|
الخلافات
المَرْجِعِيَّة: مُقْتَرَح حل*
ليس
من مصلحة أحدٍ في العراق أن ننكر وجود
الخلافات؛ وليس من المصلحة أن نسعى لترحيلها
إلى أجل غير معلوم، أو الفرار منها، وذلك
لسببين: أولاً:
ليست المشكلة في أصل الخلاف، وإنما في طريقة
التعامل معه. فالخلاف سُنَّة من سُنَنِ الله
تعالى، كما في قوله عزَّ وجل: "ولو شاءَ
ربُّك لجَعَلَ الناسَ أمَّةً واحدة ولا
يزالون مختلفين إلا من رَحَمَ ربُّك ولذلك
خَلَقَهم". فلا يمكن للبشر أن يلغي الخلاف
أو يضع له حدًّا أبدًا، لأن الحياة لا تتطور
من دون الخلاف؛ كما أن الناس لا يمكن لهم أن
يميِّزوا الأفضل والأحسن من كلِّ شيء من دونه. ثانيًا:
إن من الخلاف ما إذا رحَّلتَه إلى أجل غير
معلوم، ورفضتَ التعامل معه، أو حاولتَ
التغاضيَ عنه وتجاهلَه أو نفيَه، فسوف يتطور
إلى الأسوأ. ولذلك فإن من المهم جدًّا أن نعرف
متى نتعامل مع الخلاف، وكيف. فلا يكفي أن تبذل
جهدك لتشخيص الخلاف ونوعه فحسب، بل يلزم أن
تختار التوقيت الأسلم للتعامل معه بكلِّ دقة،
ليس قبل أوانه، ولا بعد فوات الأوان، حتى لا
ينفجر قنبلةً مدمرة، أو يتسع، فتفلت الحلولُ
من بين أيدينا، وأحيانًا يستولي عليه
المتربِّصون، فيفرضوا علينا من الحلول ما قد
نعتقده خطرًا يهدِّد الكيان بأكمله. لقد
ورث العراقيون خلافات كثيرة، سببها النظام
الشمولي البائد الذي سَلَبَهم إرادة الحوار
والنقاش والجدال بالتي هي أحسن، كما سَلَبَهم
فرصَ الحلِّ في أجواء مفتوحة، صحية وهادئة،
بعد أن فرض عليهم العمل السرِّي والتفكير
السرِّي، على كلِّ المستويات. ولذلك تراكمتْ
بعض الخلافات حتى تضخمتْ وتحوَّلتْ إلى قنابل
موقوتة، وتعقَّدتْ أخرى، كاد المعنيون أن لا
يجدوا لها طريقًا للحوار بالمنطق لحلِّها. إن
محاولات نفي الخلاف، ورفض الحديث عنه، لا
يحلُّ المشاكل، ولا يلغيها. قد نهنأ بعض
الوقت، إلا أن المشكلة تبقى تتربَّص بنا
الدوائر، لتنفجر في وجهنا لحظة يشاء الآخرون
– وكلُّ هذا ليس من مصلحة أحدٍ أبدًا – هذا
فضلاً عن أن الجميع يعرف جيدًا حقيقة
الخلافات وعمقها وأسبابها. فلماذا ننكرها؟
وعلى من نخفيها؟ والى متى نظل ندور حولها ولا
نقتحم غمارها، إما خوفًا أو تهربًا؟ لماذا لا
نتحلَّى بالشجاعة، فنقتحم المناطق المحظورة،
ونتحدث بصوت مرتفع في مشاكلنا وخلافاتنا وفي
كلِّ ما يمسُّ الشأن العام، من قريب أو بعيد،
بحثًا عن الحلول المناسبة؟ قد
نتصور أن التغطية على الخلاف وإخفاءه عن أعين
الناس يزيدنا رصيدًا عند الآخرين، أو ربما
يزيدنا قدسية عند الأتباع. وهذا خطأ فاضح لا
يرتكبه العقلاء عادة؛ بل على العكس، فإن
القدرة على تشخيص الخلاف وأسبابه، وتحديد
الحلول المناسبة، والتحدث فيه إلى الناس، هو
الذي يكبرنا في عيونهم، لأن إثبات الوجود،
والقدرة على الإدارة، والنجاح بامتياز في
القيادة، تحقِّقه لنا شجاعتُنا في الحديث عن
الخلاف، وجرأتنا في تشخيص الحلِّ وممارسته،
للوصول إلى نتائج أفضل – لا فنَّ الإخفاء. لقد
ظلت ساحتُنا الحزبية والاجتماعية تعيش ظاهرة
الانشقاقات بدرجة امتياز، بالتزامن مع حديث
القادة عن الوحدة ونفي الخلافات الداخلية.
فماذا يعني ذلك؟ وإذا كانت العلاقات الداخلية
سَمْنًا على عسل دائمًا، كما يدَّعي
المعنيون، فلماذا، يا ترى، أُصِبْنا بهذا
المرض العضال الذي هدَّد صدقيَّتنا في
الصميم، وأفقدنا تأييد الناس وإيمانهم بما
نقول وندَّعي، وكفَّرهم بمشاريعنا و... شخوصنا
في أغلب الأحيان؟ ومن
وحي التجربة، أودُّ هنا أن أنقل خبرتي
الشخصية مع الخلاف الكردي–الكردي الذي
تفجَّر معارك دامية بين فصائل التيار الكردي
في التسعينيات خاصة، والذي كان لي وقتذاك شرف
المساهمة في إنهائه، عندما ساهمتُ في لجنة
فكِّ الاشتباك، مرة، وفي لجنة تبادل أسرى
الفصائل المتقاتلة، مرة أخرى. بدءًا، حاول
زعماء الكرد إنكار وجود أيِّ خلاف فيما بينهم.
وكلما كان يتفجر معارك دامية كانوا ينأون
بأنفسهم عنها، ويلومون الآخرين؛ كما كانوا
يسارعون للردِّ على وسائل الإعلام التي كانوا
يتهمونها بالتعمد في تضخيم المشاكل
والتقوُّل والكذب. ولذلك كانت المعارك تتكرر
بين الفرقاء من دون حلٍّ أو نتيجة. ولم تنته
تلك المعارك إلا عندما صمَّم عقلاء القوم على
الاعتراف، أولاً، بوجود الخلاف وأسبابه
الحقيقية، والسعي، من بعدُ، إلى الخوض فيه،
بشفافية وواقعية، لتحديده بدقة وعدم تجاهله
أو الالتفاف عليه، ثم البدء بالتعامل معه
كأمر واقع، والانتقال، أخيرًا، إلى البحث في
الخطوات العملية لإنهائه، أو على الأقل
لتخفيف آثاره السلبية، من خلال وضع آليات
للتعايش الإيجابي مع كلِّ خلاف قائم بين
الفرقاء. إنها
تجربة تستحق أن نتوقف عندها: فهي تعلِّم كلَّ
ذي بصيرة كيف يتعامل مع الخلاف، من دون التوسل
بمحاولات إنكاره، أو التغطية عليه، أو ترحيله
إلى أجل غير معلوم، أو الفرار منه، أو حتى
التوسل بالكذب لخداع أنصاره ومريديه الذين
تراهم، في أكثر الأحيان، يعرفون عن خفايا
الخلافات أكثر مما يعرفه المعنيون؛ وإذا
رأيناهم يسكتون، أو يتغابون بعض الوقت، أو لا
يواجهون رؤساءهم بخلافاتهم ومخاطر الاسترسال
معها، فلأنهم يحترمون ويقدِّرون الموقف،
ولذلك يمنحونهم الفرصة تلو الفرصة، في انتظار
أن يبادروا إلى التحدث عنها بشفافية ومكاشفة
صريحة، وبالتالي لحلِّها بالتي هي أحسن، قبل
أن تنفجر في وجه الجميع – هذا في الوقت الذي
يكون فيه الخطيب العبقري مشغولاً بالحديث عن
الوحدة وأهميتها، متفلسفًا بذكر مقوِّماتها
ونماذجها التاريخية، باذلاً كلَّ جهوده
اللغوية وبراعته الأدبية في نفي الخلاف
والتهجم على من يقول به، وسبِّ واتهام من
يتحدث عنه ويخوض في أموره. إذا حذَّرته من
مخاطر الخلاف، والتهرب من الخوض فيه، أجابك
بالقول: "سحابة صيف، عن قريب تقشع"؛ وإذا
انفجر ليصيب الناس في مقاتلهم، أجابك بقوله:
"اتسع الخرق على الراقع". إنها بالتأكيد
طريقة سيئة في التعامل مع عقول الناس، أليست
كذلك؟ إنه الاستخفاف بالعقل وبالإنسان –
خليفة الله في أرضه. واحدة
من الخلافات الموجودة اليوم في العراق هي
الخلافات بين المرجعيات الدينية – وأخص
بالذكر الشيعية منها. وليس في ذلك ضير أو عيب،
لأن "اختلاف أمَّتي رحمة"، كما وَرَدَ عن
رسول الله (ص). فلولاه لما تمكَّنتْ المرجعية
الدينية الشيعية أن تحافظ على قوَّتها
الذاتية، على الرغم من قساوة الضربات التي
تلقَّتْها من النظام الشمولي البائد؛ إنها
الاجتهاد بعينه الذي حافظ على العطاء
المتواصل للمرجعية. إنما العيب – كلُّ العيب
– عندما تحاول هذه المرجعيات أو بطانتها
التستُّر على الخلاف، وعدم الحديث عنه، أو
فيه، والفرار منه، بانتظار أن ينفجر، وتصوير
العلاقة فيما بينها وكأنها في شهر عسل طوال
أيام السنة – وهي التي لم تلتقِ لتتحدث في
شؤونها وقضايا الأمة إلا صدفة، عندما يجمعهم
مجلس فاتحة مثلاً. وهذا ما يقلِّل من شأنها
عند الناس، خاصة عندما تتفجر بعض خلافاتها
على شكل صدام مسلح أو فتوى دينية أو ما أشبه.
فترى الناس حيارى لا يعرفون من يصدقون: أحديث
النفي؟ أم منظر الدم المسفوك ظلمًا وعدوانًا؟ إلى
متى تريد المرجعيات أن تتلفع بالسكوت عن
خلافاتها، وتستمر في القطيعة فيما بينها، إلا
بمقدار المجاملة، ولا تبادر للبحث، في صورة
جدية وحاسمة، في آلية للاجتماع واللقاء
والتشاور، من أجل إيجاد آليات حقيقية أكثر
واقعية للتعامل مع خلافاتها؟ أليس من الأسلم
للمرجعية الدينية ولمقلِّديها وأنصارها، ومن
مصلحة الدين وأهله، أن يجري الحديث عن هذا
النوع من الخلافات، وبصوت مرتفع، وترك أسلوب
التغطية والإنكار والتعمية. فإلى متى؟ ثم
ماذا؟ هل يريدون أن ينتظر الناس حتى تتفجر هذه
الخلافات فتاوى دينية تحلِّل ذبح الآخر وقتل
الخصم؟! أقولها
– وبصراحة: لقد عانت الأمة كثيرًا من
الخلافات المرجعية، على مرِّ التاريخ، بسبب
رفض المرجعية التداول في شؤون خلافاتها بروح
رياضية، بشفافية وبصراحة، من دون خوف أو وجل،
مؤْثِرة الفرار منها في كلِّ مرة، لتقع في
الأخطر منها والأسوأ، من جراء تقاعسها في
إيجاد الوسائل المناسبة للتعامل أو التعايش
معها. ولذلك تضخمت في كلِّ مرة، ولم تنته إلا
بأسوأ وأقبح النتائج، وبضحايا كثيرين، بين
قتلى ومرتدين عن الدين أو عن التقليد. والمشكلة
هي أن الخلاف المرجعي أخطر من أيِّ خلاف آخر،
لأنه يتلفع بالدين ويمارَس باسم الله وباسم
رسوله؛ ولذلك فإن الاسترسال معه، ومحاولة
تجاوزه بالموقف السلبي، أو السعي لإنكاره
وترحيله وتركه، حتى يتسع ويتضخم، أمر خطير،
لا أعتقد أن الله تعالى يقبل به أبدًا.
والغريب في الأمر، والضريف في آنٍ واحد، هو
أننا مستعدون للحديث عن الخلافات التاريخية
والماضية على مدار الساعة؛ ولكننا نهرب من
الخوض في خلافاتنا الحاضرة، حتى لحظة واحدة،
إلا اللهم عن طريق الفتوى وعبر وسائل الإعلام.
لماذا؟ أليس ذلك هو التهرب من المسؤولية
والواقع والحقيقة بعينه؟ يلزم
أن لا نتعامل مع الخلاف كتهمة، فنخطِّط للهرب
منها؛ بل يلزم أن نتعامل معه كطبيعة بشرية
وكحالة صحية، ما لم يطفح كيلُه ويتحول إلى
مشكلة أو صراع. وذلك يتطلب منا أن نلغي صفة
القدسية عن كلِّ البشر، مرجِعًا كان أم
مقلِّدًا، حتى نمارس حقَّنا في الحوار
والسؤال والاستفسار و... المساءلة. كما يجب أن
نتذكر دائمًا حقيقة لا يجوز أن نغفل عنها، وهي
أن كلَّ خلاف اليوم هو خلاف سياسي في حقيقة
أمره، وليس دينيًّا صرفًا؛ إذ لا علاقة
بالدين في جلِّ هذا النوع من الخلافات، وإنما
تحكمها المصالح، التي عادة ما تكون هي السبب
وهي المنطلق والمعتمد – وإنْ حاول
المتورِّطون فيه تلبيسه زيَّ الدين أو إضفاء
طابع القدسية عليه. فإذا أخذنا هذه البديهيات
الثلاث بنظر الاعتبار فسنبدأ بالتفكير
والتعامل مع أيِّ خلاف – ومنه المرجعي – بشكل
سليم وبطريقة صحيحة وطبيعية. إن
من المشاكل ما لا يمكن حلُّه بسياسة تبويس
اللحى؛ وإن منها ما يحتاج إلى شجاعة كافية
لمواجهة الواقع لحلِّه، أو على الأقل للتعايش
معه، بما يحافظ على ضبطه في إطاره. فلقد حاول،
مثلاً، حزب الله وحركة أمل في لبنان، في
الثمانينيات من القرن الماضي، أن يجرِّبا مثل
هذه الحلول، ففشلا فشلاً ذريعًا عندما حاولا
تجاهل خلافاتهما، الحقيقية والواقعية،
فتطورت إلى درجة أنها تفجرت صراعًا دمويًّا
مؤلمًا، ومخجلاً في نفس الوقت، راح ضحيته
المواطنُ اللبناني الذي كان يُقتَل بصواريخ
وقذائف أحد الطرفين، خطأً في أغلب الأحيان،
عندما كان يطلق مرتزقة الطرفين صواريخهم بشكل
عشوائي، من دون تحديد الهدف، الغائب في الأصل.
وكلُّنا يتذكر محاولات توسُّط الإيرانيين
وقتئذٍ، لحلِّ خلافات الطرفين بالمخادعة، من
دون المسِّ بأصل أسباب الخلاف؛ ولذلك كان
يتفجَّر اقتتالاً دمويًّا بُعيد كلِّ اجتماع
مصالحة يعقده الوسيط الإيراني بحضور مندوبي
الطرفين، حتى قبل أن يستقل طائرته، أو وهو في
الجو عائدًا إلى طهران، ليؤمَر بالعودة ثانية
من حيث أتى، ليعيد الكرة مرة ثانية وثالثة،
وهكذا دواليك من دون نتيجة ملموسة. ولا زالت
ذاكرتي تحتفظ بصورة تلك العائلة اللبنانية
المسكينة التي أصيبت بصاروخ أطلقه حزب الله
على منزلها في الضاحية الجنوبية، فقتل جميع
أفرادها السبعة، وأتذكر جيدًا أن العنصر
الحزبي لم ينسَ يومئذٍ أن يصرخ بشعار "يا
مهدي!" قبل أن يضغط على زناد القاذفة، ربما
ليتقرب أكثر إلى الله زلفى في قتل الأبرياء! لقد
آن الأوان لنتحدث عن كلِّ خلافاتنا بصوت
مرتفع، وبروح المسؤولية والحرص، وبوعي
واقعي، بعيدًا عن الفلسفة والتنظير، لأن
الظرف الذي يمرُّ به العراق اليوم يتطلب
منَّا جميعًا أن نتصرف ونتحدث بحكمة
وعقلانية، ونتعامل بمسؤولية مع الواقع، وعدم
بذل الجهد لتجاوزه أو إنكاره، بأيِّ شكل من
الأشكال. فالمراوغة لا تجدي نفعًا، والتستُّر
على الخلاف لا يفيد إلا أعداء العراق،
والتعامل معه كما تتعامل النعامة مع الخطر
الذي يداهمها لا يلغيه أو يطرد شبحه المخيف
والمرعب أبدًا. وإن
المرجعية تتحمل المسؤولية الأكبر من بين
الجميع، لأنها تصدَّت لأخطر المسؤوليات،
وتبوأت أعظم المواقع. فيلزمها أن تثبت
جدارتها وقدرتها وكفاءتها لما تصدَّتْ إليه؛
ولا يجوز لها أن تتهاون في حلِّ خلافاتها أو
ترحيلها – ما يعني، بشكل أو بآخر، التهرب
منها وتأجيل المشكلة، وليس حلها، ربما إلى
وقت سوف لا تجد فيه الفرصة مناسبة للتعامل
معها. وفي
هذا الشأن بالذات أودُّ أن أقدم المقترح
التالي كآلية أراها مناسبة لاستيعاب
الخلافات المرجعية، من جانب، ولتفعيل انسجام
وتفاعل ودور المرجعية الدينية، من جانب آخر،
وذلك من خلال تشكيل ما كان يُطلِق عليه
المجدِّد الثاني الإمام الراحل السيد محمد
الشيرازي – قدَّس سرُّه – اسم "مجلس شورى
الفقهاء"، كمرجع أعلى لإدارة شؤون
المرجعية، يمكن من خلاله استيعاب الخلافات
وصهرها، وصولاً إلى حلِّها بالتي هي أحسن. إن
استفراد أية مرجعية بشؤون الأمة يعرِّض
الاثنين للخطر؛ كما أن الاستحواذ والاستبداد
بالرأي هو الآخر يعرِّض الجميع للخطر. إذ لا
أحد بإمكانه أن يدَّعي امتلاك الحقيقة أو
الشرعية أو الحق والحقيقة بالمطلق؛ ولا أحد
بإمكانه الادعاء بأنه يمتلك كلَّ الشارع
ورأيه وناصيته – وهو الذي ينقسم في الموقف
والولاء، كما هو معروف، بشكل لا يقبل الجدل. أعتقد
أن من المناسب الآن أن تبادر المرجعية
الدينية إلى تشكيل وتأسيس مجلس شورى الفقهاء،
بحيث يكون المرجع الأعلى للقضايا
الاستراتيجية والحساسة والمصيرية، خاصة تلك
المختلَف عليها التي تخصُّ الشأن العام.
وأقترح هنا تشكيل المجلس، بادئ ذي بدء، من
المرجعيات الدينية التالية: السيد علي
السيستاني، السيد صادق الشيرازي، السيد محمد
سعيد الحكيم، السيد الشهيد محمد محمد صادق
الصدر – على أن يسعى المجلس لاستيعاب بقية
المرجعيات الدينية، الشيعية منها والسنية،
في وقت لاحق، مع تأجيل ضمِّ المرجعيات
الحزبية الصغيرة إلى هذا المجلس، لكونها
تتمحور حول نفسها وذاتها وأحزابها أكثر من
تَمَحْوُرِها حول العراق، كقضية وكشعب. إن
المقترح ينطلق من الحقائق الواقعية التالية: أولاً:
ما تتمتع به هذه المرجعيات من استقلالية في
التفكير والقرار. فقد عُرِفَ عنها عدم خضوعها
للهيمنة والإشراف من أيِّ طرف أو قوة أو جهة،
داخلية كانت أم خارجية، ما يمكنها من أداء
دورها بشكل صحيح. كذلك ما تتمتع به من علم
وتواضع وحكمة واعتدال وسعة صدر وحرص على
الصالح العام وروح وطنية تؤمن وتميل إلى
التعددية والشورى واحترام الرأي الآخر. ثانيًا:
إن كلَّ واحدة من هذه المرجعيات يمثل تيارًا
مهمًا في الأمة لا يمكن تجاوزه. ولذلك فإن
ضمَّ المجلس لهذه المرجعيات الأربع سيستوعب
الأغلبية الساحقة من الساحة، بتياراتها
المستقلة، إلى جانب ما تمثله من توجهات
سياسية وفكرية واجتماعية واسعة. ثالثًا:
لا يأخذ الاقتراح بنظر الاعتبار حجم التقليد
الذي تتمتع به كلُّ مرجعية فحسب، لأن الدور
المطلوب من المرجعية الدينية اليوم لا ينحصر
في فتاوى التقليد، وإنما يتسع ليشمل مساحة
كلِّ القضايا، على مختلف الأصعدة، ما يعني
قدرة كلِّ واحدة من هذه المرجعيات الأربع على
الإدلاء برأيها في كلِّ قضية قابلة للنقاش
والبحث، قبل اتخاذ أحسن المواقف والقرارات
وأسلمها، من خلال توظيف التجربة والخبرة
والدراية والحنكة السياسية التي تمتلكها
وتتمتع بها. إنه يأخذ بنظر الاعتبار ما تمثل
كلُّ مرجعية من واقع اجتماعي وسياسي في
الساحة. وهي، بما تمثل من تيار فكري وثقافي في
العراق، يمكن أن تكون، باجتماعها بعضها إلى
بعض، مرجعًا فريدًا من نوعه في الساحة،
يكمِّل بعضُها ما يفتقر إليه بعضها الآخر.
فإذا كان بين اثنين منهما خلاف أو اختلاف
مستعصٍ فيمكن لثالثتهما أن تكون بيضة
القبَّان لحلِّه. بعبارة أخرى فإن لكلٍّ من
هذه المرجعيات الأربع خصوصية تساعد في تكامل
المشروع تفتقر إليها الأخرى. وبذلك نكون قد
ضمنَّا تحقيق الحدِّ الأدنى من تكاملية
المشروع، الذي سيوفر، في هذه الحالة، عقلانية
وتوازنًا في العلاقة، لا يمكن بدونهما إنجاح
أيِّ مشروع يستهدف التوحيد والجمع والتنسيق
والتشاور، وأخيرًا، البحث في الخلاف. رابعًا:
بالنسبة إلى المرجعية الرابعة، التي
غُيِّبَتْ عن الساحة باغتيال رمزها الشهيد
الصدر الثاني عام 1999، أقترح أن يمثلها في
المجلس آية الله الشيخ محمد اليعقوبي،
المعروف عنه قربُه من الشهيد الصدر الثاني
أيام حياته الشريفة؛ فقد كان من حوارييه
الذين يعتمد عليهم ويثق بهم، فضلاً عن كونه
يتمتع بالكفاءة العلمية والفقهية التي تشهد
له بها الحوزةُ العلمية وعلماؤها وفقهاؤها في
النجف الأشرف، بالإضافة إلى ما يتميز به من
أخلاق فاضلة وحكمة نادرة وبيانًا واضحًا
وعلاقات حسنة مع مختلف الأطراف المؤثرة، سواء
في صفوف الحوزة العلمية أو في الساحة
السياسية. كذلك فإنه يتمتع بعلاقات طيبة مع
السيد مقتدى الصدر، المتصدِّي حاليًّا
لقيادة إرث والده، الشهيد الصدر الثاني، الذي
يُطلَق عليه اسم "تيار الصدر الثاني"،
والذي كان قد زار الشيخ في منزله بعيد سقوط
نظام الطاغية المعزول صدَّام حسين، يستجيزه
في التصرف بأموال الحقوق التي تركها والده
بعد استشهاده؛ كما زاره قبل أيام لاستشارته
في قضايا أخرى تهمُّ العمل الإسلامي في
العراق. إن ذلك، وغيره كثير، يؤهِّل الشيخ
اليعقوبي، في نظري، لأن يشارك في المشروع
المقترَح كممثل لمرجعية الشهيد الصدر
الثاني، التي تتمتع، كما هو معروف، بحضور
واسع ومؤثر في الساحة العراقية. أتمنى
على المرجعيات، وعلى من يهمًّه الأمر، وعلى
المعنيين كافة، أن يدرسوا هذا المقترَح في
أقرب فرصة ممكنة، للأخذ به بعد تطويره، من دون
تشنُّج أو أحكام مسبقة أو مواقف تاريخية
سلبية، أو اعتزاز بالنفس، أو غرور أو تكبُّر،
وذلك قبل فوات الأوان. فالعراقيون، المشدودة
عيونُهم صوب المرجعية الدينية، مُقبِلون على
تطورات معقدة، تستدعي من المرجعية الدينية،
على وجه الخصوص، التعاون على حمل الأمانة
والمسؤولية، من خلال الاتفاق على الحدِّ
الأدنى في الرأي والموقف، عبر التزاور
والتشاور والانسجام واجتماع عقولها
وإمكانياتها وخبراتها إلى بعضها بعضًا،
ليأتي أداؤها في الساحة الأول والأفضل
والأحسن دائمًا، لأن "من شاور الرجال
شارَكَها عقولها"، كما يقول الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه السلام –
الذي يقول كذلك: "مَن استبدَّ برأيه هلك." *** *** *** *
لا نبتغي من نشر هذا النصِّ الذي أرسله
إلينا كاتبُه (وهو، على ما يبدو، من قرَّاء معابر)
إقحام أنفسنا في تداول الرأي الجاري بين
الفرقاء الذين ذَكَرَهم، بل المساهمة في
إيصال صوت يدعو إلى الاعتراف بالاختلاف
والخلاف، ونبذ الاعتقاد باحتكار الحقيقة
والصواب، والاحتكام إلى العقل والحكمة –
مما ينبغي أن يتصف به أئمة الطوائف
والمذاهب كافة، وصولاً إلى التجمُّل
بالتواضع والأريحية، وتجاوز النفاق
والشقاق، والتشاور في تعاطي شؤون الرعية –
وما أحوجنا اليوم، وبالأخص في عراقنا
الجريح، إلى سيادة مثل هذه الروح السمحة. (المحرِّر)
|
|
|