قصائد مختارة
أوكتافيو باث
ترجمة: أسامة أسعد
جسدٌ على مرأى
ها قد انفتحت غياهبُ الظُّلمةِ ثانيةً،
وانكشفَ جسد:
شعرُكِ، خريفٌ سميكٌ، شلَّالٌ شمسيٌّ،
فمُكِ وانضباطُ أنيابه المفترسة هذه
حبيسة المياه الراكدة.
بشرتُك الخبزُ الذهبيُّ
وعيناكِ السُّكّرُ المحروقُ،
مطارح خارجَ الزمنِ،
وأوديةٌ لا ترتادُها إلّا شفتاي،
والموكبُ القمريُّ الطالعُ
من نهديكِ إلى الثغرِ
وشلّالُ عنقكِ الرخاميُّ،
هضبةُ بطنِكِ المنبسطة،
وشاطىءُ خاصرتكِ الممتدُّ
إلى اللانهاية،
عيناكِ، عينا نمرٍ،
وبعد دقيقةٍ، مبلَّلتان كعيون الجِراء،
ظهرُكِ يتدفَّقُ أمام عينيَّ
كظهرِ النهرِ في وهجِ الحريقِ.
وتهبُّ من فمي الريحُ،
وأنينُها المبحوحُ
يُسدِلُ جناحيه الرماديينِ
على ليل الأجساد
كظلِّ نسرٍ على وحدة الصحراءِ،
أظافرُ قدمِك مشغولةٌ
ببلّورِ الربيع،
وبين ساقيكِ
بئرُ ماءٍ ناعسٍ،
خليجٌ، فيه يهدأُ البحرُ ليلاً،
حصانُ زبدٍ أسود،
كهفٌ في سفح الجبلِ
يخفي كنوزًا،
كُوَّةُ تنُّورٍ
حيثُ ينضجُ
خبزُ القرابينِ المقدَّسُ.
شفتاك الباسمتان المفترَّتان المعذَّبتان،
أعراسُ ضوءٍ وعتمة
للمرئيِّ وللخفيِّ
(هنا ينتظرُ الجسدُ قيامتَه ويوم الحياة الأبدية)
وطن الدماء،
الأرض الوحيدة التي، أعرفُها وتعرفُني،
والوطن الوحيد الذي،
أؤمنُ أنه البوابة الوحيدة
إلى ما لا نهاية.
*
نافورة ماء
ساعة الظهيرة، تشامُخُ العالم.
والحجارة التي تمحو عنها الريح ما كتبه بغباوةٍ الزمنُ،
الأبراجُ المميِّلةُ جباهها بحلول المساء،
السفينةُ التي انحرفت على الشاطئ الصخريِّ منذ قرون،
الكنيسةُ الذهبيَّة المترنحة تحت حمل صليبٍ خشبيٍّ،
الباحات التي إذا عسكر فيها الجيش يصير عرضة لكل خطر،
القلعة الراكعة أمام الضوء الذي ينبثق صاعدًا من الهضبة،
الحدائق وكورس أشجار الحور والبلوط التي توشوش،
الأقواس والأعمدة المصممة على مقدار المجد، والسور الذي يغفو مفتوحًا
على الشمس، منهارًا على
مرارته وعلى نفسه،
مفترق الطرق حيث لا يتسكع غير الانطوائيين مبغضي البشر، الصنوبر
والصفاف،
الأسواق ووابلاتها من الصراخ،
الجدار الذي لا نعرف من بناه، ولا لماذا، جدار الحجر المسلوخ حيًا،
كل ما سُمِّر في الأرض حبًا للمادة العاشقة - يرفع مرساته
ويصعد بين يدي الساعة المقدسة.
عالم حجري قديم يرتفع ويحلِّق!
شعب من الحيتان والدلافين يلعب في عين السماء تحت رَشاش المجد،
والقلوب الحجرية الكبرى التي يجرها إعصار القيظ البطيء،
تقطر ضوءًا وتشعشع سعيدة بين الغيوم.
ترمي المدينة قيودها في النهر، ومفرَّغةً من ذاتها،
من حملها من الدماء، من حملها من الزمن، ترقد جمرًا وشمسًا في عين
الإعصار.
يهدهدها الحاضر.
كل شيء حضور: كل القرون هذا الحاضر.
عين سعيدة لا ترى، فالآن كل شيء حضور، من خارجها تنظر إليها رؤيتُها
عينُها!
تغوص بيدها، تقبض على البرق، على السمكة الشمسية وعلى الشعلة في كل
أزرق،
على النشيد الذي يهدهد نار النهار!
وتتدفق الموجة، تطرحني أرضًا، تحطم الطاولة والأوراق وتعلِّقني على
ذروتها، موسيقىً توقفت في أوجها،
ضوءًا لا يرفُّ، لا يتراجع ولا يتقدم.
كل شيء حاضر، مرآة غير مفضّضة: لا ظل، لا وجه داكن، والكل عينٌ.
كل شيء حضور، أنا حاضر في كل شيء، ولكي أرى أحسن وأحترق أكثر، أنطفئ،
أهوي فيَّ، أخرج منّي، أصعد حتى القذيفة لأسقط حتى الفأس:
وتنفجر
الكرة الكبرى، كرة الزمن المتقد الكبرى، الثمرة التي تراكِم كل عصارات
التاريخ، والحضور والحاضر،
تنفجر كمرآة محطمة وقت الظهيرة، كظهيرة محطمة على جسد البحر والملح.
ألمس الحجر، لا يجيبني؛ أمسك الشعلة، لا تحرقني: ماذا يخفي هذا الحضور؟
ما من شيء وراءه، فالجذور احترقت والأساسات متسوسة،
يكفي أن أرفع يدي حتى تنهار كل هذه العظَمة.
ولكن من الذي سيقدر على تولِّي هذه العظَمة، ولا أحد يقدر على تولِّي
انكفائه وتخلِّيه؟
أدخل في جوف ذاتي، لا أجيبني، أنا منفى،
فقدت وجهي بعد أن فقدت الجسد والروح.
أمرُّ أمام عينيَّ دون أن تكون أي من حركاتي لي.
من الذي سيتولَّى
هذيان قتل الموت بخفقة خفيفة من جناح الصورة،
وقضاء الليل الطويل في نحت جسد الصاعقة الفوري،
بينما ليل الحب، جسر معلق بين هذه الحياة والأخرى؟
لا يؤلمني الجرح القديم، لا يحرقني الحرق القديم، فمكانَ الفصل
والاقتلاع من الجذور، والفم الذي منه يتكلم الموت في الحلم، وتتكلم
الحياة، ندبةٌ ممحوَّة وخفية.
لن أبذل الحياة من أجل حياتي: قصتي الحقيقية شيء آخر.
لا تزال المدينة تنتصب واقفة.
تحط الشمس بسلام على راحتها اليمنى.
ويشتد ماء النوافير المتدفق بياضًا وعلوًا.
كل شيء يستقيم وينتصب كي يسقط أفضل.
وذاك الذي سقط تحت فأس هذيانه، ينتصب واقفًا.
من جبينه الجريح يسيل عصفور أخير.
إنه توأم ذاته،
المراهق الذي يأتي كل قرن ليقول بضع كلمات، نفسها دائمًا،
والعمود الشفاف الذي ينطفئ ويشعشع وينطفئ بوتيرة سرعة كتابة القدر.
وفي وسط الساحة، تنتصب رأس الشاعر المحطمة نافورةَ ماء.
*
الغائب
1
أيها الإلهُ النهمُ الذي يُغذِّيه أرَقي
أيها الإلهُ الجافُّ الذي تروي ظمأكَ الأبديَّ بدموعي،
أيها الإلهُ الخاوي الذي تدقُّ صدري بقبضةٍ من حجر، بقبضةٍ من دخان،
أيها الإلهُ الذي تتخلَّى عني،
أيها الإلهُ القفرُ، الصخرة التي تغسلُها صلاتي،
أيها الإلهُ الذي تُجيبُ الإنسان المتسائل بصمتٍ بعدُ أكبر،
أيها الإلهُ اليابسٌ، إله العدم، يا إلهي:
دمٌ، دمُك، يقودُني الدمُ ويدلُّني.
دمُ الأرض،
دمُ البهائم ودمُ النبات الوسنان،
دمُ المعادن المتحجِّر، دمُ النار التي تنام في الأرض، دمُك،
دمُ النبيذ المهتاج الذي يغني حين يجيء الربيعُ،
أيها الإلهُ الممشوقُ والشمسيُ،
إلهُ البعثِ،
النجمةُ المتقدةُ،
الناي الساهدة التي ترفع نداءها العذب بين الظلال المُنهوية،
آه أيها الإله الذي يستدعي في الأعراس النساء الهاذيات
ويُرقِّصُ بطونهنَّ الكوكبيَّة وأردافهنَّ الوحشيَّة،
والنهودَ الساكنة والكهربائية
إذ تعبرُ الكونَ المذعورَ العاري،
والامتدادَ الجافَّ لليل المنهار.
دمٌ،
دمٌ يلطخُكَ أبدًا بأمجاد بربرية،
الدمُ المسفوك ليلة القربان،
دمُ الأبرياء والكفرة،
دمُ أعدائك ودمُ عبادك الصالحين،
دمُك، دمُ قربانك.
2
بك أعلو، أهبطُ
عبرَ ذُرِّيتي،
حتى بئر التراب
حيث يختفي نسلي في أنسال
أكثر قدمًا، بلا اسم،
أنهارًا عمياء في سهول من رماد.
بحثتُ عنك، أبحثُ عنك،
في الأمس القاحل، خنفساء العقل الدائري؛
في الأحلام المكتظة بنبوءات قاطعة،
وفي السيول السوداء التي يطلقها الهذيان:
الفكرُ سيفٌ
يضيءُ ويُدمِّر
وبعد البرق لا شيء
سوى سباق حتى اللانهاية
حيث نجد أنفسنا قبالة الجدار.
بحثتُ عنك، أبحثُ عنك،
في غضب اليائسين النقيِّ،
حيث يتجمَّع البشر ليموتوا من دونك،
بين لعنةٍ وزهرةٍ ذبيحة.
لا، لم تكن في هذا الوجه المتكسِّر إلى ألف وجهٍ متساوٍ.
بحثتُ عنك، أبحثُ عنك
بين أطلال الليل الخراب،
في جثث الضوء الهارب،
في الطفل المتسوِّل على الأسفلت، الذي يحلمُ بالرمال وبالأمواج،
لدى الكلاب الليلية،
ووجوهِ الغيمة والندبةِ،
والخطوات المقفرة لأكعاب تمشي في نومها.
فيَّ، أبحثُ عنك؛
هل أنت وجهي لحظةَ يمَّحي، اسمي الذي، إذ قيلَ، يتفتَّتُ، هل أنت
غيبوبتي؟
3
كلمة التكوين،
تكوين الكلمة،
حجرٌ وترابٌ، موكبٌ،
خضرةٌ مفاجئةٌ،
نارٌ أبدًا لا تخبو،
ماءٌ يشعشعُ في كهف:
أنت لست موجودًا، لكنك تحيا،
تقيمُ في قلقنا،
في عمق اللحظة الخاوي
-يا
للضجر-،
في العمل وفي العرَق الذي هو ثمرتُه،
في الحلم الذي يُنجبُ الجدار الذي ينهى ويمنع.
أيها الإله الفارغُ، الإلهُ الأصمُّ، يا إلهي،
أنت دمعةٌ لنا، تجديفٌ،
كلمةُ وصمتُ الإنسان،
برجُ البكاءات، عددُ الدم،
شكلٌ رهيبٌ للعدم،
عنكبوتُ الخوف،
قفا الزمن،
نعمةُ العالم، سرٌّ لا يُسبَر،
أرني وجهك الذي يحيلُ إلى العدم،
حتى أعودَ إلى التراب، إلى النار المدنَّسةِ.
*** *** ***