|
كلمات من وحي الروحفكر دينيٌّ
وأكاديميٌّ لإنسان حرٍّ ومنفتح
كلمات
من وحي الروح*
كتاب جديد صدر حديثًا للأب د. يوسف مونَّس
يتضمن مجموعة الخطب التي ألقاها بين 1999 و2001 في
أثناء تولِّيه رئاسة جامعة الروح القدس –
الكسليك.
الكتاب، في مجمله،
مرآة تعكس فكرَ الأب مونَّس المتأصل في جذور
أرض لبنان، التي آمن بها أرض كرامة وقداسة
وحرية، وروحَه الشفافة التائقة إلى الدفاع عن
الإنسان الحرِّ المتمتع بكامل حقوقه المادية
والروحية، وإلى المناداة بمجتمع مكرَّس
للفكر وللإبداع وللخلق – مجتمع، كما يقول
الفيلسوف الألماني هيغل، بعيد عن "الثرثرة
السياسية"، مجتمع على مثال مجتمع أثينا
سقراط وسوفوكليس. لذلك تنهل كلماتُه من معين
حقيقة الوجود المُتَمَحْوِر حول إنسان قويٍّ
بلا تسلُّط، حرٍّ بلا ديكتاتورية، ملتزم بلا
تعصب، منفتح، مؤمن بحقِّ الافتراق، وبالأخوة
القائمة على حوار عادل بين متساوين. قسم الأب مونَّس
كتابه أقسامًا ثلاثة: الفكر على إيقاع الحياة
الجامعية والوطنية، الفكر الأكاديمي، الفكر
الديني. في القسم الأول يؤكد
أن مهمة الجامعة أن تحمل الوديعة الكبرى،
الجوهرة المقدسة على مذبح الحرية والكرامة
والعدل والمساواة للجميع. ويرى أن أثينا ما
بقيت إلا لأنها ضمَّتْ في قلبها الفنانين
والفلاسفة والمبدعين والعباقرة والجامعات.
فلبنان وطن تقوم ثروته الكبرى على عقول
أبنائه وأخلاق مواطنيه، وعلى ريادتهم، وعلى
كونه وطن الحرية والنوعية والتفوق. من هنا اعتبر الأب
مونَّس في كتابه أن دور الجامعة أن ترعى هذا
التفوق في ريادة علمية توافق بين العقل
والإيمان واحترام كرامة الشخص البشري وحريته
واحترام الحياة البشرية. وهكذا يرى دور جامعة
الروح القدس: بناء جيل جديد من الشباب، في
قلبه سلام المحبة وروح الأخوَّة والخدمة
والتواضع. يؤمن الأب مونَّس
بعلاقة الفكر المسيحي بالجغرافيا أو بالأرض،
وتحديدًا مفهوم المسيحية للقداسة وعلاقة ذلك
بوطن محدد هو لبنان، من خلال الحياة
المكرَّسة، عامةً، والحالة الرهبانية في
الرهبانية اللبنانية المارونية، خاصة.
ويحدد، في هذا الإطار، خصوصية لبنان الروحية
كأرض مقدسة، معتبِرًا أن طبيعته الجبلية
تساعده على التحرر والتأمل. ويؤمن كذلك بأن
اللبنانيين هم من سلالة الشهداء الأطهار
الذين حملوا قضايا المعرفة والإيمان
والكرامة والحرية، وكان منهم الكاهن،
والشيخ، والمفكر، والأديب، والعامل.
فالشهادة من أجل لبنان وقضيته الكبرى ليست
بنت اليوم، بل هي مغروسة جذورُها في عمق تاريخ
وطننا وأرضنا. ويؤمن ثالثًا بأن
الرهبانية هي رهبانية التزام عميق متجذِّر في
قلب الله والأرض والإنسان والوطن. من هنا، فإن
همومنا الحياتية، في تعبيره، لا تنفصل عن
همومنا الأكاديمية؛ ذلك أن الجامعة هي عقل
الرهبانية وضميرها الحر والمنوِّر. لذا ترتبط
حكمًا بأربعة معايير: التفوق كهدف، السوق
وحاجات الناس كميدان عمل، التجدد كأسلوب،
التنوع الخلاق كمدخل إلى الإبداع ومواكبة عصر
العولمة والاتصالات الإلكترونية. انطلاقًا من هذه
الأبعاد الثلاثة التي آمن بها، حدَّد الأب
مونَّس في كتابه مفهوم الثقافة التي تتناول
مجموع نماذج السلوك والفكر والإحساس،
وتُوائم بين نشاطات الإنسان، في علاقته
المثلثة بالطبيعة والإنسان والمتعالي
المطلق، وكونه محور الثقافة ومطوِّرها في آن
واحد. وهو يحدد مفهوم
الشهادة من الناحيتين المسيحية والوطنية: ففي
الناحية المسيحية يعتبر وجود علاقة كاملة بين
الشهادة والاستشهاد، بين الشهادة للقضية
والإيمان والحق وبين الاستشهاد بدفع الدم،
دفاعًا عن هذه الشهادة وعن هذا الإيمان. أما
في الناحية الوطنية، فيقول الأب مونَّس في
كتابه إن الشهادة أجمل وأروع قربان يُقدَّم
إلى الوطن دفاعًا عن حريته وحرية أبنائه
وكرامته وكرامة أهله وسيادته وقرار شعبه الحر
المستقل. وما المصالحة، في
رأيه، سوى الطريق الوحيد للسلام العميق الذي
ينبغي أن يقوم بين اللبنانيين. ويقول في هذا
المجال: "وحدهما السلام والمصالحة هما
الإطار المناسب ليكون لكلِّ لبناني ولكلِّ
جماعة لبنانية مكانٌ حقيقي في قلب الأمة.
ووحده السلام في لبنان يمكنه أن يحمل ثماره
إلى كلِّ المنطقة [...]." من هنا، ومن موقع
وضْع اليد على الجرح اللبناني، يؤكد الأب
مونَّس أن الاغتراب اللبناني هو، في العمق،
وخاصة في المرحلة الراهنة، مسألة وجودية في
ظلِّ التحديات الصعبة التي يواجهها
المسيحيون في الشرق، ويواجهها لبنان الوطن
والدولة. إنها خزان القوة، يقول، القادر على
أن يرفد الكنيسة والوطن بالقدرات والإمكانات
المعنوية والسياسية والمادية لمواجهة الحاضر
والمستقبل. يبقى على الكنيسة،
يضيف، أن تُحْسِن التعامُل مع هذا الينبوع،
ضمن رؤية شاملة، تتحول إلى أعمال ونشاطات على
أرض الواقع الاغترابي. ففي هذا المجهود يتحدد
الكثير من مصائرنا في المستقبل. إنه، في رأيه،
أكبر وأهم دور للكنيسة في واقعنا الحاضر. أما دور جامعة الروح
القدس وسط كلِّ هذه التحديات فهو، بحسب الأب
مونَّس، التمسك بجوهر كرامة الوطن والمواطن،
كونها إحدى مؤسَّسات الفكر الوطني اللبناني
المنفتح على محيطه والعالم، وحصنًا للإيمان
وللعقل والعلم وللحرية، ولرسالة الحوار بين
الشعوب والحضارات. الفكر
الأكاديمي يركز الأب مونَّس في
هذا القسم على تميُّز اللبنانيين على مرِّ
العصور بإبداعهم الأدبي؛ إذ كانوا رُوَّاد
النهضة العربية، ساعَدَهم على ذلك ما استقوا
من الآداب الغربية. ويدعو الطلاب في هذا
المجال إلى تحريك نهضة مماثلة في حقلي
الترجمة والآداب انطلاقًا من الحاجة إلى
القيم الإنسانية والصفاء والفكر الروحي. كما
يشدد على أن "انفتاحنا على كلِّ ثقافة وعلى
قيمها يفترض، قبل كلِّ شيء، أن يكون لدينا
وعيٌ لثقافتنا الخاصة في كونها مختلفة وفي
الوقت عينه صحيحة"، داعيًا إلى قيام فَهْمِ
التعدد الثقافي وغناه على الحسِّ الوطني
ومفهوم الوطن الواحد، الحر، المستقل،
والاغتناء بتراثات الجماعات التي تكوِّن
وحدة الوطن وتماسكه. لم يخرج الأب مونَّس
بأفكاره الأكاديمية عن مقوِّمات المجتمع
ومتطلَّباته على عتبة الألفية الثالثة
لمواكبة التطور العالمي السريع. فهو يحدد
العولمة بكونها ظاهرة تاريخية تتسلح بأربعة
عناصر للقوة والاندماج: الاقتصاديات، وأدوات
الاتصال، والأسلحة، والإيديولوجيا،
معتبِرًا أنها، في وجه منها، علامة تفتُّح
طاقات المعرفة في الإنسان للسيطرة على الكون،
ومشددًا على أن المهم هو اقتناص ما تقدِّم
العولمة للإنسان من فرص، والاحتياط لما تشكل
من تهديد، والأخذ في الاعتبار أن اللاهوت
المسيحي هو لاهوت حرية قبل أن يكون لاهوت
توحيد. هنا، في رأيه، تتحدد واحدة من المهمات
الكبرى في جامعة الروح القدس: استعمال
واستكشاف السبل المختلفة التي تقرب بين
البشر، كائنة ما كانت معتقداتُهم الدينية. ضمن هذا الإطار، يرى
أن الثقافة، عامة، والثقافة الجامعية، خاصة،
هي التي ستحدد مصائر الأفراد والجماعات
والمجتمعات في المستقبل القريب والبعيد؛ وهي
المعيار الأول الذي سيحدد مكانة الشعوب
والمجتمعات وفاعليتها في القرن الحادي
والعشرين. أما الثرثرة السياسية فهو يقول
إنها أمر عارض في حياة الشعوب والأمم، حيث
الخلود لقوة الروح التي تعكس أصالتها
الثقافية، مؤكدًا أننا "ننتمي إلى عالم
عربي نجيد لغته ونحمل همومه ونُغْني ثقافته
ونُساهم في حضارته. إنه مسرح وجودنا ونضالنا
الثقافي والحضاري والحياتي. إن ثباتنا على
الحق وإيماننا بالحرية هما الضمان لوجودنا.
وان إصرارنا على الإبداع والتفوق هو طريقنا
إلى المستقبل". كلُّ ذلك، يتم، بحسب
رأيه، ضمن ثقافة السلام التي تعني إيجاد رابط
حميم بين مفاهيم السلام والإنماء والعدالة
والديموقراطية والأخوَّة الإنسانية
الشاملة، دون فرق في اللون والعرق والدين
والجنس. الفكر الديني
في القسم الثالث
والأخير من الكتاب يتمنى الأب مونَّس إزالة
كلِّ الفوارق المباعِدة بين اللبنانيين، "مع
اقتناعنا، يقول، بأن لا غنى عن التنوع
الثقافي والحضاري المعبَّر عنه باللاهوت
المعاش ضمن احتفالاتنا الطقسية وعاداتنا
وتقاليدنا الشعبية". ويتساءل: "هل من
سلام لا يؤسَّس على العدالة والحرية
والمساواة؟ وهل من عدالة ما لم تؤسَّس على
النعمة؟" ويجيب مؤكدًا أنه بالنعمة
والحرية والمحبة يتحقق حضورُ الله السرِّي في
التاريخ، تجسِّده وتعبِّر عنه خدمة الفقراء
والمحتاجين والوقوف إلى جانب المظلومين
والمقهورين الذين اغتُصِبَتْ حقوقُهم،
وكرامتهم، وأرزاقهم، وحريتهم، وتراثهم،
وأحلامهم: "حبَّذا لو يصحو كلُّ البشر،
فيقلعوا عن الأوهام، والعظمة الزائفة،
والشرور على أنواعها، ويكتشفون نداء الحقيقة
الذي يضجُّ في أعماقهم شوقًا إلى الإله الحق
الذي به تتحرر الإنسانية تحررًا فعليًّا من
خطاياها وتتغلب على صعوباتها وتحقق الغايات
الأصيلة التي وُجِدَتْ لها." ولم ينسَ الأب مونَّس
في كتابه المرأة التي هي رمز العطاء، فيعتبر
أن الكنيسة فخورة بأنها كرَّمتْ المرأة
وحررتْها، وبأنها عملت على أن تتألق عبر
العصور، مشدِّدة على تنوع ميزاتها، وعلى
مساواتها الأساسية بالرجل. وهو يرى أن الوقت
قد حان لتؤدي المرأة رسالتها كاملة: "فقد
أصبح لها في المجتمع نفوذ وإشعاع وسلطة لم
ترقَ في يوم من الأيام إلى المستوى الذي
بلغتْه اليوم." أخيرًا، وحول
المارونية ودورها اليوم وسط المجتمع
المحلِّي والمجتمع الإقليمي، يشدد الأب
مونَّس في كتابه على أنها ليست طائفة منعزلة،
بل تيار فكري وروحي رائد مشارك "مازال
مستمرًا في جميع المعتنقين الحريةَ
والمعرفةَ والكرامةَ والتنوع. وهم ليسوا فقط
موارنة، بل نخبة التغيير وأقلية الريادة
وبقية الناس الذين لم تسجد ركبُهم لبعل
السياسة والمراكز والمال وللغرباء عن أرض
الوطن وتراثه". *** *** *** عن
النهار، الأربعاء 10 تشرين الأول 2001 *
صدر في منشورات جامعة الروح
القدس – الكسليك.
|
|
|