|
مشكلة القيم في فلسفة هارتمان ولويسدلالات
تجريبية تدحض الوهمي والزائف
صباح
زوين
عوَّدنا
هشام شرابي على الإنتاج الفكري الرصين
والموضوعي الذي ينطلق من الرصد العقلاني،
البعيد عن أية ميول عصبية أو عاطفية.
مشكلة القيم في فلسفة
هارتمان ولويس*
عنوان مؤلَّفه الأخير الصادر بالعربية؛ وهو
عبارة عن أطروحة ماجستير قدَّمها في جامعة
شيكاغو في العام 1948، وكان لاهتمام محمد محمد
مدين، مترجِمًا ومقدِّمًا، الفضل الكبير في
صدور الأطروحة بالعربية. يعيدنا مدين إلى سيرة
شرابي المثيرة والثرية، مشيرًا إلى هجرتيه
الأخيرتين اللتين سبق أن عالجهما شرابي في
كتاب منفرد. ويذكر مدين المراحل الفكرية
الأربع في حياة شرابي الثقافية: الأولى دراسته في
الجامعة الأمريكية في بيروت وبداية عمله
الحزبي (1940-1947). وفي هذه المرحلة يوضح المفكر
الفلسطيني نظرته إلى الآخر، أي الأجنبي – وهي
نظرة حقد. لكن هذا الحقد، على ما يوضِّح مدين
استنادًا إلى قول شرابي، لم يكن وليد الشعور
القومي، بل وليد الشعور بالإهانة من الطبقة
الاجتماعية التي كان ينتمي إليها. يقول شرابي
موضحًا هذه الفكرة، مستعينًا بالتحليل
الاجتماعي لطبقته: "كانت أهم القيم في حياة
الطبقة الاجتماعية التي انتميت إليها هي
المكانة الاجتماعية واسم العائلة والكرم
التظاهُري تجاه الضيف. من هنا اتخذ الشعور
الوطني لدى هذه الطبقة في فترة الاحتلال شكل
كرامة أهينت أكثر منه شكل حقٍّ قوميٍّ أو حرية
ديسَتْ [...]." أما المرحلة الثانية
فتبدأ بعد تخرُّجه من الجامعة الأمريكية في
بيروت والتحاقه بجامعة شيكاغو في العام 1948.
يورِد مدين أن شرابي أحبَّ في تلك المرحلة أن
يمتثل للحياة الأمريكية ولكلِّ ما يمثله
الغرب من قيم، وخال آنذاك أن الحزب القومي
السوري كفيل وحده بتحرير فلسطين و"قادر على
إزالة العار الذي لَحِقَ بالعرب. وبقي على هذا
الإيمان إلى أن اغتيل سعادة في 1949 [...]". المرحلة الثالثة من
حياة شرابي الفكرية تمتد من 1950 إلى 1967؛ وهي
التي مثَّلتْ الغربة التامة والصمت والمنفى
إلى أن أضحى أستاذًا في جامعة جورج تاون. وفي
المرحلة الرابعة تميَّز فكر شرابي بالعودة
إلى الوعي القومي، على ما يشير مدين، إنما على
الصعيد العالمي وليس فقط على صعيد قضية
فلسطين: "كما أنه اتَّخذ اتجاهًا جديدًا:
تحليل الواقع الاجتماعي في العالم العربي
وأسباب فساده، وبدأ يتساءل عن أسباب الخسارة
في أيِّ معركة نخوضها، ولماذا نعجز عن تحقيق
أهدافنا." يذكِّر مدين أيضًا
بالسؤال الذي يطرحه شرابي حول دور المثقفين
في المجتمع العربي. فأولئك يريدون إيصال
الحقيقة إلى مسامع السلطة، لكن السلطة لا
تريد منهم سوى ولائهم لها. وهذا السلوك، على
أية حال، ناتج من العقلية الأبوية المتسلِّطة
والموروثة. يلفت مدين، في جانب
آخر، إلى ميول شرابي الفلسفية، قائلا إنها
ظلَّتْ حبَّه الأول والأخير. ويصل مدين في
بحثه حول حياة شرابي الفكرية إلى صيف العام 1945،
حيث كانت له محاولة فلسفية عنوانها نظرتي
إلى الوجود، كتبها بالإنكليزية، عالج فيها
مسألة الله ومسألة سعادة الإنسان. وفي القسم
الثاني من هذه الكتابة الأولى يخلص شرابي إلى
القول: "إن أشياء قلة تجعل عيشَنا
محتمَلاً، وأحيانًا تُسبِغُ عليه جمالاً
ومعنى، وأهمها الصداقة والحب والفن
والمطالعة والعمل." وحول علاقة شرابي
بالوجودية يقول مدين إن المفكر الفلسطيني
يشير إلى الفرق بين كيركغور، الذي يحبًّه
أكثر من سواه ولا يزال يعلِّمه في كلِّ فصل،
وبين ماركس؛ فالأول "ركَّز على أولوية
التجربة الحياتية ورَفَضَ التجريدات الفكرية
التي أقامها هيغل أساسًا لفلسفته. لكنْ في حين
تناول كيركغور الفرد والحياة الفردية إطارًا
نهائيًّا لفلسفته، عالج ماركس الفرد والوجود
الفردي ضمن حياة المجتمع ككل". ويدلُّ مدين
على تساؤل شرابي الملحِّ حول كيفية نقل مجتمع
عربي تقليدي قائم على النظام ما قبل
الرأسمالي إلى نظام حديث قائم على العقلانية. أما اختيار شرابي
لموضوع أطروحة الماجستير هذه فدافعُه الرغبة
في البرهنة عن صدق هارتمان فيما يتعلق بنظرته
إلى القيم المطلقة واعتقاده أنها ليست نسبية.
كان قبول شرابي لهارتمان مسبقًا؛ أما لويس
فكان رفضه مسبقًا. وقام منهجه على استخدام
كلٍّ منهما لدحض الآخر به. هاك بعض ما كتبه
شرابي في أطروحته حول طبيعة القيمة الأصيلة:
"يزعم المذهب الوضعي أن ما نُطلِق عليه "القيمة"
أو العلوم المعيارية لا يؤسِّس لمعرفة على
الإطلاق، وذلك في المعنى الدقيق للمعرفة. إن
تحليل اللغة، أعني "ماذا نعني؟"، يبيِّن
أن ما ندعوه بأحكام القيمة ليس أحكامًا، إنما
مجرد "تعبيرات" عن الشعور. وهذه النظرية،
التي من الأفضل أن يُطلَق عليها "اسمية
قِيَمِيَّة"، وُضِعَتْ في صورتين
مختلفتين؛ وتقدم الصورتان الموقف نفسه عبر
تأكيد كليهما الرأيَ نفسه المتعلق بمشكلات
المعنى والمعرفة. ويُعتَبَر موقف كارناب
الأقدم من حيث المبدأ؛ ولكنه أضاف سمةً مهمة،
وذلك دلالة إلى الموقف الأصلي [...]. يعتقد
كارناب أن كلَّ كلمات القيمة هي كلمات
ظاهرية، أو هي كلمات غير حقيقية، وأن كلَّ
القضايا المركبة من مثل هذه الكلمات هي، من
ثَمَّ، قضايا ظاهرية أو زائفة وغير حقيقية.
علينا إما أن نخلع دلالات تجريبية تقبل
الملاحظة على الكلمات أو ألا نخلع عليها مثل
تلك الدلالات. ولو خلعنا عليها مثل تلك
الدلالات فإن ما نتعامل معه، عندئذٍ، هو مجرد
أحكام واقعية تشير إلى موضوعات مُدرَكة
إدراكًا تجريبيًّا؛ ولو لم نفعل ذلك فإن
قضايانا ستكون عندئذٍ قضايا وهمية وغير
حقيقية، وهي، من ثَمَّ، قضايا بلا معنى. ولهذا
السبب يعتقد كارناب أن الأخلاق والجمال وما
يُسمَّى بالعلوم المعيارية الأخرى هي علوم
مستحيلة. فالعلوم التجريبية، مثل علم
الاجتماع وعلم النفس وسواها، هي فقط العلوم
الممكنة، ذلك أنها لا تدَّعي تأسيس نفسها على
مثل تلك القضايا الزائفة وغير الحقيقية، كما
تفعل العلوم المعيارية الأخرى، بل تؤسِّس
نفسها على أساس واقعي إدراكي خالص." لم نتناول من
الأطروحة أيًّا من المواقف النقاشية التي
أثارها شرابي مع هارتمان ولويس أو ضدهما، ولم
نتناول أيًّا من التحاليل التفصيلية في هذا
الشأن، بل أردنا فقط تقريب وجهة نظر شرابي
العامة في النظرية الفلسفية العقلانية التي
قادته إلى هذه الكتابة النموذجية الأولى
لمعرفته وإدراكه. مرة أخرى يُغْني هشام
شرابي بمؤلفاته الفلسفية، فضلاً عن
الاجتماعية، الفكر العربي ومكتبته، مساهِمًا
عبر فكره الموضوعي في توعية العقلية المثقفة،
مضيفًا إليها ومدافعًا عنها. *** *** *** عن
النهار، الأربعاء 3 نيسان 2002 *
صدر لدى "دار الثقافة العربية"،
2001.
|
|
|