|
الحلاج الحريَّة
على خَشَبَة الصَّلْب ليست
محض مطالعة في التاريخ. إنها أيضًا قراءة في
الواقع، حيث لا يزال الوعيُ الجمعي في بعض
المؤسَّسات التقليدية مسكونًا بهاجس إقامة
الحدِّ المماثل على مَن تُسوِّل له نفسُه
اتِّباع خُطى الحلاج في التفكير في فضاء
مفتوح والتحليق في آفاق حرة، مهما كانت الروح
عازفة عن رغائب السلطان وموائده وأعطياته. صَلْبُ الحلاج يومٌ أسود في
تاريخ الإسلام: إنه اليوم الذي حقَّقَ فيه
التزمتُ نَهَمَه في الانتقام من حقِّ الإنسان
في التعبير والفكر. إنه أكفر أيام الأمَّة
بالهُدى الربَّاني الذي نادى به القرآن في
الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين." واليوم، بعد مرور 1111 عامًا
على بدء معاناة الحلاج، هل كان قرار المقتدر
العباسي بقتل الحلاج صائبًا؟ وهل كان قرار
المجمع المستبد من حوله نزيهًا حين صَلَبَ
تلك الروح المتمردة الثائرة، التي لم تستطع
الصمت بعد أن أهلَّتْ عليها إشراقاتُ الملأ
الأعلى؟ إشراقُه كان من لون فريد. لم
يطقْ أن المعرفة شيء أدركه الأوَّلون لأجله،
وأن عليه أن يبصم على ما تخيَّروه لأجله. لقد
كان يريد أن يمشي بنفسه في الوادي ذاته. أراد
أن تدمى يداه بأشواكه، وأن يذوق نشوة وصاله
ولهيب جفائه، حيث يحمله اليقين على أن الوجود
الحق هو هو: "حقِّقْ لا ترى إلا الله"! لم يرَ في الموجودات إلا أثر
الموجِد، ولا في الخلق إلا نفحة الخلاق – وما
سوى ذلك عدم. جُبِلَتْ
روحُك في روحي كما * يُجبَل العنبرُ
بالمِسْـكِ الفَتِقْ فإذا
مسَّـكَ شـيءٌ مسَّـني * وإذا أنـتَ أنـا لا
نفتـرقْ وقوله: مُزِجَتْ
روحُك في روحي كما * تُمزَجُ الخمرةُ بالمـاءِ
الزُّلال فإذا
مسَّـكَ شـيءٌ مسَّـني * وإذا أنـتَ أنا في
كـلِّ حـال وقوله أيضًا: قد
تحقَّقتُكَ في سرِّي فناجاكَ لساني فاجتمعنا
لِمَعَـانٍ وافترقـنا لِمَعـانِ إن
يكنْ غيَّبَكَ التعظيمُ عن لَحْظِ العِيانِ فلقد
صيَّركَ الوَجْدُ من الأحشَـاء دانِ لم يكن الوصال عنده محض
إطلالة على مرابع المحبوب. لقد كان فناءً فيه
واستغراقًا في وصاله: يا
نسيمَ الريحِ قولي للرَّشَـا * لم يَزِدْني
الوِرْدُ إلا عَطَشَـا روحُه
روحي وروحي روحُه * إنْ يشَا شئتُ وإنْ شئتُ
يشَا ولكن حبَّه وشغفه كان من لون
فريد. لم يكن يرى في العشق سبيل ملذة، وإنما
كان يستعذب رَهَقَه وآثاره، حتى أسْلَمَه ذلك
للمهالك: أريدُكَ
لا أريدُكَ للثَّـوابِ * ولكـنِّي أريـدُك
للعقــابِ وكلُّ
مآربي قد نلتَ منها * سوى ملذوذ وَجْدي
بالعَذابِ هكذا كان عالم الملأ الأعلى
الذي يتقلَّب في رغائبه الحسين بن منصور
الحلاج. ولكن أين كان خصومه وحاسدوه الذين
قالوا: إن الله عَهَدَ إلينا أن لا نرى حرًّا
إلا قيَّدناه، ولا مفكرًا إلا أرهقناه، ولا
مخالفًا إلا قتلناه؟ قال الحلاج: "إنهم ينكرون
عليَّ، ويشهدون بكفري، وسيسعون إلى قتلي، وهم
في ذلك معذورون، وبكلِّ ما يفعلون مأجورون." أمَرَ الخليفة المقتدر
بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمَرَه أن
يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين
أصحابه. فجرى في ذلك خطوبٌ طوال. وبدا طوق
النجاة أمامه في وجه واحد، وهو أن يرجع عن
موقفه الفكري، وأن يبصم على اختيار السلطان.
ولكنه اختار طوق نجاة آخر، يعتصم فيه بصدقه مع
نفسه ويرحل به إلى مجد الخلود. واستيقن
السلطان أمره ووقف على ما ذُكِرَ عنه. وثبت
ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء، فأمر
بقتله وإحراقه بالنار. واختاروا منطقًا شرسًا
للموت، يقمعون به مَن تُسوِّل له نفسُه أن
يمارس حقَّه في الفكر والاختيار. فضُرِبَ
بالسياط نحوًا من ألف سوط، ثم قُطِعَتْ يداه
ورجلاه، ثم ضُرِبَتْ عنقُه، وأُحْرِقَتْ
جثتُه بالنار، ونُصِبَ رأسُه للناس على سور
الجسر الجديد، وعُلِّقَتْ يداه ورجلاه! عندما تقرأ الكلمات الأخيرة
التي قالها الحلاج ما بين خشبة صلبه وارتقاء
روحه، تدرك أنه كان يرسم للأحرار من بعده دربَ
الموت في سبيل كلمة الحقيقة. قال السلمي: "سمعت أبا
العباس الرازي يقول: كان أخي خادمًا للحلاج.
فلما كانت الليلة التي يُقتَل فيها من الغد
قلت: أوْصِني، يا سيدي. فقال: عليك بنفسك، إن
لم تشغلْها شغلتْك. فلما أُخرِجَ كان يتبختر
في قيده ويقول: نديمي
غيرُ منسـوبٍ * إلى شيءٍ من الحَيْفِ سقاني
مثل ما يشربُ * فعل الضَّيف بالضَّيفِ فلمـا
دارتِ الكـأسُ * دعـا بالنَّطعِ والسَّيفِ كذا
مَن يشربِ الكأسَ * مع التنِّينِ في الصَّيفِ ثم قال: "يستعجل بها الذين
لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها
ويعلمون أنها الحق." وعندما قُرِّبَ من خشبة
الصلب كان يقول: "إلهي، نحن شواهدك، نلوذ
بسنا عزَّتك لتُبدي ما شئت من مشيئتك. أنت
الذي في السماء إله وفي الأرض إله. يا مدهر
الدهور ومدبِّر العصور. يا مَن ذلَّتْ له
الجواهرُ، وسجدتْ له الأعراض، وانعقدتْ
بأمره الأجسام، وتصوَّرتْ عنده الأحكامُ. مَن
تجلَّى لما شاء، كما شاء، كيف شاء." وكانت آخر كلمة تكلَّم بها
عند قتله: "حَسْبُ الواحد إفراد الواحد." وكان أكثر قوله عند صَلْبِه:
"إلهي! أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى
العجائب. إلهي، إنك تتودَّد إلى مَن يؤذيك؛
فكيف لا تتودَّد إلى مَن يؤذى فيك!" ومع أنه عوقب بتهمة الردَّة
والزندقة، فقد قال ابن أبي النصر: "إن كان
بعد النبيين والصدِّيقين موحِّد فهو الحلاج!"
أما الشبلي فكان يقول: "كنت أنا والحسين بن
منصور شيئًا واحدًا؛ إلا أنه أظْهَرَ وكتمت." وعندما خُتِمَ قَدَرُ
الحلاج، وأصبح شاهد التاريخ على معاناة
الأحرار وكيد الاستبداد، أقبل الشبلي، شريك
مشاهدته وخليل مناجاته، وتقدَّم تحت الجذع
وقال: "أوَلمْ نَنْهَكَ عن العالمين؟" ***
*** *** عن
الثورة *
مدير مركز الدراسات الإسلامية،
دمشق.
|
|
|