التوسع العربي الإسلامي تاريخيًا؛ غزو أم فتح؟

 

حمزة رستناوي

 

سؤال المعيار

ما هو المعيار الذي نستخدمه للحكم على، وتوصيف الظواهر التاريخية؟ أصحاب الأيديولوجيات الإسلامية والقومية العربية يعتبرونه فتحًا مباركًا بلا شكٍّ، بينما من يعادون الأيديولوجيات الإسلامية والقومية العربية سوف يعتبرونه مجرَّد غزو عسكري همجي ليس أكثر! والمقاربة التالية تحاول البحث عن معيار للتوصيف والاصطلاح بعيدًا عن الأدلجة والتصوُّرات العقائدية المُنحازة.

في الدلالة اللغوية

غَزَا العدوَّ: هاجمه، سار إلى قتاله في أرضه، الغَزْوةُ: المَرَّة من الغزو والجَّمع غَزَوات وغَزْوَات (معجم المعاني الجامع).

فتَحَ الْبِلاَدَ: دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْ غَلَبَ أَهْلَهَا وَأَخْضَعَهَا لِسُلْطَتِه. الفتوحات: ما فُتح من البلدان في الحرب (معجم المعاني الجامع).

بمراجعة الدلالة اللغوية المعجمية لكلمتي الغزو والفتح لا نجد فرقًا كبيرًا، كلاهما يشيران إلى منطق الغلبة والقتال، ولم تكن دلالة الغزو سلبية آنذاك، حيث لا يجد عموم المسلمين اليوم حرجًا من تسمية حروب دولة الرسول بغزوات، كغزوة بدر وغزوة الخندق ونحوها. مع ذلك تشير كلمة الغزو إلى الطارئ مقارنة بالفتح الذي يكون أطول زمنًا، كما تشير كلمة الغزو إلى حرب وقتال فقط، مقارنة بالفتح الذي يرتبط أكثر بدلالة سياسية حضارية ترافق الحرب والقتال.

محاكمة التاريخ بمفعول راجع!

اشكالية المصطلح بين الغزو والفتح، هي اشكالية حديثة ظهرت في بدايات القرن العشرين، مع انبعاث الحركات القومية المحلية كالقومية السورية والقومية الفرعونية ولبنان الفينيقي... الخ، كذلك مع انبعاث الهويَّات الفئويَّة ما قبل وطنية عرقيَّة كانت أم دينيَّة، كما في حالة الأقباط في مصر أو الموارنة في لبنان أو حالة الكرد والأشوريين في سوريا العراق، أو الأمازيغ في المغرب العربي... الخ. ينبغي النظر إلى اشكالية المصطلح هنا في سياق الصراع الفئوي الهويَّاتي في العالم العربي الإسلامي، وكيف تنظر الفئويات القومية والدينية إلى نفسها ومحيطها الذي هو في الغالب عربي إسلامي. من الضروري تجنُّب محاكمة التاريخ بمفاعيل راجعة وبمقياس معاصر، لا ينبغي إعادة صوغ المصطلحات بما يلائم نزاعات أيديولوجية راهنة بحيث يتحوَّل التاريخ إلى استمرار بمفعول راجع للصراعات والأحوال الاجتماعية السياسية الحاضرة، وهو ما يُعرف في علم التاريخ Chrono-centrism. من هذا المنظور لا ينبغي تصوُّر وجود مبدأ المواطنة المتساوية تاريخيًّا في الدول العربية الإسلامية، هذا المبدأ وهذه الأفكار لم تكن شائعة ومطروحة للتداول في العالم القديم، وفي دول القرون الوسطى، ومبدأ المواطنة المتساوية ينافي الأيديولوجيا الدينية الإسلامية السائدة آنذاك، من جهة أن المسلمين لا يمكن مساواتهم بغير المسلمين من أهل الكتاب والكفَّار والمشركين! أو من جهة استثناء طبقة العبيد أيضًا! لم يكن هذا حكرًا على الدول العربية الإسلامية آنذاك، بل هو قاسم مشترك بين كلِّ الامبراطوريات والدول المجاورة والمُزامنة، وفي هذا يمكن المقارنة مع الامبراطورية الرومانية البيزنطية أو الامبراطورية الساسانية أو الصينيَّة حتَّى. إذًا لا يمكن الحديث آنذاك عن المواطنة المتساوية بل يمكن الحديث عن التعايش والتسامح المعروض على النسبية، مثلاً كيف كان المسلمون يُعامَلون في الامبراطورية البيزنطية؟ أو الامبراطورية الكارلينجية الفرنجية؟ حيث يغيب الوجود المُستوطن للمسلمين! كيف كان المسيحيون يُعاملون في الدول العربية الإسلامية آنذاك؟ ما هو وضع السكان اليهود مثلاً بالمقارنة بين الدول العربية الإسلامية وغيرها آنذاك! هذا على صعيد الفئويات العقائدية الدينية، بالإضافة إلى ذلك ينبغي النظر إلى البناء الطبقي للمجتمعات آنذاك وإمكانات الانتقال من طبقة إلى أخرى، ضمن مجتمعات المسلمين وغير المسلمين أنفسهم، والموقف الديني من ذلك! كلها عناصر ينبغي أخذها بعين الاعتبار.

حربٌ على النفوذ والسيطرة

من الواضح تاريخيًا أن امتداد الامبراطوريات العربية الإسلامية والدولة العثمانية لاحقًا، لم يكن سلميًّا ولم يكن لغاية نشر الإسلام وهداية السكان المحليين إلا بشكل جزئي. كانت حروبًا تستهدف امتداد النفوذ والسيطرة والبحث عن موارد اقتصادية جديدة إضافة إلى البعد الأيديولوجي العقائدي. لقد كانت الدولة الراشدية والأموية والعباسية ومن ثم العثمانية دولاً ذات أيديولوجيات إسلامية سنّية بلا شك، بينما كانت الدولة الفاطمية ذات أيديولوجيا شيعية اسماعيلية مثلاً، ولم تكن هذه الدول استثناء عن طبيعة الدول في تلك العصور، فالدول آنذاك كانت تقوم على عصبيَّة عائلية وذات صبغة دينية في غالب الحالات. الأيديولوجيا الدينية كانت عاملاً مُحفِّزًا على التوسع والحروب، بلا شك هي أحد العوامل المؤثرة في السياسات الداخلية والخارجية للدولة بالإضافة إلى عوامل سياسية اقتصادية اجتماعية (قبلية – عرقية) أخرى.

السياسة في مواجهة الدين!

لنتوقف عند سرد تاريخي منسوب إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي يُلقَّب بخامس الخلفاء الراشدين (99 -101 للهجرة) حيث توحي سيرته المكتوبة كما وصلت إلينا، بالاستقامة الدينية – الأخلاقية. يورد الطبري في تاريخ الرسل والملوك في أحداث مئة للهجرة، في سبب عزل الجرَّاح بن عبدالله والي خرسان، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح يشكو كثرة دخول الناس في الإسلام، وهذا ما سوف يتسبب في انقاص نسبة الضريبة من نصاب الجزية إلى نصاب الزكاة التي تُفرض فقط على المسلمين! "كتب عمر إلى الجراح: أنظر من صلَّى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام، فقِيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورًا من الجزية، فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدًا ص داعيًا ولم يبعثه خاتنًا"[1]. وفي رواية أخرى يوردها ابن كثير "فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدًا ص داعيًا ولم يبعثه جابيًا. وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج"[2]. تطرح هذه السردية التاريخية صراعًا مُحتدمًا بين مصالح المشروعية العقائدية للدولة ومصالح السلطة السياسية من جهة كونها سلطة مستبدة.

خارج معادلة الغزو والفتوحات!

استمر الحضور العربي الإسلامي ما يقارب أربعة عشر قرنًا في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقيا، ومازال البعد العربي الإسلامي حاضرًا بقوة في ثقافة المجتمعات القاطنة في هذه الجغرافيا السياسية. المجتمعات المحلية في غالبها تفتخر بتاريخها العربي الإسلامي ولا ترى نفسها غريبة عن الفضاء العربي الإسلامي، لقد اعتنقت هذه المجتمعات في غالبيتها دين الفاتحين لأسباب عقائدية واجتماعية سياسية، ولكن عندما أتيح لهذه المجتمعات حكم نفسها في التاريخ سواء عبر تشكيل دويلات على أرضها من أبناء جلدتها، أو إبان طور الاستقلال عن الاحتلالات الاوربية، لم نجدها تخرج عن الفضاء العربي الإسلامي، بالطبع هذا لا يلغي خصوصياتها ومشروعية قيام دول وطنية حديثة، قائمة على المواطنة المتساوية واحترام الخصوصيات الثقافية للفئويات الدينية والقومية المختلفة ضمن حدودها. ما قصدته أن الغزو عادة ما يكون طارئًا ذا طابع عسكري دونما تأثيرات ثقافية اجتماعية عميقة بعيدة المدى. من هنا لا يمكن تفسير ما حدث بكونه مجرد غزو عربي إسلامي. كذلك لا يمكن تزوير التاريخ وأسطرته وتقديم توسع الدول العربية الإسلامية (راشدية – أموية - عباسية) أو الدولة العثمانية بكونه فقط لنشر دعوة الإسلام، أو الادِّعاء بأنَّ هذا التوسع كان سلميًّا قليل العنف أو حتَّى قليل المجازر! لقد كانت الأهداف السياسية الاقتصادية حاضرة وبقوة منذ البداية. كان الإسلام ومنذ عهد دولة الرسول مشروعًا سياسيًا بامتياز. مشروع دولة توسعية بأيديولوجيا دينية، بما كان سائدًا في العالم ذلك الزمن. وفي هذا نلتقي مع ما يقوله حسام عيتاني في كتابه الفتوحات العربية في روايات المغلوبين في ضرورة تجاوز، أولاً- الرواية التقريظية التمجيدية ببطولات العرب في الفتوحات، ثانيًا- الرؤية التبخيسية التحقيرية لكل ما قام به العرب على امتداد تاريخهم[3].

دول متعددة الأقوام والعقائد الدينية

الدول العربية الإسلامية تاريخيًا كانت امبراطوريات متعددة الفئويات الدينية والعرقية، حيث عاش المسلمون فيها بجانب المسيحيين واليهود والصابئة، وضمن الإسلام نفسه نجد فئويات عقائدية سنية وشيعية مختلفة، ومن جهة ثانية عاش العرب بجانب الترك بجانب الفرس بجانب الكرد بجانب البربر بجانب الأقباط... الخ، ما قصدته هو التأكيد على سِمَات الحضور السياسي – الثقافي المتفاعل متعدد الثقافات والإثنيات، لم تكن الدول العربية الإسلامية السابقة أو الدولة العثمانية مجرد دول استبدادية فقط.. بل كانت وفي كثير من مراحلها تتحوَّى منظومة التعاون الصوري منطقيًا[4] بحيث يوجد مجال للتعايش والانخراط المشترك في الحياة الثقافية والسياسية أمام غالب هذه الفئويات، مع أولوية لصالح الفئويات المُسلمة على غيرها. لنتذكر على سبيل المثال لا الحصر بأن معظم علماء اللاهوت المسلمين لم يكونوا من أصول عربية، ولكنهم كانوا ينتمون للثقافة العربية الإسلامية، أصحاب الكتب الستة الأكثر شهرة في رواة الحديث النبوي عند السنَّة لم يولدوا في مدن عربية ولم يكونوا من أصول عربية، فالإمام مسلم من نيسابور في بلاد فارس، وأبو داوود من سجستان، والنسائي من خرسان، والترمذي والبخاري من أوزبكستان حاليًا، وابن ماجة من نواحي بحر قزوين كذلك. كثير من علماء اللغة العربية ومؤسسيها لم يكونوا من أصول عربية، سيبويه ولد في البيضاء من بلاد فارس ومعنى سيبويه في الفارسية "رائحة التفاح" حيث كانت أمُّه تلقِّبه تحبُّبًا بذلك. الكسائي مؤسس مدرسة الكوفيين في النحو كان من أصول فارسية كذلك. وما يقال عن هؤلاء يقال كذلك على معظم الفلاسفة العرب المسلمين من ابن سينا إلى الطبيب أبو بكر الرازي الذي ولد في مدينة الري قرب طهران حاليًا، بينما كان الفيلسوف يعقوب ابن اسحاق الكندي مسيحيًا من بني كنده. في العهد الأموي كان ابن آثال طبيب معاوية بن ابي سفيان ووزيره وواليه على حمص مسيحيًا، وكان الشاعر الأخطل مسيحيًا من بني تغلب، وكان يوحنا الدمشقي وزيرًا ومستشارًا في بلاط عبد الملك بن مروان والخلفاء الأمويين وكان مدافعًا متحمِّسًا عن المسيحية. قليلاً ما يُذكر صلاح الدين الأيوبي بصفته كرديًا! بل هو شخصية ما زالت تحظى بالتقدير والانتماء للثقافة العربية الإسلامية. قليلاً ما يُذكر طارق بن زياد بصفته أمازيغيًا على الأرجح! بل هو شخصية مازالت تحظى بالتقدير والانتماء للثقافة العربية الإسلامية. لستُ في وارد تقديم صورة وردية حالمة للتاريخ العربي الإسلامي فهو تاريخ حافل بالانقسامات والصراعات والتحالفات والبطولات والمجازر والاضطهادات فيه من الإيجابيات والسلبيات الكثير، ولكن صيرورة التاريخ العربي الإسلامي لا يمكن اختزالها تحت مُسمّى الغزو العربي والغزاة المسلمين. العثمانيون لم يكونوا عربًا! السلاجقة لم يكونوا عربًا! الزنكيون من أصول تركية، والأيوبيين لم يكونوا عربًا بل من أصول كردية! لنتذكر بأن تأسيس الدولة الفاطمية بزعامة عبيد الله المهدي 910 م. في المغرب العربي استند أساسًا على تبنِّي قبيلة كتامة الأمازيغية لهذه الدعوة (الشيعية) مثلاً! قامت دولة المرابطين ومن بعدها دولة الموحدين على أساس عصبية قبلية أمازيغية مع أيديولوجيا سنية، حيث كان (أمير المسلمين يوسف بن تاشفين) أمازيغيا من قبيلة صنهاجة على سبيل المثال لا الحصر. ولا ننسى في العصر الحديث ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي (ذو الأصول الأمازيغية) ضد الاستعمارين الفرنسي والاسباني. في الأندلس كان اليهودي حسداي بن شبروت مستشارًا ووزيرًا للخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث وقد انتعشت في هذه الفترة الثقافة اليهودية العبرية كما نجدها عند (مناحيم بن ساروق) الذي وضع معجمًا مفهرسًا للغة العبرية، وقد تميَّز شعراء عبريين من قبيل سولومون بن غابيرول ويهودا حلبي وصموئيل بن ناكريلا.. كل ذلك قبل أن يتم اضطهادهم على يد المرابطين والموحدين لاحقًا. لنتذكر بأن الدولة العباسية باستثناء المئة سنة الأولى من حكمها كانت فعليًا تحت القادة الترك السلاجقة والفرس البويهيون ومن ثمَّ المماليك (من أصول تركية قوقازية شركسية مغولية) ثمَّ إن اللهجات العربية المختلفة المُنتشرة ليست سوى نتاج تفاعل وتثاقف لغوي بين لهجات القبائل العربية ولغات السكان المحليين في الشام ومصر والعراق والمغرب العربي والسودان، اللغات الفارسية ولغة الأوردو في باكستان مازالت تُكتب بالخط العربي، كذلك اللغة التركية حتى بداية القرن العشرين كذلك.

الهاجريون أم السراسنة! في التاريخ المُبكر للصدام!

أطلق سكان بلاد الشام على العرب المسلمين – استمرت الأعمال الحربية ما بين 634-638 للميلاد - القادمين من جوار شبه الجزيرة العربية تسميات مختلفة، منها الاسماعيليون أي أبناء اسماعيل بن النبي ابراهيم وفقًا لما ذكره المؤرخ الأرمني سيبيوس، وهو المؤرخ الأكثر قربًا في التاريخ لهذه الأحداث، والذي بدأ بتدوين تاريخه 675 للميلاد. كذلك برزت تسميات أخرى منها الهاجريون، أي أبناء هاجر خادمة وزوجة النبي ابراهيم وفقًا للتراث اليهودي المسيحي، وثمَّة كتاب بعنوان الهاجرية: صناعة العالم الإسلامي للمستشرقة الدانماركية باتريسيا كرون والإنكليزي مايكل كوك يستفيض في شرح ذلك... ما قصدته أنَّ سكان بلاد الشام القاطنين في ذلك الوقت - أغلبهم من المسيحيين اليعاقبة، كانوا متمرِّدين على الكنيسة البيزنطية الملكانية الرسمية - لم ينظروا، في حدود معقولة، إلى القادمين الجدد كغرباء بل كأقرباء بعيدين لهم في النسب، ومن ضمن التراث التوحيدي للديانات الابراهيمية. وثَّق المؤرخون ورجال الدين المسيحيين في بلاد الشام أيضًا تسميات باكرة أخرى للقادمين الجدد منها من قبيل الطائيين، نسبة إلى قبيلة طي، ذات الانتشار الواسع في شمال الجزيرة العربية وجنوب بلاد الشام والعراق، كما تداولت كذلك تسمية السراسنة Saracens وهو اسم كان يطلق على عرب الصحراء قبل الإسلام، ويوجد نظريات مختلفة في أصل هذه التسمية، من كلمة الاتجاه "شَرْق" أي السراسنة = الشرقيون، أو قد يكون من فعل "سَرَقَ" أي السراسنة = السرَّاقون، أو قد يكون نسبة إلى مدينة Saraka في بلاد النبط وفقًا للمؤرخ البيزنطي ستيفينس في كتابه Ethnika، أو نسبة لمنطقة Sarakēnē في العربية الحجرية وفقًا لوصف بطليموس[5].

في نقد الحرب الدينية المقدَّسة في مسيرة التوسُّع العربي الإسلامي

1. ناصر جزء من العرب المسيحيين الفاتحين المسلمين في حروبهم في العراق وبلاد الشام، حيث ناصر بنو تغلب المسيحيون الوليد بن عقبة عند فتحه الجزيرة الفراتية، وقاتل بنو تغلب كذلك إلى جانب المسلمين ضد الروم البيزنطيين، وقاتل الشاعر المسيحي أبو زيد الطائي الفرس في معركة الجسر عام 12 للهجرة، وساند العرب المسيحيون المسلمين في حصارهم لمدينة تكريت.

2. بينما حارب جزء من العرب المسيحيين الفاتحين المسلمين حيث كان جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة على رأس جيش من المسيحيين العرب إلى جانب الروم البيزنطيين في معركة اليرموك.

3. هذه السرديات التاريخية تزعزع الصورة النمطية عن الحرب الإسلامية المقدسة ضد الكفار (النصارى) كما تؤكد استحالة وجود فئوية قومية موحَّدة، كما تؤكد على ضرورة عدم تنميط قاطني بلاد الشام والعراق ضمن جسد قومي أو ديني أو جغرافي صلب ومتجانس، كل فئوية دينية أو قومية يوجد فيها اتجاهات وصراعات وتضامنات مختلفة، وبإمكانات تتراوح بين الانفتاح والانغلاق. في سياق مشابه يمكن ذكر ثورة عمر بن حفصون في الأندلس على الحكم الأموي، حيث استمر حكمه على الرعايا المسلمين والمسيحيين رغم اعتناقه المسيحية، واستمرت علاقته بالولاة المسلمين المنافسين للحكم الأموي من العباسيين والفاطميين في شمال أفريقيا، وفي هذه الحالة سوف تلعب الولاءات التقليدية الطبقية-الاقطاعية دورًا مشابهًا للولاء الديني في ترسيخ حكمه عمر ومن ثم أولاده. لم تكن علاقة العرب المسلمين بأهل البلاد المفتوحة علاقة بسيطة وفقًا لمبدأ الغالب والمغلوب، إذ كيف نفسِّر أن الجيش المسلم الذي غزا الاندلس كان في جزء كثير منه من البربر والمصريين! كيف نفسر أن استمرار الفتوحات ما بعد بلاد فارس، كان عبر استخدام الفُرس المسلمين أنفسهم وتحمُّسهم - جيوش من أخلاط عرقية - لهذا الغزو! كيف نفسر أن دولاً قوميَّة شكَّلها المغلوبون كانت بدورها تتبنى أيديولوجيا الفاتحين المسلمين، مثال الدولة السامانية في ايران وامارات السلاجقة والأراتقة والعثمانيين، حيث قدَّمت مفاهيمَ للإسلام تناسب خصوصياتها القومية والثقافية.

مقارنة بين الفتوحات العربية والاستعمار الأوربي!

هل من صفات مشتركة ما بين ظاهرة (الفتوحات العربية الإسلامية) وظاهرة (الاستعمار الغربي الأوربي) رغم اختلاف السياقات؟ نترك الإجابة اقتباسًا من المستشرق الأميركي جون تولان:

يوجد مجموعة من المتشابهات والمتوازيات، منها أن الفتوحات الإسلامية والاستعمار الغربي حمل كل منهما رسالة خلاصية دينية في الحالة الأولى، وتحضيرية تنويرية في الحالة الثانية، وأن الظاهرتين جاءتا لحاجات الشعوب التي برزت فيها الرسالتان العرب والأوربيين، من دون الاهتمام بأوضاع الشعوب التي توجهت إليها الفتوحات والحملات الاستعمارية إليها، وإذا كان صحيحًا أن أحدًا لم يستدع الاستعمار - على الأقل موجته الأولى حيث ظهرت في بعض الانحاء دعوات حقيقية أو مصطنعة لمجيء المستعمر وعقد المعاهدات معه - لاحتلال بلاده، فإنَّ أحدًا لم يطلب من المسلمين المجيء إلى دياره ونشر رسالتهم فيها. نحتاج إلى الكثير من التدقيق في أخبار المصادر العربية والإسلامية عن طلب شعب بعينه ازاحة هذا الحاكم أو ذاك عن كاهله.[6]

نحو فهم حيوي للعروبة والإسلام

تتجاوز العروبة كونها فقط عرقًا وقومية مخصوصة بل هي فضاء ثقافي حضاري غنيٌّ يشمل مجموعات عرقية وقومية مختلفة وُجدت تاريخيًا وتفاعلت مع بعضها البعض، هي فضاء ثقافي حضاري شَمَل ويشمل الأكراد والآشوريين والأقباط والأمازيغ والسريان وغيرهم إلى حدود كبيرة، بالطبع دونما تميز سياسي فئوي ضدَّهم أو معهم ودونما انكار لحقوقهم الثقافية. يتجاوز الإسلام كونه عقيدة دينية فقط، بل هو فضاء ثقافي حضاري مُشترك يشمل المسيحيين المشرقيين وغير المؤمنين بالخاصة، كما يشمل كل التعبيرات المُمكنة عن الإسلام من مذاهب وتيارات.. وضمن هذا الاعتبار يمكن قبول مصطلح (الفتوحات العربية الإسلامية) دونما تقديس أو تطهير لهذا الحدث التاريخي الهائل المؤسس لما بعده. كذلك لا يمكن نفي صفة الغزو العسكري عنه فقد جاء آنذاك في سياق صراعات وتوسع امبراطوري، ولم يكن خالصًا لوجه الله، بعيدًا عن المغانم الدنيوية كما يروِّج دعاة الإسلام السياسي وأسطورة دولة الخلافة الإسلامية!

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي (مينا)، 14 سبتمبر 2018

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967، ج 7، ص 556.

[2] البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، دار عالم الكتب، الرياض، 2003، ج12، ص 664.

[3] الفتوحات العربية في روايات المغلوبين، حسام عيتاني، دار الساقي، ط1، 2011، ص 14.

[4] فقه المصالح، رائق النقري، دار الأمين، القاهرة 1999، انظر إلى فقرة " لمحة عن التحوِّيات الفئوية والمعرفية وحيوية منظومتها المنطقية"، ص 58-59.

[5] للمزيد راجع كتاب: الفتوحات العربية في روايات المغلوبين، مرجع سابق، الفصل الأول: العرب السراسنة الطائيين الهاجريون، ص21-37. راجع كذلك مقال أسماء عُرف بها العرب والمسلمون في الغرب، بشار بكور، موقع معهد الفتح الإسلامي alfatihonline.

[6] الفتوحات العربية في روايات المغلوبين، مرجع سابق، ص 265.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود