علم الطبيعة في الفلسفة الأداتية
(جيمس – بوانكاريه)
معاذ قنبر
مقدمة
يعتبر الاتجاه الأداتي امتدادًا طبيعيًا للمدرسة البراغماتية التي
يمثلها الفيلسوفان الأمريكيان تشارلز بيرس (1839 – 1914)، ووليم جيمس
(1842 – 1910). وقد نظرت تلك الفلسفة إلى المعرفة باعتبارها تعبيرًا
ذاتيًا ونفعيًا عن العالم. فالحقيقة هي التصور الذي نحققه فنجعله
صادقًا بتصديقنا إياه، وبالتالي فإن المعرفة هي اختراع شيء جديد،
كاكتشاف شيء سبق وجوده، ولكن هذا الاختراع ليس اختراعًا تعسفيًا، بل هو
كالاختراع الصناعي الذي إنما يتقدم بفضل فائدته العملية فقط. فالقضية
الصادقة هي التي تزيد من سيطرتنا على الأشياء، ونحن نخترع الحقائق
لنستفيد من الوجود، كما نخترع الأجهزة الصناعية لنستخدم القوى
الطبيعية، فمثلاً دوران الأرض لا يستند إلى تجربة بمعنى الكلمة، لكنه
عبارة عن فرض مفيد في تصور الظواهر، وهو أكثر فائدة من فرض دوران الشمس
حول الأرض، لذلك تحول هذا القانون إلى قانون علمي.
لقد اعتمدت الفلسفة البراغماتية على مبادئ قائمة على الاعتقاد بأن
التفكير مرتبط ارتباطًا متلازمًا بالعمل، وأن النظريات والمذاهب إنما
هي فروض للعمل، تمتحن على أساس ما ينتج عنها من المواقف الفعلية
للحياة، وأن المثل الأخلاقية العليا فارغة عقيمة إذا انفصلت عن وسائل
تحقيقها، وأن الحقيقة ليست ثابتة، وليست نظامًا كاملاً، بل هي عملية
جارية وفي تغير مستمر، وأن الإنسان ليس ألعوبة بيد قوى خارجية، لكنه
يستطيع إعادة تشكيل الظروف التي تصوغ خبرته بعزمه وإرادته. بذلك تكون
المعارف عند البراغماتيين ناتجة عن الخبرة، التي هي تفاعل متنامي
دائمًا بين الكائن الحي وبيئته. فالمعرفة ذاتها هي وسيلة لتنظيم
الخبرة، إذ تغدو البراغماتية هنا صورة من صور التجريبية التي تستمد كل
أصالتها من الفكرة التي تكونها التجربة، لكنها تعرف التجربة لا عن طريق
الالتجاء إلى حدود المكان، بل إلى حدود الديمومة. فأن تقوم بتجربة عند
البراغماتية، يعني أن تفعل، وقيمة التجربة تقاس بنجاح الخطوات التي
تكونها، فتصبح التجربة هنا ضرب من ضروب الفعل، لا منهجًا من مناهج
المعرفة.[1]
تلك النظرة الفلسفية امتدت نحو قوانين الطبيعة التي اعتبروها عبارة عن
قواعد للسلوك، نتوخاها عند استخدامنا لوقائع العالم الخارجي. فقوانين
الفيزياء جميعًا، تتسم بشيء من احتمالية الخطأ وعدم الدقة، بما فيها
قوانين نيوتن والديناميكا الحرارية، فهذه هي أيضًا قوانين احتمالية،
لاعتبارات عملية لا لاعتبارات منطقية، فنحن نجد أن المتغير التابع في
قانون بويل في الغازات، الذي يشير إلى النسبة العكسية بين ضغط الغاز
وحجمه، تختلف قيمته الفعلية بنسب مئوية طفيفة عن القيمة المشار إليها
في القانون نفسه، مما يدل على أن للقانون مدى ومجالاً من حيث التطبيق،
فهو متوسط تقريبي مفيد في نطاق معين، وبالتالي فإن القوانين تقريبات
نافعة.[2]
وكل حقيقة نسبية، نسبية بالقياس إلى شروط ولادتها، وإلى الانحرافات
والأمزجة التي توحي بها، وهي نسبية أيضًا قياسًا إلى النتائج التي تصدر
عنها والتي تجعلها رفيعة المستوى وهامة. لذلك يرى جيمس أن الأسئلة
الميتافيزيقية بلا معنى، لأنها عبثية لا نتائج مباشرة أو غير مباشرة
لها على حياة الإنسانية، فأن يكون العالم نهائي أم غير نهائي، وأن
نمتلك نفسًا خالدة أم لا، فهذا فعليًا لا يغير شيئًا من الوجود
الواقعي، وبالتالي تغدو هذه الأسئلة عديمة القيمة.[3]
وقد نجد أن البراغماتية هنا تتلاقى مع الفلسفة الوضعية، إلا أن هناك في
الواقع بعض الفروقات بينهما: فمثلاً عندما نتناول موضوع القضية الفردية
أو المشخصة، نجد أن القضية الفردية عند أصحاب الاتجاه الوضعي المنطقي،
جملة قابلة للصدق أو الكذب، لأنها قابلة للتحقيق والمراجعة عن وقائع
العالم الخارجي، وبالتالي فإن الانطباعات الحسية هي مضمون القضية. أما
القضية الفردية عند البراغماتيين والأداتيين، فهي ذات مهمة إجرائية
تؤديها في عملية البحث، وهي مثلها كمثل العدد والآلات، لا توصف بالصدق
أو الكذب، بل توصف بأنها صالحة أو غير صالحة.[4]
فالأداتية تجعل للتفكير وظيفة وضعية، هي إعادة تكوين الحالة الراهنة
للأشياء، لا مجرد معرفتها أو اتخاذ نسخة عنها. إن التفكير وفق
البراغماتيين هو واسطة لاستجابات معقدة مع مؤثرات البيئة.
وليم جيمس
إن خلاصة مذهب الأداة عند وليم جيمس، هو أن العقل والعلم والتفكير
عامة، هم في خدمة الحياة، وأنهم أدوات ضرورية للكفاح في الحياة. والحق
هو ما يؤدي إلى تحقيق فعل، أو يشير إلى باعث على فعل تقتضيه الحياة،
فالحق يتحقق صدقه بنتائجه العملية، حيث يؤكد جيمس أن البراغماتية هي
منهج مرادف للموقف التجريبي، فهي لا تفرض مقدمًا أي نتائج بعينها، بل
هي مجرد وسيلة للتعامل مع العالم، وهذا أدى به إلى القول بأن النظريات
العلمية هي أدوات للسلوك في المستقبل. ولا إجابات مقبولة نهائيًا عن
أسئلة حول الطبيعة، فمن الواجب ألا نرى في النظرية تعاويذ سحرية من
الكلمات التي تتيح للساحر أن يُحكم قبضته على الطبيعة، بل إن
البراجماتي يصر على فحص كل لفظ بدقة، مطالبًا ما أسماه جيمس بـ (قيمته
النقدية)، ولا يبقى بعد هذا إلا نقطة واحدة نحو التعريف البراجماتي
للحقيقة، بأن ما له نتائج مثمرة، وإلى مثل هذا الموقف ينتهي تصور جيمس
الوظيفي للحقيقة.[5]
إن النظريات عند جيمس ليست إلا وسائل لغايات، ولا يمكن أن تكون نظرية
ذهنية بدلاً صحيحًا من حقيقة واقعية، بيد أن المرء قد يعتبرها كذلك
لغاية يرجوها، والرغبة في أن تتضح الأمور وتكون معقولة، أو السرور
الناشئ عن توحيد الأشياء بصيغة أو دستور عام ليست إلا غرضًا واحدًا من
الأغراض الكثيرة التي يمكن أن يرجوها الإنسان.[6]
حيث يقول:
الأفكار تكون حقًا، بمقدار ما تعيننا على الظفر بعلاقات مُرضية مع
أجزاء أخرى من خبرتنا، والفكرة تكون حقًا، حين تحملنا بنجاح من جزء من
الخبرة إلى جزء آخر رابطةً الأشياء ربطًا مُرضيًا، وإذا كانت صفات
الحقيقة القصوى تحدد الأمور المتوقعة في المستقبل، فإن العقل يقبلها
بكل رضا واطمئنان، ولو كانت غير مستساغة منطقيًا، ولكنها إذا تركت
المستقبل عرضة للاحتمالات، فإنها تسبب عدم طمأنينة للعقل وتورثه تعبًا
وألمًا.[7]
وبالتالي فإننا عندما نكوِّن نظريات حول العالم فإننا نفعل ذلك لندرك
الأشياء إدراكًا يسبب لنا الرضا النفسي، وإذا كان هناك رأيان وكان
أحدهما في جملته أقرب إلى العقل من الآخر، فإن لنا أن نفترض أن القريب
إلى العقل منهما هو الأحق. إن مبدأ السببية مثلاً هو عبارة عن كلمة
جوفاء، لا تدل إلا على رغبة في أن تكون الحوادث مرتبطة بعضها مع بعض
ارتباطًا أعمق من مجرد تلك المصاحبة الصدفوية التي تبدو في عالم
الحوادث.[8]
وعليه لا يكون السؤال الذي يسأله العقل حول الجديد من الأشياء، هو ذلك
السؤال النظري (ما هذا)، بل هو سؤال عملي (ما الذي يتصل به وما ثمرته).
وقد تابع جون ديوي (1859 – 1952)، هذه النظرة فدافع عن النظرية التي
تعتبر الذات والموضوع متصلين، ذلك أن الانفصال بين الشخص المفكر،
وموضوعات الفكر انفصالاً تامًا هو نوع من الثنائيات التي صنعها
الفلاسفة، ولا وجود واقعي لها في الواقع. فمن الخطأ أن نعزل الأمور
خارج الخبرة، ونجعلها فقط موضوعات للمعرفة. والطريق الصحيح لمعرفتها،
هو أن ندرسها في حالة وجودها داخل الخبرة.[9]
لذلك رفض ديوي عزل قوانين الفكر أو العلاقات عن العالم الواقعي الذي
نفكر فيه، فمهمة المنطق الأساسية، هي البحث عن علاقة الفكر بالواقع من
حيث هو كذلك، حيث الصلة بين الفكر والواقع لا انفصام بينها.[10]
وعليه، بدلاً من أن نتخذ الحكم أساسًا للتفكير، كما فعل كانط، يقترح
ديوي أن نجعل الموقف أساسًا للتفكير، وأن نصل بين الموقف والبيئة
الخارجية من جهة، وبين الشخص من جهة أخرى، فلو كانت قضايا العلوم
الطبيعية مطلقة كلية، ومبتعدة عن الحياة العملية المباشرة للفرد، فإنها
ستكون عديمة النفع من الناحية العملية، لأنها تعجز عن التطبيق ما دامت
منعزلة عن الاتصال الفكري بالحالات الفردية التي نريد أن نطبق عليها.[11]
وبالتالي فإن الإيمان بالإمكانيات المتعددة لمختلف أنواع الخبرة، يكون
مصحوبًا بالمتعة بالكشف الدائم والنمو المستمر. لذلك امتدح ديوي بيكون
وتجريبيته، على اعتبار أنه فتح باب العلم الحديث، وجعل العلم قوة يتسلح
بها الإنسان في هذا العالم. ومع ذلك هناك نقاط تعارض بين البراغماتية
والتجريبية بمعناها الكلاسيكي لدى الفلاسفة الإنكليز: ففي حين أن
التجريبية الكلاسيكية تقول إن الحقيقة معطاة، وليس علينا إلا أن نسجلها
تسجيلاً سلبيًا باعتبار الحقائق قائمة في الظواهر والروابط التي بينها،
نجد البراغماتية وقد وضعت في مقابل هذا التصور الاستاتيكي للحقيقة
تصورًا ديناميكيًا، فالمعرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفعل، الذي تمثل
هي لحظة من لحظاته، وبذلك فإن المعرفة ليست مجرد نسخة أو صورة أخرى من
الحقيقة التي توجد مستقلة عنها، بل هي تقدمية متحركة، وهي بمعنى ما من
المعاني، تصنع الحقيقة التي لا توجد إلا بها.[12]
وقد نظرت الفلسفة البراغماتية بشكل عام إلى القوانين العلمية باعتبار
أنها تقدم لنا قوالب عامة لا تظهر فيها الظواهر أبدًا إلا على نحو
تقريبي، وعلى هذا ليست القوانين كلها إلا قوانين تقريبية. والجبرية
التي تفرضها هذه القوانين، لا تخضع لها المادة إلا في فترات متباعدة
ومتغيرة تزداد بعدًا كلما أخذت الظواهر في التعقيد، كما أن القوانين لا
تعد متلائمة مع الوجود المحسوس حقًا، إلا في الأحوال التي تكون فيها
مجردة جدًا.[13]
وهذا هو السر في أن المذهب المادي – حسب جيمس – لا يمكن أن يحوز قبولاً
عامًا مهما كان صريحًا وواضحًا في صهره الأشياء وضمها في وحدة ذرية،
وفي تنبؤه ببقاء الأشياء وخلودها، لأنه لا يرى أن موضوعات ميولنا
النفسية التي نقدسها أكبر تقديس هي موضوعات حقيقية، ولا يرى كذلك أن
لنا في تلك الميول فائدة وجدانية،[14]
إذ يقول:
يصر الفلاسفة الطبيعيون اليوم على أن العقيدة جزء من ميولنا واتجاهاتنا
العقلية، ولكنهم وبطريقة تحكمية محضة يقولون بأن ليس لنا الحق أن
نوجهها إلا نحو قضية واحدة، وهي أن حوادث الطبيعة تجري على نظام واحد،
بيد أن هذا لا يمكن الجزم به يقينًا، وكل ما يمكن الجزم به، هو أنه يجب
علينا أن نفترض هذا الاطراد، لتتأتى لنا الحركة ونقدر على العمل.[15]
من تلك الصورة تكوَّن الاتجاه الأداتي في العلم، وهو اتجاه ينظر إلى
القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها أدوات للربط بين الظواهر،
والتنبؤ بها، والسيطرة عليها، وبناءً على تلك الأسس توصف القوانين
بالصلاحية أو عدمها، فهي ليست تعميمات استقرائية، أو قضايا إخبارية ذات
محتوى معرفي عن العالم التجريبي توصف بالصدق أو الكذب. كما أن قيمة
النظرية العلمية تقاس بقدرتها على أداء وظائف العلم، وليس بالقدرة على
التعبير عن الوقائع بصدق.
بذلك أطاح الأداتيون بالأساس الاستقرائي للنظريات العلمية، وألقوا
مشكلة الاستقراء وراء ظهورهم، ليتحول العلم عندهم إلى مجرد نسق منطقي
من عبارات هي دوال منطقية، إذ أصر الأداتيون على أنه لا يمكن اعتبار
القانون العلمي مشتقًا من الاختبارات التجريبية، لأن القانون عام
والتجربة جزئية، والقانون محدد بدقة أما التجربة فهي تقريبية.[16]
إن القانون هو نتاج العقلية العلمية المبدعة التي تكشف عن عمليات
منطقية، أكثر مما تكشف عن وقائع تجريبية، بذلك تغدو الأهمية
الابستمولوجية للقانون والنظرية، تنحصر في المواءمة والاتساق والبساطة
في الفكر.
لكنهم، وعلى خلاف الوضعيين المناطقة، لم يشنوا حملة هوجاء على
الميتافيزيقا رغم رفضهم لها، بل اقتصروا على حدود العلم، وحاولوا
تجريده من الأبعاد الأنطولوجية التي تسمح بتسلل الميتافيزيقا. بذلك
تكون العلوم الطبيعية حسب تعبير جيمس، ليست إلا فصلاً من فصول وأدوار
الشعوذة العظمى التي تلعبها قوانا الإدراكية مع نظام الوجود كما تمثله
لنا الحواس، فهي تحول ذلك المستوى الميت والاستمرار الممل في عالم
الحس، إلى عالم آخر فيه كثير من المفارقات الحادة والطبقات التي يخضع
بعضها لبعض. والغرض من ذلك التحويل هو إرضاء رغباتنا وميولنا الذاتية.[17]
وما يحاول أن يلزمنا به المنطقيون من قوانين، ليس إلا أثرًا لرغبتهم
الطبيعية في أن ينحّوا كل العناصر التي لا يجدون لها فائدة في مهنتهم
المنطقية. إن ما ينادي به هذا المذهب، هو أنه يجب الاعتراف بأن لنا
الحق في أن نعتقد فيما نشاء من الفروض، ما دام فيه من الحيوية ما يُغري
إرادتنا بذلك.[18]
هنري بوانكاريه
رفض بوانكاريه (1854 – 1912) رفضًا تامًا التفسير التجريبي لأصول
الرياضيات، محاولاً أن يجعل من الرياضيات علمًا عقليًا خالصًا، أما في
الفيزياء فنجده يميز بين عناصر التجربة والنتائج الإخبارية من جهة،
وبين عناصر التعقل البحت والقوانين الجزئية من جهة أخرى، فيرى أن دور
العناصر التجريبية هي في القوانين الجزئية فقط، صحيح أن التجربة تصدق
على قوانين نيوتن الثلاثة مثلاً، إلا أن التجربة لا يمكنها أبدًا
انتهاك هذه القوانين أو إثبات خطئها، وهي ستظل لذلك إلى أبد الآبدين
صحيحة، فهي مجرد اصطلاحات وتعريفات متفق عليها، ونحن نقبلها لأنها
الأبسط، ونمارس البحث العلمي كما لو كانت هي أبسط نظرية على الرغم من
صعوبة إثبات ذلك. لقد ظل بوانكاريه في الواقع يعتبر نظرية إقليدس
وقوانين نيوتن فوق مطاول الاختبار التجريبي، على الرغم من معاصرته ظهور
نظريات حديثة عارضت تلك النظريات الكلاسيكية.
وقد مد بوانكاريه الاتفاق في المفاهيم إلى بنية الفكر الاستقرائي نفسه
قائلاً:
لا أريد أن أعبث في أسس الاستقراء، كون صعوبة تعليل هذا المبدأ لا
توازيها إلا صعوبة التخلي عنه، ولكن فقط أريد تبيان كيف يطبقه العلماء
(عندما يحدث نفس السابق، فإن نفس النتائج يجب أن تحدث بدورها) هذه هي
الصياغة العادية للمبدأ الاستقرائي، غير أنه إذا ما رُد إلى هذا الشكل
فإنه لا يصلح لشيء، فلكي تقول أن نفس السابق قد وقع، يجب أن تكون كل
الشروط قد وقعت لأنها مسؤولة جميعها، ويجب أن تكون قد حصلت بالضبط،
وبما أن هذا لن يحصل، فإن المبدأ المذكور لن يجد له أي تطبيق، ينبغي
إذًا أن نعدل الصياغة فنقول (إذا أنتج مرة سابقٌ (أ) ناتجًا (ب) فإن
سابقًا (أ1) قليل الاختلاف عن (أ) ينتج (ب1) قليل الاختلاف عن (ب).
وقد قدم بوانكاريه نظريته عن السببية قائلاً:
في الواقع الفيزيائي السبب لا يؤدي إلى نتيجة، وإنما هناك أسباب كثيرة
متمايزة، تساهم في حدوث النتيجة من غير أن يكون لدينا وسيلة لتمييز دور
كل واحدة منها، والفيزيائيون يسعون إلى القيام بهذا التمييز لكنهم لا
يقومون به إلا بشكل تقريبي دومًا، فمثلاً: إنه ليكاد أن يكون صحيحًا
القول إن حركة البندول لا تخضع إلا لجاذبية الأرض، ولكن إذا شئنا الدقة
الكاملة، فإننا يجب أن ندخل في الاعتبار كل القوى الجاذبة الأبعد،
كجاذبية نجم الشعرى اليمانية مثلاً، ففي هذه الظروف نجد أنه من الواضح
أن الأسباب التي أدت إلى نتيجة معينة، لا يمكن أن تتكرر إلا بشكل
تقريبي، وفي هذه الحالة يجب القول بأن الأسباب المماثلة تقريبًا،
تستغرق نفس الوقت تقريبًا، لإحداث نفس النتائج تقريبًا.[19]
من تلك التصورات طرح بوانكاريه مفهومه الذرائعي الأداتي في العلم
قائلاً:
ليست هناك قاعدة عامة ولا دقيقة في الفيزياء، بل عدد من القواعد
الدقيقة القابلة للتطبيق على كل حالة خاصة، هذه القواعد ليست مفروضة
علينا ويمكن أن نتسلى بخلق غيرها، غير أننا لا يمكن أن نبتعد عنها من
غير أن نعقِّد كثيرًا من طرق التعبير عن قوانين الفيزياء والميكانيكا
والفلك، إذن فنحن نختار تلك القواعد لا لأنها صحيحة، بل لأنها الأكثر
ملائمة، وكل تلك القواعد والتعاريف ليست سوى ثمرة انتهازية لا شعورية.[20]
وبالتالي من الخطأ وصف نظرية ما بالصحة، إذ ليس هناك نظرية صحيحة
بإطلاق، والنظريات تتعدل وتتميز باستمرار، وكم من نظرية لا تكون صحيحة
أو غير صحيحة، وإنما تكون ملائمة أو غير ملائمة.
وعلى غرار الفلسفة الأداتية، يخالف بوانكاريه الوضعية باعترافه
بموضوعية العالم الخارجي دون ربطه بالإحساسات فقط، فهناك علاقات وواقع
موضوعي تدلنا عليه العلاقات الثابتة، لكن هذا الواقع لا يمكننا الإمساك
به كليًا، بل فقط نجدُّ ونسعى لبلوغه، لكننا لن نبلغ الحقيقة الكلية
الطبيعية الخافية مطلقًا، بل كل ما هنالك أننا خلال جرينا وسعينا وراء
حقيقة الطبيعة، نكوِّن لأنفسنا صورة تقريبية تزداد دقة بتحسن معارفنا
وتعديل نظرياتنا. فالحقيقة الموضوعية إذا موجودة، وتعاقب النظريات
علامة على أننا نقترب منها، وليس هناك شيء ثابت تارة نسميه حركة، وتارة
نسميه حرارة، وتارة نسميه قوة...، فهذه ليست أسماء متغيرة مع تغير
الحقيقة التي نراها، وإنما هي مواضعات نستعملها كأدوات مؤقتة، قصد
الوصول إلى الحقيقة التي ننشدها والهاربة منا دومًا.[21]
ومن خلال فكرة المواضعة أكد بوانكاريه أنه لا ينبغي لنا أن نطرح هذا
السؤال "أيهما على صواب؟" ذلك أن كل نظرية فيزيائية هي مجرد طريقة لوصف
العالم نفسه، وهناك طرق لا نهائية يمكن للعلماء الاستعانة بها في وصف
عالمهم، ومن ثم فإن المسألة تصبح مسألة مواضعة اتفاقية. هنا يعيد
بوانكاريه نداء الفيلسوف الألماني لايبنتز الذي أعلن أنه إذا لم يكن
لديك من حيث المبدأ وسيلة للمفاضلة بين قضيتين، فإنه لا ينبغي أن تقرر
أن لهما معنيين مختلفين، فإذا تضاعفت مثلاً أحجام كل الأجسام في عالمنا
هذا أثناء الليلة السابقة، فهل سيبدو العالم غريبًا في نظرنا في الصباح
التالي؟ أجاب لايبنتز أنه لن يكون ذلك، لأن حجم أجسامنا ذاته سوف
يتضاعف، ومن ثم فإننا سنفقد الوسيلة التي عن طريقها يمكننا أن نلاحظ أن
ثمة شيئًا قد تغير. وقد طبق بوانكاريه هذا النداء على البنية الهندسية
للمكان بحيث أصبح بإمكاننا أن نجد الدليل التجريبي الذي يقترح بأن
المكان الفيزيائي لا إقليدي، كما يمكننا الاحتفاظ دائمًا بالمكان
الإقليدي الأكثر بساطة إذا كنا نرغب في تفسير عالمنا. من هذا المنطلق
يمكننا أن نأخذ بأي تفسير سواء أكان إقليديًا أو لا إقليديًا لتفسير
حوادث الكون، ولكلا التفسيرين نجاح موازٍ.
خاتمة
لقد أضافت الفلسفة الأداتية تصورًا جذابًا عن العقل الإنساني المبدع
وهي بذلك قد تكون قدمت إرهاصات أولية عن الفلسفة الناتجة عن الفيزياء
الكوانتية ومبدأ التتامية عند بور، لكنها تعرضت بالمقابل لأنصار التيار
الحتمي من مؤسسي الكمومية أمثال الفيزيائي الألماني ماكس بلانك، الذي
أكد على أنه بالرغم من أن نشاط الأداتية ضروري ونافع، لكنه ينطوي على
خطر لا يستهان به، حيث أن الصورة الفيزيائية للعالم تختفي، فتظهر صورة
فارغة من المحتوى، كما انتقدها فيلسوف العلم الشهير كارل بوبر، معتبرًا
أن الأداتية تغفل الفوارق الجوهرية العميقة بين العلوم البحتة
والأساسية، وبين التطبيقات التكنولوجية، فتنظر إلى ميكانيكا نيوتن
تمامًا كما تنظر إلى القواعد الحسابية لوضع جدول الملاحة أو ضبط آلة
التصوير أو سواها من تمثلات العلوم التطبيقية والهندسية.[22]
*** *** ***