|
إنجيل
الأعمى ديوانه
الجديد نزيه
أبو عفش شاعرًا... "مثل شجرة آلامٍ وحيدة" ينشغل الشاعر السوري نزيه أبو عفش في
ديوانه إنجيل الأعمى*
بتأليف "نشيد الأنشاد" الخاص به، متكئًا
على بلاغة إنجيلية هادئة، تأخذ من السُّورة
صورتَها، ومن المَثَل حكمتَه، في سعي دؤوب
لتفريغ شعرية الرؤيا من مفهومها الروحاني
المألوف، فاتحًا نوافذ المخيِّلة على الجحيم–الأرض
– هذا الكوكب الخاطئ الذي لا يكفُّ عن
الدوران. لا لشيء سوى أن أبو عفش يحاول أن ينشد
أغنيته الشخصية الجارحة، محاولاً الفرار من
الخرافة والنسق والرَّمز والاستعارة، خارج
سياق الثيولوجيا، باتجاه ميثولوجيا شخصية
دامية، يبثُّ فيها معاني جديدة، مستلهمًا،
وَجَعَ ذاته، وجراحَ ذاته، وخريفَ ذاته. لا
ينطلق الشاعر أبو عفش من رؤية صوفية تقليدية
في تشكيل رؤاه تلك، على الرغم من أنها تنبثقُ
من قاموس رؤيوي مألوف، قوامه جدلية الذَّنْب
والتوبة، الضلال والخلاص، الصَّلْب والتكفير.
فالبطولة لديه منذورة للذات المهزومة،
الوحيدة، الخائفة، والعزلاء، مبتعدًا عن عرس
الأنا المنتصرة، الممتلئة بذاتها،
المتخلِّقة، الميتافيزيقية، التي يحلو
للشعراء العرفانيين أن يتغنُّوا بها. ويتوارى
الشاعر خلف أقنعة متعددة، تعيد سَرْدَ قصة
المخلِّص المثقل بأخطائه الأرضية، نازعًا عن
الرِّحلة كلَّ هالة ماورائية طهرانية،
ليظهرَ المتكلِّمُ في قصائده بمظهر الإنسان
العاري والضعيف، نهبًا لزمن دنيوي كالح. القلق
الوجودي الذي يؤسِّس للرؤية الشعرية هنا ليس
نبويًّا، أو صوفيًّا، أو حتى أخلاقيًّا، بل
هو أقرب إلى الحيرة الفاوستية المضنية،
المتجذِّرة في تاريخانية النَّسَق الدنيوي
وعذاباته. هكذا تحضرُ الدنيا ويغيبُ الدِّين
في نصِّ الشاعر أو "إنجيله". يحضرُ يسوعُ
ويغيبُ المخلِّص، مذكِّرًا برؤية إليوت
الشهيرة التي تنذرُ بموت الكون غَرَقًا، ومن
دون أمل بالخلاص: لا
تشهق/ يا روحَ أبيكَ العالي/ يا روحَ أبيكَ
النائمِ/ يا درَّة روحِ أبيك/ لا، يا ذا
الجالسُ يتبسَّمُ في أيقونته/ لا تشهق/ هو ذا
بيتُ أبيكَ الأزرق/ لا يلبثُ أن يغرق. (ص 41) لا
مهربَ لقارئ إنجيل الأعمى من أن يكون
متضلِّعًا، من بين أشياء كثيرة، من تأويل
السِّحر والغفلة والأحلام والعِرَافة
والقوانين المقدسة، لكي يلجَ إلى نصوص هذه
المجموعة. فالديوان
صرخةٌ متواصلة، منذ السطر الأول وحتى الأخير،
تغوي القارئ إلى إصغاء لا ينتهي. الإصغاء،
هنا، كلُّه ألم، والتأويل كلُّه ألم، والمعنى
كلُّه ألم. إنها شعرية الألم بامتياز، تقدِّم
نفسها وفق أسلوب متمكِّن من أدواته، أسلوب
يتَّكئ على المفارقة والتضمين والنَّبْر
الإيقاعي الخفيِّ، مخلخِلاً المجاز المنجز،
بصفته نسقًا مقدَّسًا يمرُّ ببداية ونهاية
وخاتمة. ثمة
قوتان تتجاذبان إنجيل الشاعر: واحدة نابذة،
وأخرى، بالضرورة، جاذبة. ثمة، من جهة، صوتُ
أبوللو، رمز العقل، ورسول الآلهة القديمة،
ونذير الضَّوء الرؤيوي؛ وهذا يمثل، لدى
الشاعر، قوة نبذ. وهناك صوت ديونيسوس، رمز
اللذة والغريزة والخضرة الدائمة، نذيرُ
الكارثة والخسارة والضياع؛ وهذا يمثل، لدى
الشاعر، قوة جذب. كلاهما حاضرٌ في نصِّ أبو
عفش، يتبادلان الأدوار على التناوب، كرقصة
الظلِّ والضوء. يحضرُ الأبيضُ ليغيبَ
الأسودُ، ويغيبُ الإثباتُ ليحضرَ النفي،
وهكذا دواليك. يصف
نيتشه في كتابه ولادة التراجيديا (1872) أن
أبوللو مشمسٌ وهادئ، وأن ديونيسوس عاصفٌ
وقَلِق. الأول عقل والثاني جنون. ولعل نظرة
متفحِّصة إلى قصائد المجموعة تكشف عن الحوار
الدائر بين هاتين القوتين. لنتأمَّل هذا
المقطع من قصيدة ذات نبرة عالية البوح تحت
عنوان: "الجثمان الذي أنا"، حيث يتحرَّك
المتكلِّم بين فلكين، سابحًا في برزخ
متموِّج، تارةً يقذفه المدُّ إلى "هنا"،
وتارةً يُرجِعه الجزرُ إلى "هناك". أنا
هنا وأنا هناك، وأنا لستُ أنا، في لعبة جذب
ونبذ تشكِّل، في النهاية، هوية الأنا في أوج
انفصامها وتمزُّقها: ما
أيتمه جثمانًا! قلتُ لنفسي، ما أيتمه!/
حدَّقتُ إليه مليًّا/ لسعتْني حُمَّى عينيه
الباردتين/ وذابت غُصَّتُه مالحةً تحت لساني./
قلتُ: فهذا جثماني؟/ أم ذا أنا مدفونًا في جلدِ
أنايَ الثاني؟
(ص 112) رقصة
جنائزية بيدَ
أنَّ المفارقة في هذا الدراما الوجودي تكمن
في أن كلاً من هاتين القوتين – "أناي"
الأول و"أناي" الثاني – تتضافران معًا
لنسج رقصة جنائزية ليست سوى رقصة الموت، حيث
الموتى يقودون الأحياءَ إلى القبور، أو لنقل
يسوق الضدُّ ضدَّه إلى النقيض دائمًا: وحدي؟!/
إذن وحدي... وأمواتي كثيرٌ!/ وعليَّ الآن أن
أجعلني ميتًا لكي أسمع ما يُهمَسُ في حظيرة
الموتى. (ص 86) هذا
الهبوط إلى القبو، والسفر في دكنة الغياب،
يسجِّل، في كلِّ وقفة من وقفاته، ذاك
التدرُّج البطيء للتعفُّن، واقتراب الوجود
من فنائه. رقصة الموت هذه، التي سحبت إلى
أتونها كُتَّابًا كبارًا، من أمثال بودلير
وإدغار آلان بو وستريندبيرغ، هي المعادل
الموضوعي للرغبة في تجميد الزمن، وتحويله إلى
طوطم، الرغبةُ في الخروج من الجثة إلى الطين
الحيِّ، ومن الصَّرخة إلى جوهر الألم. الموت،
لدى الشاعر، إذًا، يشكِّل نسيج اللغة الشعرية
ولونها وطعمها ورائحتها، كأنَّه نداء الحياة
الوحيد: موتٌ،
على الأعشاب/ موتٌ في التراب الميت/ موتٌ في
هواء الميت... موتٌ طالعٌ من لحية الكاهن. (ص 80-81) هنا
تتحول القصيدة بين يدي أبو عفش إلى طقس من
حداد لا ينتهي. وكأن لسان حاله يقول: هذه ليست
قصيدة، هذه ابتسامةُ الجمجمة! يبدأ
الديوان بجملة تقول "الإنسان شجرةُ آلامٍ
وحيدة" (ص 7) من القصيدة الأولى المسمَّاة،
وينتهي بجملة أخرى أخيرة، في قصيدة "ندم
الأعمى"، هي بمثابة الصَّدى للجملة
الأولى، بل جوابها أو قرارها، إذ تتحرك من
العام إلى الخاص، ومن أبوللو إلى ديونيسوس،
ومن الدالِّ إلى المدلول: "أتدحرجُ نحو
خريف العمر..." (ص 124). بمعنى آخر، الشاعرُ "شجرةُ
آلامٍ وحيدة" لأنَّها "تتدحرج باستمرار
نحو خريف العمر"! وجملة الأمر الأخيرة في
الديوان، المعلَّقة كالنعوة – "خذ ندمي"
– تتوجَّه بالطبع إلى القارئ، الذي يجد نفسه
ممسكًا بإنجيل ندم، يتهجَّى أبجدية الندم،
ويصغي إلى هذا النادم الإنجيلي الذي يبحث عن
نُشور من نوع آخر، وانبعاث أبيض، يتلخَّص
بكلمة لا تكتمل أبدًا هي "الجمَال". وبين
القرار والجواب، تنساب قصائد رثائية، حالكة
النبرة، تمثل عناوينُها مفاتيح ذهبية
للتأويل. ثمة
قصيدة تجسِّد لحظةَ انتظارٍ رهيبة لغودو الذي
لا يأتي أبدًا، كما في مسرحية بيكيت الشهيرة بانتظار
غودو. إنه انتظار لائب، حائر، لهذا "اللاأحد/
الواقف/ يتلصَّص من ثقب الباب" (ص 18). وفي
قصيدة أخرى، "الصخرة"، امتدادٌ للتضرُّع
ونبرة التسبيح في القصيدة السابقة.
فالمتكلِّم–الخاطئ يبحث عن قيامة موتاه،
فيرتدي أقنعةً، لكي يعود وحيدًا، يتيمًا، إلى
الإنسان فيه، خارجًا من بنية السَّرد
اللاهوتية، منتحلاً أسماء مختلفة، للتدليل
على شكِّه ويأسه وإلحاده. وهكذا تتتالى وقفات
الشاعر، مستعيرةً تقنيات العِرافة والكِهانة
والنبوَّة والاستشراف في بقية قصائد الديوان.
ومن أبرزها: "الممحاة"، "غلطة الموت"،
"الجثمان الذي أنا"، و"المعبد". غير أن
الشاعر يحسم معادلات البعث والنشور من خلال
عودته إلى ذاته الأرضية، كما أسلفنا؛ وهي
عودة إلى ديونيسوس، مغسولاً من أبوللو، وعودة
إلى الطبيعة مغسولةً من الخرافة، وعودة إلى
الخطيئة مغسولةً من كلِّ توبة. وكأن الشاعر
مدمن على هذه الحيرة التي تجعله نهبًا لتلك
الرقصة بين نقيضين. يهجر الخطيئة–العالمَ،
فقط ليعود إلى الخطيئة–الذات. كلٌّ يضيءُ
الآخرَ بظلامه، مسجِّلاً لحظة تمرُّد فريدة
قلَّ أن نجد لها مثيلاً في شعرنا العربي
الحديث: لا
يا أبتِ/ لستُ ابنكَ، لستُ حفيدكَ، لستُ وريثَ
خطاياكَ، ولا منشدَ أعراسِك، لستُ أخاكَ ولا
عبدك، لا القديس ولا الخاطي، لستُ يهوذا
النادم يتمرَّغ تحت صليبِ يسوع كي يطلبَ
غفرانَ يسوع، ... ولستُ يسوع لكي أمنحَه مغفرتي./
لستُ سوى نفسي.../ خرجتُ من ظلمتها الأولى/
فأضاءت هذا الطين البالي. (ص 93) ينحاز
نزيه أبو عفش، إذًا، إلى ديونيسوس الزائل،
بكلِّ ضعفه وجماله وسرابيَّته؛ ينحاز إلى
إنسانٍ مؤقت قابل للكسر، قابل للثمالة،
وللخطيئة، وللحياة، خارج معادلات أبوللو
العقلانية، ومهمَّاته الرسولية. هو الإنسان–الظل،
والإنسان–المخلِّص، لا يُقبَضُ عليه، لأنه
نفسه لا يَقبِضُ على شيء، لا يَملِكُ ولا
يُملَكُ. إنه كائن السَّراب بامتياز،
المتَّجه بثقة نحو الهاوية. ***
*** *** عن الحياة، الخميس 11 كانون
الأول 2003، عدد 14870 تنضيد: دارين
أحمد * نزيه أبو عفش، إنجيل الأعمى،
دار الآداب، بيروت، 2003.
|
|
|