في الإنسان والمدينة 1

محاوَلة للتفكُّر في واجب أسْمَيناه "عدالة"

 

أكرم أنطاكي

 

[...] ما يجب معرفته هو كيف نعيش حياتنا في أفضل شكل ممكن [...]، لأنه لا أحد منَّا يخاف الموت إنْ فَهِمَه على ما هو. إنما ما يخيف فعلاً هو مجرد فكرة أننا لم نعدل.

-      سقراط، مخاطبًا بولوس (أفلاطون، غورجياس)

 

كثيرًا ما نتساءل أين تراها هربت تلك التي ندعوها حياتنا الأخلاقية، و[كثيرًا ما نتساءل] عن ماهيتها، وحول ما إذا كانت شيئًا حقيقيًّا في آخر المطاف! لكن، ربما في هذه اللحظات تحديدًا، حين يبدو وكأننا على وشك أن نفقدها،

حين نيأس من اللحاق بها، فإننا نجدها في أصدق حالاتها: وبالتالي، فإنه يجب علينا، في هذه اللحظات تحديدًا، اغتنام الفرصة، والإمساك بها.

-      فلاديمير جانكيليفتش

 

1

لعلها بديهية، لكنها تقول بأن العدالة هي، أولاً وقبل كلِّ شيء، مفهوم اجتماعي. حيث ليس في وسع الإنسان ممارستها وحيدًا بمفرده. فنحن – شئنا أم أبينا – لا نمارسها حيال أنفسنا، بمقدار ما نمارسها حيال الآخرين.

يقول مونتسكيو في كتابه روح القوانين: "[...] إن مفهوم العدالة يدلِّل، أول ذي بدء، على ذلك المبدأ الأخلاقي الذي يفترض احترام معايير الحقِّ، من جهة، وعلى الفضيلة التي تتطلب احترام حقوق الآخرين من أبناء المدينة، من جهة أخرى [...]." ما يعني أن العدالة هي أيضًا – وبكلِّ استحقاق – مفهوم مدني.

لذلك، ومن هذا المنطلق، لن تكون محاولتنا هذه محاولةً للتفكر في الإنسان ككائن مجرَّد في حدِّ ذاته، بمقدار ما ستكون محاولة للتفكر فيه ككائن اجتماعي، من خلال علاقته الآخرين وتفاعله معهم – من خلال المدينة.

2

الإنسان "البدائي" لم يكن "مدنيًّا". فكلُّنا يعلم أنه كان يعيش في الكهوف وفي الغابات والبراري؛ ليس وحيدًا طبعًا، إنما كـ"قطعان" أو تجمعات شبه حيوانية كان أفرادها يتعاضدون فيما بينهم على تأمين قوْتهم وعلى الدفاع عن أنفسهم. لكن، مع التطور الإنساني – مع الحضارة التي هي، أيضًا، المدنية – ولدت المدينة وتطورت.

ونشير هنا إلى أن نشوء المدينة لم يكن مصطنعًا قطعًا، إنما جاء نتيجة تطور طبيعي، أو لنقلْ، كفعل من أفعال الطبيعة، على حدِّ قول أرسطو. فالمدينة، كما قال أفلاطون في جمهوريته، نشأت (ربما) "حين لم يعد في وسع تلك التجمعات البدائية الاكتفاء بذاتها" من حيث الغذاء والسكن والملبس، مما ولَّد تلك الضرورة إلى تجمُّع أكثر تنظيمًا، بكلِّ ما نتج عنه: ذلك الذي يمكن لنا التعريف به اليوم بأنه سياسي و"يتمتع بحدِّ أدنى من الاستقلال الذاتي".

ويصبح الإنسان في قلب المدينة هو ذلك "المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويؤدي ما عليه من واجبات تحدِّدها قوانينها ومناقبها" – تلك القوانين التي تختلف في رقيِّها وتقدُّمها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي من مكان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، بحسب تقدم البشر.

ولأن الإنسان ليس واحدًا في النهاية – حيث توجد، كما نعلم، "مستويات واقع" (بَسَراب نيكولسكو) مختلفة ومتفاوتة بين البشر، كما توجد مستويات مختلفة من التطور ومن الوعي – فإن المدينة ليست واحدة حكمًا، بمقتضى اختلاف مستويات التطور، وبحكم اختلاف البشر الذين يشكِّلونها بعضهم عن بعض. لذا فإننا، من منطلق ذلك الاختلاف وطرائق التعامل معه، ترانا نقارب مفهوم العدالة.

فالبشر ليسوا في الواقع سواسية في قلب مدنهم، بل هم يختلفون حتمًا، شكلاً ومضمونًا، سواء من ناحية الميزات، و/أو من حيث المؤهلات الخاصة، و/أو من حيث الموقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وذلك على الرغم من كونهم جميعًا (على الأقل افتراضيًّا ونظريًّا) متساوين أمام القانون الذي يحكمهم. فالناس قد يكونون متساوين نظريًّا ربما، لكن هناك قطعًا بعضًا منهم "متساوين أكثر"، كما يقول جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان!

3

نقول هذا، ونؤكد عليه، لأنه من هذا الاختلاف الطبيعي والمنطقي يتولَّد، بشكل تلقائي ومنطقي، ما ندعوه "ظلمًا" أو "لاعدالة" injustice. لذا فإن جوهر العدالة في قلب المدينة قد يكون، من حيث المبدأ، وكما عرَّف به سقراط، "فضيلة احترام حقوق الآخرين" – تلك التي لا يمكن تحقيقها إلا بالطرق المدنية، والتي تبدأ، بحسب روسو، "بتنازُل البشر عن حقوقهم الطبيعية الغريزية لصالح تشريع سياسي مدني حقيقي". وحول هذه الحقوق تتمحور جميع الشرائع المدنية والدينية، التي تتفاوت عمقًا ورُقيًّا بحسب تطور البشر ومجتمعاتهم.

ونتذكر أنه، بادئ ذي بدء، كانت شريعة حمورابي – أول تشريع مدني معروف في تاريخ الإنسانية – التي وَضَعَها الملك البابلي في أواخر الألفية الثانية ق م، والتي جمعت بين ما يمكن اعتباره اليوم أرقى القوانين وأكثرها استنارة وبين أقصى العقوبات وأشدها همجية، واضعًا مبدأ "النفس بالنفس"[1] والتحكيم الإلهي، إلى جانب الإجراءات القضائية المُحكمة التي كان الغرض منها، كما وَرَدَ في مقدِّمتها، "منعُ الأقوياء من أن يظلموا الضعفاء [...] ونشر النور في الأرض ورعاية مصالح الخلق [...]، حتى ينال العدالةَ اليتيمُ والأرملة [...]".

ثم تلاه، في منطقتنا، وفي معظم أنحاء العالم من بعدُ، تلك القوانين الأوسع من حيث انتشارها، تلك التوراة ووصاياها، التي شكَّلتْ أساس المدنيات العبرانية والمسيحية والإسلامية – هذه المنطقة التي انبثق منها أيضًا القرآن الكريم الذي مازال، إلى اليوم، الملهم الأساسي ومصدر التشريع الأول للشعوب والدول ذات الأغلبية المسلمة.

وكان أيضًا القانون الروماني، الذي كان في الواقع أرقى القوانين المدنيَّة في العصور القديمة، إلى حدِّ أنه مازال موضع استلهام إلى يومنا هذا، حين عادت لتسود مجددًا القوانينُ المدنية الحديثة، المستندة إلى شرعة حقوق الإنسان، بالإضافة إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة.

4

ونتفكَّر قليلاً في تلك الحقوق، التي يُفترَض أن يكون الهدف منها تأمين الحدِّ الأدنى المقبول من التعامل المنصف والعيش الكريم للإنسان في المدينة – تلك الحقوق التي تطور مفهومُها عبر العصور، بحيث أضحت المعيار الأخلاقي السائد الذي تقوم على أساسه النظُم السياسية المختلفة في مختلف أصقاع المعمورة، التي كان أصدق تعبير وأرقى شكل لها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول 1948 – هذا الإعلان الذي غطَّى طيفًا واسعًا من الحقوق الطبيعية والمدنية، التي تمتد من الحقِّ في الحياة والحرية والسلامة الشخصية، مرورًا بحقِّ التملك وحرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبير والمساواة أمام القانون، وصولاً إلى حقِّ العمل والضمان الصحيِّ والاجتماعي والراحة والتعليم.

ونتفكَّر في أن عدم تطبيق هذه الحقوق على أرض الواقع، في أية مدينة كانت، إنما يعكس خللاً، يشير إلى أن "ظلمًا" ما يزال سائدًا في تطبيق العدالة، ناجمًا عن انتهاك في النظام السائد فيها، وإلى أن هذا الخلل يجب أن يُصحَّح.

5

ولكن كيف يمكن لذاك التصحيح أن يتمَّ؟ كيف يُفترَض أن يسعى الإنسان إلى العدالة وأن يطبِّقها؟ – إن لم نقل: كيف في وسع الإنسان أن يكون "عادلاً"؟ ففي هذا التساؤل تكمن المشكلة الإنسانية الأساسية، القائمة منذ نشوء المدينة ومازالت إلى الآن. لأن العدالة التي كانت – ولم تزل – واجبًا أخلاقيًّا، مازالت تبدو متعذرة التحقق.

وأشطح بالخيال، فأتفكَّر في أن القضية، إن جُرِّدَتْ من واقعها وسياقها، فإنما تضعنا أمام إشكالية فلسفية تبدو وكأنها شبه مستحيلة! حيث أجدنا، منذ البداية، أمام مثالين يبدوان، للوهلة الأولى، وكأنهما على طرفي نقيض: مثال يمكن تجسيده في أنتيغوني، بطلة سوفوكليس، التي اختارت، من منطلق طهارتها وعنفوانها، التمرد ورفض الواقع القائم؛ وأجدنا في المقابل، أمام مثال إبراهيم، أبي الديانات الساميَّة الثلاث، الذي لم يكن يرى – وفق منطق مازال سائدًا – أية غضاضة في الخضوع لـ"ظلم" الإله، راضيًا – وبكلِّ خنوع – ارتكاب تلك الجريمة المتمثلة بتقديم ابنه إسحق (أو إسماعيل) قربانًا لها.

في الحالة الأولى – أي مع أنتيغوني – أجدنا أمام منطق الثورة، التي، إن تحققت بسحق الظالمين السابقين وإبعادهم، سرعان ما تفقد طهارتها، لتولِّد مباشرة، فور تحقُّقها، ظلمًا لاحقًا أكبر وأشرس من ذاك الذي أزيل، عوضًا عن أن تحقق عدالة جديدة. كما أجدنا، في الحالة الثانية، أمام موقف أقل ما يقال عنه إنه "لاأخلاقي"، يحلِّل ارتكاب الجريمة بكلِّ بشاعتها، باسم الخضوع للإله وباسم قوانين السماء. وفي كلتا الحالتين، نلاحظ انتفاء العدالة وانتفاء وجود الإنسان العادل، حيث تتحول العدالة إلى مجرَّد صورة كاريكاتورية، كتلك المتمثلة، وفق الأساطير القديمة، بحُكم الملك سليمان الذي أمر بشطر الطفل الحيِّ بين المرأتين اللتين كانتا تدَّعيان أمومته.

لوحة "حُكْم سليمان" للرسام الفرنسي نيكولا بوسَّان

ونسجِّل أن الأمور قد تعقَّدت أكثر في العصور الحديثة، حيث أمسى العالم أصغر وأكثر ترابطًا؛ مما لم يؤدِّ إلى زوال الظلم، بل إلى زيادة التفاوُت بين البشر وبين المدن.

6

وهذا الظلم – أو لنقل هذه اللاعدالة – ما هي، في النهاية، إلى اليوم، غير مظهر أساسي من مظاهر الأزمة الشاملة لإنسانية عصرنا "الحديدي"[2] – وهو "أمر لم يعد في حاجة إلى برهان ولا ينكره إلا كلُّ متقوقع على نفسه في عالم وهمي من صنعه هو، لا يريد أن ينغِّص عليه هذا الوهم منغِّص [...]". فهذه الأزمة التي تطال الجميع فعلاً، إنما يزيد من تفاقُُمها اليوم أنها ناجمة مباشرة عن "أنموذج paradigm فكري ونفسي ساد على التيار "الرسمي" للثقافة الإنسانية بضع مئات من السنين [...]"، أنموذج "يقوم على عدد من المفاهيم والقيم السائدة، من أهمِّها اختزال الكون إلى منظومة ميكانيكية مكوَّنة من لبنات بناء أولية؛ والنظر إلى الأجسام الحيَّة كآلات؛ واعتبار العلم الوضعي التحليلي التخصصي الطريق الأوحد إلى المعرفة، واعتبار كلِّ ما عداه من خبرات ثقافية وروحية من قبيل الترف الفكري؛ والنظر إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء؛ والمراهنة بكلِّ شيء على التقدم المادي غير المحدود الواجب إحرازُه عبر النموِّ الاقتصادي والتكنولوجي؛ وأخيرًا، وليس آخرًا، الاعتقاد بأن المجتمع الذي يضع الأنثى في منزلة دون منزلة الذكر هو مجتمع يمتثل لقانون طبيعي إلهي [...]".

وذلك لأن كلَّ شيء تقريبًا أضحى خاضعًا "لاعتبارات المنفعة القريبة المدى ولمتطلَّبات الاستهلاك الآنية"، لأنه "لم تعد القيم الإنسانية اعتبارًا يؤخذ بالحسبان كمقياس لصواب التفكير والعمل، وكشرط لازم وكافٍ لتحقيق إنسانيتنا، ولم تعد طرفًا في المعادلة إلا بمقدار ما يتم توظيفها توظيفًا مشوَّهًا – ومشوِّهًا – يخدم مآرب فئة متنفِّذة همُّها المزيد من الربح والسيطرة [...]".

فما المخرج يا ترى؟

7

هو ليس قطعًا – ولن يكون – نتيجة لمسة ساحر، ولا تعويذة ولا وصفة ولا عقيدة "ثورية"، إنما سيتم، ربما، عن طريق العودة إلى القيم والأخلاق الإنسانية، والارتقاء، من خلالها، عن المفاهيم التي تفترض "التوسع والاستغلال إلى الصيانة والتكافل [...]، عن الكمِّ إلى النوع، عن الفردية المنتفخة واللامبالاة غير المسؤولة إلى الغيرية السمحاء والمسؤولية الواعية، عن الصراع والتنافس والاستئثار إلى التعاون والمشاركة والإيثار، وعن التعالي على الآخر والسيطرة عليه إلى احترام الآخر باحترام حقِّه المطلق في الحياة والحرية والتفتح على إيقاعه الخاص، عن فرض النمط الثقافي الواحد إلى الاغتناء بالتنوع كشرط لا بدَّ منه للتطور، عن الجمود الفكري والتعصب والظلامية إلى الديناميَّة الفكرية وانفتاح القلب والوعي الكوني".

لأنه من هذا الطريق وحده – ووحده فقط – أتلمَّس كيف يمكن للمدينة أن ترتقي، وكيف يمكن للبشر أن يقاربوا، أكثر فأكثر، تحقيق العدالة في مدنهم.

 

*** *** ***


[1] "هو قانون معروف، وقد ورد مفصلاً في التوراة؛ وقد أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة – "وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس [...]" (ويل ديورانت، تاريخ الحضارة، الكتاب الأول).

[2] ما بين أهلَّة فيما يلي مقتطَف من "الأسئلة المتكررة"، معابر، صفحة الاستقبال.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود