أحاديث في جامعة كاليفورنيا، بيركلي
الحديث الأول
جدّو كريشنامورتي
ترجمة: وفيق فائق كريشات
المهم
هو الاستماع، ليس فقط إلى مكلِّمكم، بل أيضًا
إلى ردود فعلنا على ما يقال، لأن مكلمكم سوف لن يتناول أي فلسفة خاصة،
إنه لا يمثل الهند بحال من الأحوال، أو أي واحدة من فلسفاتها. إننا
معنيون بالمشاكل الإنسانية، لا بالفلسفات والاعتقادات. إننا معنيون
بالحزن الإنساني، الحزن الذي هو عند أكثرنا والهم والخوف والآمال
وحالات اليأس والاضطراب العظيم الكائن في شتى أنحاء العالم. بذلك نحن
معنيون بصفتنا كائنات إنسانية، لأننا مسؤولون عن الفوضى العظيمة التي
في العالم، مسؤولون عن الاضطراب، عن الحرب الدائرة في فيتنام، مسؤولون
عن حوادث الشغب. إننا، بصفتنا كائنات إنسانية تعيش في هذا العالم في
بلدان ومجتمعات مختلفة، مسؤولون بالفعل عن كل ما هو دائر. لا أحسبنا
ندرك مقدار خطورة هذه المسؤولية. لعل بعضنا يحس بها ولذلك فإننا نريد
أن نفعل شيئًا ما، أن ننضم إلى زمرة معينة، أو طائفة أو اعتقاد معينين،
وأن نكرس حياتنا لتلك الإيديولوجيا، لذلك الفعل بعينه. لكن ذلك لا يحل
المشكلة ولا يبدد مسؤوليتنا الخاصة.
يجب علينا، إذًا، أن نُعنى أولاً بفهم ما هي المشكلة، وليس بما علينا
فعله؛ ذلك سوف يأتي لاحقًا.
يريد أكثرنا أن يفعل شيئًا ما، نريد أن نلزم أنفسنا بطريق خاص للعمل
ولسوء الحظ فإن ذلك يفضي إلى المزيد من الفوضى، المزيد من الحيرة،
المزيد من الوحشية. أعتقد أن الواجب علينا هو النظر إلى المشكلة ككل،
ليس إلى جزء معين من تلك المشكلة، ليس إلى قطعة أو كسرة منها، بل إلى
كامل مشكلة العيش، مشتملة على الذهاب إلى المكتب والأسرة والحب والجنس
والصراع والطموح وفهْم ما هو الموت؛ وكذلك هل مِن شيء يدعى الله أو
الحقيقة أو سوى ذلك من الأسماء التي يطلقها المرء عليه. من الواجب أن
نفهم كلية هذه المشكلة. سوف تكون تلك هي الصعوبة التي نواجهها، لأننا
معتادون كثيرًا على أن نفعل ونبدي ردة الفعل على مشكلة بعينها وألا نرى
أن كل المشاكل الإنسانية مرتبطة بعضها ببعض. من الظاهر، إذًا، أن إحداث
ثورة نفسية كاملة هو أمر أكثر أهمية من الثورة الاقتصادية أو
الاجتماعية - إحداث انقلاب في مؤسسة معينة، إما في هذا البلد أو في
فرنسا أو في الهند - لأن المشاكل أبعد غورًا، أكثر عمقًا من مجرد أن
يكون المرء ناشطًا، أو أن ينضم إلى زمرة معينة، أو ينسحب إلى دير
للتأمل، متعلمًا زِن أو يوغا.
قبل سؤالكم لمكلمكم أسئلة، دعونا أولاً ننظر إلى المشكلة. هذا ليس
شيئًا ما تأتون لتستمعوا إليه ساعة أو نحوها ثم تنسونه. إننا معنيون
بالمشاكل الإنسانية. عليكم وعلي أن نعمل بجد بالغ هذا المساء. لستم
هاهنا لمجرد جمع قلة من الأفكار التي توافقون عليها، أو لا توافقون، أو
لمحاولة اكتشاف ماذا على مكلِّمكم قوله. إنكم ستجدون أن عليه قول شيء
قليل جدًا، لأننا معًا سوف نفحص المشاكل، لن نتخذ أي قرار، بل سنفهم
المشاكل؛ ونفس ذلك الفهم سوف يحدث فعله الخاص. أرجوكم، إذًا - إذا كان
لي أن أقترح عليكم - أن تستمعوا، من غير أن توافقوا أو لا توافقوا، من
غير أن تستنتجوا أي استنتاج. استمعوا من غير تحامل، من غير أفكار
مسبقة، لأننا لعبنا طوال قرون هذا النوع من اللعب بالكلمات، بالأفكار،
بالإيديولوجيات ولم تؤدِ إلى مكان - ما نزال نعاني، ما نزال في اضطراب،
ما نزال نسعى إلى نعيم ليس هو لذة.
كما قلنا، إننا معنيون بكامل مشكلة العيش، ليس بجزء أو قسم معين منها.
وعليه، دعونا ننظر أولاً ما هي مشاكلنا، ليس كيف نحلها، ليس ماذا نفعل
بها، لأننا في لحظة فهمنا ما هي المشكلة، فإن نفس ذلك الفهم يحدث فعله
الخاص؛ أظن أن إدراك ذلك هو مهم جدًا. إن أكثرنا ينظر إلى المشاكل
باستنتاج، بافتراضٍ؛ لسنا أحرارًا حتى ننظر، لسنا أحرارًا حتى نلاحظ ما
هو كائن فعليًا. عندما نكون أحرارًا حتى ننظر، حتى نستكشف ما هي
المشكلة، حينئذٍ ومن تلك الملاحظة، ذلك الاستكشاف، يأتي الفهم. وذلك
الفهم نفسه هو الفعل، ليس استنتاجًا يؤدي إلى الفعل. سوف نبحث فيه
ولربما سوف يفهم بعضنا بعضًا ونحن نمضي في ذلك.
تعلمون أنه حيثما توجه المرء في العالم فإن الكائنات الإنسانية متشابهة
على هذا النحو أو ذاك. قد تختلف آدابهم وسلوكهم ونمط فعلهم الخارجي،
أما مشاكلهم فهي متشابهة نفسيًا، داخليًا. في كل أرجاء العالم الإنسان
حائر، هذا أول ما يلاحظه المرء. إنه يتلمَّس، مرتابًا، فاقدًا للأمان،
يبحث، يتساءل، يفتش عن سبيل للخروج من هذه الفوضى. ويذهب إلى المعلمين،
إلى معلمي اليوغا، إلى المرشدين الروحيين، إلى الفلاسفة؛ يفتش في كل
مكان عن جواب ومن الراجح أن ذلك هو السبب في أنكم هاهنا، لأننا نريد أن
نجد سبيلاً للخروج من هذا الفخ الذي نحن فيه عالقون، من غير إدراك
أننا، بصفتنا كائنات إنسانية، قد صنعنا هذا الفخ - إنه صنع يدنا وليس
صنع أحد آخر. المجتمع الذي فيه نعيش هو نتيجة حالنا النفسية. المجتمع
هو أنفسنا، العالم هو أنفسنا، ليس العالم مختلفًا عنا. لقد
صنعنا العالم على مثال ما نحن عليه لأننا حائرون، لأننا طموحون، لأننا
جشعون، نسعى إلى السلطة، المنصب، الهيبة. إننا عدوانيون، متوحشون،
تنافسيون، إننا نبني مجتمعًا هو على نفس الصفة تنافسي ومتوحش وعنفي.
يظهر لي أن مسؤوليتنا هي أن نفهم أنفسنا أولاً، لأننا نحن
العالم. ليست هذه وجهة نظر أنانية، محدودة، على ما سوف ترون عندما نبدأ
البحث في هذه المشاكل.
ما هي المشكلة عندما نلاحظ العالم الفعلي حولنا وفينا؟ هل هي مشكلة
اقتصادية، مشكلة عرقية، الأسود في وجه الأبيض، الشيوعيون في وجه
الرأسماليين، دين مناوئ لدين آخر - هل تلك هي المشكلة؟ أم إن المشكلة
أبعد غورًا، أكثر عمقًا، مشكلة نفسية؟ من المؤكد أنها ليست مجرد مشكلة
خارجية، بل هي داخلية بقدر أكبر.
كما قلنا، إن الإنسان عدواني بطبيعته، متوحش، تنافسي، طالب للهيمنة؛
يمكنكم رؤية هذا في أنفسكم إذا لاحظتم أنفسكم. وإذا كان لي أن أقترح
شيئًا، فإن ما سوف نتحدث فيه معًا هذه الأمسية وفي أثناء الأمسيات
الثلاث التالية ليس هو سلسة من الأفكار التي عليكم الاستماع عليها. ما
على مكلِّمكم قوله هو حقيقة نفسية يمكنكم ملاحظتها في أنفسكم.
استعملوا، إذًا، إن شئتم، مكلِّمكم لملاحظة أنفسكم. استعملوا مكلِّمكم
مرآةً ترون فيها أنفسكم من غير تشويه وبذلك تتعلمون ما أنتم بالفعل.
المهم، إذًا، هو أن تتعلموا أشياء عن أنفسكم، ليس بحسب أي مختص، بل أن
تتعلموا بملاحظة أنفسكم فعليًا. وهنالك ستجدون أنكم أنتم العالم: مظاهر
الكراهية، القومي، الانفصالي الديني، الإنسان الذي يؤمن بأشياء معينة
ويكفر بغيرها، الإنسان الخائف وهلمجرا. بملاحظة المشكلة سوف نتعلم عن
أنفسنا. ما المشكلة التي تواجه كل واحد منا؟ هل هي مشكلة منفصلة خاصة،
مشكلة اقتصادية، أو دينية، أم مشكلة خوف أو عُصاب خاصين، أم مشكلة
الإيمان بالله أو الكفر به، أم مشكلة الانتماء إلى فرقة معينة - دينية
أو سياسية أو غير ذلك؟ هل تنظرون إلى مشكلة العيش ككل، أم تتناولون
مشكلة معينة وتهبونها كل حياتكم، كل طاقاتكم وفكركم؟ هل نتناول الحياة
ككل؟ تشتمل الحياة على حال المشروطية التي أحدثتها الضغوط الاقتصادية،
الاعتقادات والعقائد الدينية، التفرقات القومية، التحاملات العرقية.
الحياة هي هذا الخوف، هذا الهم، هذا الارتياب، هذا التعذيب، هذا
العذاب. تشتمل الحياة أيضًا على الحب، اللذة، الجنس، الموت، والمسألة
التي لما يزل الإنسان يسألها، ألا وهي: هل من واقع، شيء "وراء الأكمة"،
شيء يمكن العثور عليه بالتأمل؟ لما يزل الإنسان يطرح هذه المسألة ولا
يمكننا مجرد نبذها قائلين إنها ليست بذات قيمة باعتبار أننا معنيون فقط
بالعيش من يوم ليوم؛ نريد أن نعرف هل من شيء أبدي، واقع لا يتغير مع
الزمان. هذا كله هو مشكلة، ما من مشكلة واحدة معينة. متى تلاحظوا هذا
تجدوا أن المشاكل كلها مترابطة. إن تفهموا مشكلة واحدة على التمام،
تكونوا قد فهمتم المشاكل كلها.
بصفتنا كائنات إنسانية، ننظر إلى خارطة الحياة هذه، فإن إحدى مشاكلنا
الكبرى هي الخوف. ليس خوفًا معينًا، بل الخوف: الخوف من العيش،
الخوف من الموت، الخوف من العجز عن الوفاء بالمتطلبات، من الفشل، الخوف
من الوقوع تحت الهيمنة، من الكبت، الخوف من عدم الأمان، من الموت، من
الوحدة، الخوف من ألاّ نُحَب. حيثما يكون الخوف، يكون العدوان. عندما
يخاف المرء يصبح فعالاً جدًا، ليس فقط للهرب من الخوف بل إن ذلك الخوف
يحدث فعالية عدوانية. يمكنكم ملاحظة هذا في أنفسكم إذا دققتم. الخوف هو
إحدى المشاكل الكبرى في الحياة. كيف له أن يُحل؟ هل يستطيع الإنسان أن
يتحرر من الخوف إلى الأبد، ليس فقط على المستوى الشعوري بل أيضًا على
مستويات عقله المستورة، السرية؟ هل يمكن تبديد ذلك الخوف بالتحليل؟ هل
يمكن محو ذلك الخوف بالهروب؟ هذه، إذًا، هي المشكلة: كيف يمكن لعقل
خائف من العيش، خائف من الماضي، من الحاضر، من المستقبل، كيف يمكن لعقل
كهذا أن يتحرر من الخوف تحررًا تامًا؟ هل سيتحرر منه بالتدريج، نتفة
فنتفة - هل سيأخذ وقتًا؟ وإن كنتم ستأخذون وقتًا - أيامًا كثيرة، سنوات
كثيرة - فإنكم سوف تكبرون وسوف يستمر الخوف.
كيف، إذًا، للعقل أن يتحرر من الخوف، ليس فقط من الخوف البدني، بل
أيضًا من بنية الخوف في النفس، من المخاوف النفسية؟ تفهمون سؤالي؟ هل
يمكن تبديد الخوف كليًا، التحرر حالاً، أم ينبغي فهم الخوف بالتدريج
وتبديده شيئًا فشيئًا؟ تلك هي المسألة الأولى. هل يمكن للعقل، الذي
جُعل مشروطًا كي يؤمن بأنه يستطيع تبديد الخوف بالتدريج، بمرور الزمان،
بملاحظة ما هو داخل الذات، هل يمكنه أن يتحرر من الخوف بالتدريج؟ تلك
هي الطريقة التقليدية. مَثَل هذا الأمر كمَثَل الذين يتخذون، وهم
عنفيون، إيديولوجيا اللاعنف. يقولون: "سوف نصل بالتدريج إلى حال من
اللاعنف عندما يصبح العقل غير عنفي البتة". سوف يأخذ ذلك وقتًا، ربما
عشر سنوات، ربما العمر كله، وفي نفس الوقت تكونون عنفيين، تبذرون بذور
العنف. لا بد، إذًا، أن هاهنا طريقة - أرجوكم أن تصغوا لهذا - لا بد أن
هاهنا طريقة لإنهاء العنف فورًا إنهاء تامًا؛ ليس بالوقت، ليس
بالتحليل، وإلا فلقد قُضي علينا بصفتنا كائنات إنسانية أن نكون عنفيين
طوال بقية حياتنا. بنفس الطريقة، هل يمكن إنهاء الخوف إنهاء تامًا؟ هل
يمكن تحرير العقل بكامله من الخوف؟ ليس في آخر عمر المرء بل الآن؟
لا أدري إن كنتم سألتم أنفسكم هذا السؤال ذات يوم. وإن كنتم فعلتم، فمن
الراجح أنكم قلتم: "إنه غير ممكن" أو "لا أدري كيف أفعله". ولذلك
تعيشون مع الخوف، تعيشون مع العنف وتتعهَّدون إما الشجاعة أو المقاومة
أو الكبت أو الهروب، أو تسعون وراء إيديولوجيا من إيديولوجيات اللاعنف.
الإيديولوجيات كلها غبية لأنكم عندما تسعون وراء إيديولوجيا، وراء مثل
أعلى فإنكم تهربون مما "هو كائن"، وعندما تهربون فلعله لن يمكنكم فهم
"ما هو كائن". أول الأشياء في فهم الخوف، إذًا، هو عدم الهروب،
وذلك هو أصعب الأشياء. عدم محاولة الهروب بالتحليل، الذي يأخذ وقتًا،
أو بالشرب، أو بالذهاب إلى الكنيسة، أو بشتى أنواع النشاطات الأخرى.
إنه لسواء الهروب بالشرب، أو بأحد المخدرات، أو بالجنس، أو بالله. هل
يمكن للمرء، إذًا، أن يكف عن الهروب؟ تلك هي أول مشكلة في فهم ما هو
الخوف وفي تبديده والتحرر منه كليًا.
تعرفون أن الحرية عند أكثرنا هي شيء لا نريده. نريد أن نتحرر من شيء
معين، من الضغوط الفورية أو من الحاجات الفورية، لكن الحرية هي شيء
مختلف كليًا؛ ليست الحرية هي الخلاعة، فِعل ما تحبون - تتطلب الحرية
انضباطًا هائلاً، ليس انضباط الجندي، ليس انضباط الكبت، أو الامتثال.
معنى كلمة "انضباط" هو "التعلم"؛ معنى جذر الكلمة هو "التعلم". والتعلم
لأمور عن شيء ما - كائنًا ما يكون - يتطلب الانضباط، نفس التعلم هو
انضباط؛ ليس أنكم تضبطون أنفسكم أولاً ثم تتعلمون. نفس فعل التعلم
هو انضباط، وهو يأتي بالحرية من كل كبت، من كل محاكاة. هل يمكنكم،
إذًا، أن تتحرروا من الخوف، الذي منه ينبع العنف، الذي منه تنبع كل هذه
التفرقات، الدينية والقومية، من مثل "أسرتي" و"أسرتك"؟
إن الخوف، عندما يعرفه المرء، هو شيء مفزع. إنه يجعل كل شيء يُظلِم، لا
يكون وضوح، والعقل الخائف لا تمكنه رؤية ما هي الحياة، ما هي المشاكل
الحقيقية. أول شيء، إذًا، على ما يظهر لي، هو أن نسأل أنفسنا هل يمكن
للمرء فعليًا أن يتحرر من الخوف، بدنيًا وداخليًا معًا. عندما تواجهون
خطرًا بدنيًا فإنكم تُبدون رد فعل، وهذا ذكاء؛ ليس هو خوفًا، وإلا سوف
تدمرون أنفسكم. لكن عندما تكون المخاوف النفسية - الخوف من الغد، الخوف
مما فعله المرء، الخوف من الحاضر - فإن الذكاء لا يعمل. إن يبحث المرء
في الأمر نفسيًا، داخليًا، فإنه يجد بنفسه أن كامل بنيتنا الاجتماعية
قائمة على مبدأ اللذة، لأن أكثرنا يسعى إلى اللذة وحيثما يكون سعي للذة
يكون أيضًا الخوف. إن الخوف يرافق اللذة. هذا أمر يتضح جدًا متى
تفحصتموه.
كيف للعقل أن يتحرر من الخوف على نحو تام بحيث أنه يرى كل شيء بوضوح
تام؟ سوف نكتشف هل يستطيع العقل أن يحرر نفسه من الخوف كله. تفهمون
المسألة؟ لقد قبلنا الخوف وعشنا معه، على نحو ما قبلنا العنف والحرب
طريقةً للعيش. لقد نشبت آلاف وآلاف من الحروب ولما نزل نتحدث عن
السلام؛ أما طريقة عيشنا لحياتنا اليومية فهي حرب. ميدانٌ
لمعركة، عنف. وإننا نقبل ذلك كأمر محتوم. لم نسأل أنفسنا ذات يوم هل
يمكننا أن نعيش عيشة سلام تام، أعني من غير عنف من أي نوع. السبب في
وجود العنف هو التناقض في أنفسنا. ذلك بسيط جدًا. في أنفسنا رغبات
متناقضة مختلفة، مطالب متعارضة، وهذا يأتي بالصراع. لقد قبلنا هذه كلها
كأمور محتومة، كجزء من وجودنا؛ لم نضعها ذات يوم موضع التساؤل.
يجب على المرء أن يتحرر من كل اعتقاد، أعني من كل خوف، من أجل أن يكتشف
هل مِنْ شيء يدعى واقعًا، حالاً أبدية. من أجل اكتشاف ذلك يجب أن تكون
حرية - حرية من الخوف، حرية من الجشع، الحسد، الطموح، المنافسة،
الوحشية؛ حينئذٍ فقط يكون العقل صافيًا، من غير تعقيد، من غير أي صراع.
فقط عقل كهذا يكون ساكنًا وفقط العقل الساكن هو القادر على اكتشاف هل
من شيء أبدي، بلا اسم. بيد أنكم لا تقدرون على بلوغ ذلك السكون بأية
ممارسة، بأي انضباط. ذلك السكون يأتي فقط عندما تكون الحرية - الحرية
من كل هذا الهم، الخوف، الوحشية، العنف، الغيرة. هل يمكن، إذًا، للعقل
أن يتحرر - ليس في خاتمة الأمر، ليس في عشر سنين أو خمسين، فورًا؟
إنني لأعجب أنكم لو سألتم أنفسكم ذلك السؤال ماذا سوف يكون جوابكم؟ هل
ستقولون إنه ممكن أم لا؟ إن قلتم إنه مستحيل فأنتم قد قطعتم الطرق على
أنفسكم، وحينئذٍ لن يمكنكم التقدم؛ وإن قلتم إنه ممكن، فإن لذلك أيضًا
خطره. فقط يمكنكم فحص الممكن إذا كنتم تعرفون ما هو المستحيل - صحيح؟
إننا نسأل أنفسنا سؤالاً عظيمًا جدًا، ألا وهو: "هل يمكن للعقل، الذي
جُعل، طوال قرون من الزمان، في حال من المشروطية سياسيًا، اقتصاديًا،
بالمناخ، بالكنيسة، بشتى التأثيرات، هل يمكن لعقل كهذا أن يتغير
فورًا؟" أم يجب أن يأخذ وقتًا، ما لا يحصى من الأيام للتحليل، للسبر،
للاستكشاف، للبحث؟ إن إحدى أحوال المشروطية عندنا هي أننا نقبل الزمان،
فاصلاً يمكن أن تحدث فيه ثورة، طفرة. إننا بحاجة إلى أن نتغير على نحو
تام، تلك هي الثورة العظمى - ليس بإلقاء القنابل وقتل بعضنا
بعضًا. الثورة العظمى هي هل يمكن للعقل أن يحدث في نفسه تحوّلُاً
فوريًا وأن يكون يوم غد مختلفًا كليًا. لعلكم ستقولون إن أمرًا كهذا
ليس ممكنًا. إن تواجهوا المسألة فعليًا من غير هروب فتصلوا إلى حد أن
تقولوا إنه مستحيل، فإنكم تجدون ما هو الممكن؛ بيد أنه لا يمكنكم وضع
تلك المسالة "ما هو الممكن" من غير فهم ما هو مستحيل. هل نحن متلاقون
بعضنا مع بعض؟
إننا، إذًا، نسأل هل يمكن للعقل الخائف، الذي جُعل مشروطًا حتى يكون
عنفيًا، حتى يكون عدوانيًا، أن يحول نفسه فورًا. ويمكنكم فقط أن تسألوا
ذلك السؤال (أرجوكم أن تتابعوا هذا قليلاً) عندما تفهمون استحالة
التحليل وعقمه. يشتمل التحليل ضمنيًا على المحلِّل، الذي يحلِّل، سواء
كان محللاً محترفًا أم أنت تحلل نفسك. عندما تحلل نفسك يدخل في ذلك
بضعة أمور. أولاً، هل المحلِّل مختلف عن الشيء الذي يحلله. هل هو
مختلف؟ من الواضح، عندما تلاحظون، أن المحلِّل هو المحلَّل. لا اختلاف
بين المحلِّل والشيء الذي سوف يحلله. إننا نغفل عن تلك النقطة، لذلك
نبدأ بالتحليل. أقول: "أنا غضبان، أنا غيور" وأبدأ بالتحليل لماذا أنا
غيور، ما أسباب هذه الغيرة، الغضب، الوحشية؛ بيد أن المحلِّل هو جزء من
الشيء الذي يحلله. الملاحِظ هو الملاحَظ وعندما يرى المرء ذلك، يرى
عقمه، فإنه لن يعود للتحليل أبدًا. من المهم جدًا لفهم هذا، لرؤية
حقيقة هذا على نحو حقيقي - على نحو غير لفظي: الفهم اللفظي ليس فهمًا
البتة، إنه مثل سماع الكثير من الكلمات ومن ثم القول "نعم، إنني أفهم
الكلمات". إن رؤية المحلِّل، الملاحِظ، رؤيته فعليًا أنه هو الملاحَظ
هي حقيقة عظيمة جدًا، واقع عظيم جدًا؛ من جهة أنه لا تفرقة بين
المحلِّل والشيء المحلَّل وإذًا لا صراع. يكون الصراع فقط عندما يكون
المحلِّل مختلفًا عن الشيء الذي يحلله؛ في تلك التفرقة يكون الصراع. هل
أنتم متابعون لهذا؟ لعلكم سوف تسألون أسئلة بعده.
حياتنا صراع، أرض لمعركة، أما العقل الحر فليس فيه صراع والتحرر من
الصراع هو ملاحظةُ حقيقة الملاحِظ، المحلِّل، المفكر. يكون خوف فيقول
الملاحظ: "أنا خائف" - أرجوكم أن تتابعوا هذا قليلاً، وسترون جماله -
إذًا، بين الملاحظ والشيء الملاحظ تفرقةٌ. ثم إن الملاحظ يفعل ويقول:
"يجب أن أكون مختلفًا"، "يجب أن ينتهي الخوف"، يفتش عن سبب الخوف
وهلمجرا؛ بيد أن الملاحِظ هو الملاحَظ، المحلِّل هو
المحلل. متى يدرك ذلك إدراكًا غير لفظي يطرأ على حقيقة الخوف تغير تام.
انظروا، أيها السادة، إنه ليس أمرًا غامضًا. أنتم خائفون، أنتم عنفيون،
أنتم مهيمنون، أو مهيمن عليكم. لنأخذ شيئًا أكثر بساطة. أنتم غيورون،
حسودون، هل الملاحظ مختلف عن الإحساس الذي يدعوه غيرة؟ إن يكن مختلفًا
يستطع أن يؤثر في الغيرة ويصبح ذلك الفعل صراعًا. إذا كان الكيان الذي
يحس بالغيرة هو والغيرة سواء، فما عساه يفعل؟ أنا غيور؛ ما دامت الغيرة
مختلفة عني (عن صاحب ضمير المتكلم) فأنا في حال صراع، أما إذا
كانت الغيرة هي أنا، غير مختلفة عني، فما عساي أفعل؟ لا أقبل
الأمر فأقول: "أنا غيور". تلك حقيقة. لا أتحاشاها، لا أفر منها، لا
أحاول كبتها. مهما أفعل فهو ما يزال صورة من الغيرة. ماذا يحدث، إذًا؟
اللافعل هو فعل كلي. اللافعل تجاه الغيرة من طرف الملاحِظ بصفته
الملاحَظ، هو انقطاع للغيرة. هل تدركون هذا؟ هل نحن نتواصل بعضنا مع
بعض؟
الجمهور:
نعم
كريشنامورتي:
هوّنوها، لا تقولوا: "نعم". إنه لصعب جدًا. (ضحك) لأنكم إذا كنتم
تفهمون هذا حقًا فأنتم أحرار من الغيرة، لن تكونوا غيورين مرة أخرى
البتة. هذا هو السبب في أنه من المهم جدًا فهْم كامل هذا الصراع، هذا
الكفاح الدائر داخليًا، الذي يعبر عن نفسه خارجيًا بصورة عنف. هل يمكن،
إذًا، للعقل أن يتحرر تمامًا من الحسد، الذي هو غيرة؟ يمكنه التحرر فقط
عندما يكون إدراك أن الملاحِظ هو الملاحَظ ولذلك لا تكون تفرقة.
تفهمون؟ انظروا، يا سادة، هاهنا صراع فيما ندعوه علاقة بين الأشخاص،
بين الجيران وهلمجرا. كل علاقة على نحو ما هي الآن هي صراع - صحيح؟
أعتقد أن ذلك واضح جدًا. علاقتنا فيما بيننا، فيما بين الكائنات
الإنسانية في سائر أرجاء العالم، قائمة على صورة أنشأناها لأنفسنا أو
لغيرنا. ينشئ الزوج صورة للزوجة وتنشئ الزوجة صورة للزوج - صورة اللذة،
الألم، الإهانة، التذمر، الهيمنة، الغيرة، النزق، كائنة ما تكون. لقد
أنشئت، بالتدريج في أثناء سنين كثيرة، صورة للزوجة، أو للزوج. بين
الصورتين علاقة. معنى العلاقة هو التماس المباشر. إن كون الشيء ذو
علاقة يعني أن يكون مماسًا لشيء ما ولا يمكنك أن تكون ذا علاقة مع آخر
إذا كانت لك صورة عنه - هذا واضح. هل يمكن، إذًا، العيش من غير صورة مع
البقاء على علاقة؟ العلاقة تحدث صراعًا لأننا لسنا ذوي علاقة؛
علاقتنا هي بين الصور. هل يمكن لعقل أن يتحرر من صناعة الصور كلها؟
تفهمون المسألة؟
سأريكم كيف أن الأمر ممكن. لا تقبلوه لفظيًا بل افعلوه، حينئذٍ ترون
ماذا تعني العلاقة فعليًا. إنه لشيء من أكثر الأشياء استثنائيةً أن
يكون للمرء علاقة. حينئذٍ لا يكون ألم، لا يكون صراع. ما الآلية التي
تنشئ تلك الصور، عن الرئيس، أو زوجتك، أو جارك، أو الله، أو كائنًا من
يكون؟ ما بنية هذه الصورة وطبيعتها، الصورة التي عندنا عن أنفسنا أو
غيرنا؟ لو كنتُ متزوجًا - ولستُ كذلك - لأنشأت صورة عن زوجتي: ما
قالته، ما فعلته، اللذات التي أعطتني إياها جنسيًا وغير ذلك، المخاوف،
الهيمنة، التذمر، كل ذلك. بالتدريج، يومًا بعد يوم، أنشأتُ صورة عنها
وأنشأت هي صورة عني. هذه حقيقة، لا فرضية، والآن أسأل نفسي هل يمكنني
التحرر من هذه الصور. يمكنك التحرر من الصور فقط عندما تكون مهما قيل -
سواء ذلك في الغضب، أو في الغيرة، في النزق، أو التملق، أو إذا كان في
صورة إهانة - تكون واعيًا على نحو تام في لحظة قوله، بحيث أنك عندما
تُتملق أو تهان أنك ترى حقيقته وتكون حرًا منه. معنى هذا أنه من الواجب
على العقل أن يكون منتبهًا على نحو تام، بحيث أنه لا يحتفظ بمخصوص
تجربة اللذة أو الألم التي تنشئ الصورة؛ أعني أن يكون منتبهًا في
اللحظة عندما تقول الزوجة أو يقول الزوج شيئًا سارًا أو غير سار. ذلك
الانتباه، ذلك الوعي الذي بلا اختيار، يعطي الحرية للنظر، لرؤية حقيقة
ما يقال أو بطلانه؛ حينئذٍ لا يعود العقل يسجل ذلك كذكرى. لا أدري إن
كنتم جربتموه ذات يوم - من الراجح أنكم لم تجربوه. إن العقل يصبح
نشيطًا نشاطًا استثنائيًا، يقظًا، حساسًا؛ حينئذٍ يكون للعلاقة، وهي
حقًا إحدى أكبر مشاكل الحياة، يكون لها معنى مختلف تمامًا. حينئذٍ تكون
العلاقة هي جمال الحب من غير صورة. لكن مهما يقل المرء: "أحبك"، فإن
الحب ليس هناك. الحب شيء مختلف كليًا، ليس الحب لذة، ليس الحب رغبة.
لكي يفهم المرء الحب يجب عليه أن يفهم اللذة واللذة كثيرًا ما توجد مع
الخوف، مع الألم - لا يمكنك أن تحوز واحدًا من غير الآخر.
تلك، إذًا، هي مشاكلنا. تلك هي مشاكل كل كائن إنساني سواء عليه أكان
يعيش في مجتمع غني أو بدائي. الإنسان يعاني، الإنسان في عذاب،
ومشكلتنا، مسألتنا هي: هل يمكن للعقل أن يحوِّل نفسه تحوُّلاً تامًا،
كليًا، وبالتالي يحدث ثورة عميقة، نفسية - التي هي وحدها
الثورة. يمكن لثورة كهذه أن تحدث مجتمعًا مختلفًا، علاقة مختلفة، طريقة
للعيش مختلفة.
هل تحبون أن تسألوا أي أسئلة؟ تعرفون أنه من أصعب الأشياء هو طرح
الأسئلة. عندنا ألف مسألة يجب علينا طرحها؛ يجب علينا أن نشك في كل
شيء. لا يجوز لنا طاعة أي شيء أو قبوله؛ يجب علينا أن نكتشف أنفسنا،
يجب علينا أن نرى الحقيقة بأنفسنا وليس بواسطة آخر. ولكي يرى المرء تلك
الحقيقة يجب عليه أن يكون حرًا على نحو تام. يجب على المرء أن يسأل
السؤال الصحيح ليعثر الجواب الصحيح، لأنكم إن تسألوا الأسئلة الخاطئة
تلقوا حتمًا أجوبة خاطئة. إن طرح السؤال الصحيح، إذًا، هو أحد أصعب
الأشياء - وليس معنى هذا أن مكلِّمكم يمنعكم من طرح الأسئلة. يجب أن
تسألوا السؤال بعمق، بجدية عظيمة، لأن الحياة جدية على نحو مهول. إن
طرح سؤال كهذا معناه أنكم قد قمتم باستكشاف عقولكم، قد قمتم بالبحث في
عقولكم بحثًا عميقًا جدًا. وعليه، فقط العقل الذكي، العارف بنفسه يمكنه
أن يسأل السؤال الصحيح وفي نفس الطرح للسؤال يكون الجواب عليه. أرجوكم
ألا تضحكوا. هذا أمر جدي جدًا، فأنتم دائمًا تنظرون إلى الغير حتى
يخبركم بما يجب عليكم. إننا نريد دائمًا أن نضيء مصباحنا من ضوء مصباح
آخر. لسنا نورًا لأنفسنا البتة: حتى نكون نورًا لأنفسنا يجب أن نتحرر
من كل تراث، كل مرجعية، ومن ذلك مرجعية مكلِّمكم، بحيث أن عقولنا
يمكنها النظر والملاحظة والتعلُّم. إن التعلم هو أحد أصعب الأشياء. إن
طرح سؤال، إذًا، هو سهل جدًا، أما طرح السؤال الصحيح وتلقِّي الجواب
الصحيح شيء مختلف إلى حد بعيد.
الآن، يا سيدي، ما السؤال؟ (ضحك)
سائل: أتيت الليلة إلى هنا بسؤال معدّ، تخليت عنه في سياق كلامك لأنني
أخذت أرى بعض ما ترمي إليه. كنت سأسألك عن غاندي. كنت سأسألك عن رأيك،
أما الآن فعندي سؤال آخر.
كريشنامورْتي:
ماذا، يا سيدي؟
سائل: قد يبدو صعبًا على بعض الجمهور...
كريشنامورْتي:
اسأل ما تحب، يا سيدي.
سائل: عندما كانت المعدات لا تعمل على الوجه الصحيح وكان الذين في
المؤخرة لا يستطيعون السماع، بدا لي أن رجلاً له خبرة كخبرتك عنده
معرفة بما يجب فعله في تلك الظروف. يعجب المرء هل كنت تحس ببقية خوف
فيك؟
كريشنامورْتي:
إنه يسأل، عندما كان مكبر الصوت لا يعمل، هل كنت خائفًا؟ لماذا أخاف؟
كان الخطأ في الآلة فلماذا أقلق على نفسي؟ أخشى أنه لم يكن خوف. (ضحك)
ترى، يا سيدي، أن الرجل الفاضل قد سأل: "هل تعطينا رأيًا في غاندي؟" أو
س ع ص. الحمقى وحدهم هم الذين يعطون آراء. لماذا يكون للمرء رأي في
الآخر؟ إن لمضيعة الوقت والطاقة. لماذا يكركب المرء دماغه، عقله،
بالآراء، الأحكام، الاستنتاجات؟ إنها تمنع الوضوح وذلك الوضوح يُنفى
عندما يلاحظ العقل بواسطة استنتاجه.
سائل: عقلنا صافٍ، عقلنا لا يتدخل في الفكر عندما يكون في إدراك فقط.
إنه يتحسَّس داخل ما يحدث، إنه يحس بالخوف، أو لا، في شخص آخر، في داخل
الشخص، من غير التفكير بما يفعل، بما يحدث.
كريشنامورْتي:
يقول السائل - إن كنت فهمته على الوجه الصحيح - "ما العقل، ما هذا
العقل الذي يفهم؟" هل الفكر هو الذي يفهم؟ هل ذلك هو السؤال، يا سيدي؟
سائل: نعم.
كريشنامورْتي:
سوف نستكشفه، سوف تراه. عندما يقول المرء أنه يفهم شيئًا ما، ما هي حال
العقل الذي يقول: "أفهمُ"؟ يمكن استعمال كلمة "فهْم" بطريقتين
مختلفتين. إما أنا أفهم لفظيًا ما تقول، أعني أنني أسمع الكلمات وأفهم
معنى الكلمات، لأنك وأنا معًا نتكلم الإنكليزية، نستعمل كلمات معينة
ذات معنى معين ونقول إننا نفهم تلك الكلمات. عندما يقع الفهم فعليًا -
وهو فِعل فيه إحساس - يكون انتباه، لكل شيء دخلٌ عندما تقول: "أفهم
شيئًا ما بوضوح شديد". ما حال العقل الذي يقول: ""قد فهمت"؟
سائل: الوعي الكلي.
كريشنامورْتي:
أيها السادة، الآن امضوا في البحث فيه شيئًا قليلاً. أليس الوعي، أليس
الفهم يَحدث عندما لا يستنتج العقل استنتاجًا، لا يكون له رأي، عندما
يكون العقل مصغيًا بانتباه، ومن ثم يقول: "قد فهمت"؟ إننا نسأل ما حال
ذلك العقل الذي يقول: "قد فهمت" ولذلك يفعل على نحو فوري. من المؤكد أن
حالاً للعقل كهذه هي الصمت التام حيث لا يكون رأي، حيث لا يكون حكم، لا
يكون تقويم. إنه بالفعل استماع عن صمت. وحينئذٍ فقط نفهم شيئًا لا دخل
فيه للفكر البتة. لن نبحث الآن فيما هو الفكر وعملية التفكير بأسرها؛
سوف يتطلب ذلك الكثير من الوقت وهذا ليس أوانه. عندما نتكلم عن الفهم،
فمن المؤكد أنه يحدث فقط عندما يستمع العقل على نحو تام - وقد أصبح
العقل هو قلبك، أعصابك، أذناك - عندما تهبه كامل انتباهك. لا أدري إن
كنت لحظت ذات يوم أنك عندما تعطي الانتباه الكلي فإنه يكون صمت تام.
وفي ذلك الانتباه لا تكون جبهة، لا يكون مركز، بصفته الـ"أنا" الذي هو
واعٍ أو منتبه. ذلك الانتباه، ذلك الصمت، هو حال من التأمل. لا يمكننا
أن نبحث فيما تنطوي عليه تلك الكلمة وكيف نصادفها، لكننا سوف نبحث فيها
إن يكن لدينا وقت في الأمسيات الآتية.
إذًا، عندما تكون مصغيًا إلى أحد ما، على نحو تام، بانتباه، فأنت مصغٍ
ليس فقط إلى الكلمات، بل أنت تحس أيضًا ما تنقله الكلمات، إلى كامل
ذلك، ليس إلى جزء منه.
سائل: إنني أجد فيما قد قلته تناقضات معينة خطيرة جدًا. أول ذلك أنني
أعتقد أن قولك إن الحمقى فقط يعطون آراء، أن ذلك غباء.
كريشنامورْتي:
يقول الفاضل إنني أعطي آراء، تقويمات، وذلك يناقض ما أقوله. هل أعطيت
رأيًا، استنتاجًا، حكمًا؟ لقد قلت فقط: انظر إلى الحقائق. إنها ليست
حقيقتي أو حقيقتك، بل حقيقة أن الإنسان عنفي. ليس ذلك رأيًا، تلك
حقيقة. الإنسان حيوان مذعور، تلك حقيقة. الإنسان غيور، الإنسان عائش في
صراع، حياته ميدان لمعركة وهلمجرا. ليست هذه آراء، ليست أحكامًا، هذا
بالفعل ما هو دائر داخليًا في كل واحد منا. كيف تترجمه وماذا تفعل به
وهل تأتي إليه بتحاملات واستنتاجات، ذلك هو إعطاء الآراء. بيد أننا
معنيون فقط بالحقائق.
سائل: عندي هاهنا سؤال لا بد من طرحه. ما أساس التعلُّم، وهو ما تقول
إنه صعب؟ تجد نفسك داخلاً في مهمة معينة صعبة. ما الأساس للفعل إن
استغنيت عن الإرادة والإيمان؟ كيف لك أن تتحمل؟
كريشنامورْتي:
أعتقد أنني فهمت. يقول السائل: "ما التعلم؟" هل التعلم مختلف عن الفعل؟
صحيح، يا سيدي؟
السائل: لا. السؤال هو: لماذا تختار الحياة أو الموت! القضية هي قضية
حياة وموت عندما تدخل في هذا العمل. أين تجد في نفسك خزانًا للقوة على
فعل مهمة معينة تتيح لك البقاء حيًا؟
كريشنامورْتي:
أفهم. أين تجد الطاقة - إنني أضع السؤال على نحو مختلف - أين تجد
الطاقة على العيش على نحو صحيح؟ صحيح؟
سائل: نعم. أنت لا تريد شيئًا، إنه يأتي بنفسه، إذا كنت تفعله بنفس غير
منقسمة.
كريشنامورْتي:
هذا صحيح.
سائل: (الصوت على الشريط ضعيف غير مسموع)
كريشنامورْتي:
أفهم، يا سيدي. الأمر هو هذا. كيف تعيش من غير إرادة، صحيح؟ - من غير
تناقض، من غير أضداد؟ كيف تعيش من غير صراع البتة وفي نفس الوقت أنت
تفعل.
سائل: نعم. يمكنك أن تختار الموت.
كريشنامورْتي:
لا يمكنك اختيار أن تموت، عليك أن تعيش، لكن...
سائل: المسألة هي كيف!
كريشنامورْتي:
مهلاً، يا سيدي. يقول السائل: "ما المنهج، ما النسق الذي يمكنني تعلمه
فيكون عونًا لي على العيش من غير تناقض، على العيش بفاعلية، في حال من
التعلم الدائب؟" هل ذلك هو السؤال؟
أول شيء هو: ماذا نعني بالتعلم؟ لست أعطي رأيًا، إنني أنظر إلى
الحقيقة. هل التعلم هو عملية تراكْمٍ للمعرفة؟ من تلك المعرفة أقوم
بالفعل؛ أعني قد خزنت تجارب، ذكريات، ومن ذلك أقوم بالفعل. أم إن
التعلم هو عملية دائبة من غير تراكم وعليه فالتعلم هو القيام بالفعل؟
امضِ ببطء. سوف نبحث فيه. ليس الأمر هو إنني أتعلم أولاً ومن ثم أفعل
بحسب ما قد تعلمته، بل إن التعلم هو القيام بالفعل؛ ليس التعلم منفصلاً
عن القيام بالفعل. يعزم المرء على تعلم أشياء عن الخوف، أو عما عليه
فعله، أو كيف يعيش. أما إذا كانت عندك نسقًا يُعلِّمك كيف تعيش، أو
منهج يقول لك: "عِش بهذه الطريقة"، فأنت تمتثل لمنهج أرساه شخص آخر.
ولذلك أنت لا تتعلم، أنت تمتثل وتفعل بحسب نمط ما، وهو ليس بفعل البتة،
إنه محاكاة وحسب. إن تَعْلمْ، إذًا، ما هي مضامين المناهج، أو الأنساق،
تُنحِّ جانبًا المناهج والأنساق؛ وتكن في تعلمٍ لأشياء عما تقوم بفعله
ونفس فِعْل التعلُّم عن الحياة هو فعالية الحياة - صحيح؟ هل قد وضحت
الأمر؟ ليس العيش والتعلم والفعل أشياء ثلاثة منفصلة، إنها شيء لا
يتجزأ.
سائل: لم أفهم فكرة لماذا يكون التحليل ضارًا للمرء؛ إنها فكرة صعبة.
كريشنامورْتي:
ألم تتعب بعد ساعة ونصف؟
سائل: لا البتة.
كريشنامورْتي:
لا البتة؟ لم لا؟ (ضحك) مهلاً دقيقة، يا سيدي. لم لا؟ إذا كنت تستمع
بانتباه - وأنا لا أنتقدك - فلقد تعبت، ألم تتعب؟
سائل: لا أحسبني كذلك.
كريشنامورْتي:
سيدي، لقد كان مكلِّمكم في عمل ولتبقَ مسايرًا له عليك أن تعمل أيضًا.
ليس الأمر هو "هو يتكلم" و"أنت تستمع" بل إننا نمضي في رحلتنا معًا
ونحن نتكلم، نتعلم عن أنفسنا، عن العالم، عما يحدث في العلاقة مع
العالم. في تعلمك عن هذا كله، فمن الواضح أن عقلك تعب، حتمًا، بعد يوم
من العمل والجلوس هنا. لقد تعبت، حتمًا! لكن لا بأس، سوف أبحث في هذا
السؤال ومن ثم نقف.
قال مكلِّمكم إن عملية التحليل تنطوي على بضعة أمور - أحدها هو الزمان.
من الواضح أن التحليل ينطوي على قضاء يوم بعد يوم حال القيام به. الأمر
الآخر هو أن من الواجب على المحلل أن يحلل بحذر شديد جدًا، وإلا فإنه
سوف يخطئ. من أجل التحليل تحليلاً دقيقًا يجب عليه أن يتحرر من
التحامل، من الاستنتاجات، من الخوف. إن يقع تشويه ما في العملية فإن
ذلك التحليل سوف يخلق فقط المزيد من أوجه القصور. ولقد شرحنا أيضًا أن
المحلل ليس مختلفًا عن الشيء الذي يحلله. متى تفهم هذا كله، وليس جزءًا
واحدًا فقط - الزمان، عملية التحليل، القرارات، الاستنتاجات التي ستحول
بينك وبين الاستمرار في المضي بتحليل واضح، وأنت ترى أن المحلِّل هو
المحلَّل - متى ترَ كلية هذا فإنك لا تعود إلى التحليل من جديد أبدًا.
متى لا تحلل تر الأشياء مباشرة لأن المشكلة تصبح شديدة، مستعجلة. مَثَل
ذلك كرجل ذي إيديولوجيا في اللاعنف ومعنيٌ، بسبب ذلك، بأمر كيف يصبح
لاعنفيًا، وليس بكيف يتحرر، الآن، من العنف كله. إننا معنيون بالحرية
من العنف الآن، وليس غدًا.
متى يلاحظ المرء عملية التحليل هذه بأكملها - وقد أصبحت موضة - متى يرَ
ما تنطوي عليه، ليس لفظيًا فقط بل عميقًا، يرفضها. متى تنفِ شيئًا
باطلاً فإنك تكون حرًا في رؤيته، فإنك ترى ما هي الحقيقة. بيد أن
الواجب عليك أولاً هو نفي ما هو باطل.
*** *** ***