|
رئيس "مركز تاريخ
العلوم والفلسفات العربية وعلوم العصر
الوسيط" في فرنسا التعليم الحالي في
البلدان العربية لا يمكن له أن ينتج مجتمعًا
متقدِّمًا في البحث العلمي إذا
كانت الشعوب تقاس حاليًّا بمستوى أبحاثها
العلمية، وبخاصة في العلوم المتقدمة، فإن
لبنان، والدول العربية عمومًا، خارج هذا
القياس؛ إذ إنها تخطو خطواتها الأولى في هذا
المجال. وهي، على الرغم من وجود بعض مراكز
الأبحاث لديها، فإن إمكاناتها ضعيفة – إضافة
إلى عوائق سياسية تحول دون تحولها إلى مراكز
استقطاب للباحثين ومقارًّا للعلوم المتقدمة،
مما يزيد من هجرة الأدمغة إلى الخارج. وقد
بادرت رئاسة الجامعة اللبنانية و"المجلس
الوطني للبحوث العلمية" إلى مناقشة مشروع
إنشاء مركز لتاريخ العلوم في الجامعة،
بالتعاون مع "المجلس الوطني للبحث العلمي"
في فرنسا. وحضر إلى بيروت مدير "مركز تاريخ
العلوم والفلسفات العربية وعلوم العصر
الوسيط"، التابع للمركز الوطني الفرنسي
للبحث العلمي، د. رشدي راشد، وشارك في اجتماع
ترأسه رئيسُ الجامعة وحَضَرَه العمداءُ
وممثلون عن "المجلس الوطني اللبناني" و"المركز
التربوي للبحوث والإنماء". وتناول البحث
طريقة التعاون لإنشاء المركز في الجامعة. كما
شارك د. راشد في إطلاق مشروع البحث لـ"فريق
الدراسة والبحث في التراث العلمي العربي"،
التابع للـ"جمعية اللبنانية لتاريخ العلوم". النهار التقت د. رشدي راشد، الذي أمضى في
بيروت يومًا واحدًا، فتحدث عن زيارته وعن
البحث العلمي والتراث. غ.ح. *** مناسبة
زيارتي للبنان هي المشاركة في لجنة دعا إليها
رئيس الجامعة اللبنانية للبحث في إنشاء "فريق
الدراسة والبحث في التراث العلمي العربي"،
تمهيدًا لقيام مركز متخصِّص. وماذا تقصدون بـ"التراث العلمي
العربي"؟ شيء
بسيط جدًّا: هو كلُّ ما أنتجه العرب، في
العلوم الرياضية وغير الرياضية، في الفترة ما
بين القرن التاسع والقرن السادس عشر، وربما
القرن السابع عشر. المجلدان الأول (الفلك،
النظري والتطبيقي) والثاني (الرياضيات
والفيزياء) من كتاب تاريخ
العلوم عند العرب (3 مجلدات) الذي أشرف على
تحريره رشدي راشد تتحدث عن منجزات في الماضي... ولكن أين
حاضرنا من العلوم؟ – إذ يبدو وكأننا دخلنا في
الفولكلور أو في آثار كانت لنا! العلم
ليس فولكلورًا وليس آثارًا. تاريخ العلم هو
جزء من العلم. فتاريخ الرياضيات جزء من
الرياضيات الحالية. وكل النظريات القديمة، في
هذا المجال، يمكن للعلماء اليوم أن يفهموها.
ومع كلِّ احترامي للفولكلور والآثار، فإن
للعلم وضعًا خاصًا، لأنه ينمو ويتزايد. وما
يهمنا هو الجزء التاريخي؛ وهذا الجزء يمكن له
أن يفيد في مستويات عدة، أولها اللغة العلمية:
فنحن لا نستطيع اعتماد لغة علمية عربية إذا
كان العرب لا يعرفون تاريخهم في هذا المجال. كتاب الخيام
رياضيًّا، من تأليف ر. راشد وب. فاخرزاده والمجلد الأول من
كتاب شرف الدين الطوسي: المؤلفات الرياضية،
بتحقيق ر. راشد هذا يعني أننا لن نكون أسرى الماضي،
بل ننطلق منه إلى مستقبل ما. فهل نحن نساهم
حاليًّا في الحياة العلمية؟ لا،
نحن لا نساهم حاليًّا في الحضارة العلمية
كمجتمع عربي، وإنما يساهم أفرادٌ هنا أو هناك.
ولا يمكن لنا التحدث الآن عن مجتمع علمي عربي،
يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحث العلمي، وله
خصوصيته وتمايزه. هذا ليس موجودًا. ولكن لن
يمكن لنا الحديث عن مجتمع علمي إذا لم تدخل
العلوم – وتحديدًا الأبحاث العلمية – في
الثقافة المجتمعية. فالعلم، حتى يومنا هذا،
ليس جزءًا من ثقافة المجتمع في العالم العربي.
ولكن حتى يكون هذا العلم جزءًا من الثقافة يجب
تعليم العلوم على المستويات كافة، وفي صورة
دقيقة؛ ويجب أيضًا الإلمام بتاريخ العلوم
وبفلسفة العلوم وفكرها. ولإدخال القيم
العقلية في المجتمع العربي، هذه هي إحدى
الوسائل، بل إحدى الوسائل الأساسية. ولو
عرف الدارس العربي والباحث العربي البُعد
العلمي في المدينة العربية وفي المدينة
الإسلامية سابقًا، لأدرك حتمًا أن هذه
الحضارة لم تكن دينية أو لغوية أو أدبية، بل
علمية. وهذا سيسهِّل على الباحث تصور ذاته على
الأقل: فهو ليس مبتورًا، وليس مكوَّنًا فقط من
الأجزاء الدينية والأدبية. وتاريخ العلم هو
أيضًا معرفة، ومادة في حدِّ ذاتها تُدرَّس في
الجامعات؛ لكنها – ويا للأسف! – لا تُدرَّس
بالشكل الدقيق في الجامعات العربية. ولا
أعتقد أن هناك جامعة عربية تدرِّس مادة تاريخ
العلوم بالشكل الصحيح كمادة جامعية أساسية. تتحدث عن مادة جامعية متخصِّصة، لا
تعني الكثيرين في عصر سهولة الوصول إلى
المعلومات، وفي عصر التكنولوجيا وعلومها
والإنترنت. في
تكوين الطالب الجامعي يجب أن تتوافر ركائز
معينة في حدٍّ – وإنْ أدنى – من المعرفة. فقد
يدخل الطالب الإنترنت، ولا يعرف طريقة
الإفادة من المعلومات واستثمارها. فالأساس هو
تكوين الطالب، سواء الطالب الجامعي الذي يجب
أن يكون باحثًا، أو الثانوي الذي يجب أن يكون
مثقفًا. كتاب العلوم في عصر
الثورة الفرنسية: أبحاث تاريخية، بتحرير ر.
راشد والدخول
إلى الإنترنت يجب ألا يكون غاية، بل وسيلة –
ويجب ألا نخلط بين الأمرين. الإنترنت وسيلة،
والكتاب وسيلة، والصحف والمجلات كذلك؛ ولكن
الغاية هي تكوين الطالب تكوينًا جيدًا. وحتى
نصل إلى المبتغى هناك مستويات عدة، لعل أهمها
مستوى التخصص في مجال من المجالات. ولأجل هذا،
يجب أن يدخل في تكوين الطالب تاريخُ العلوم
وفلسفتُها. ولنأخذ،
مثلاً، طالب كلية العلوم: فهو يتعامل مع
المادة كتكنولوجيا وتقنية؛ ولكن العلم ليس
كذلك. فإذا لم تكن لديه ثقافة علمية يصبح
تقنيًّا فقط، ولا يقدِّر قيمة النظريات، ولا
يسعى إلى تطويرها. هنا تكمن أهمية تاريخ
العلوم وفلسفة العلوم، اللذين يساعدان على
إدراك قيمة التجريد والنظرية العلمية. هل يمكن فهم قولك بأن جامعاتنا في
العالم العربي تحولت إلى التقنية؟ أنا
لم أقل ذلك. ولكني أوجِّه إليك السؤال عمَّا
تعرفه عن الواقع… أنا
لا أدرِّس في الجامعات العربية، ولا أعرف
كثيرًا عن واقعها. ولكن ما يمكن لي قوله هو أن
البحث العلمي في الجامعات العربية ليس في
أفضل حال! وثمة مشكلة على هذا الصعيد – مشكلة
تقنية – تتمثَّل في رفع مستوى البحث العلمي
واستثماره. وعلى المستوى العام أيضًا، هناك
نقص في القيم العلمية، وبخاصة في الفترة
الحالية. وعلى الرغم من أنني لا أتكلَّم في
السياسة، إلا أنه من الضروري، في خضم
الإيديولوجيات السائدة والتيارات الفكرية
وغيرها، إدخال القيم العلمية والعقلية إلى
المجتمعات العربية. ولا يمكن للأمر أن يتم إلا
بالعلم. المركز الذي تترأسه في فرنسا، ماذا
يمكن له أن يقدِّم في هذا المجال، أي على صعيد
التعاون لدفع البحث العلمي في الجامعات
العربية؟ هذا
مركز فرنسي يتعاون مع مراكز وجامعات عربية.
فلدينا باحثون لبنانيون وعرب ذهبوا إلى
المركز وشاركوا في أبحاثه. والوسيلة الثانية
للتعاون هي عقد حلقات تكوينية مشتركة.
والوسيلة الثالثة هو إرسال أساتذة للتدريب
والمشاركة في الأبحاث التي تتم في الجامعات
العربية. وفي لبنان، شارك ثلاثة باحثين في
دورات تدريب في المركز وأقاموا مدة لا بأس بها. أنت اليوم في بيروت للمشاركة في إطلاق
مشروع البحث لـ"فريق الدراسة والبحث في
التراث العلمي العربي". هل وجودك "شرفي"
وحسب، أم أن لكم دورًا في دفع هذا العمل؟ التعاون
مستمر مع لبنان منذ أكثر من عشرة أعوام، وليس
وليد الساعة. وأنا أشارك بصفتي رئيسًا
للمركز، وبصفة شخصية أيضًا كباحث عربي، لأني
أعتقد أن النهضة العربية الحقيقية، غير
المزيفة، لا يمكن لها أن تقوم إلا بجهود العرب
أنفسهم. وأنا أشارك بوضع خبراتي وبما يمكن
لمركزنا أن يقدِّمه. إذًا حضوري ليس شرفيًّا،
ولست بـ"خبير أجنبي" آتٍ إلى لبنان! تقول إن النهضة العربية لا يمكن لها
أن تقوم إلا بجهود العرب أنفسهم… النهضة
العلمية لا يمكن لها أن تقوم إلا بعرب من
الداخل، ولا يمكن لها أن تُستورَد. ولن يقوم
شيء إلا إذا قامت المراكز البحثية العربية –
وباللغة العربية. زيارتك الحالية تشمل لبنان وسوريا.
فماذا في برنامجكم السوري؟ أنا
أصلاً حضرت إلى سوريا لإلقاء محاضرات عن
المجتمع العلمي العربي والتراث البحثي.
وحاولت، في محاضرة أولى، أن أشدد على أن
المجتمع العلمي ليس الأساتذة والمهندسين
والأطباء – ولو كانت نسبتهم مرتفعة – إذا لم
يرتبط وجودُهم بالبحث العلمي المتقدم. بحسب معلوماتك، هل في العالم العربي
حاليًّا مراكز علمية متقدمة؟ ثمة
مراكز علمية تتبع مراكز أخرى في الخارج،
وأخرى هدفها نقل التكنولوجيا، إضافة إلى بعض
المراكز القليلة التي تقوم ببحث على مستوى لا
بأس به. ولكنها تقوم على أفراد، وبالتالي، لا
يمكن لها الاستمرار. ومن الأمثلة مركز بحث في
المسالك البولية والكِلى في جامعة المنصورة (مصر)،
وهو الأفضل في المنطقة العربية. هل اطلعت على تجربة "المجلس الوطني
للبحوث العلمية" في لبنان؟ وكيف يمكن
للمراكز المتخصصة التابعة له أن تقوم؟ مما
لا شك فيه أن المركز يقوم بمجهود حقيقي لتشجيع
البحث وخلق فرص؛ وأنا أقدِّر العاملين فيه.
ولكنها البداية، ولا يمكن لها أن تصل إلى
البحث المتقدم؛ إذ إن الإمكانات ضئيلة، ولا
يمكن للأفراد أن يحققوا ما يصبون إليه. أضف
إلى ذلك أنه لا يمكن لأيٍّ من البلدان عربية،
بما فيها مصر، أن ينفِّذ تجارب وأبحاثًا
متقدمة، لأن ذلك يتطلب استثمارات كبيرة.
فأوروبا توحد طاقاتها، وتقيم مراكز مشتركة
تُرصَد لها الإمكانات المالية والبشرية
الضخمة. ونحن في العالم العربي لم نعِ هذه
الضرورة بعدُ، ولم نعمل في سبيلها حتى اليوم. أما
في المرحلة الثانية، فيجب أن تكون لدينا
جامعات متخصصة. فالتعليم العالي الحالي في
البلدان العربية لا يمكن له أن ينتج مجتمعًا
متقدمًا في البحث. ولدينا تحديات كثيرة في هذا
المجال. فالتحدي الأساسي للأمة العربية هو
التحدي العلمي. ولا يبادر أحد أمامه إلى اتخاذ
الوسائل الكفيلة بتجاوز الأزمة. ولا أتوقع أن
يبادر المعنيون إلى وضع تخطيط طويل الأمد
لذلك! نظرتك إلى المستقبل، إذن، ليست
متفائلة؟ المستقبل
يكون بالعمل وبقبول التحدي، وليس بالكلام. وهل يعني ذلك أن قيام مراكز للأبحاث،
مثل "المجلس الوطني" في لبنان، لا يمكن
له أن يغطِّي النقص الفادح؟ بالتأكيد
لا، لأن المنجزات الكبيرة تفترض استثمارات
كبيرة ومشاريع ضخمة، ولا يمكن لها أن تتحقق
إلا على مستوى العالم العربي مجتمِعًا، حتى
يتطور هذا العالم ويتجاوز مشكلة هجرة الأدمغة
التي يعانيها. ألا تعتبر أن ثمة حواجز سياسية تعوق
هذا التقدم في التجمع العربي؟ ثمة
حواجز بالتأكيد. وقد حدث ذلك، ولم يكن فقط في
رؤيتنا ونظرتنا. ولكن المسألة أن الممنوع
سيبقى ممنوعًا إذا لم نحاول كَسْرَه. لأننا
إذا وافقنا على كلِّ الممنوعات، فإن إسرائيل
سيمنع الشعب الفلسطيني من الحياة. فهل نقبل
ذلك ونستسلم؟! المسألة ليست الممنوعات، بل
كيف نطرح أسئلة على أنفسنا، ونجيب عنها، من
دون استعارة إجابات الآخرين. فليس هناك نقل
للعلم من بلد إلى آخر إلا إذا وُجِدَت
المؤسَّسات والكفاءات والخبرات – وهذا غير
متوفر حاليًّا. *** *** *** حاوَرَه:
غسان حجار عن
النهار، الاثنين 13 أيار 2002
|
|
|