|
الرؤية النقدية من
الذاتية إلى الموضوعية
إن
الحياة
البشرية ساهمت إسهامًا مطلقًا في فهم علاقة
الفكر بالوجود، وتنهض على قاعدة بيانية تبدأ
من الإنسان، وليس من الطبيعة أو العالم
المحيط به. بمعنى أن الإنسان
ينطلق من
الذات بوصفه ذاتًا مفكرة؛ أي أن الإنسان يوجد
ويعرف ذاته من فعل الوجود قبل أن يضع لنفسه
"ماهية". وهذا ما اتجه إليه فلاسفة
الوجود. وقد قال سارتر: "إن وجود الإنسان
يسبق ماهيته." ومعنى ذلك أن الإنسان يوجد
أولاً، وقبل كلِّ شيء يواجه نفسه وينخرط في
العالم، ثم يعرف نفسه فيما بعد. ونحن، إذ نعرف
الناقد الكبير يوسف اليوسف من خلال مآثره،
ومن خلال منهجه النقدي، نكتشف حقيقة الماهية
والموضوعية في الحوار التالي معه.* *** س:
ما هي المؤثِّرات الأساسية في مسيرتك
النقدية عبر رحلة العمر الطويلة وسني إبداعك
النقدي؟ ج:
كثيرًا ما أكَّدتُ أن المؤثر الأول على
شخصيتي برمَّتها، وعلى منهجي النقدي بأسره،
هو الكارثة التي حلَّتْ بالشعب الفلسطيني في
العام 1948، والتي شاهدتها بأمِّ عيني وعشت
تفاصيلها المحزنة الفاجعة. إن
تلك الحادثة المأسوية قد جعلتْني أؤمن بأن
الضمير أو الوجدان هو الخير الأعظم في
الإنسان. فالكائن المزوَّد بالضمير لا
يُفجِع الآخرين بتاتًا. والقوة التي فجعتنا
هي قوة عمياء غاشمة، تفتقر إلى الجوهر
الوجداني إلى الحدِّ الذي لا يثير في المحايد
النزيه سوى الشعور بالاشمئزاز والازدراء. إن
تمثُّل الكارثة الفلسطينية بأصالة من شأنه أن
يعمِّق شخصية المرء وأن يدفعه صوب لُباب
الأشياء، بدلاً من قشورها. ولا أبالغ إذا ما
قلت بأن من شأن الباطن الذاتي، في هذه الحال،
أن يُفرِزَ نورًا خاصًّا يأتي من خَلَدٍ
قصيٍّ لينير الأشياء إنارة خاصة، وليخلق
وعيًا حدسيًّا قادرًا على إدراك الحقائق بنهج
توسُّمي سرِّيٍّ، لا همَّ له إلا البلوغ إلى
الإنساني الأصيل. وفضلاً
عن ذلك، فإن هذا التمثُّل يملك أن يزوِّد
المرء بالعنصر الذي لا يقبل التعلُّم ولا
التعليم. وفي قناعتي الجازمة أن الكاتب
الأدبي لا يسعه البتة أن يصير إلى الإبداع
الأصيل إلا بهذا "العنصر السري"، قبل
أيِّ عنصر آخر. وبداهة،
هنالك مؤشرات ثقافية أثَّرتْ في منهجي؛
وأهمها على الإطلاق ذلك التراث النقدي العربي
الشديد الثراء (الآمدي، القاضي الجرجاني، عبد
القاهر الجرجاني، ابن رشيق). فلقد علَّمَني
النقد الموروث أن حكم القيمة، أو التمييز بين
الغثِّ والسمين، هو الوظيفة النهائية، أو
العليا، للناقد الأدبي الخبير. كما
أن الموروث الصوفي العربي، ولا سيما الشيخ
الأكبر محيي الدين بن عربي، قد علَّمني
الكثير. وأهم ما تعلَّمتُه من الصوفيين هو
العمق والذهاب إلى النائيات. فهم يؤمنون بأن
وراء كلِّ واقع مرئي ثمة واقعًا آخر أكثر
أصالة وصدقًا؛ ولا همَّ لهم سوى البلوغ إلى
ذلك الماوراء النائي الذي يعتقدون بأن الذهن
لا يطاله بتاتًا. وأنا أقرأ النصوص الأدبية
على هذا المبدأ نفسه. ولكنني،
في الطور الأول من أطوار نشاطي النقدي (السبعينيات)،
وقعت تحت التأثير السيئ لكلٍّ من هيغل
وفرويد، اللذين تخلَّصتُ منهما قبل أكثر من
عشرين سنة، واللذين لا أراهما اليوم سوى "بهلوانين"
وحسب! س:
ما هو الجانب الأكثر حضورًا في منهجك النقدي،
الذاتية أم الموضوعية؟ ج:
ما هو محسوم عندي أن الموضوعية هي العلم، وأن
الذاتية هي الأدب والفن والصوفية. ومع ذلك فإن
ثمة من يعتقد بأن النصَّ الأدبي يصف الواقع،
أو هو ينبغي أن يفعل ذلك. ولكن الذي يتخصَّص في
وصف الواقع هو علم الاجتماع أو علم السياسة أو
علم التاريخ. أما الأدب فيصف انعكاس الواقع
على الذات؛ أو قل إنه يصف العلاقة التي تربط
بين النفس ومحيطها أو جملة تجربتها. فالنص
الأدبي الجيد هو، على الدوام، نتاج لأثر
الواقع في النفس؛ وهو يستهدف التأثير في
البنية النفسية أو الذاتية للمتلقي. ومن شأن
هذا التأثير، أو مقداره وزخمه، أن يحدِّد
قيمة النصِّ نفسه. وهذا يعني أن الأدب والنقد
الأدبي كليهما نتاج لنشاط ذاتي أصيل، وذلكم
لأن مقولة التأثير هي المقولة السيدة في
الأدب وفي نقد الأدب على السواء. ولما
كان أعظم أصناف التأثير هو ذلك الصنف الذي
ينصبُّ على الضمير، أو الوجدان، وهو التأثير
الذي تنتجه التراجيديا قبل سواها من الأصناف
الأدبية، فإن الذاتية هي المنتج الأكبر
للنصِّ الأدبي، دون أدنى ريب. وعندي أن
الوظيفة النهائية للآداب والفنون كلِّها
تتلخص في إحياء الضمير البشري الذي به يصير
الإنسان إنسانًا، وبغيره لا يعود سوى حيوان.
إن من الغرائب ألا يفطن أيُّ فيلسوف، طوال ستة
وعشرين قرنًا تؤلِّف تاريخ الفلسفة، إلى أن
تربية الضمير وتنميته ينبغي أن تكون الوظيفة
الأولى لكلِّ تربية على الإطلاق. ولكن
هذا المذهب لا يعني البتة إلغاء الموضوعية
إلغاء كليًّا، أو طردها نهائيًّا من مجال
النقد الأدبي. فعلى الناقد أن يكون موضوعيًّا
حين يدرس النصوص الأدبية بحيث لا يُغفِل ما
تتمتع به من مزايا وتفاصيل وسمات حية صانعة
للجودة. كما أن الموضوعية، أو النزاهة،
من
شأنها أن تُلزِم الناقد بألا يقوِّل النص ما
لا يقول، وبألا يحمِّله أكثر مما يستطيع أن
يحمل. وبإيجاز،
إن الموضوعية جزء من الجهد النقدي، لا يجوز
الاستغناء عنه بتاتًا؛ إذ بغير الحدِّ الأدنى
من الموضوعية، يغدو النقد الأدبي مجرد شطح
وتهويم ينتميان إلى اللغو أو إلى الثرثرة. س:
ما هي نظرتك إلى الأدب في هذه الأيام، وخاصة
الأدب العربي المعاصر؛ وكذلك إلى الحداثة وما
بعد الحداثة؟ ج:
أعتقد جازمًا بأن آداب العالم كلِّه قد
جَنَحَتْ صَوْبَ الاتِّضاع ابتداءً من الحرب
العالمية الأولى. وعندي أن تفسُّخ الأدب قد
انتحل هوية الجلال انتحالاً يوم أنتج هذا
الأسلوب الكتابي كلُّ مفلس. فمع الحداثة
أصبحت اللغة "متجلِّطة" أو خاثرة، بحيث
افتقرتْ إلى النضارة والرونق؛ حتى لكأنها
محقونة بالأمصال، بدلاً من النسغ واليخضور. لست
أشكو من أن اللغة
الحداثوية تتصف بالغموض أو بالإبهام، بل
أدَّعي بأنها لغة حَرَمَتْ نفسها من الوظيفة
الطبيعية للُّغة، ألا وهي وظيفة التكلُّم
والقول. كما أنها بعيدة كلَّ البعد عن النهوض
بالمبدأ الفنِّي الأول لكلِّ أدب عظيم، ألا
وهو مبدأ العمق الشفاف. وبالإضافة إلى ذلك،
فإنها تجهل العنصر الحميم، الذي هو المحتوى
الأكبر لكلِّ نصٍّ خالد. وبداهةً،
فإن أسلوب الحداثة التجريدي والتهويمي عاجز
كلَّ العجز عن إيقاظ الإنسان على إنسانيته،
بغية تخليصه من حيوانيته التي أفرزتْ تاريخه
الشائن المعيب. فالإنسان حقًّا "ذئب
الإنسان" (هوبز). هكذا كان؛ وهكذا هو في
الزمن الراهن. ولكن هل سيبقى، على هذا النحو
المخزي، كائنًا يفترس أخاه الإنسان دون أن
يرفَّ له جفن؟ ولئن أردنا تغيير هذا المخلوق
البشري فمن الذي سوف يغيِّره؟ ما هي القوة
التي يجب عليها أن تنهض بهذه المهمة الشريفة؟
أهي السياسة – معقل المرضى والأشرار
والمأفونين؟! فلئن لم ينهض الأدب بهذه المهمة
لن تنهض بها أية قوة أخرى. ومن الناصع تمامًا
أن هذه الحداثة التي تشبه البحران لا يسعها
البتة أن تخدم أية مهمة مهما يكُ نوعها. يقينًا،
إن الآداب كلَّها تحتاج إلى إحياء من جديد.
وهذا يتضمن أنها في أمَسِّ الحاجة إلى مَن
يخلِّصها من هؤلاء البهلوانات الذين يظنون
أنفسهم الزمان نفسه، لأن كلَّ شيء يبدأ منهم
وينتهي عندهم. ولكن، يبدو أن مرض التجريد
الهاذي قد استفحل حتى ما عاد إسكاتُه بالأمر
المتيسِّر على المدى المنظور. س:
هنالك من يقول بأننا لا نستطيع أن نفهم أدب
الأديب دون أن نفهم الجوَّ الذي كتب فيه
والبيئة التي أحاطت بالمؤلِّف. هل ينهض النقد
على فهمه للأديب أم على فهمه لأدبه؟ ج:
لا يجوز البتة أن نفصل النصَّ عن كاتبه، ولا
الكاتب عن محيطه وجملة تجربته. فمع أن النقد
يهتم بالنصوص الأدبية بالدرجة الأولى، إلا
أنه يمكن أن يزداد ثراءً وخصوبة وجودةَ فهمٍ
إذا ما استطاع أن يربط النصَّ بشخصية كاتبه،
وكذلكم بعصره وشروطه الاجتماعية والاقتصادية.
وهذا يعني أن النصَّ وحياة الأديب يضيءُ كلٌّ
منهما الآخر. وهاهنا
يحضرني مثال، لعل من شأنه أن يوضح هذا المذهب.
ففي رواية إلى المنارة، وهي للكاتبة
الإنكليزية فرجينيا وولف، ثمة شخصية السيدة
رامزي التي رقَّتْ حتى صارت شبيهة بالأثير
والتي هي "المنارة" الحقيقية في الرواية.
ومن المؤسف أن هذه المرأة النادرة قد ماتت وهي
في منتصف العمر، أي في نحو الخامسة والثلاثين.
وبموتها تنطفئ الرواية نفسها، أو تنتهي إلى
الفراغ. وحين نُشِرَتْ سيرة فرجينيا وولف
تبيَّن أن السيدة
رامزي هي صورة عن والدة الكاتبة نفسها. فقد
كانت تلكم الوالدة رقيقة جدًّا، وتشعُّ على
كلِّ مَن حولها، تمامًا كما لو أنها منارة.
ولقد توفيت وهي في أوج العمر، شأنها في ذلك
شأن السيدة رامزي. وهكذا يتضح أن الكاتبة، حين
كتبت تلك الرواية، قد أعادت إنتاج تجربتها مع
أسرتها، وخاصة مع والدتها التي كانت تحبُّها
حبًّا جمًّا. وهذا يعني أن دراسة حياة الأديب
من شأنها أن تزيدنا اطِّلاعًا على أدبه، أو
دراية بذلك الأدب. ولذا فإن سيرة الكاتب هي
خاصة لا بدَّ منها إذا ما أردنا أن نستوعب
تراثه على أكمل وجه ممكن. س:
حبذا لو ألقينا شيئًا من الضوء على مفهوم
النظرية: ما هي حقيقتها، أو ما هو حدُّها
ودلالتها؟ ج:
من المؤكد أن العصر الحديث تميَّز بميله إلى
التنظير؛ أقصد إلى بناء النظريات المتخصِّصة
بهذا الموضوع أو ذاك. وكانت النظريات
المتخصِّصة بالفن والأدب من الكثرة بحيث
يتعذر إحصاؤها. والأهم من ذلكم أنها جاءت
شديدة التنوع؛ فمنها: النظرية الرومانسية،
والنظرية السوريالية، والنظرية الرمزية، إلخ. وفي
الحقِّ أن العالم العربي ما كان إلا مقصِّرًا
في هذا المضمار؛ إذ ليست هنالك أية نظرية
متماسكة ومتينة البنيان في أيِّ بلد عربي. ولا
يدري المرء لماذا هيمن القصور على الحياة
العربية في جميع ميادينها؛ إذ لا يكفي أن يقال
بأن مؤسَّساتها لم تنضج، لأن السؤال نفسه
يظلُّ قائمًا، ولكن على نحو آخر: لماذا لم
تنضج مؤسَّساتنا؟ وأين هو مصدر الخلل؟ هل
تتعرض لقصف من الداخل؟ وأيًّا
ما كان الشأن فإن نظرية الأدب مختصة بحدِّه
وفحواه، أي بماهيته وحقيقة هويته. والأهم من
ذلك أنها تختص بالمبادئ التي تحكمه، وكذلك
بالغاية النهائية التي وُجِدَ من أجلها، أو
التي ينبغي أن يسعى ابتغاء إنجازها. وعندي
أن ماهية الأدب هي وحدة الواقع والخيال،
والمادة والمثال. فالواقع البحت من اختصاص
العلم؛ والخيال الخالص تهويم خاوٍ لا دلالة
له؛ والمادي المعزول عن المثالي ضحالة ليس من
شأنها أن تستجيب لنزعات الروح أو لحاجاتها
العميقة. وأعتقد أن في الإنسان غريزة عميقة
جدًّا تجوز تسميتها باسم "الغريزة
المثالية". ومن المؤكد أن هذه الغزيرة
تطالب بالإشباع في كلِّ حين. وربما جاز القول
بأن الأدب والفن هما أقدر المنجزات على
إشباعها أو على الاستجابة لمطالبها. وهذه هي
النظرية المثالية في الفنِّ والأدب. ولعل
من الواضح تمامًا أن نظرية الأدب شيء معقد،
فضلاً عن أنها شديدة الارتباط بالفلسفة
والفكر المجرَّد. ومع أن تلك النظرية ينبغي أن
تكون وثيقة الصلة بالنقد الأدبي فليس
بالضرورة أن يكون الناقد هو الأقدر على
إنتاجها؛ إذ ربما كان الفيلسوف أنجح من
الناقد في هذا المضمار. فلئن كان التطبيق هو
ميدان الناقد فإن التنظير هو ميدان الفيلسوف. س:
كيف تنظر إلى الرواية العربية وتطورها؟ وما
هو مستواها في الوقت الراهن؟ ج:
في رأيي أن القول بوجود "رواية عربية" هو
مسألة تحتاج إلى مراجعة. فعندي أن الرواية في
العالم العربي ما زالت نتاجًا خديجًا لم ينضج
بعد. إن الرواية هي فن الحساسية تجاه الحياة؛
ولا ينتجها إلا أُناسٌ حساسون، أو مجتمع نضج
إنسانُه حتى صارت الحياة في نظره أزمة ناشبة
في كلِّ مكان، بل أزمة ليس انفراج لها على
الإطلاق. وبسبب هذا النقص في الحساسية جاءت
الرواية العربية بليدة، في الغالب الأعم.
ولهذا فإنها لا تُرضي الذائقة ولا تبلغ إلى
شغاف القلب؛ أي هي لا تسحر ولا تخلب، كما هي
حال الرواية الأوروبية، ولا سيما في القرن
التاسع عشر. وعندي
أن مقتل الروائي العربي، أو عرقوبه الأخيلي،
إنما يكمن في أنه نصَّب نفسه كخبير في قضايا
المجتمع، أي حاول أن يكون عالم اجتماع، بدلاً
من أن يكون فنانًا. وهذا يعني أن ثمة خللاً
ما في تربيتنا يسبق برهة الكتابة ويُشرِطُها،
أو يتحكم بها ويوجِّهها كما يشاء. وعبثًا
تكرِّر ما فحواه أن الروائي ينبغي أن يتخصص
بالعلاقة التي تربط الذات بالمجتمع، وليس
بمعضلات المجتمع نفسها. إن الروايات العظيمة
هي روايات اغتراب، مدارُها على المكابدة
الجحيمية التي تعيشها الشخصيات، وذلكم لأن
الواقع نفسه شيطاني إلى الحدِّ الأقصى. فالمثلبة
الأولى، إذن، تتلخص في أن الروائي العربي
يحاول أن يكون عالم اجتماع، أو خبيرًا في
التاريخ أحيانًا، بدلاً من يكون فنانًا
فاتنًا، قادرًا على الخلب والاجتذاب. أما
المثلبة الثانية فخلاصتها أن الروائي العربي
يسرد ويسرد دون أن يملَّ من السرد؛ بل إنه
كثيرًا ما يسرد دون أن تتمتع التفاصيل بأيِّ
تماسك مقنع. وهكذا تتكدس الثلاثيات
والرباعيات والخماسيات التي يطالعها المرء،
لا لأنها ممتعة أو مُرضِية للذوق، بل فقط
ليعرف ماذا يجري في الساحة الثقافية! فربما
كان الروائي العربي يحاول أن يغطِّي النقص
الكيفي بالركام الكمِّي، أي بفيض من التفاصيل
التي تتراصف، أو تتجاور، ولكن دون أن تتلاحم
على نحو مقنع. وأما
المثلبة الثالثة الكبيرة في الرواية العربية
فهي هزال الشخصيات، أو افتقارها إلى المحتوى
الرصين. فالشخصية في الرواية العربية كثيرًا
ما تتأفف، أو تتذمر، ولكنها قلما تتبدى وهي
تبحث عن أيِّ مثل أعلى من شأنه أن يملأ حياتها
وأن يجعل من وجودها تجربة ذات قيمة أو ذات
معنى. كما أن تواترات الشخصية كثيرًا ما تتبدى
وكأنها من نتاج الفجاجة والضحالة، بحيث تجيء
محرومة
من العمق أو من الرصانة وكثافة الحضور. فلقد
انتهيت للتوِّ من قراءة رواية
عنوانها
طفلة السماء – وهي لكاتبة (سورية؟) اسمها
سمر يزبك – ولاحظت أن هذا النصَّ لا يقلُّ عن
كونه كابوسًا، من غلافه الأيمن وحتى غلافه
الأيسر. ومع ذلك فإن الشخصية المركزية لا تملك
القدرة الكافية على الخلب والجذب، وذلك لأن
تلك الشخصية لا تتبدى بوصفها روحًا تحنُّ،
وتشتاق، وتتحسَّس الغياب، وتبحث عن قيمة عليا
من شأنها أن تملأ الحياة وتجعل لها معنى
كبيرًا، بحيث تصير جديرة بأن تعاش. أما
المثلبة
الرابعة بين المثالب الكبرى للرواية العربية
فهي الأسلوب. إن أسلوب الرواية هو، في الغالب
الأعم، أسلوب الصحافة الشديد القرب من
الثرثرة. وهذا يعني أنها محرومة من الجانب
الشاعري للُّغة – مع أن الشعر للرواية كالملح
للطعام. ويبدو أن الروائي العربي يكتب وعينُه
على الشاشة – السينمائية أو التلفزيونية؛
فهو يكيِّف لغته، بل يكيِّف جميع مكوِّنات
النصِّ مع مطالب الإخراج والتمثيل. ولهذا
السبب، تراه يسرد أكثر مما يحلِّل. إذ السرد
يقبل الظهور على الشاشة؛ أما التحليل فهو ملك
اللغة وحدها. ولهذا، كان لا بدَّ للأسلوب من
أن يهبط وأن يفتقر إلى السمة الفنية أو
الأدبية. وليست
هذه المثالب الأربع هي كلَّ شيء، ولكنها
الأبرز بين جملة العورات التي ثَلَبَتْ
الرواية وحَرَمَتْها من الحضور الأصيل. ولكن
ما ينبغي التنويه به، في هذا الوضع، هو أن
جميع هذه المثالب لا مصدر لها سوى النقص في
الحساسية؛ وهو ما يعني الفجاجة أو عدم النضج.
وهيهات أن يكتب الرواية أيُّ إنسان لم يبلغ
ذروة النضج بعد! س:
من الواضح أن الشخصيات الروائية كائنات
خيالية لا وجود لها في الواقع الذي يعاش
بالفعل. إلى أيِّ مدى يجب على الروائي أن يربط
شخصياته بالحياة الواقعية؟ وأيهما أكثر
أهمية: الحدث أم الشخصية؟ ج:
لعل من السداد أن يقال بأن الشخصية الروائية
ليست خيالية ولا واقعية؛ أو قل إنها خيالية
وواقعية في آنٍ واحد. فبما أنها ولدت من خيال
الكاتب فإنها خيالية؛ وبما أنها تحمل الكثير
من عناصر الحياة فإنها واقعية. والحقيقة أن
شخصيات دوستويفسكي هي الأكثر بُعدًا عن
الحياة الواقعية؛ بل هي لا وجود لها في أيِّ
واقع بتاتًا. ومع ذلك فإنها أكبر قيمة من أية
مجموعة أُخرى من الشخصيات في الفنِّ الروائي
العالمي بأسره. فليس مهمًّا أن تكون الشخصية
الروائية شبيهة بإنسان الحياة الفعلية،
وإنما المهم أن تكون رصينة أو متينة البناء،
ومسكونة بهمٍّ إنسانيٍّ كبير من شأنه أن يجعل
منها قوة جذب بسبب القيمة التي تحنُّ إليها أو
تحاول إنجازها في داخل البنية الروائية أو في
فضائها المنداح. وممَّا
هو مؤسف حقًا أن الشخصيات في الرواية العربية
كثيرًا ما تكابد نقصًا في المحمولات، أي
فقرًا في المحتوى. فجاءت هزيلة ناحلة، في
الغالب الأعم. ولا أبالغ إذا ما قلت بأن سبب
هزالها هو شدة واقعيتها واجتنابها للتزوُّد
بأيِّ مثال؛ أقصد أنها خارجية إلى حدِّ
الضحالة أو الافتقار إلى ثراء الوجدان
والعناصر الداخلية النفسية. وعندي
أن الشخصية أنْفَس من الحدث. إذ لا مراء في أن
كبار الروائيين قد أجادوا أيما إجادة في
مضمار ابتكار الشخصيات الروائية التي لا تنسى.
فمن ذا الذي ينسى شخصية الأمير ميشكين بعد أن
يقرأ رواية الأبله لدستويفسكي؟ وهل تملك
أن تنسى شخصية جان فالجان إذا ما قرأت رواية البؤساء؟
وخذ مدام بوفاري لفلوبير، وآنا
كارينينا لتولستوي، وأوجيني غرانده والأب
غوريو لبلزاك. وبإيجاز، إن الشخصية هي جوهر
الرواية أو محورها ومعظم بنيتها. ولكن
هذا لا يعني أن الحَدَثَ عديم الأهمية. ففي
اعتقادي أن الرواية بغير حدث ليست رواية إلا
بالاسم. ولا ريب في أن الشخصية وحدها لا تزيد
عن كونها سكونًا أو ثباتًا راكدًا، أو في حالة
عطالة. وهذا يعني أن الحدث هو الدورة الدموية
التي تتحرك في داخل النصِّ الروائي كلِّه. ***
*** *** حوار:
محمد أسامة العبد *
هذا الكلام لا معنى فلسفيًّا له على
الإطلاق، ولا يمتُّ بِصِلة إلى فحوى
المقابلة؛ لكنه، على كلِّ حال، ما قدَّم به
"المُحاوِر" لكلام الأستاذ اليوسف،
فاستبقيناه للأمانة. (المحرِّر)
|
|
|