة برنامجها السياسي.
تقول الرسالة: "نحن أبناء الجيل الذي نشأ في
ظلِّ حربٍ لا جدوى منها، يُقتَل فيها يوميًّا
أبرياءٌ من كلا الطرفين، نرفض الإيمان بعدم
وجود حلٍّ [...]، ونعلن النضال الجماهيري ضد
سياسة الاحتلال والاستيطان، وندعو الجمهور
الإسرائيلي إلى العودة للدفاع الفعال عن
الخطِّ الأخضر كخطِّ الحدود بين دولة إسرائيل
والدولة الفلسطينية." أنصار الحركة الشابة
الجديدة خاضوا حرب شعارات مع حركات اليمين؛
إذ شهد الطرفان حركة كرٍّ وفرٍّ شعارية.
فأنصار السلام رفعوا يافطة تقول: "لنخرج من
اليأس، لنخرج من المناطق [الأراضي الفلسطينية
المحتلة في العام 1967]"، ردًّا على شعار
اليمين: "لنقضِ على عرفات، لنُعِدِ الأمل".
وبعد عمليات تمزيق شعارات متبادلة، أُعْلَن
"وقفُ النار" بين الطرفين! واليوم مازال
الشعاران مرفوعين على الطريق وجهًا لوجه. قد لا تُكتَبُ لهذه الحركة
الجديدة الشابة الحياة. فلقد ألِفَتْ الحياةُ
السياسية الإسرائيلية ظهورَ حركات سياسية
سرعان ما تغيب عن الأنظار قبل معرفة الناس بها.
لكن بروز حركة "الخط الأخضر" له دلالة
خاصة حاليًّا؛ إذ إنها تدل على أن شيئًا ما
بدأ يتحرك في معسكر السلام الإسرائيلي الذي
عانى، منذ نشوب الانتفاضة، حالةً من الشلل
والعجز، تحوَّلا قبل بضعة أشهر إلى نوع من
الاحتضار البطيء. لكن منذ فترة، وتحديدًا منذ
انتخاب بنيامين بن إليعازر رئيسًا لحزب
العمل، بدا أن ديناميَّة ما بدأت تدبُّ في
أوصال أهمِّ رافد في حركة السلام الإسرائيلي،
أي "حمائم" حزب العمل الذين يتزعَّمهم
يوسي بيلين. فانتخاب شخصية عسكرية
متشددة و"صقرية" لزعامة الحزب ضخَّ
دماءً جديدة في معسكر السلام، الذي من
المعروف تاريخيًّا أنه يُمنى بخسائر كبيرة
عندما تتولَّى السلطةَ حكوماتُ وحدةٍ وطنية
يشارك فيها حزبُ العمل وحزبُ الليكود. فثمن
الشراكة غالبًا ما تدفعه المعارضة اليسارية.
لكن قبول وزراء العمل بسياسة شارون في هدم
منازل الفلسطينيين، وانتخاب بن إليعازر،
أعطيا زخمًا جديدًا لمطالبة بيلين حزبَه
بالخروج من الحكومة، وبفَرْطِ التحالف مع
اليمين الذي "لم يعد يخدم الحزب ولا
إسرائيل". وليس بيلين وحده مَن يؤمن بهذه
الفكرة؛ فـ"حمائم" حزب العمل ألَّفوا
نوعًا من "قيادة للخروج من الحكومة"،
تُشارِك فيها يائيل دايان وكولت أفيطال
وأبراهام بورغ وآخرون. وفي رأي هؤلاء أن الحزب
خَسِرَ سيطرته على التنظيمات العمالية،
لمصلحة حزب العمال الذي يقوده عمير بيريتس،
وذلك نتيجة تنازُل الحزب عن حقائب المال
والشؤون الاجتماعية والتعليم. وإذا ما أضيفت
إلى ذلك خسارةُ الحزب في أوساط عرب إسرائيل
واليسار اليهودي، وتآكلُ التأييد له من جانب
المهاجرين الروس، لا يُستبعَد أن يصير الحزب
على حافة انهيار حقيقي. ولا يستبعد المراقبون أن
ينشق "حمائم" حزب العمل عنه في حال
أدَّتْ النقاشاتُ الدائرة داخل الحزب
حاليًّا إلى التصويت مع بقائه في الحكومة،
وأن يشكِّلوا حركة جديدة للسلام الاجتماعي
الديموقراطي تجمعهم مع حركةِ "ميريتس"
وحركتي "شعب واحد" و"الخيار
الديموقراطي". ذلك كلُّه يشير إلى أن ثمة
توجهًا جديدًا منتظَرًا في معسكر السلام
الإسرائيلي. وفي الواقع، بدأ ينشط منذ فترة،
وبصورة فاعلة، ائتلافٌ جديد للسلام. هذا
الائتلاف، الذي تُعتبَر حركةُ "السلام
الآن" بمثابة محرِّكه الأساسي، يضم
تنظيمات أخرى، مثل "تحالُف النساء من أجل
السلام"، ومنظمات داعية للسلام داخل
إسرائيل وفي العالم – هذا إلى جانب أحزاب
المعارضة البرلمانية، مثل حركتي "ميريتس"
و"شينوي" و"حمائم" حزب العمل. وأهم ما يميِّز تحرُّك
معسكر السلام الإسرائيلي اليوم أنه يعمل،
ربما، في اتجاهين: اتجاه الجمهور الإسرائيلي،
واتجاه الجمهور الفلسطيني والعربي عمومًا.
ويعتقد أنصار السلام أن الانطباع السائد بأن
الجمهور الإسرائيلي أصبح، منذ اندلاع
الانتفاضة، أكثر جنوحًا نحو اليمين هو اعتقاد
خاطئ. فالذي تغير داخل الجمهور يتعلق بالثقة
بالفلسطينيين، وليس بالرغبة في التوصل إلى
حلٍّ سياسي يستند إلى تسوية، وإلى مبدأ قيام
دولتين الذي ينادي به معسكر السلام. والدليل
على ذلك نتائجُ استفتاءات الرأي العام لدى
الإسرائيليين والفلسطينيين، التي قام بها
كلٌّ من د. يعقوب شامير، من دائرة الإعلام في
"معهد ترومان" في الجامعة العبرية، ود.
خليل الشقاقي، من "المعهد الفلسطيني
للأبحاث السياسية والرأي العام" في رام
الله، وذلك في الفترة الممتدة بين تموز 2000
وكانون الأول 2001. وتُظهِر نتائجُ الاستطلاعات
أنه، على الرغم من الانتفاضة والهجمات
والعمليات الانتحارية وسياسة الحكومة
الرافضة الحوار مع السلطة الفلسطينية، فإن
تغيرًا طفيفًا طرأ على جموع اليهود المؤمنين
بإمكان التوصل إلى سلام دائم: إذ انخفض عدد
هؤلاء من 55% في تموز 2000 إلى 50% في تموز 2001، وشهد
كانون الأول انخفاضًا إضافيًّا؛ إذ بلغ عدد
اليهود الذين مازالوا يؤمنون بالسلام الدائم
46%. وهذا يعني أن تأثير الانتفاضة على الرأي
العام اليهودي كان محدودًا، بعكس الانطباع
السائد. لكن، في المقابل، الذي
تغيَّر في موقف الجمهور اليهودي هو الإيمان
بحدوث الوفاق. فقد تزايد عدد الذين تخلوا عن
الإيمان بأن السلام سيؤدي إلى الوفاق مع
الفلسطينيين من 27% في تموز 2000، إلى 36% في تموز
2001. مما يعني أن الجمهور الإسرائيلي يفقد
الثقة بالوفاق، حتى بعد تحقيق التسوية
السياسية، وهو تاليًا يميِّز بين المسألتين. ويخوض معسكر السلام
الإسرائيلي معركته حاليًّا داخل الجمهور
اليهودي الإسرائيلي لإعادة الثقة بإمكان
تحقيق الوفاق، لاسيما بعدما فقدت كلمة "سلام"
مضمونها. وهنا يكمن التحدي الكبير الذي
تواجهه حركات السلام: إذ عليها أن تعيد صَوْغَ
مفهومها للتعايش والوفاق، في الوقت الذي تعيد
فيه بناء نفسها من جديد. فهي لا تستطيع تكرار
الكليشيهات القديمة التي استخدمتْها في
حملتها لخروج الجيش الإسرائيلي من لبنان، مثل
النشيد الذي أعاد أنصارُ السلام استخدامَه في
إحدى تظاهراتهم الأخيرة والقائل: "خذينا
أيتها الطائرة إلى الخليل، لنقاتل من أجل
شارون، ونعود في تابوت!" فالمتظاهرون لم
يندِّدوا بتدمير المنازل، مثلاً، وبَدَتْ
هتافاتُهم منقطعة عن زمانها وباهتة. وتبدو حركات السلام فاقدةً
رؤية جديدة واضحة تُخاطِب عقول الإسرائيليين
وقلوبهم في آنٍ واحد، في وقت يبدو واضحًا مدى
الهجوم الذي تتعرَّض له من اليمين، ومدى
عزلتها حتى وسط وسائل الإعلام. وحدها صحيفة هآرتس
تهتم بنشاطات ائتلاف السلام وتُتابِعها؛ أما
البقية فلا تتابعها. وتحالُف السلام الإسرائيلي
لا يحصر نشاطه وسط الإسرائيليين، بل يتوجه
بفاعلية كبيرة نحو أنصار السلام في الجانب
الفلسطيني. ومنذ أشهر، عُقِدَ أكثر من اجتماع
بين هذا التحالف وشخصيات فلسطينية، مثل سري
نسيبة وياسر عبد ربه وغسان الخطيب وحنان
عشراوي. والتحالف الإسرائيلي–الفلسطيني
للسلام ولد بجهود أحد زعماء حركة "السلام
الآن"، جانيت أفيعاد ويوسي بيلين، وعبد
ربه، الذين التقوا في واشنطن قبل شهرين.
وتواصلت بعد ذلك الاجتماعات. والفكرة الأساسية التي تجمع
هؤلاء هي العودة إلى الخطة التي اقترحها
الرئيس الأمريكي السابق كلينتون لحلِّ
النزاع الإسرائيلي–الفلسطيني. ولتوضيح هذه
الفكرة لأكبر عدد ممكن من الناس، شكَّل
تحالفُ السلام الإسرائيلي لجنة إعلامية،
بمشاركة يوسي بيلين ويوسي ساريد، لوضع خطة
عمل. وبين المقترحات: استئجار باصات من جانب
ناشطين في الائتلاف للقيام بحملة توعية في
الأردن ومصر، وإرسال موفَدين إلى أوروبا
لعَرْض ما يسميه بيلين "بدائل إسرائيل
الأخرى". ***
*** *** عن
النهار
|
|
|