الأخلاق:

نشوؤها وعواملها

 

محفوظ أيوب*

 

1

كان الإنسان قديمًا يعيش كغيره من الكائنات الحية ضمن إطار معطيات الطبيعة، ويقوم بكلِّ ما تقوم به مما يعتبره الآن محظورات.

ولكن حياته في المجتمع، وسيرَه على درب الحضارة، بيَّنا له أن بعض التصرفات والأعمال قد تؤدي إلى كوارث اجتماعية، كأن يقتل الأخ أخاه بسبب امرأة قريبة يسعى كلٌّ منهما للحصول عليها، أو على بعض المصالح والحاجات الأخرى. لذلك وضع القيود، وأوجد المحرَّمات، وحدَّد ما هو مسموح به، وطالب بما هو ضروري، ليصون وجوده الاجتماعي والحضاري. وشكَّلتْ هذه المحظورات والضرورات لديه فيما بعد ما نسميه: "الضمير"، عندما تتبناها نفسه من الداخل، وليس كمجرَّد شيء مفروض عليه من الخارج.

ومازال الإنسانُ يقوم بعملية تبنِّي الضرورات والمحظورات، ودمجها في نفسه، والتكيُّف معها. وعندما لا يتحقق هذا التكيُّف بصورة كافية ومناسبة، يظهر ما نسميه بالأمراض النفسية والشرور الأخلاقية، التي هي، في جوهرها، مشكلة حضارية، ولها أسباب حضارية أيضًا.

2

وُضِعَت الأخلاق لتنظيم حياة الإنسان، وتلبية حاجاته ومصالحه في واقع معين، وفقًا لمبادئ وقواعد معينة توجِّهه نحو الخير، وبالأخص من أجل أولئك الذين يخرجون عنها دون أن تكون لديهم أخلاق أفضل، لأنهم، بدونها، يدمِّرون الحياة الإنسانية، ويجعلونها جحيمًا لا يطاق، ويعودون بالإنسان إلى حياة الغابة.

3

ووُضِعَت المبادئ والقواعد والقيم الأخلاقية في أثناء سير الإنسان من المرحلة البدائية إلى المرحلة الحضارية، لتهديه إلى الطريق الصحيح، وتبيِّن له التصرفات السليمة في ممارسة الحياة الجديدة.

وإنْ كان بعض الذين لا يلتزمون بها قد ينجون من العقاب الاجتماعي أو النفسي أحيانًا، ولاسيما عند انكفاء مجتمعاتهم إلى مرحلة التخلف والشرِّ والفساد، أو في بعض الظروف والأوضاع الخاصة الغريبة، فإن ذلك يبقى خطيئة قد تؤدي إلى كوارث نفسية واجتماعية في وقت ما، إذا لم تُستَخدَم الوسائل والأساليب الصحيحة والمجدية في معالجتها، قبل أن يستفحل أمرُها ويتعذر تفادي عواقبها.

4

الحياة الإنسانية شبكة من المصالح والمنافع والحاجات المتبادلة، يبحث كلُّ إنسان فيها عمَّا يناسبه منها، حتى على حساب أقرب الناس إليه أحيانًا.

ويمكن للمشاعر والأفكار والقيم الأخلاقية، التي تتطلَّبها الحياةُ السليمة مع الآخرين، والمواقف والأعمال التي تترتب عليها، وتقوم على أسُس صحيحة، أن تعدِّل دور هذه المصالح والحاجات إلى حدٍّ ما قد يكون جذريًّا، دون أن تقتلعها من جذورها، إلا في حالات نادرة.

ولكن إذا تجاوز هذا التعديل حدًّا معينًا لدى شخص ما، ولم يتقيَّد به الآخرون، قد يصبح خطرًا على حياته أو يفشل فيها. كما أن عدم التعديل يعود بالحياة الإنسانية إلى مرحلة بدائية.

لذلك يقتضي تحقيقُ التوازن المناسب بينها التزامَ الآخرين به، وتقديم التضحيات الكبرى لأجله، عندما يكون ذلك ممكنًا ومجديًا وضروريًّا.

5

يسعى الإنسان لتأمين مصالحه وما يلبِّي حاجاتِه، ثم مصالحَ وحاجاتِ الناس الأقرب إليه، فالأقرب – إلا في حالات خاصة قد تُبدِّل هذا التسلسل. وهذا طبيعي وضروري ليحفظ الإنسان حياته ونوعه – على أنْ لا يتجاوز الحدود الصحيحة إلى ما يتناقض مع المبادئ والأخلاق والقيم الصالحة والحياة الاجتماعية السليمة.

6

إن أوثق العلاقات وأقواها يكون بين أفراد الأسرة الواحدة؛ وهي رمز للتعاون والمحبة والتضحية. ولكن إذا تعارضتْ حياةُ أيِّ واحد منهم مع حياة الآخر، وأصبح لا بدَّ من التضحية بإحداهما، فقلما نجد مَن لا يختار نفسَه وحياتَه. وتدفعه إلى هذا غريزةُ حبِّ البقاء، التي تحتاج إلى كثير من التربية والتدريب والإيمان أو الاضطرار حتى تتمكَّن من التضحية بذاتها.

7

مَن لا يهتم بنفسه يهلك. ومَن لا يهتم إلا بنفسه ومآربه الأنانية لا يستحق الحياة الإنسانية.

8

وإن شدة الطابع العملي تتنافى مع القيم والذوق والأخلاق مادام صاحبُها لا يكترث إلا للنتائج العملية التي تحقِّق مآربَه.

9

ومعظم الذين يسيطر عليهم الطابعُ العمليُّ يكون اهتمامُهم مركَّزًا على النجاح العملي، لا على المبادئ والأخلاق؛ لذلك يضعف أو يموت الضمير الأخلاقي لديهم.

10

والاستغلال – استغلال الآخرين – هو سبب رئيسي لإفساد أخلاق الإنسان وشخصيته وحياته.

11

وفي بعض الأحوال والظروف يمكن أن يعاني الإنسان من حالة شديدة من حالات التركُّز على الذات، تجعله يتصرف وكأنه وحده في هذا العالم، ومصدر كلِّ شيء فيه ومقياسه. وهذه الحالة يمرُّ بها الطفل في سنٍّ معينة، ولا يلبث أن يتجاوزها عندما ينضج وتنمو شخصيتُه، وينفتح على الآخرين بالمقدار المناسب، ويحقق التوازن الصحيح بينه وبينهم. وقد تبقى آثار هذه المرحلة حتى وقت متأخر جدًّا من حياته، وذلك بسبب بعض العوامل وأساليب التربية التي تترك الإنسان معتمدًا على أهله في تدبير شؤونه حتى سنٍّ متأخرة نسبيًّا؛ ولذلك لا تستقل شخصيتُه، وتبقى خاضعة لآراء الآخرين وتدخلاتهم في شؤونه؛ كما تبقى نفسُه محصورةً في قمقمها، وتتركَّز على ذاتها هذا التركيز الشديد، الذي يفسِّر كثيرًا من طبائع الإنسان في هذا العالم وخصاله.

12

التركُّز على الذات والأنانية والنرجسية، التي تحول دون انفتاح الفرد على الآخرين وتنظيم التعامل معهم، تشكِّل العقبة الرئيسية في طريق نشوء الأخلاق وتطوُّرها.

13

كلُّ إنسان يشتهي ويرغب في الطعام والشراب والجنس وشتى الحاجات والمتع. وهذا أمر طبيعي ولا عيب فيه، مادام يلتزم بالحق، ويستعمل الأساليب الجيدة التي تتوافق مع القيم والمبادئ الصحيحة، ويرفض الأساليب السيئة للحصول عليها. وفي هذا تتجلَّى الأخلاق لديه، ويتحدَّد مدى تقديرنا ومحبتنا له.

14

يحتاج الإنسان لرعاية جسمه ونفسه، لتكوين شخصية متكاملة مستقلة، وتربيتها وتثقيفها؛ ولعمل يناسب قدراتِه وميولَه ويوفِّر له حاجاتِه بصورة مُرضية؛ ولهواية يشغل بها وقت فراغه؛ ولمنزل يجد فيه ما يوفِّر حاجاتِه وراحتَه؛ ولشريك من الجنس الآخر يتعاون معه لتلبية هذه الحاجات ومتطلبات الحياة الأخرى؛ ولعلاقات مع الناس الآخرين، تتفتح فيها مقوِّماتُ شخصيته، ويمارس بينهم حياته، وفقًا لقوانين ومبادئ وقواعد أخلاقية تنظِّم هذه العلاقات، وتوجِّهها لتحقيق أهدافه وأهدافهم.

15

إن حاجات الإنسان هي أساس العلاقات الإنسانية؛ والعواطف هي تركُّز المشاعر حولها. لذلك تتمزق العواطف عندما تتعارض معها كثيرًا.

16

ولا تصلح العواطف وحدها لأن تكون دائمًا أساسًا للعلاقات الإنسانية، التي تُبنى على أسُس مادية سليمة، تكمِّلها العواطف الصحيحة، وتؤثِّر فيها وتبدِّلها، وقد تصبح أساسية لها.

17

لا شيء أجمل وأروع من المشاعر والعواطف الإنسانية السامية الصادقة. إنها تتمتع بقيمة عظمى، وتستحق كلَّ التقدير والاحترام والجهد المبذول لأجلها. ولكنها أحيانًا قليلة أو نادرة.

18

العواطف الإنسانية السامية، من صداقة ومحبة واحترام وغيرها، قد تسقط في أول امتحان لها أمام الواقع، وتُبرِز جذورَها الحقيقية، التي هي، في كثير من الأحيان، الحاجة أو المصلحة، إذا لم تدعمها الأخلاقُ القويمة.

19

والقيم الإنسانية كذلك قد تحني رأسها أمام القوة والمال والمصلحة، حتى تكاد أن تلامس الأرض، إذا لم يوجد لديها ما يحُول دون ذلك.

20

حقًّا إن المصالح والحاجات الذاتية تلعب الدور الأساسيَّ في حياة الإنسان. ولكنه، مع ذلك، يحتاج إلى مشاعر وقيم ومواقف إنسانية، قد تتعارض، إلى حدٍّ ما، مع مصالحه وحاجاته الذاتية المباشرة، وتتطلَّبها حياتُه مع الآخرين في هذا العالم، وتراعي مصالحَهم وحاجاتِهم ومشاعرَهم التي تستحق ذلك، لكي يتمكَّن من أن يصبح إنسانًا حقيقيًّا، ويعيش حياة إنسانية حقيقية أفضل، ولئلا يبقى مجرد حيوان متوحش يعيش ضمن قوقعة مصالحه الذاتية، ويفترس الآخرين بلا رحمة، فيغرق الجميع في جحيم أنانيتهم الوحشية.

21

المبادئ والقيم والقوانين والقواعد والأساليب، التي تقوم على الحقِّ والحقيقة والأخلاق القويمة، والالتزام بها، وتنفيذها، هي أفضل وسيلة لتسيير الحياة الإنسانية. ولكنها قد لا تكفي وحدها أحيانًا، ولا بدَّ من وجود قوة أو سلطة تدعمها، وتردع المتمرِّدين عليها والعابثين بها، وتمنع الأشرار والفاسدين من الإساءة إليها وإلى أصحابها، وتُجبِرهم على التقيُّد بها، ريثما يلتزمون بها تلقائيًّا، ويعملون على تنفيذها، ويلجئون إلى الأخلاق، بدلاً من القَسْر والقوة والشر.

22

وقد تكون القوة ضرورية لتطبيق الحقِّ والنظام والأخلاق، ريثما يتبنَّاها الناس، وتنبع من داخلهم. وبعدئذٍ تتخلَّى عن دورها لهذه القيم، وتتولَّى حراستَها من القوى الظالمة الغاشمة.

23

فالحقُّ بدون قوة أعزل؛ والقوة بدون حقِّ عمياء.

24

والضعف مصدر كلِّ الشرور؛ والقوة التي تتجاوز حدود الحقِّ تجسِّد هذه الشرور وتمارسها.

25

عندما تتكلَّم القوة يخفتُ صوتُ الحق – حتى تتبنَّاه قوى أخرى، وتنتصر له.

26

القوي حقًّا لا يخاف من الاعتراف بأخطائه ونقائصه وسيئاته ونقاط ضعفه وعيوبه، ويواجهها بجرأة، وينتقدها، ويتخذ المواقف المناسبة منها، ويسعى لإصلاحها؛ بينما يسعى الضعيف لإخفائها والتستُّر عليها والهرب منها.

27

والأشرار هم أولئك الضعفاء الذين لا يستطيعون مجابهة الحقِّ والنظام والخير، بل يدورون حولها، مستخدِمين كلَّ أنواع الرذائل، من كذب وخداع ونفاق وغشٍّ ودَجَل وغيرها.

28

وأبشع صورة يبدو عليها الإنسان السيئ والفاسد والشرير تكون عندما يتحدث باسم الأخلاق والقيم والمبادئ السامية ويدَّعي أنه يمثلها.

29

الإنسان يكون إنسانًا بقيمه الإنسانية. وحين يتخلَّى عنها يعود إلى ما كان عليه في المراحل السابقة.

30

وعندما تنفصل الحياة الإنسانية عن المبادئ والقيم والأخلاق الصحيحة تتحول إلى لعبة سيئة، يبرز فيها الأكثر سوءًا من غيره.

31

إن طريق الحقِّ والخير، الذي يلتزم الإنسانُ به ويسير فيه، يوصِله إلى أفضل حياة ممكنة له، أكثر من أيِّ طريق آخر.

32

وغاية الأخلاق هي تنظيم ممارسة الحياة لتحقِّق أعلى نسبة ممكنة من الطمأنينة والسعادة والخير فيها.

33

والحقُّ هو أساسُ الخير وجوهرُه، وأساسُ التسامح والرحمة أيضًا. ولا يكون الخير أوسع أو أشمل أو أسمى من الحقِّ أحيانًا، حتى عندما يشمل التسامحَ والرحمةَ المستحَقة، لأنه، إذا ابتعد عنه، قد يتحول إلى شرٍّ وخطيئة.

34

بدأت الأخلاق كأمر أو نهي أو فعل ما تطلبه أو تفرضه عوامل معينة؛ ثم آمن به الإنسان، وتبنَّتْه نفسُه، وكأنه صادر من داخلها، ومما يؤمن به في داخله، ويشكِّل ضميره. وهكذا يتحول إلى أخلاق تنتظم حياتُه وفقًا له، ويلتزم بمتطلَّباته، ويسعى إلى تنفيذه.

35

وما يميِّز الفعل الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه؛ إذ يصدر الفعل الأخلاقي من داخل النفس، من المبادئ والقيم والمُثُل المغروسة فيها، دون قسر أو إكراه خارجي عليه، ويسعى لتحقيق الخير ومقاومة الشرِّ، وتجسيد الفضائل، وتجنب الرذائل، وبلوغ أسمى المستويات الإنسانية. وهو يتميَّز عن القانون بطابعه الإرادي والرغبة الداخلية فيه، رغم أن غايتهما قد تكون واحدة.

36

القانون هو الصيغة العامة التي يسير وفقًا لها أمرٌ ما، في الطبيعة أو المجتمع أو النفس أو الأخلاق أو المجالات الأخرى؛ وهو المقياس والقاعدة، والتعبير عن الحقِّ، في مرحلة أو وضع ما.

37

والفرق بين القانون والأخلاق هو أن الالتزام بالقانون يكون بتأثير عوامل خارجية – من خارج النفس – كالخوف من العقاب مثلاً؛ بينما الالتزام بالأخلاق يكون بتأثير عوامل داخلية – من داخل النفس – من الضمير.

وعندما ينتقل الالتزام من الخارج إلى الداخل، أي من خوف العقاب إلى الإيمان بالأمر المطلوب وخشية النفس من نفسها عند مخالفته، حينئذٍ يتحول القانون إلى أخلاق، والإلزام إلى التزام.

38

الإلزام يُفرَض من الخارج، والالتزام يأتي من الداخل – وهو التقيُّد بأمر ما والسعي إلى تنفيذه.

39

إن أفعال الإنسان وتصرفاته وأقواله تحمل صفة الأخلاق عندما تنبع من داخله، وتسعى نحو الخير، حتى ولو لم تفلح في تحقيقه، أو أدَّتْ إلى الشر.

ويُنظَر إلى النيَّة، أولاً، ثم إلى الأسلوب والنتائج، عند الحكم على أخلاقيَّتها؛ بينما ينظر القانون إلى النتائج والأسلوب، أولاً، ثم إلى النوايا، عند إصدار أحكامه.

وتكون النتائج والأسلوب والنوايا، وأولوية كلٍّ منها، هي أساس الحكم على أمر ما وتسميته.

40

والشرير يلقى بعض ما يستحق من عقاب من داخل نفسه – لا من ضميره الميت أو الفاسد، بل من قلقه وترقُّبه للشرِّ خشية أن يصيبه ما أصاب غيرَه على يده.

41

ولا شيء أشد فتكًا وتخريبًا للأخلاق من العلم المشوَّه أو المنحرف، الذي ينتزع صاحبَه من وضعه السابق، ولا يوصله إلى وضع آخر أفضل، فيضلَّ ويتوه عن طريقه الذي ألِفَهُ، ولا يهتدي إلى الطريق الصحيح، بل يتخبط بين أيدي الغرور والضياع والانحراف، حتى يغرق في الانحلال والفساد أو التعصب الأعمى والشر.

42

كلُّ آداب العالم وفنونه وعلومه وفلسفته وحضارته وثروته لا تساوي ذرة واحدة من الأخلاق، التي تنظم حياة الإنسان وتسير بها نحو الأفضل – مع أن هذه لا تنفصل عن تلك أبدًا.

43

وإن المعرفة الصحيحة، والذوق السليم، والإحساس المرهف، والوعي الناضج، هي عناصر أساسية في الأخلاق والضمير.

44

الضمير هو الشعور الداخلي الذي ينجم عن تبنِّي النفس قيمًا ومُثُلاً معينة، مما يجعلها تشعر بأنها تصدر من داخل هذه النفس، وليس من خارجها، لتنظِّم حياة الإنسان، وتسمو بها، وتكوِّن أخلاقه.

45

والحياءُ عنوانٌ ومظهرٌ للضمير الحيِّ الذي تتجسد الأخلاقُ فيه.

46

ويقوم العقل بدور الدافع والمنظِّم والمرشد في الأخلاق، ويساهم في تحديد دور كلٍّ من العوامل الأخرى؛ وتتولى الإرادة تنفيذَ ما يفضِّله العقل حسب مقدرتها.

47

هناك من يقول: إن الإنسان مجموعة من العلاقات المادية؛ وإذا بدَّلنا هذه العلاقات يتبدل الإنسان أيضًا. رغم صحة هذا القول، إلى حدٍّ ما، فإنه يوقعنا في أحضان المادية الميكانيكية الساذجة، إذا لم نفهم أن هذه العلاقات ذات طبيعة ديالكتيكية، وتتبادل التأثير فيما بينها. وإن الإنسان، الذي هو مجموعة علاقات، يكوِّن حقيقة جديدة ذات خصائص خاصة، تنتج عن تفاعل مقوِّماته الأساسية بعضها مع بعض، ومع البيئة المحيطة به.

وعملية التأثير فيه تتم عن طريق تأثير هذه العلاقات عليه من خلال طبعه. كما أن الإنسان الذي يصبح طاقة مستقلة نسبيًّا يؤثر بدوره على هذه العلاقات ويبدِّلها.

وتتم عملية التغير من خلال هذا التأثير المتبادل. لذلك يكون البدء بالإنسان وتكوينه نقطةَ انطلاق سليمة لإحداث تغيرات معينة.

48

وظنَّ بعض الناس أن العلاقة بين الاقتصاد والأخلاق هي علاقة ميكانيكية آلية، بحيث إننا، حين نبدِّل الاقتصاد، تتبدَّل الأخلاق آليًّا، ونسوا، أو تناسوا، أن هذه العلاقة ديالكتيكية، وتمرُّ من خلال طبع الإنسان الذي تكوَّن عبر أجيال وسنوات عديدة، ولا يتبدل بسهولة وسرعة وتلقائية، بل تبقى فيه رواسب كثيرة مدةً غير قصيرة، حتى تُتاح إزالتُها. وإن هذه العلاقة متشابكة جدًّا، وترتبط بكلِّ ما حولها من عوامل أخرى، طبيعية وعضوية واجتماعية واقتصادية ونفسية، أو مادية وروحية؛ ويكون للاقتصاد دورٌ أساسيٌّ وغير وحيد فيها.

49

لا شكَّ في أن تبديل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية يؤدي إلى تبديل طبع الفرد وأخلاقه ونفسه، ولكن ليس بصورة آلية وكلية، لأن للفرد وجودًا ذاتيًّا فريدًا يتطور نحو الشخصية المستقلة، وله خصائص متميزة، ويحتاج لمبادئ وقواعد أخلاقية تكمِّل تأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية عليه، وترعى مصالحَه وجميع جوانب شخصيته وسلوكه، ليتمكَّن من تبديل واقعه وصفاته، والسير في طريق الحياة بسلامة وحرية وسعادة.

50

إذا كان الوجود مادة، وتبديلُ ظروف الحياة المادية يبدِّل وجدان الإنسان وتفكيره، فإن هذا الإنسان المكوَّن من أجزاء مادية، ويشكِّل حقيقة جديدة، لها مقوِّمات خاصة، تجعل تبديل الظروف المادية يؤثر على الطبيعة الإنسانية، دون أن يطال جميع خصائصها مباشرة. وهي تحتاج إلى إصلاح وتنظيم يكمِّل عملَ الظروف المادية.

وتاريخ الأخلاق سلسلة من الجهاد الطويل لمعالجة ما تُمليه هذه الظروفُ عليه.

وكثيرًا ما أفلح الإنسان في ترسيخ السلوك الذي يريده، رغم الظروف الخارجية، وبتأثير العوامل الطبيعية والعضوية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية وتفاعُله معها.

51

إن العوامل الطبيعية والعوامل الاجتماعية، ولاسيما الاقتصادية والسياسية منها، أي البيئة الطبيعية والاجتماعية، تؤثر في بنية الإنسان العضوية، الجسمية والنفسية، وتتأثر بها. وتترك هذه العلاقة التفاعلية بين البيئة والإنسان أثرًا إيجابيًّا أو سلبيًّا، إلى درجة ما، على نفسية هذا الإنسان، وتبرز في أخلاقه وسلوكه. وهكذا تلعب دورًا في دفع الإنسان نحو الخير أو الشرِّ، وفقًا لتأثيراتها عليه، ومقدرته على التفاعل والتعامل معها، وتوجيهها في هذا المنحى أو ذاك، حسب دور كلٍّ منها.

52

مثلاً، إذا كانت العوامل الاقتصادية والاجتماعية تقوم على العدل والإنصاف والإخاء، فإنها تترك أثرًا جيدًا على الأخلاق وتدفعها في طريق الخير؛ بينما إذا قامت على الظلم والاستغلال والاستبداد، فإنها تترك أثرًا سيئًا عليها، وتسوقها نحو الشر. ويؤثر هذا على مقدرة الإنسان ودوره في توجيهها نحو منحى ما. كما أن هذه المقدرة تؤثر على هذه العوامل، وتبدِّل دورَها.

ويتحدد وضعُ الإنسان الأخلاقي من خلال تفاعل هذه العوامل، ودور كلٍّ منها فيه، وتأثيره عليها. وينطبق هذا على العوامل الأخرى أيضًا.

53

وللمكان والزمان دورٌ هام في نشوء الأخلاق وتنوعها وتطورها.

54

وعلى الإنسان أن يقوم بدور فعَّال للتأثير في العوامل التي تؤثر على أخلاقه، وأن يوجِّهها نحو الخير الذي هو الهدف الأسمى له، لأنه يجعل حياته أفضل، وسعادته أكبر.

55

وقد تُورَّث الأخلاقُ من خلال الطبع والبنية النفسية، التي تكون ملائمة لنوع ما من القيم أكثر من غيره؛ وترسِّخها التربيةُ التي تتعاقب في الأجيال المتتابعة – علمًا أن الطبيعة الإنسانية في أصلها حيادية أخلاقيًّا في توجُّهها نحو الخير أو الشر.

56

إن طبيعة الإنسان حيادية من الناحية الأخلاقية، أي لا تفعل الخير أو الشرَّ لأجل ذاته، وإنما تسعى لممارسة الحياة بحسب ما لديها من استعدادات وإرادة، وما تواجهه من ظروف وتجارب وخبرات، تعمل كلُّها لتوجيهها نحو الخير أو الشرِّ بنسبة معينة، وتطبع شخصيتَه بطابع ما.

57

وقلما يتبدل كثيرًا، أو قد لا يتبدل كثيرًا، جوهرُ الإنسان البالغ في حياته، أو يبدِّل خصائصَه الأساسية المترسِّخة لديه. فالطبع غالبًا ما يغلب التطبُّع. ولتغيير الطبع نحتاج إلى تغيير الظروف، وإلى وعي عالٍ، وقدرة كبيرة، وزمن قد يطول، ومشاعر معينة – وعملية التبديل قد تستمر طوال الحياة. ولكن مَن لا يتخلَّص من سيئاته ويتحكم بها، ويُصلِح أخلاقَه بنسبة كافية، وفي غضون زمن مناسب، حتى يصبح في مستوى مقبول لدى الآخرين الصالحين، يتحول إلى حجر أصم وقاسٍ ولا جدوى منه، ونضطر لإلقائه بعيدًا، لئلا يعرقل ممارسة الحياة الإنسانية الصالحة.

58

إن الناس نماذج متنوعة، متفاوتة الخصائص والصفات، ويمكن أن نؤثر فيهم، إلى حدٍّ ما، للتخفيف من حدة التفاوت والاقتراب من نموذج مفضَّل لدينا، دون أن نتمكَّن من إزالة كلِّ الفروق بينهم، لأن الفردية المميِّزة لكلٍّ منهم حقيقةٌ واقعية لدى كلِّ الكائنات، تنتج عن تكوينهم الخاص ووراثتهم وبيئتهم وتربيتهم، وتتنوع وتتعدد بما لا يُعَدُّ ولا يُحصى، رغم وجود قاسم مشترك بينهم. ونأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار حين نتعامل معهم، ونحاول أن نجعلهم يقتربون من نموذج معيَّن نعتبره جيدًا.

59

يمكن تقسيم الناس أخلاقيًّا إلى إنسان فاضل أو أفضل، يتحلَّى بمستوى عالٍ من الأخلاق والسلوك الرفيع، وقليل من الأخطاء أو الإساءات، التي يعترف بها ويعتذر عنها ويصحِّحها، ويؤمن بالقيم الأخلاقية السامية، ويلتزم بها، ويعمل على تحقيقها، وتتفتح في نفسه كثير من الفضائل الراقية الخيِّرة.

ثم الإنسان الصالح الذي تكون حسناتُه أكبر من سيئاته، التي يعترف بها، ويستنكرها، ويسعى لتصحيحها وإصلاحها والتعويض عنها.

يأتي بعدئذٍ الإنسانُ الطالح أو السيئ الذي تكون سيئاتُه أكبر من حسناته، دون أن يؤمن بالسوء ويعتمده.

يليه الإنسان الفاسد الذي تكثر سيئاتُه وتكبر، ويمارس السوءَ ويؤمن به.

وأخيرًا الإنسان الشرير الذي يوقِع الأذى والضرر، نتيجة لانعدام الضمير والقيم الأخلاقية لديه، دون مبرِّر موضوعيٍّ صحيح وكافٍ لها، وكأن الشر قد أصبح هدفًا أو غاية له.

60

كلُّ واحد منا يحمل في نفسه نسبة معينة من الخير والشر، تتراوح بين الحدِّ الأدنى والأعلى الذي يمكن للكائنات البشرية أن تحمله.

وعلينا أن نحارب من تتجاوز نسبةُ الشرِّ لديهم حدًّا كبيرًا معينًا، إذا عجزنا عن إصلاحهم وتوجيههم نحو الخير. ونختار من بين الآخرين أصدقاء تتوفر لديهم خصائص مناسبة تمكِّننا من التعامل معهم. ونصطفي من بين هؤلاء من يكون حَسَنَ الأخلاق والسلوك، ليكون رفيقًا لنا في طريق الحياة. ومَن يثبت جدارته وحُسْنَ أخلاقه وسلوكه يكون أخًا لنا نسير معه حتى نهاية الطريق، لتحقيق أهداف حياتنا وزيادة نسبة الخير فيها.

61

كأن الإنسان يكون كغيره من الكائنات الحية الأخرى عندما يجري وراء غرائزه وحاجاته ومصالحه، فتتحكَّم به، ويتخذ القوةَ شريعةً له يستخدمها لتحقيق مآربه، ويخضع لها، وتسوقه إلى حظائرها.

وبالأخلاق والحقِّ يمكن أن يصبح كائنًا بشريًّا يستحق الحياة الإنسانية التي توفِّر له الخير والسلام والحرية والسعادة الحقيقية، ويسمو عاليًا.

62

أعلى وأسمى ما في هذا العالم هو الإنسان الذي يتمتع بضمير حي، وأخلاق راقية، وذوق رفيع، وقيم سامية، وسلوك حسن، وتصرفات سليمة، مع استعداد لتقويم أفكاره وأقواله وأعماله، وانتقادها وتصحيحها، واختيار الأصلح منها، على ضوء معرفة الحقيقة وتطبيقها وممارستها، لتسير بالواقع نحو الأفضل، وتتيح له أن يعيش أكمل حياة ممكنة. وتتحدد قيمةُ كلِّ إنسان بنسبة ما يتوفر لديه من هذه الصفات الحميدة.

63

وأثمن ما في الإنسان الطيبة والمحبة، وأجمل ما فيه التواضع والبساطة، وأرقى ما فيه الإخلاص والتسامح والكرامة. وتاجُه المرصَّع باللآلئ هو النفس الكبيرة التي تزخر بالمشاعر والقيم الأخلاقية السامية.

64

الأخلاق العالية هي التي تضع الإنسان فوق الآخرين، وتمنحه العظمة والحكمة. وكلُّ الوسائل الأخرى، رغم أهميتها القصوى، لا تستطيع أن ترفعه إلى مستواها.

65

ولا توجد حكمة أو عظمة خارج دائرة الأخلاق الصحيحة. وليس عظيمًا، ولا حكيمًا، مَن لا يتقيد بها إلى أقصى الحدود الممكنة، مهما بلغتْ سلطتُه وإنجازاته وشهرته.

66

هذا العالم يحتاج لثورة أخلاقية يقوم بها الصالحون، الذين يستحقون الخير بحسب مستوى صلاحهم، وتحاسِب الطالحين، الذين لا تتوفر لديهم مستويات مناسبة من الأخلاق، أو لا يستجيبون للتوجيه والإرشاد إلى الخير، وتقود العالم نحو الصلاح والخير والسعادة القصوى، والإنسان إلى المستويات العليا.

67

ونؤكد على ما يلي:

68

الأخلاق هي المبادئ النظرية والقواعد العملية التي يكون هدفُها فعل الخير ومقاومة الشر.

69

تقوم الأخلاق على أسُس وعوامل ضرورية لتحقيق القيم الأخلاقية وتجسيدها في سلوك مناسب لها.

70

السلوك هو التصرفات التي تتجسد فيها قيمُ الأخلاق، بخيرها وشرِّها.

71

الخير هو وجود الحقِّ الحقيقي أو ما يحقِّقه.

72

والشرُّ هو عدمُ وجود الخير أو مَنْعُ تحقيقه.

73

الحقُّ هو ما يحقُّ لنا ممارسته من الحقيقة بأساليب صحيحة.

74

والواجب هو الوجه الآخر للحق. فما هو حقٌّ لك يصبح واجبًا عليك تجاه نفسك والآخرين، ويتطلب القيام به.

75

والخير هو الحقُّ عندما يتحقَّق وجودُه، وهو أساسه وجوهره، حتى عندما يشمل التسامح والرحمة المستحَقة. وإذا ابتعد عنه قد يتحول إلى شرٍّ وخطيئة.

76

والضعف مصدر الشر؛ والقوة الظالمة تجسِّده.

77

عمل الخير أو المعروف في غير موضعه، أو مع من لا يستحقه، قد يعود بالشرِّ على فاعله.

78

وفعل الخير بأسلوب سيئ قد يؤدي إلى نتائج سيئة.

79

الفضيلة هي فعل الخير.

80

والرذيلة هي فعل الشر.

81

والناس معادن، أثمنُها أعلاها أخلاقًا.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* باحث من سوريا، عضو اتحاد الكتاب العرب، من أعماله: حكمة من الشرق.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود