|
الصادق
النيهوم
في إصدار
جديد لبعض مؤلَّفاته
ثورة وسخرية حادَّتان
يناقضهما امتثال للدينيِّ التقليدي
صباح
زوين
يصدر
الصَّادق النيهوم،*
مرة أخرى، في كتبه غير المعروفة، في طبعة
ثانية.**
والكتب هذه لم تُعْرَف سوى في ليبيا؛ وهي
تُوزَّع للمرة الأولى في باقي البلدان
العربية؛ ومنها طرق مغطاة بالثلج (عن
الصادق النيهوم)، نقاش، تحية طيبة وبعد،
من مكة إلى هنا (رواية)، فرسان بلا معركة.
عُرِفَ
الكاتب الليبي بجرأته وقراءاته الفذة
للمجتمع والدين. يقول، مثلاً، في تحية طيبة
وبعد: [...]
وقد تعلَّمتُ أن أؤمن بالله ورسوله واليوم
الآخر. وتعلَّمتُ أن أطوي هذا الإيمان في صدري
وأتركه يقودني في طريق الغربة. وقد قادني
بنفسه إلى هذا الحد. وعلَّمَني أن أكفر بمهنة
"الفقيه". فإذا جاء العيد، وانطلقتْ
دعواتُكم المضحكة عبر كلِّ السموات، فأنا
أراكم من الداخل وأكفر بكم. أو
قوله كذلك (في مقطع من رواية من مكة إلى هنا): الفقهاء
أعداء الصيادين. إنني أستغفر الله إذا كان ذلك
ذنبًا حقيقيًّا. ولكن الفقيه [الذي]
يقول لك إن سلاحف البحر حوريات مسحورة، لا
بدَّ أنه يناصبك العداء. أجل، أنا عبد جاهل،
لا يجوز أن يخوض في أقوال العلماء. لكن
السلحفاة ليست حورية مسحورة، إنما مجرد "فكرونة"
كبيرة الحجم وقبيحة إلى حدٍّ لا يطاق. وقد
قتلت منها بنفسي ما يربو على المائة دون أن
يسخطني الله بحجر. وفي
فرسان بلا معركة نقرأ كلماته الحادة: المرأة
في بلادنا لم تشارك في هندسة مجتمعنا، لم
تشارك في تقييم أخلاقياته، لم توافق على
مزاعمنا القائلة بأن شرف البنت مثل عود
الكبريت وشرف الرجل من ولاعة "الرونسون".
لا تعتقد أن ثمة فرقًا بين هفوة الرجل وبين
هفوة المرأة، ولا تؤمن بأن أخاها يستحق أن
يمتاز عنها بمقدار عقلة إصبع بمجرد أنه يملك
بعض الشعر في لحيته. لا نريد مجتمعًا يوزِّع
امتيازاته بين أفراده طبقًا لطول الشنب! وبالعودة
إلى تحية طيبة وبعد نقرأ كذلك ملاحظات
النيهوم الدقيقة والحادة والذكية، إذ يقول: إن
النقطة الهامة التي أشير إليها هنا للمرة
الثانية تتمثل في اعتبار الجهل نقيضًا للصحة
العقلية وليس للمعرفة. فالجاهل ليس دماغًا
أبيض ممسوحًا، لا يضم في داخله سوى الفراغ، بل
دماغ مليء حتى حافته بأشكال خاصة من المعارف
الخاطئة [...]. حدة
النيهوم تُلازِمُها، في معظم الأحيان،
دعابةٌ ساخرة. وفكرتُه هذه جعلتني أتنبَّه
إلى اعتقادي الخاطئ حتى اليوم؛ إذ كنت أعتبر
دماغ الجاهل فارغًا، بل أراه أملس. ولا خصلته
غاية في الصحة، تضاف إلى ملاحظات أخرى.
فنقرأه، مثلاً، في حوار أجراه معه إبرهيم
الكوني في طرق مغطاة بالثلج: ماذا
تعني عملية الخلق الفني بالنسبة إليك إذن؟ (سؤال
الكوني) إنها
العمل داخل إطار الفكر بوسيلة الكلمات. وهذا
الأمر لا أستطيع أن أشعر تجاهه بالرضى إلا إذا
أحسست أنني أؤديه داخل إطار الحلم أيضًا.
والحلم هو مادة الشعر التي أعرف أنها تستطيع
أن تُمِدَّني بالشجاعة في مواجهة العجز
الناتج من ضيق الكلمة. وفي
هذه الإجابة للنيهوم قدر كبير من الوعي؛ إذ
يدرك ضيق الكلمة حيال سعة الحالة أو الفكرة في
أحيان كثيرة. لكن النيهوم قد يخطئ قليلاً حين
يعتقد أن همنغواي عنى بالحبِّ حبَّ كلِّ شيء،
في حين أن الكاتب الأمريكي لم يعنِ سوى حب
الرجل للمرأة. إذ يسأل الكوني: يقول
إرنست همنغواي إن الحبَّ بالنسبة إلى الكاتب
ضروريٌّ إلى ما لا نهاية؛ فهو لا يستطيع أن
يمارس عمليات الخلق إلا داخل حانة من حانات
الحب. فما هو رأيك؟ فيجيب
النيهوم: الحبُّ
حالة مشاركة بين الفرد وبين وحدة خلقية. إنه
ليس مجرد الربط بين رجل وامرأة. فأنت أيضًا
تحبُّ الأطفال والبحر والمزرعة وكثيرًا من
جزئيات العالم الملتصقة بعالمك. وهذا هو الحب
الذي يعنيه همنغواي [...]. لا
شك في أن النيهوم يعبِّر هنا عن إنسانه
الشمولي، عن ميله إلى النظر واسعًا وبعيدًا
في أمور هذه الدنيا؛ أي أنه يلبث، رغم بعض
انفعاله المحافظ، من ناحية، وغير العلمي، من
ناحية أخرى، إنسانًا متفهمًا لنواقص مجتمعه
والمجتمعات الأخرى، حيث يكتشف العيوب ويدلُّ
عليها. بذا،
نتوغل قليلاً في كتابه نقاش. هو بحث في
الدين والمجتمع، أو لنقل، في علاقة الإنسان
بالله وعلاقة المواطن بسياسة سلطته. ولا يخلو
البحث من الأفكار والمحطات التحليلية القيمة
على الطريقة الغربية التي ألِفْناها. بيد أنه
لا يقطع كذلك صلتَه بالذهنية القبلية، حيث
الانحياز والانفعال. إلى ذلك، ورغم محاولة
النيهوم إعادة قراءة القرآن واجتهاده في
تفسيره تفسيرًا جديدًا، كما حصل في مقاطع
كثيرة، يظل إنسانًا مسلمًا محافظًا ومواطنًا
صالحًا، مواليًا، في تعبير آخر، للسلطتين
الدينية والسياسية في دفاعه عن النظام (ثورة 23
يوليو وثورة الفاتح من سبتمبر). وبدلاً من
اتهام النظام وتعييره بأخطائه – وأي نظام لا
يخطئ؟! – يتهم المواطن بعدم تفهُّمه لآلية
ذاك النظام. قد
نقول إن النيهوم جديد في تبنِّيه غير السائد
والمخالف للمفاهيم الاجتماعية حين يقول: إن
الاشتراكية، في مفهوم الثورة، هي النمو
الدائم الذي من شأنه أن لا يسمح بالاستغلال في
أية صورة من صوره. والاشتراكية في ذهن المواطن
هي الشكل الجامد المتمثل في توزيع النقود
بالتساوي. لكنه
يصطدم بعدئذٍ بشيء من التناقض على مستوى
التحليل؛ إذ يحلِّل عدم نجاح الثورة قيادةً
بعدم استجابة الموظف العادي. يتناقض، لأن
الثورة دومًا إلى جانب المواطن العادي، لا
إلى جانب الفئة المسيطرة بقوتها المعنوية
والمادية والعسكرية. يقول: إن
القرارات الثورية تنطلق، بكلِّ قدراتها على
النمو، من مكاتب القيادة والأجهزة التنفيذية
العليا المختصة بالتخطيط. لكنها تفقد قوتها،
إلى حدٍّ كبير، خلال المقاومة التي تلقاها في
عدم الاستجابة على مستوى الموظف العادي
والمواطن العادي. إن القيادة تستطيع أن تختار
الشعارات؛ لكن الذي يضع الشعارات موضع
التنفيذ هو الذي يختار حقًّا. التناقض
جلي هنا. ونسأل النيهوم: لماذا لم يبحث في عمق
المسألة (الثورة) وفشلها؟ لِمَ، مثلاً، كلُّ
الثورات العربية فاشلة، وتقود إلى
الديكتاتورية، فيما نجحت الثورات الغربية،
كما حصل في النمسا والبلدان الاسكندنافية
وسواها؟ لغة
النيهوم وعظية أحيانًا، مرشدة إصلاحية؛ لغة
غير صالحة ثوريًّا، ولا أحد مستعدًّا لسماع
هذا النوع من الخطابات الديماغوجية. كأن يقول
مثلاً: إنها
[الاشتراكية]
لا تعني فقط رفض الإقطاع، باعتباره ملكية
أدوات الإنتاج، بل باعتباره ملكية أيِّ حقٍّ
بدون حاجة حقيقية إليه. فمن
الذي يستطيع أن يقرِّر حدود حقوق الملكية، أو
بالأحرى، حدود الحاجة الحقيقية؟ ليته يذكر
لنا تلك الحدود، وأين تبدأ الحاجة وأين
تنتهي، وأين تبدأ الحقيقة وأين نجدها. لم يأتِ
هنا بالجديد؛ فضلاً عن أن الخطاب، رغم الحلم
الجميل، يحمل شيئا من التراكم التنظيري. وإذ
يربط الصادق النيهوم بين الدين في "النمو"
(كما يَرِدُ في بحثه) والسياسة في "النمو"
ذاته (ولن ندخل في تفاصيل تفسيره للمسألة)،
بوصفه أساسًا الوعي السليم للإنسان في اتجاه
الحقيقة إذا
رأى ذاته متجهة للدنيا رأى البديل عن حقيقة
العالم. لهذا السبب يصف القرآن الصلاة بأنها
تنهى عن الفحشاء والمنكر. أولاً،
يبدو أن الصادق النيهوم حلَّ مشكلته مع
الوجود، إذ عثر على الحقيقة التي يبدو منبعها
المنطق السلطوي والقمعي، إذ يحذر ويتوعد؛
ثانيًا، يتكلم النيهوم كالمصلح الاجتماعي
الذي يرتب الحدود بين الخير والشر والحقيقة
والباطل. وتديُّن النيهوم المطلق وانفعاله
يؤديان به، في معظم الأحيان، إلى إساءة فهم
الأديان الأخرى، وفيها المسيحية. يقول: بالنسبة
إلى كتاب العهد القديم الخطيئة أبدية، والجنس
الإنساني بأسره يدفع ثمن هذه الخطيئة؛ ودم
المسيح هو الثمن الذي دفعه ابن الإنسان. إن
القرآن يختلف مع كتاب العهد القديم في هذه
النقطة اختلافا جذريًّا وحاسمًا. ولعل
النيهوم لا يدرك تماما من هو المسيح ومن هو
ابن الإنسان. ثم – وهنا الأهم – لم يأتِ مفهوم
الخطيئة والدم الفادي والمسيح في العهد
القديم، بل في العهد الجديد؛ وبالتالي فإن
الخطيئة في المسيحية ليست أبدية على الإطلاق،
إنما أصلية (والفرق كبير)، لأن مجيء المسيح
كان لخلاص الإنسان، على عكس ما يقول أيضًا حول إن
هذا الصراع لا يبدو أبديًّا في القرآن، بمعنى
أن الإنسان قد فقد فرصة الخلاص إلى الأبد [...]. لا
شك في أن الاتجاه الديني يقود فكر الصادق
النيهوم. فهو لا يخرج على القاعدة القائمة،
ولا يتحرر في ما يخص المرأة إلا نادرًا
وخَجَلاً، ولا يرى في الإنسان فردًا
وجوديًّا، بل إنسان خيِّر أو شرير (وقد استخدم
مرارًا مفردة "رذيلة")؛ ويرى، بالتالي،
الخلاص في الإسلام دون باقي الديانات. كما
يعتبر أن مكان الحضارة القادمة قد يكون في "أرضنا"؛
وعلى المسلمين، من ثَمَّ، أن يجتهدوا من أجل
اليقظة المفترضة: إن
الإسلام هو الموقف الوحيد للإنسان الذي
يستطيع أن يرى منه حقيقة اتجاهه منذ أول لحظة.
إن القرآن ليبدو حقًّا نورًا أضاء العقل
الإنساني فجأة وتركه يرى ما لم يكن بوسعه أن
يراه [...]. أو: إن
نقلة الحضارة القادمة سوف تتم في المكان الذي
تقع فيه اليقظة على أوسع نطاق ممكن. وليس ثمة
مانع واحد من أن تقع اليقظة في أرضنا؛ لكنه
أيضًا ليس ثمة ضمان واحد على أنها ستقع فيها
دون جهد من جانبنا [...]. ولعل
من أجمل ما قاله النيهوم في مفهوم النمو
والجنس البشري: [...]
وكلما ازدادت الدائرة انغلاقًا بَدَت
الغرائزُ أكثر تسلطًا ووضوحًا؛ وكلما اتسعت
الدائرة بهتتْ الغرائز وفقدت وضوحها، حتى
تترقى الحياة في سُلَّم التغير إلى حدِّها
الأعلى، وتفتح دائرة التكرار الغريزي. إذا
انفتحت دائرة التكرار يولد على الفور مبدأ
حرية الاختيار. ولا
شك في أن كلامه يصبُّ كلُّه، من النمو إلى
حرية الاختيار، في العقيدة الإسلامية حتمًا.
فالمقصود بـ"النمو"، اختصارًا، الاتجاه
نحو الدين الإسلامي، وبـ"الحرية" اختيار
الخير. يبقى
أن نقول إن الصادق النيهوم كاتب مثير للحيرة
والتساؤل، يجمع بين التقليد والعصيان، بين
الالتزام السياسي والحرية الشاعرية. نقرأه في
محطة جميلة، ردًّا على سؤال إبرهيم الكوني: [...]
أحببتُ كثيرًا من النساء والأطفال والشعوب
والمدن والطرق والكلاب والصيادين وباعة
النبيذ والحشيش والفلسفة والكتب والأشعار،
وأحببت اللاجئين، وأحببتكم أيضًا. ولا أعتقد
أنني أريد أن أكفَّ عن ذلك أيضًا [...]. *** *** *** عن
النهار، الجمعة 24 آب 2001 *
ولد الصادق النيهوم في العام 1937
في بنغازي، ونشأ في حيٍّ شعبي، وعاش حياته
وتجاربه بين جامعة بنغازي وإقامته أعوامًا
في عواصم أوروبية، حيث توفى في العام 1994 في
جنيف، مما أكسبه تجربة ثقافية صِدامية. وقد
أثار النيهوم باكرًا بعض القضايا
والموضوعات التي لا تزال تثير اهتمام
المثقفين والمفكرين، على تنوع اتجاهاتهم. **
عن دار "تالة" الليبية، توزيع "مؤسَّسة
الانتشار العربي" البيروتية.
|
|
|