لا تَعُدْ إلى الوراء،

حتى مع الشمس

 

أدونيس

 

1

تحرَّرَ العراقُ من "احتلال داخليٍّ" قد لا يكون عَرِفَ ما يُشبهُه في تاريخه كلِّه: طاغوت صدَّام حسين.

وعاجلاً، سوف يتحرَّر من الاحتلال الخارجي البريطاني–الأمريكي.

لكنْ، كيف ومتى يتحرَّر من العُنْف الذي "يَرِثُه"، والذي "يحيا" معه، والذي يمارسه كأنه "لغةٌ" يومية؟ كيف ومتى يتحرَّر من "عقلية" العنف، و"قيم" العنف، و"أدب" العنف، و"علم" العنف؟

تلك هي المسألة.

2

في أساس العمل لتحقيق هذا التحرُّر أن يعرف العراقيون بحقٍّ تاريخ المغلوبين، المقهورين، المقتولين في العراق. التاريخ الاجتماعي–الثقافي. تاريخ أولئك الذين همَّشَهُم عنفُ السياسة، أو أقصاهم وعَزَلَهم، أو أبادهم. لا يمكن بناءُ مستقبلٍ إنسانيٍّ في الحرية والمساواة والعدالة دون تأمُّلٍ في هذا الماضي، استبصارًا واعتبارًا. وإلا لن يُعرَفَ حاضرُ العراق، ولا واقعُه، ولن ينشأ فيه إلا سُلالةُ قاهرين ومقهورين، قاتلين ومقتولين. لن يكون هناك على المسرح إلا سيفُ الطاغية ورأسُ القتيل. لن ينشأ إلاَّ بشرٌ يلتهم بعضُهم بعضًا.

وسوف يُواصِل الحجَّاجُ انتصاراتِه.

وسوف يتناسل رأسُ الحسين، يومًا يومًا.

3

لا يفهم الإنسانُ نفسَه إلا إذا فهم تاريخَه.

ينبغي على العراقيِّ، اليوم، أن ينظر إلى ماضيه، لا لكي يفهم التاريخ–الخارج، البعيد وحده، بل لكي يُحسِنَأ  كذلك فَهْمَ نفسِه، وفَهْمَ الداخل القريب. دون ذلك، سيرى أن ما يربطه بالماضي خيطٌ لا يشدُّه، عمليًّا، إلا إلى الذين حَكَمُوا واستبدُّوا، أولئك الذين قهروا وعَذَّبوا وأبادوا. وفي هذا تعزيزٌ لِجَدَل القاتل والمقتول، سياسيًّا وثقافيًّا. يفقد المجتمع اجتماعيَّتَه، يفقد حِسَّ الأنْسَنَة، ويغوص في نَوْعٍ من التوحُّش. يظلُّ الحاضِرُ مترنِّحًا على شَفَا جُرُفٍ هارٍ. يتنقَّل من هاويةٍ إلى هاوية. ولا يكون المستقبل هو نفسه إلاَّ هاوية.

4

في أساس العمل كذلك لتحقيق التحرُّر تَخْليصُ الدِّينِ من العُنف، ومن "أخلاق" العنف.

كيف يمكن أن يكون الدِّينُ – الدِّين الحقُّ أو اللاهوتُ الحقُّ – عنفًا، أو حربًا؟ كيف يمكن، هو الذي جاء ليُصْلِحَ البشرَ ويُنقذَهم، أن ينقلب إلى سلاحٍ يمزِّقهم ويدمِّرهم؟ كلاَّ، ليس من طبيعة الدِّين الحقِّ، أو اللاهوت الحقِّ، أن يكون حَرْبيًّا. كلُّ حرب هي، تحديدًا، لاإنسانية. هي شكلٌ من أشكال الوحشية. كلُّ حربٍ يُعلِنُها الدِّين تقويضٌ للدِّين، أولاً – أو هي، على الأقل، خلقٌ لعالَمٍ يناقض عالَمَ الدِّين. ذلك أنه، بالضرورة، عالَمُ أهواءٍ ومصالح، عالمُ استئثارٍ وتنابُذ – ولا يكونُ المؤمنون إلاَّ مجرَّد أدواتٍ وآلات.

في مثل هذا العالَم، يدير المؤمنون "أرواحَهم" إلى الماضي، و"أجسادَهم" إلى الحاضر–المستقبل. يبعثون الموتى، فيما يموتون أحياء. وها هم يتنَّقلون في آلاتٍ صَنَعَها الأعداءُ، ترفرف عليها أجنحةُ الملائكة–الأصدقاء. عَبَثٌ – لكنه، في هذه الحالة، تراجيدي.

5

تاريخيًّا، تمثَّلتْ "عبقريةُ" الحاكم العراقي، كما شخَّصَها على نحوٍ فريدٍ صدَّام حسين، في الفصل بين الإنسان وقُدْرَتِه على التحرُّر، أو في تعطيل طاقة التحرُّر.

كانت السياسة العراقية، كما مارسها الطاغوت الصدَّامي، "فنًّا" هائلاً في تعطيل الحياة نفسها، وفي تعطيل الإنسان. أوَلم تدعم العولمةُ الأمريكية، في هذا كلِّه، هذا الطاغوت العراقي؟

وها هي السياسة العربية تدخلُ سعيدةً هانئةً في فلك هذه العولمة. كم هي "محظوظةٌ" هذه السياسة. لم "تُرِدْ" شيئًا إلا جاء إليها "مختارًا"، "يجرُّ أذياله"!

6

في زمن ذلك الطاغوت العراقي، لم يكن شيءٌ يخصُّ الفردَ العراقيَّ يخصُّه فعلاً: لا حياتُه، ولا فكرُه، ولا عملُه، ولا جسدُه. كانت هذه كلُّها مُلْكًا خاصًّا للطاغوت.

بدلاً من أن يحيا الإنسانُ العراقيُّ، ويفكِّر، ويعمل، كما لو أنه محكومٌ بالحرية، كان يفكِّر ويعمل ويحيا كما لو أنه، على العكس، محكومٌ بالعبودية. وبدا هذا الفرد كأنه يشارك، موضوعيًّا، في العمل على استمرار شروط عبوديَّته وترسيخِها، تحقيقًا لسياسة الطاغوت: تحويل البشر إلى مجرَّد أدوات وآلات وأشياء.

7

أسوأ ما يحجبُ الوضعَ العراقيَّ الراهنَ اختزالُه في الاحتلال. لا أحدٌ يقبل الاحتلال. لا العراقيون ولا غيرهم. لا العرب ولا غيرُ العرب. رَفْضُ الاحتلالِ طبيعة، وليس مزيَّةً وطنيةً تُضاف إلى مزايا الإنسان. فلا يفخرنَّ العراقيون برفض الاحتلال كأنه شيءٌ يتفرَّدون به، أو كأنَّه البطولة الكاملة. وعليهم أن يدركوا أن هذا الرفض ناقصٌ، وطنيًّا وإنسانيًّا وثقافيًّا، إذا لم يكن جزءًا من رفضهم الاحتلال في المطلق، داخليًّا وخارجيًّا. الذين يسكتون على احتلال داخلهم، وعلى الاحتلال بِحَصْرِ المعنى، خصوصًا إذا قام به نظامُهم، هم آخر مَنْ يحقُّ لهم التشدُّق بمقاومة الاحتلال الخارجي.

الاحتلال الخارجي، اليوم، للعراق جزءٌ عضويٌّ من "المرض العراقي"، وليس المرض كلَّه. وسوف يبقى هذا الاحتلال قائمًا، حتى بعد زواله ظاهريًّا، بشكلٍ أو بآخر، بطريقةٍ أو بأخرى، ما دام "المرض العراقي" قائمًا. ولا يجوز أن ننسى أن سيِّد هذا "المرض" هو أول من عانق هذا "الاحتلال"، وأول من مهَّد له الطريق إلى العراق وإلى المنطقة العربية. إن عَزْلَ هذا الاحتلال الخارجي، البريطاني–الأمريكي، عن هذا المرض، والنظرَ إليه في ذاته، موقفان يشوِّشان صورة الواقع، ويزيدان الاحتلالَ رسوخًا، والمرضَ استشراءً، والبشرَ ضياعًا.

8

لم يكن "الاحتلال الداخليُّ" للعراق – الاحتلال الذي قام به الطاغوت الصدَّامي – مجرَّد احتلالٍ للجغرافيا، للأرض، للنظام ومؤسَّساته، للبلاد وثرواتها، وإنما كان، إلى ذلك، احتلالاً للجسد والروح والعقل. احتلالاً لكلِّ بيت – لكلِّ رجلٍ، لكلِّ امرأةٍ، لكلِّ طفل. كان العراق، بكلِّ طاقاته، مُلْكًا شخصيًّا للطاغوت الصدَّامي. هذا كلُّه لا يجوز نسيانُه، فيما نرفض جميعًا الاحتلال الخارجي. الذين ينسونه، أو يرجئونه، أو يقبلون به، أو يستفيدون منه، هم أقلُّ العراقيين جدارةً بهذا الرفض أو هذه المقاومة.

بل إن هذا النسيان ليس إلا دليلاً آخر على أن المرض العراقي الأساسيَّ عميقُ الرسوخ، واسعُ الانتشار: مرض العشائرية، والقَبَلِيَّة، والمذهبية، والطائفية، والنزوع العنصري الإثني–القومي، مما يُضْمِر الاستهتارَ بالإنسان، بوصفه إنسانًا، ويُضْمِر امتهانًا لحرِّياته وحقوقه. وهو، إذًا، نسيانٌ يعمل أصحابُه، موضوعيًّا، على أن يبقى العراق غارقًا في أمراضه. أقول، بتعبير آخر، إن زوال الاحتلال الخارجي لا يُجدي إلاَّ إذا زال معه هذا النسيان. فلا انفصال بين مقاومة الاحتلال الخارجي ومقاومة العوامل التي تشجِّع "الاحتلال الداخلي": أعني قيامَ أنظمةٍ كمثل النظام الطاغوتي الصدَّامي.

والحالُ، على صعيد آخر، أن هذا النظام الطاغوتي حوَّل بلاد الرافدين – بلاد الإبداع والكتابة – إلى بلاد كانت تبدو وكأنها تعيش خارج الأبجدية، في حركة وحشية من ترويض المبدعين وتدجينهم، أو من القضاء عليهم، بشكلٍ أو بآخر. كانت هناك "فكرة" واحدية، مهيمنة، جاهلة، وعمياء، في أغلب الأحيان. وكان على جميع العراقيين أن "ينحنوا" لها، أو أن "يصمتوا". والخطر في مثل هذه "الثقافة الواحدية" التي أرساها الطاغوت الصدَّامي لا يكمن فقط في تحويل ثقافة البلاد كلِّها إلى مجرَّد "مديحٍ" أو مجرَّد "هجاء"، وإنما يكمن كذلك في إلغاء الثقافة، بوصفها بحثًا عن الحقيقة، وتساؤلاً. وبوصفها تنوُّعًا، وتعدُّدًا، وتفاعُلاً، وانفتاحًا. وبوصفها ثقافة بلاد، لا ثقافة فئةٍ واحدة، أو مذهبٍ بعينه، أو حزبٍ أوْحد يَفرِضُ على الشعب كلِّه، بمختلف إثنياته وثقافاته، أحَدَ أمرين: إما "الانصهار" أو "الذوبان" فيه، وإما "الانصهار" أو "الذوبان" في العَزْل، والتهميش، والإقصاء، إلى حدود كانت تقترب، في بعض الحالات، إلى نوع من التمييز العنصريِّ والمذهبي.

9

فَهْمُ هذا كلِّه، وفَهْمُ أسُسِه القديمة، يُحتِّم من جديدٍ ضرورةَ التَمَفْصُل أو التداخل بين التأمُّل الأدبي–الفكري والعمل السياسيِّ في العراق، اليوم، لكنْ من أجل غاية أولى: تمثُّل الماضي وتخطِّيه دون رجعة، تأسيسًا لسياسة أولى "قبل السِّياسة".

"قبل السياسة"؟ أعني أن تكون هذه السِّياسة الأولى نقضًا كاملاً وجذريًّا للسِّياسات السابقة.

10

كلاَّ،

لا تَعُدْ إلى الوراء، حتى مع الشمس.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود