|
حكاية
القمر شاحبٌ، فضيٌّ، يُفرِحُه تسلُّقُ
السلَّم عند كلِّ مساء والنزول في الصباح.
هَرِمَ وصارَ شَعْرُه ينهمر ثلجًا وأعيادًا. في إحدى الليالي، بينما كان
يعتلي السلَّم الطويلَ ليأخذ مكانه في
السماء، راحت السحُبُ تتسابق وتتكاثف لتسدَّ
عليه طريق صعوده، فلم يستطع أن يجد أيَّ منفذ
ليمرَّ من خلاله. وهكذا وقف عاجزًا عن الحركة،
وباتَ لا يدري ماذا يفعل سوى استعطاف تلكَ
السحُبَ لكي تُخلي سبيله. غرق القمر في بحر من الحزن
والبكاء، إلى أن نحل وأمسى
نصف قمر. لم يستطع العودة. فهناك مهمة يجب عليه
تأديتها – وإلا فسوف يتوقف البحر
عن صنع الموج والزَّبَد، ولسوفَ يصير الشعراء
الذين يسهرون طوال الليل من دون قمر
يتأمَّلون ضياءه وجماله، ويبعثون من خلاله
قصائدَ جميلة تصلهم بأحبائهم وأوطانهم. ماذا يفعل يا ترى؟! فكَّر
القمر كثيرًا في نفسه: «لعل
أمِّي الشمس تخترق السحب وتذيبها كما تذيب
النارُ الحديدَ.» لكن السحُبَ أحستْ بما دارَ
في خلده، فشدَّت من عزيمتها، وراحت تصرخ في
وجوه أخواتها الغيوم السوداء حتى تصيرَ سدًّا
منيعًا في وجه الشمس الأمِّ لكي لا تمدَّ يدًا
للقمر. وهكذا أمضى القمر عدة ليالٍ
أخرى معلقًا على السلَّم، يتأوَّه من الألم
ويتلوَّى عطشًا إلى الماء وإلى أوراق الشجر.
لكن أصدقاءه الطيور لم يتركوه وحيدًا، بل
كانوا يحملون له في مناقيرهم قمحًا ليأكل
وأوراقَ عنب ليغطي جسمه الضعيف. إلا أنَّ حزن القمر كان
كبيرًا. فقد تضائل حجمُه أكثرَ من ذي قبل، حتى
أضحى هلالاً. شَهَقَ الأطفالُ على الأرض
والأسماكُ في البحار وأشجار الغابات لمرأى
القمر هكذا، وعمَّهم الحزن. فقرروا أن يرسموا
على دفاترهم سُحُبًا تهطل أمطارًا جميلة،
لتذكِّر السحُبَ بواجبها، وليعبِّروا عن
محبتهم وتقديرهم لها. وهكذا بعثوا بها إلى السحُبِ
مع أصدقائهم العصافير والطيور الصغيرة. عندما رأت السحُبُ هذه
الرسائل واللوحات الملوَّنة بشتى الألوان
شعرتْ بالخزْي من نفسها، وفكرتْ كم أنها
محبوبة أيضًا. لكن القمر في هذه الأثناء كان
قد تلاشى وأصبح صفحةً لامرئية حزينة كئيبة،
تكاد أن تسقط على الأرض وتتهشَّم. ندمت السحُبُ، وبدأت بفكِّ
حصارها، معتذرةً اعتذارًا شديدًا من القمر،
بأن سكبتْ أمطارًا غزيرة سقتْه بها وروَّت
عطشه. فانتعش وصحا، وضحك متابعًا طريقه إلى
صَدْرِ السماء، حيث جلس على مقعده، ونظر إلى
مرآته المدوَّرة الموجودة على سطح الماء،
فوجد نفسه وقد عاد شابًّا متألقًا، و شَعْرُه
قد عاد أيضًا إلى رأسه خيوطًا من الفضة تغطِّي
هامته، ووجنتاه محمرَّتان مثل حبَّتي تفاح
أحمر. فرح القمرُ كثيرًا، وقرَّر
أن يكرِّر حالاته هذه التي مرَّ بها خلال هذا
الشهر، من بَدْر، إلى محاق، إلى هلال، كي يبقى
شابًّا أبدًا ولا يشيخ. *** *** *** صيف 1996
|
|
|