عن الساتياغراها
تيموثي فلندرز
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، 1906
"جنوب أفريقيا هي ممثِّل للحضارة الغربية، في حين أن الهند هي مركز
الثقافة الشرقية. ويعتقد المفكرون المعاصرون أن هاتين الحضارتين لا
يمكن أن تلتقيا. وإذا اجتمعت أمم ممثِّلة لهاتين الثقافتين المتنافستين
حتى في تجمعات صغيرة، ستكون المحصلة حدوث انفجار فحسب. فالغرب يعارض
البساطة، في حين يعتبرها الشرقيون فضيلة ذات أهمية خاصة. كيف يمكن
التوفيق بين وجهتي النظر المتعارضتين هاتين؟...
قد تكون الحضارة الغربية صالحة، وقد لا تكون، لكن مشيئة الغربيين هي
الإخلاص لها. لقد سفحوا أنهارًا من الدماء من أجلها. ولذا فات الأوان
بالنسبة لهم لكي يخطُّوا مسارًا جديدًا. ومن هذا الاعتبار، لا يمكن أن
حصر القضية الهندية في إطار حرص على احتكار تجاري أو كراهية عرقية.
فالمشكلة ببساطة هي سعي كل طرف إلى صون حضارته الخاصة...
الهنود يثيرون النفور في جنوب أفريقيا بسبب بساطتهم وصبرهم ودأبهم
واقتصادهم في الإنفاق واعتناقهم وممارستهم مناسك غيبية مختلفة.
والغربيون مقدامون ومتأفِّفون ومستغرقون في مضاعفة حاجاتهم المادية
وإشباعها، كما أنهم مغرمون بلذيذ الطعام والشراب وحريصون على المحافظة
على العمل الجسدي ومسرفون في العادات. ولذا يخشون من أن يؤدي استيطان
ألوف من الشرقيين في جنوب أفريقيا إلى زعزعة أوضاعهم. فالغربيون في
جنوب أفريقيا ليسوا مستعدون للانتحار، كما أن قادتهم لن يسمحوا لهم
بالانحدار إلى مثل هذا الوضع الحرج".
الساتياغراها، عمليًا، هي نهج لحلِّ الصراعات. فمن المتعارف عليه أن
"يُحلَّ" الصراع بين أطراف متنازعة بأسلوب واحد لا غير: الإقرار بهيمنة
أحد الخصوم على الآخر. فالافتراض هو أن بوسع طرف واحد فقط الانتصار على
الطرف الآخر. قد يتحقق الانتصار بالاستماع إلى صوت العقل أو الإقناع
بالحجة والمنطق، بالتهديد أو الابتزاز، أو بالقوة، لكن الافتراض هو
ذاته في كل الأحوال: إذا كان لابد من رابح، فلابد من وجود خاسر. حتى
التسوية تستند إلى هذا الافتراض، إذ يحاول فيها أحد الطرفين الحصول على
أكبر قدر مما يستطيع على حساب الطرف الآخر، مساومًا إلى أقصى حدٍّ تسمح
له الظروف فيه.
الساتياغراها تفنِّد هذا الافتراض. فبدلاً من محاولة قهر الخصم أو
تجريده من حقه في المطالبة، تسعى الساتياغراها إلى تجفيف منابع النزاع.
وكما أوجز غاندي ببلاغة: "[الساتياغراها] تسعى إلى تصفية العداوات وليس
المتعادين أنفسهم". وجهة النظر هذه حاسمة لأنها تميِّز الساتياغراها عن
سواها من مناهج العمل الاجتماعية التي تسعى فقط إلى نهايات تبدو مُرضية
في ظاهرها. الغاية من الساتياغراها ليس تقويم المظالم، فهذا أمر عرضي
إزاء هدفها النهائي الذي هو تجفيف المنابع التحتية للنزاع والعداوة
وانعدام الثقة. الساتياغراها تسعى إلى حل النزاع عن طريق إقناع الخصم
بالقيمة العامة لرؤيتها اللاعنفية، حيث سيكسب – ونكسب – الكثير بالتآلف
عوضًا عن الشقاق. وإحداث هذه الهداية لدى الخصم هو دومًا الهدف الأولي
للساتياغراها، وإن تنوَّعت مناهجها الفعلية باختلاف الظروف.
الساتياغرها لا تحاول، كما هو حال العنف، أن تقصي الخصم عن المشاركة في
الحل. فهي، على العكس، تحاول أن تحوِّل الخصم وتغريه بالشراكة والإفادة
من الحل، و"تهدف إلى تعزيز وضع كلا الطرفين". وهي لا تنظر إلى الخصم
كعدو ينبغي إخضاعه، بل كشريك في البحث عن حل حقيقي للنزاع. فبدلاً من
إبادته، تسعى الساتياغراها إلى كسبه إلى جانب الحقيقة، "إلى فطمه عن
خطأه".
"هذا هو في الجوهر مبدأ اللاتعاون اللاعنفي. ولذا من المفترض أن
يتأصَّل في المحبة. يجب ألا يكون غرضه معاقبة الخصم أو إلحاق الأذى به.
فحتى في حال عدم التعاون مع الخصم، علينا أن نجعله يشعر أن هناك في
داخلنا صديق له وأن نحاول الوصول إلى قلبه بتقديم الخدمة الإنسانية له
ما أمكن".
"المبدأ الأساسي الذي ترتكز عليه ممارسة اللاعنف هو أن ما يصحُّ بخصوص
ذات المرء ينطبق على الكون برمته. كل الناس متشابهون في الجوهر. ولذا،
ما هو جائز بالنسبة لي، هو جائز بالنسبة للجميع".
تقدم الساتياغراها رؤية جديدة للحقيقة واللاعنف. وتنجم ثقة غاندي بأن
الخصم سوف يتبنى أخيرًا هذه الرؤية من إيمانه بأن لدى جميع الناس نفس
الحافز لاكتشاف الحقيقة، وبـ "أننا جميعًا مَطْليِّين بذات الفرشاة".
ولأن الساتياغراهي يرى نفسه وخصمه مجسِّدين للحقيقة ذاتها، فهو يؤمن
ضمنيًا بأن تحلِّيه بـ "الصبر والتعاطف اللامحدودين" سيجعل الخصم
يستجيب إلى هذه الرؤية. فالساتياغراهي يحاول تغيير علاقة الصراع إلى
علاقة يسودها التقدير والاحترام والثقة، ويعمل على تطهيرها من الارتياب
وسوء النية. وهذا التحول ليس موضع شك. فالساتياغرهي يوظِّف الثقة
والدعم والتعاطف – واستعداده للمعاناة، إن اقتضت الضرورة – لكي ينوِّر
قلب الخصم ويعطِّل معارضته تدريجيًا.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، 1914
"ومن ثم توصلنا إلى اتفاقية مشروطة بعد ثمان سنوات من الكفاح وتم تعليق
أنشطة الساتياغراها... لم يكن من السهل جعل الهنود يصادقون على هذه
الاتفاقية. لا أحد كان يرغب في إخماد الحماسة التي ثارت آنذاك. فمن ذا
سيثق مرة أخرى بالجنرال سْمَتس؟ وقد ذكَّرني أحد الأشخاص بالفشل الذريع
في العام 1908 قائلاً: 'لقد خدعنا الجنرال سْمَتس في ما مضى، وأثقل
كاهلك بقضايا شائكة، وأخضع الجالية إلى معاناة لا تنتهي. وما يثير
الشفقة هو أنك لم تتعلم الدرس الضروري من تجربة الثقة به تلك! سيخونك
هذا الرجل مرة أخرى، وسوف تضطر مجددًا إلى إحياء الساتياغراها. لكن
مَنْ حينها سيصغي إليك؟'...
"لم تباغتني مثل هذه الحجج لأنني كنت أعرف أنها جاهزة. ليس من المهم كم
من الخيانات يتعرض لها الساتياغراهي، فهو سيضع ثقته في الخصم طالما ليس
هناك أسس مقنعة لعدم الثقة. فالألم بالنسبة للساتياغراهي يتساوى مع
اللذة. وبالتالي لن يجعله الخوف الصرف من المعاناة يتوه في أزقة عدم
ثقة بلا أساس. ومن جهة أخرى، وبالتعويل على قوته الخاصة، كما يفعل
دومًا، سوف لن يهتم بتعرضه للخيانة من قبل الخصم، وسيواصل ثقته بالرغم
من الخيانات المتكررة، وسوف يزداد إيمانه بأنه بهذه الطريقة يعزز قوى
الحقيقة ويجعل النصر أقرب... عدم الثقة هي دلالة على الضعف،
والساتياغراها تقتضي ضمنًا إقصاء كل ضعف وبالتالي اجتناب عدم الثقة
التي هي في غير محلها إن كان المراد استمالة الخصم وليس تحطيمه".
في محاولته لاستمالة الخصم، يسعى الساتياغراهي إلى التعاون مع هذا
الخصم بكل السبل الممكنة من أجل بناء حالة من الثقة والاحترام. هذه
العملية جوهرية بالنسبة للساتياغراهي، فعلى أساس هذه الثقة يُبنى الصرح
الذي سينطلق منه كلا الطرفين بحثًا عن حل لنزاعاتهما. وفي الواقع، ليست
الشروط الحالية للحل محط اهتمام رئيسي لحركة الساتياغراها؛ فهي تحاول
تأسيس علاقة ثقة يمكن فيها لشروط جديدة أن ترى النور. وبالتالي فهي
تجدُّ في طلب التعاون أولاً وعلى الدوام:
"رغم أن اللاتعاون هو أحد الأسلحة الرئيسية في ترسانة الساتياغراها،
يجب ألا يغيب عن بالنا أنه مجرد وسيلة لضمان تعاون الخصم مع الحقيقة
والعدالة على نحو متسق... وبالتالي فإن اجتناب أية علاقة مع طرف معارض
ليس غرضًا للساتياغراهي على الإطلاق، بل تحويل وتنقية تلك العلاقة".
إذا كانت الغاية الأساسية للساتياغراها إقناع خصمها برؤيتها، فأين هو
دور الطرق الأخرى مثل العصيان المدني والإضراب واللاتعاون؟ يحاجج غاندي
بأنه عندما يفشل الاحتكام إلى العقل، توفر هذه الطرق للساتياغراهي فرصة
المعاناة التي هي السلاح الأخير والأنقى لدى الساتياغراهي لضمان رؤيته.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، فولكسرست، 1913
"في غضون ذلك، أمضينا بضعة أيام سعيدة في سجن فولكسرست، حيث كان ينضم
إلينا كل يوم سجناء جدد ومعهم أخبار عما يحدث في الخارج. كان من بين
السجناء الساتياغراهيين رجلاً عجوزًا يناهز الخامسة والسبعين من العمر
ويدعى هارباتسينه. لم يكن يعمل في المناجم التي كان الهنود قد أعلنوا
الإضراب فيها. كان عقد عمله قد انتهت صلاحيته منذ سنوات ولذا لم يكن من
بين المضربين. وبدا الهنود أكثر حماسة واندفاعًا إثر اعتقالي، وتم
القبض على الكثير منهم لدى عبورهم من ناتال إلى ترانسفال. كان
هارباتسينه أحد هؤلاء المتحمسين.
"سألت هارباتسينه: 'لماذا أنت في السجن؟ أنا لم أدعُ الرجال المسنين من
عمرك إلى تشريف السجن'.
أجاب: 'كيف يمكنني الإحجام عن ذلك عندما تدخل أنت وزوجتك وأطفالك السجن
من أجلنا؟'
'لكنك لن تكون قادرًا على تحمل مشاق حياة السجن. أنصحك بمغادرة السجن.
أتسمح لي بتدبُّر أمر إطلاق سراحك؟'
'لا، من فضلك. لن أغادر السجن مطلقًا. لابد أن توافيني المنية يومًا
ما، وسأكون في غاية السعادة إن كان ذلك في السجن!'
"لم يكن مناسبًا بالنسبة لي أن أزعزع مثل هذه العزيمة التي لم تكن
لتهتز حتى لو حاولت ذلك. فأحنيت رأسي إجلالاً أمام ذلك الحكيم الأمِّي.
ونال هارباتسينه ما تمنى وتوفي في سجن ديربان في الخامس من كانون
الثاني (يناير) 1914".
كانت نظرية غاندي في الساتياغراها مُستخلصَة من تجاربه في جنوب
أفريقيا. ورغم مثالية هذه النظرية في الجوهر، كانت عملية في التطبيق
إلى درجة قصوى. كان غاندي يعيش وفقًا للعقل والمنطق، بيد أنه كان يعرف
أنهما لا يحركان مشاعر الناس. ونظرًا لأن الساتياغراها تتوخَّى تحويل
خصومها فعليًا، فلابد أن تلجأ إلى القلب في نهاية المطاف. ومع ذلك، كان
غاندي دومًا يناشد بالدرجة الأولى عقول خصومه، ويمكن للمرء ملاحظة ذلك
في كل حملاته من خلال فائض المناشدات والعرائض والمفاوضات والمؤتمرات
واقتراح الحلول والعظات. "العملية المتوجِّبة الأداء" هي خطوة أولى في
مسار الساتياغراها، لكن غالبًا ما تكون طرق الأعراف والقوانين والمصالح
مغلقة أمام العقل. أو، وكما هو الحال غالبًا في الصراعات، ما قد يكون
حقيقة بالنسبة لأحد الأطراف يعتبر خاطئًا من وجهة نظر الطرف الآخر. مثل
هذا المأزق يمثِّل نقطة الغليان في حالات الصراع.
"خلال تطبيق الساتياغراها، اكتشفت في السنوات الأولى أن السعي وراء
الحقيقة لم يكن يجيز توجيه عنف ضد الخصم، بل العمل على فطمه عن الخطأ
بالصبر عليه والتعاطف معه. فما يبدو حقيقة بالنسبة إلى أحد قد يبدو خطأ
بالنسبة إلى آخر. والصبر يعني معاناة ذاتية. وبالتالي العقيدة تستوجب
إثبات الحقيقة، ليس إيقاع المعاناة بالخصم بل بالذات".
عندما تُستنفذ كل محاولات تحكيم العقل ولا يتزحزح الخصم عن موقفه، مهما
كانت الدواعي، يكون هناك عادة بديلين: استكشاف سبيل لاستمالة عواطفه أو
إجباره على التخلي عن مطالبه. والطرق التقليدية تعمل وفق البديل الثاني
باللجوء إلى العنف، ماديًا كان أم معنويًا. أما الساتياغراهي فيتجه إلى
تبديد مقاومة الخصم وتغيير منظوره بإيقاع المعاناة على الذات وليس على
الخصم.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، 1906 – الهند، 1931
"حتى العام 1906، عوَّلتُ على مناشدة العقل فحسب. كنت مصلحًا
مثابرًا... لكنني وجدت أن العقل كان يخفق في إحداث وَقْع عندما كانت
تحين اللحظة الحاسمة في جنوب أفريقيا. كان الجالية الهندية ثائرة،
فبدأت تسري أحاديث عن اللجوء إلى أعمال انتقامية تشفي غليل النفوس –
فحتى اللولب المسنن يخرج عن مساره أحيانًا. لقد كان عليَّ حينذاك أن
أختار بين مناصرة العنف أو ابتداع طريقة أخرى لمجابهة الأزمة وإيقاف
الاهتراء. وخطر لي أن علينا رفض الانصياع إلى تشريع مهين، وليودعونا
السجن إن شاؤوا. وهكذا برزت إلى الوجود فكرة المكافئ الأخلاقي للحرب...
منذ ذلك الحين ازدادت قناعتي رسوخًا بأن العقل وحده لا يشكِّل ضمانة
للقضايا البالغة الأهمية بالنسبة للناس، بل ينبغي رفده بالمعاناة.
فالمعاناة هي شريعة البشر، في حين أن الحرب هي شريعة الغاب. لكن
المعاناة أشد قوة بما لا يقاس من شريعة الغاب في تحويل الخصم وفتح
أذنيه، المسدودتين بطريقة ما، من أجل سماع صوت العقل... لقد توصلت إلى
هذه النتيجة الجوهرية التي مفادها: إذا أردت لأمر هام حقًا أن يُنجَز،
عليك أن لا تكتفي بإرضاء العقل، بل إثارة القلب أيضًا. الحجج المنطقية
تخاطب العقل أكثر، أما النفاذ إلى القلب فيأتي من المعاناة التي تحرر
الفهم الداخلي في الإنسان".
وهكذا تغدو المعاناة الذاتية سمة مميزة للساتياغراها، السلاح الأمضى
لتحريك قلوب البشر. لم تكن حركات العصيان المدني وحملات اللاتعاون
والإضرابات طرقًا مُعدَّة لكسر شوكة الحاكمين في جنوب أفريقيا – أو في
بريطانيا، لاحقًا – بل لتليين قلوبهم من خلال معاينتهم للمعاناة التي
يكابدها الساتياغراهيون بسببهم. كانت النتائج المباشرة للعصيان المدني
هي السجن والتجريد من الملكية والإيذاء الجسدي والموت أحيانًا حتى. وقد
أكد غاندي على هذه الرؤية مرارًا: "الساتياغراها وفروعها، اللاتعاون
والمقاومة السلبية ليست سوى عناوين مُستحدثة لقانون المعاناة".
وفي المسعى لبناء الثقة مع الخصم، لابد للساتياغراهي من الحرص على ألا
يضايق الخصم أو يحرجه وأن يعامله بكل لطف واحترام. وبالنسبة لمراقب
عابر لحملات الساتياغراها، ربما كان يبدو مثل هذا المنحى في السلوك أنه
على حساب قضية غاندي. لكن التغيير ليس سهلاً، وقد تتطلب الساتياغراها،
في الصراع السياسي، خرقًا للأعراف والعادات. فالساتياغراهي يدرك أن
التغير الذي يأمله من خصمه سيكون عسيرًا، لذا يسعى إلى أن يكون حذرًا
من تعريضه إلى أية مضايقات وأن يلطف منها قدر مستطاعه. فليس غرض
الساتياغراهي التعدي على الناس أو إزعاجهم وإنما تغيير المنظومات التي
تعيق الرفاه العام.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، ناتال، 1913
"عندما أعلن العمال الهنود في الساحل الشمالي الإضراب، أصبح المزارعون
في ماونت إدجكومب
Mount
Edgecombe
مهددين بتكبد خسائر فادحة إذا لم يتم شحن كامل قصب السكر الذي جرى حصده
إلى المعصرة. لذا عاد 1200 عامل هندي فقط إلى الحقول بهدف إنجاز هذا
الجزء من العمل ومن ثم عادوا للانضمام إلى زملائهم المضربين عندما
انتهوا من ذلك. وعندما أعلن المستخدمون الهنود في مجلس بلدية ديربان
الإضراب عن العمل، عاد الذين كانوا يعملون في قطاع الخدمات الصحية،
وكذلك العاملين كمرافقين للمرضى في المستشفيات، إلى العمل بطيبة خاطر
وواصلوا أداء واجبهم. فلو حدث خلل في الخدمات الصحية، ولم يكن هناك من
يعتني بالمرضى في المستشفيات، لتفشَّت الأمراض في المدينة وحُرم المرضى
من المساعدة الطبية، وما من ساتياغراهي كان راغبًا في مثل هذه العواقب.
لذا تم استثناء العاملين في المجال الصحي من الإضراب. فالساتياغراهي،
في كل خطوة يخطوها، مُلزم أخلاقيًا بمراعاة وضع خصمه. كنت أرى حالات
كثيرة من مثل تلك الشهامة تترك آثارها المنظورة، بل والفعالة، في كل
مكان... وتهيئ جوًا ملائمًا للاستقرار".
المشاركة الوجدانية والصبر والثقة والاستعداد للمعاناة هي "الأسلحة"
الأساسية التي يحول بها الساتياغراهي خصمه ويغير طبيعة علاقة الصراع.
وعوضًا عن الارتياب والعداوة تنشأ الثقة والاحترام والتعاون. وعندما
يتحقق ذلك، كما يعتقد غاندي، ستُحلُّ نقاط الصراع ودِّيًا، لأن "الخصم"
غدا، بمعنى ما، حليفًا، ويدرك الوعد الذي يَعِد به الحل التعاوني لكلا
الطرفين، ويتفهم أن ثمة على المحك ما هو أعلى شأنًا من المصالح الفردية
الخاصة فيعمل على إخضاعها إلى ذلك الوعد. ويسهم الخصم في الرؤية
الساتياغراهية، ولا يلبث أن يصبح ساتياغراهيًا بطريقة ما. "هداية"
الخصم هذه هي المقصد الحقيقي للساتياغراها، واستخدامها للإضرابات
والتظاهرات وما شابه هي مجرد أدوات لتحقيقها.
"الاختبار المفصلي للاعنف هو غياب أي أثر للضغينة في الصراع اللاعنفي،
فيتحول الأعداء إلى أصدقاء في نهاية المطاف. كانت تلك تجربتي في جنوب
أفريقيا مع الجنرال سمتس الذي بدأت علاقتي معه بخصومة مرَّة، لكنه
اليوم من أعز أصدقائي...".
الرؤية التي تحاول الساتياغراها إقناع خصومها بها تتجاوز مظالم معينة
في صراع محدد، مثل تشريع تمييزي أو ضرائب مجحفة، التي هي عادة أعراض
لجور أشد أو "زيف"، وتحسينها هو الهدف الحقيقي للساتياغراها. وعلى هذا
النحو، لا تتعهد حملات الساتياغراها بمجابهة أية مظالم معينة بتعنُّت؛
فهي، في هذا الخصوص، مفتوحة الآفاق. فالساتياغراها، مع التأكيد على
الحد الأدنى الذي لا يمكن الانتقاص منه – الولاء الراسخ للحقيقة
واللاعنف – لا يحدُّها قيد في التكيف مع ديناميات الصراع. ويضفي هذا
الانفتاح على الساتياغراها نوعًا من المرونة التي تجعلها قادرة على
تغيير الموقف حينما تتبدَّى حقيقة وضع ما في ضوء جديد تبعًا لتغير
الظروف. وهذا ما يدعوه غاندي "قانون الارتقاء"
Law of
Progression.
"لقد علمتني تجربتي أن قانون الارتقاء ينطبق على كل صراع مبرر
أخلاقيًا. لكن في حالة الساتياغراها، يبلغ القانون حدَّ المسلَّمة. فمع
تقدم حملة الساتياغراها إلى الأمام، تساعد عناصر أخرى كثيرة على رفد
مجراها فيكون هناك نمو مضطرد في النتائج التي تؤدي إليها. هذا الأمر
محتوم حقًا وغير منفصل عن المبادئ الأولية للساتياغراها. ففي
الساتياغراها، الحد الأدنى هو أيضًا الحد الأقصى؛ وبما أن الحد الأدنى
لا يمكن الانتقاص منه، فلا مبرر للشك في حصول تقهقر، واتجاه الحركة
الوحيد الممكن هو إلى الأمام".
المرونة وفقًا للأحوال تشجع الساتياغراهي على البحث المستمر عن
الحقيقة، حتى ضمن موقف خصمه، وعلى دمج تلك الحقيقة في موقفه هو. وهذا
ما يمثل خطوة حاسمة، لأن مجرد ميل المرء إلى إعادة النظر في موقفه يمكن
أن يبطل مفعول حالة الصراع، مما يجعله أقل تصلبًا ويخلق مناخًا يمكن
فيه الأخذ والعطاء. ضمن هذا المناخ من الثقة، يمكن للادعاءات المتعارضة
أن تتطور في أسلوب مركَّب وموحَّد عن الحقيقة. هذه العملية هي تعبير
إجرائي للرؤية المتكاملة للساتياغراها، حيث أننا جميعًا، في الواقع،
باحثون عن الحقيقة. وبالتالي سيؤكد غاندي على أن "الساتياغراهي لن
يفوِّت فرصة التسوية في شروط مشرِّفة...". فالرؤية المتكاملة
للساتياغراها تنبثق من صلب الضرورة الإنسانية، وهي بالتالي قاهرة. وفي
ضوئها الكاشف، تنزاح العداوات الصغيرة والتظلمات جانبًا وتفسح المجال
لبحث عن الانسجام أكثر وعدًا.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، ترانسفال، 1914
"اتجهت إلى بريتوريا برفقة أندروز. في ذلك الوقت بالضبط، كان هناك
إضراب كبير للمستخدمين الأوروبيين في نقابة السكك الحديدية، مما جعل
وضع الحكومة بالغ الدقة. ودُعيت لكي أبدأ مسيرة هندية مناهضة للحكومة
في تلك المرحلة المفصلية. لكنني أعلنتُ أن الهنود لا يمكنهم مساعدة
المضربين في السكك الحديدية، لأن كفاحهم مغاير تمامًا لكفاحنا، وإدراكه
مختلف أيضًا. فحتى لو تعهدنا الشروع بمسيرة فسيكون ذاك في وقت آخر تكون
قد انتهت فيه الاضطرابات في السكك الحديدية. كان لقرارنا وقعًا عميقًا
فتناولته وسائل الإعلام على الفور. وأبرق اللورد آمبثيل
]وزير
المستعمرات[
مهنئًا من إنكلترا. كما ثمَّن الأصدقاء الإنكليز في جنوب أفريقيا
قرارنا هذا".
نجاح الساتياغراها لا يعتمد إطلاقًا على قبول شروط معينة، وإنما
تُقوَّم فقط بطهارة قضيتها والثبات الذي تلتزم فيه تجاه الحقيقة
واللاعنف. بالنسبة لغاندي، لا يمكن بلوغ غاية طاهرة إلا إذا كانت
الوسائل طاهرة، فهو يرى أن "الارتباط الوثيق بين الوسائل والغاية هو
ذات الارتباط بين البذرة والشجرة". وهو يحثُّ الساتياغراهي على تفحص
مسعاه بدأب، لأن "المسعى التام هو النصر التام". إذا كانت الوسائل نقية
فإن الغاية سترعى نفسها، أما إذا كانت الوسائل مستلبة من قبل الزيف
والعنف فإن الغاية ستكون مستلبة على نحو مماثل. هذا هو المنطق السليم
بالنسبة لغاندي:
"أهِمسا هي الوسيلة؛ الحقيقة هي الغاية. والوسائل، لكي تكون وسائل،
ينبغي أن تكون في متناول اليد دومًا، وبالتالي أهمسا هي واجبنا الأسمى.
إذا اعتنينا بالوسائل، من المؤكد أننا سنصل إلى الغاية عاجلاً أم
آجلاً. وبتوصلنا إلى هذه النقطة الفاصلة لا يعود النصر النهائي موضع
شك. ومهما كانت الصعاب التي نواجهها، ومهما كانت النكسات التي
نتكبَّدها، يجب ألا نتخلى عن طلب الحقيقة".
في الصراع العنفي، حالة من المرارة والعداوة تصاحب الإخضاع ويمكن أن
تتقيَّح مثل الدمَّلة، فتُضعف أساس المنجز، أو تنفجر وتحوله في اتجاه
عكسي. في الساتياغراها الحقيقية، يبرز كلا الطرفين كشريكين في الحل،
ويجري التخلص من الصراع والعداوة والارتياب. ويكفي المرء إمعان النظر
في مشهد مغادرة القوات البريطانية الاستعمارية للهند في العام 1947، في
جو من البهجة المتبادلة، لكي يتأكد من هذه الحقيقة. وقد أشار أرنولد
توينبي آنذاك إلى أن غاندي لم يحرر الهند فحسب، بل حرر بريطانيا العظمى
أيضًا.
*
الساتياغراها في جنوب أفريقيا، ترانسفال، 1914
"قال لي أحد سكرتيري الجنرال سمتس مازحًا: 'أنا لا أحب قومك، ولا أهتم
بمساعدتهم إطلاقًا. لكن ماذا أفعل؟ أنت تساعدنا وقت الحاجة. كيف لنا أن
نلومك؟ لطالما تمنيتُ أن تلتزم جانب العنف مثل المضربين الإنكليز،
حينها سنعرف على الفور كيف نسوِّي الأمر معك. لكنك لن تؤذي حتى عدوك.
فأنت تبتغي الانتصار ملتزمًا بحدود مفروضة ذاتيًا قوامها اللطافة
والنبل. وهذا ما يجبرنا على الوقوف عاجزين'".
*
الساتياغراها اليوم
لقد ألقينا نظرة، حتى الآن، على الطريقة التي تعمل فيها الساتياغراها
في الفضاء السياسي، بيد أن المبادئ الموجِّهة للساتياغراها تنطبق على
القضايا الشخصية والمنزلية والمجتمعية على حد سواء. فغرض الساتياغراها
هو حلُّ أسس الصراع – أي صراع – واجتذاب المتعادين إلى ميدان التفاهم
المشترك والتعاون. بالنسبة لغاندي، لم يكن يهم إن كان المتعادون هم حزب
المؤتمر الهندي والحكم البريطاني، أو مجموعة من القرويين وملَّاك
الأراضي، أو زوج وزوجة. وكان يعتقد أنه يمكن استخدام الساتياغراها "من
قبل الأفراد ومن قبل المجتمعات المحلية أيضًا. ويمكن استخدامها في
القضايا السياسية كما في الشؤون المنزلية. قابليتها الشاملة للتطبيق
برهان على ديمومتها ومناعتها".
كان من الواضح أن لدى غاندي من الأفكار ما يتجاوز التطبيقات السياسية
الحصرية التي نماثل بينها وبين الساتياغراها اليوم. فهو يرى في
الساتياغراها موقفًا أساسيًا في القضايا الإنسانية ويعدُّها حلاً
شاملاً للنزاعات. ومن أجل استيعاب الساتياغراها بتمام الفهم الغاندوي
لها علينا الابتعاد عن الاعتقاد الراهن الذي لا يرى فيها سوى شكل من
أشكال الاحتجاج الجماهيري اللاعنفي، وأن نحاول فهمها بكامل تشعباتها.
وبهذه الطريقة ستكون فائدة الساتياغراها لحيواتنا الخاصة أكثر جلاء.
*
"الساتياغراها الذاتية"
الساتياغراها، بدقيق العبارة، ليست "منهجًا" أكثر من كون المحبة
منهجًا. فغاندي ينظر إلى الساتياغراها جوهريًا على أنها موقف، شرط
داخلي للمحبة اللاعنفية يؤطِّر علاقتنا مع باقي البشر. هذا الموقف نابع
من الداخل، وليس من الخارج. فالساتياغراها، كما فهمها غادي، هي مسألة
شخصية أولاً وأخيرًا. وكتب يقول: "لقد أكدت دومًا على أنه حتى لو كان
هناك فرد واحد يلتزم تمام الالتزام باللاعنف، فسيكون بوسعه إطفاء
الحريق". ولذا كان غاندي يؤمن بالفردية الجوهرية للساتياغراها، حيث
يقول أخيرًا: "إذا صمد ساتياغراهي واحد حتى النهاية، فالنصر أكيد".
وبعيدًا عن مبدأ العمل الجماهيري، الساتياغراها هي جوهريًا شأن خاص
يبدأ من داخل قلب الإنسان، ولا تتطلب أتباعًا لكي تُعوِّم نفسها. قوة
الساتياغراها لا تتعلق بالعدد؛ فهي قابلة للنقل، مثل مصباح صغير لكنه
وهَّاج يمكن توجيهه على أية زاوية من زوايا الحياة عتَّم عليها الصراع
أو التوتر. كتب غاندي: "ذلك هو جمال الساتياغراها. إنها تصل إلى ذات
المرء مما يعفيه من البحث عنها خارجًا". الساتياغراها لا تحتاج سوى إلى
ترسيخها في أعماق القلب. هذا هو المستلزم الأساسي والأول لساتياغراها
غاندي، وكلما ادركنا هذا بوضوح أكثر، أصبح بإمكاننا أسرع استخدام
الساتياغراها من أجل بلسمة جراح الصراع.
لكن فهم هذا ليس كافيًا. فكما رأينا، الساتياغراها تنشأ من المبدأ
الهادف إلى اجتثاث النزوع نحو المصلحة الشخصية. وكان غاندي متصلبًا في
هذا الخصوص: "بدون التطهُّر الذاتي سيبقى التقيُّد بقانون أهمسا مجرد
سراب". وبوسع الفرد إنتاج قوة ساتياغراها "لا تُقاوم" فقط عندما يكون
قد أصبح "مجردًا من الهوى في التفكير والخطاب والعمل"، وقادرًا على
"التعالي على الاتجاهات المتعارضة للمحبة والكراهية، التعلُّق
والنفور". وبتجريد الساتياغراها من مبادئها يضمحل منبع قوتها الأساسي،
"قوة الروح" التي هي وحدها تستدعي اهتمامنا. من يدرس فكر غاندي لكي
يكتسب معرفة بمنبع القوة اللاعنفية سيرتد مرارًا إلى ذاته بغية تأسيس
حالة اللاعنف في وعيه بالذات. وقد كتب غاندي في أواخر الثلاثينات: "ليس
هناك من طريق مَلَكي سوى عيش العقيدة في حياتك، والتي لابد أن تكون
موعظة حية. سيقتضي هذا، بالطبع، دراسة عميقة ومثابرة عظيمة وتطهير شامل
للذات...". ولا داعي للقلق إن استغرق الأمر فترة طويلة، لأنه "إذا كان
هذا هو السبيل الوحيد الدائم والمؤثر في الحياة، فمهما بذلت من جهد لن
يضيع هباء. 'إسعَ أولاً إلى مملكة السماء وستتضافر كل الأمور معك'.
ومملكة السماء هي أهمسا".
إنها مهمة مُكلفة. فما يطلبه غاندي يعادل ضربًا من "الساتياغراها
الذاتية" التي يفرضها الفرد على نفسه لكي يعطِّل أثر المصلحة الشخصية.
وبوسع غاندي أن يطلب ذلك، لأنه، وعلى نحو مميز، فعله تمامًا بنفسه.
فالليلة الطويلة التي قضاها غاندي في محطة القطار الموحشة في ماريتزبرغ
أجبرته على النظر إلى أبعد من نفسه للمرة الأولى، أبعد من احتياجاته
الخاصة وفي صميم المعاناة المرعبة لأبناء جلدته المفقَرين والمستغَلين.
لقد غيَّرته الرؤية التي استحوذت عليه خلال تلك الساعات الطويلة
الكئيبة بانتظار الفجر، غيَّرت طريقته في النظر إلى الحياة والغرض
منها. وسيتحدث غاندي في ما بعد عن عدد من الملهمين في حياته – تولستوي
ورَسْكين
Ruskin
وغيرهما الذين وجهوا خطاه إبان تمرد الزولو والحلم في مدراس
Madras
الذي ألهمه ملحمة مسيرة الملح – لكن تجربته في تلك الليلة الباردة في
ماريتزبرغ أثبتت أنها المحفِّز الذي أثار سلسلة طويلة من الخبرات التي
حوَّلته كليًا في الوقت المناسب. لقد امتدت حركة الساتياغراها في جنوب
أفريقيا أكثر من عقد من الزمن ولم تكن الفكرة ذاتها قد اختمرت بعد في
ذهنه. سنوات السعي الحثيث تلك التي تحول فيها غاندي واجتث النزوع إلى
المصلحة الشخصية في داخله تشير إلى أن الساتياغراها الذاتية النقية
ذاتها هي ما يطلبه منا. وبهذا المعنى، لم يكن غريم غاندي الأول في
المقاومة اللاعنفية الجنرال سمتس أو حكومة جنوب أفريقيا، بل موهنداس
غاندي؛ فقد كان إطار حملته اللاعنفية الأولى والأشد ضراوة هو وعيه
بالذات. وقد صاغ ذلك الكفاح الساتياغراهي الأول، ومن "محامٍ بلا
موكلين" انبثق "المهاتما"، الروح العظمى. ولتتبع المنبع الحقيقي لقوة
غاندي اللاعنفية، علينا النظر إلى ما هو أبعد من فترة الجيشان السياسي
في الهند التي يعرفها العالم؛ النظر إلى تلك السنوات التكوينية الهادئة
في ريف ناتال وترانسفال. فهناك اكتسب غاندي الخبرة واكتشف الدرب الذي
سيحول روحيًا ذلك المحامي البسيط غير الواثق من نفسه، وهناك بوسعنا
اكتشاف منابع ذلك التحول من أجل استنارتنا الخاصة.
لكننا سنجحف بحق غاندي إن تبنِّيناه حرفيًا وحاكيناه فحسب على المستوى
السطحي. فمن مجانبة الصواب أن نحلق شعر رؤوسنا ونرتدي الدهوتي القطني،
ونعتاش على الفواكه والمكسَّرات وحليب الماعز لأن غاندي كان يفعل ذلك.
علينا أن نكون يقظين في اتباع غاندي ونتأكد أننا نقبض على المبادئ
الأساسية وليس فقط الرموز التي كان يوصل بها رسالته. فالصبر والتعاطف
والاستعداد للتحمُّل هي المعايير الجوهرية للساتياغراها الذاتية، كما
هي بالضبط للساتياغراها السياسية. وتنظيم حيواتنا وفقًا لهذه المُثل –
كما فعل غاندي – يؤسس الخطوة الأولى على طريق اللاعنف الحقيقي
المستدام.
*
الساتياغراها العائلية
توفر العلاقات الشخصية أرضًا خصبة لتعلم الساتياغراها واستخدامها. وهذا
ما أسماه غاندي "الساتياغراها المنزلية". وتتشكل لدينا فكرة واضحة عما
كان يعنيه عندما نتمعن في مسيرة حياته المبكرة في جنوب أفريقيا – ليس
في الساتياغراها كما توجب عليه أن يطورها في ما بعد، بل كما استخدِمت
تجاه نفسه، وهو اللافت في الأمر. كان غاندي زوجًا نزَّاعًا إلى
الاستبداد وفظًا أحيانًا خلال تلك السنوات في جوهانسبرغ، لأنه كان
يعتقد، كما يروي بنفسه، أنه كان من حقه أن يفرض إرادته على زوجته.
وعندما كانت كاستورباي تعترض على هذا التسلط، كان غاندي يزداد تعنتًا.
لكن كان لدى كاستورباي إدراك حدسي لخصائص المحبة اللاعنفية، فأثبتت،
خلال تلك السنوات العائلية الصاخبة، أنها ندٌّ لغاندي. واستطاعت
بسلوكها هذا أن تحول علاقته بها، ومع الزمن ألهمته جمال وقوة المقاومة
اللاعنفية.
"لقد تعلمت درس اللاعنف من زوجتي عندما حاولت أن أملي عليها إرادتي.
فمقاومتها الحازمة من جهة، وإذعانها الهادئ للمعاناة التي تسببها لها
حماقتي من جهة أخرى، جعلاني أخيرًا أخجل من نفسي وأتعافى من تلك
الحماقة... وفي النهاية، غدت هي معلمتي في اللاعنف".
لقد كانت كاستورباي، بدون معرفة منها، تستخدم الأسلحة الأولية
للساتياغراها لاستمالة زوجها: الاستعداد للمعاناة بدلاً من مقابلة
الأذى بمثله، والإرادة الراسخة.
تقف الساتياغراها العائلية، كما هو حال جميع ضروب الساتياغراها، على
هذا التوازن المرهف للصبر والعزم، الذي يمكن أن يصبح، عندما يُطبق على
نحو صحيح، حجر الأساس للعلاقات الشخصية الحميمة بين الرجال والنساء.
وللاكتشاف الذي حققه غاندي داخل بيته في منعطف القرن في جوهانسبرغ
أهمية حاسمة في الوقت الراهن، حيث أصبحت هذه العلاقات اليوم مشحونة
بالتوتر والمنافسة. قلَّة من الأُسَر اليوم تبدو قادرة على تفهم توترات
الحياة الزوجية، بما فيها تلك المتوقعة، لذا أصبح النفور والاغتراب من
المكوِّنات الشائعة في الحياة المنزلية العصرية. عند هذا الدرك الأسفل
في التعايش العائلي، يبدو أسلوب غاندي صائبًا على وجه الخصوص: اغفر،
اصبر، ساند الآخر دومًا، وقاوم إن استدعت الضرورة، بمحبة وبلا ضغينة.
ويبلغ هذا المثال ذروته حين تصبح رفاهة الزوجة أكثر أهمية بالنسبة
للزوج من سعادته الخاصة، وتصبح رفاهة الزوج على نفس القدر من الأهمية
بالنسبة للزوجة. ويشير هذا النوع من العلاقة إلى واحدة من المآثر
الأكثر سموًا للإهمسا الحقيقية.
للساتياغراها منزلة فطرية في العلاقة بين الأهالي والأطفال. وهنا
مجددًا، يشكل الصبر الممزوج بالحزم إطارًا للفهم والأداء. فـ "الحد
الأدنى الذي لا يُنتقص" في الساتياغراها العائلية هو أن رفاهة الأطفال
تأتي في المرتبة الأولى؛ لنموِّهم وتطورهم أولوية على كل شيء آخر. وهذا
يعني القيام بتضحيات ثانوية للذائذ صغيرة أحيانًا أو الاكتفاء بما هو
حاجة ضرورية أحيانًا أخرى. والأكثر أهمية، وفقًا لتفكير غاندي، هو أن
يكون النموذج المحدد من قبل الوالدين متطابقًا مع مُثلهم. فعندما انتقل
غاندي إلى مزرعة تولستوي في العام 1909، كانت تعجُّ بالأطفال من كل
المشارب، وسرعان ما ضمهم تحت جناحيه الأبويين. كانوا خليطًا "لا
متجانسًا"، لكنهم كانوا، في نظره، يؤلفون "عائلة واحدة" معه. وكتب بهذا
الخصوص: "أرى أنني لابد أن أكون صالحًا وأعيش مستقيمًا، ولو كان من
أجلهم فقط". لقد بذر غاندي بذور الساتياغراها العائلية في تربة مزرعة
تولستوي الخصبة، ورعاها بدراية لسنوات إلى أن أينعت؛ وما لبثت أن أصبحت
هذه العلاقة المتطلِّبة مع الأطفال وضعًا طبيعيًا لا تستدعي الكثير من
الجهد.
في ثلاثينيات القرن، جاءت امرأة إلى سيفاغرام [قرية الخدمات] راجية
غاندي أن ينصح ابنها بالتوقف عن التهام السكر لأنه يؤذيه. كان جواب
غاندي مقتضبًا: "من فضلك، عودي الأسبوع القادم".
احتارت المرأة، لكنها عادت بعد أسبوع ممتثلة بإذعان إلى تعليمات
المهاتما. قال غاندي للفتى عندما التقاه: "أرجو ألا تأكل السكر لأنه
ضار بصحتك". ثم مازح الفتى قليلاً وعانقه قبل أن ينصرف. لكن الأم التي
لم تستطع كبح فضولها تريَّثت قليلاً لكي تسأل غاندي: "بابو، لماذا لم
تقل لي هذا الأسبوع الماضي عندما أتينا؟ لماذا جعلتنا نعود ثانية؟".
ابتسم غاندي قائلاً: "الأسبوع الماضي كنت أنا أيضًا ألتهم السكر".
كان غاندي شخصانيًا في كل علاقاته. حتى في ذروة حركة التحرر في الهند
لم يكن ليسمح لحملاته بالانجراف إلى أوضاع لا شخصانية. فبغض النظر عما
قد يبديه خصومه من التزام مؤسساتي خلف أروقتهم المرخَّمة وألقابهم التي
تسبق أسمائهم، كانوا ينظر إليهم دومًا بوصفهم أشخاصًا أولاً، "مطليِّين
بالفرشاة ذاتها" وأقرباء له في الأسرة الإنسانية. لم تكن العلاقات
الشخصانية ترفًا بالنسبة لغاندي ولا عبئًا ثقيلاً، بل تعبير طبيعي
وحيوي للأهمسا؛ إذ إنها، وفي أي مستوى من التفاعل الإنساني، تشيد
منبرًا لعمل الساتياغراها. ومن المثير للاهتمام مراقبة التطور التدريجي
لدائرة غاندي الصداقية بدءًا من عائلته المباشرة في بوربندر
وجوهانسبرغ، مرورًا بأتباعه الكثر الذين يعيشون في الأشرمات، وانتهاءً
بالهند وبقاع كثيرة من العالم.
*
الساتياغراها في العمل
إحدى النتائج الطبيعية للساتياغراها المشخّصنة هي سهولة تطبيقها في
أماكن عملنا. فما يصحُّ على العلاقات العائلية يصحُّ، جزئيًا على
الأقل، على العلاقات في العمل، وإذا كان ثمة ما يعوق هذه العلاقات
عاطفيًا مقارنة مع ما هو الحال في البيت فسيكون لها أثر تفتيتي. العمل
لا يتوقف، وحيثما يعمل الناس بالتماس مع بعضهم، يكون التوتر مرجحًا
بسبب تضارب المصالح الشخصية. فلا سبيل إلى اجتناب الخلاف ما دام
الأفراد في بيئة العمل يُعلون من شأن مصالحهم الشخصية على كل ما عداها.
وغالبًا ما تتمحور النزاعات الناشبة حول آراء وأذواق شخصية، مما يجرُّ
إلى خلاف في طرق تسيير الأمور؛ وتشحنها حالات تافهة من الغيرة
والاستياء على نحو متواتر. وقد تبدو "القضايا" في معظم النزاعات مهنية،
أو حتى فكرية، لكن نظرة عن كثب تكشف على الأغلب عن أنويَّتين متمترستين
بخفاء في الصراع الشخصي. فالطريقة "الأفضل" لعمل الأشياء هي عادة
"طريقتي"؛ كما عبر عن ذلك حكيم هندي: "كل واحد يعتقد أن ساعته تشير إلى
الوقت الصحيح".
في ساتياغراها العمل، لابد من بذل جهد لتوضيح حال الأفضليات الشخصية
وبالتالي تمكين كلا الطرفين من الرؤية من منظور أوسع وأكثر صدقًا.
والساتياغراهي الذي ارتقى فوق المصلحة الشخصية، والذي بوسعه أن يستشعر
أبعد من آرائه الشخصية، هو في موقع يخوِّله معاينة النزاع بموضوعية
أكبر ويكون بالتالي قادر على البحث عن أرضية مشتركة. وإذا أخفقت
المناشدات المُعقلنة، لابد للساتياغراهي من أن يكون مستعدًا، كما في
جميع حالات الساتياغراها، للتحلِّي بالصبر من أجل استمالة أطراف النزاع
إلى تبنِّي رؤية أكثر سموًا. ولذا تكون مهمة الساتياغراها هنا هي العمل
بصمت وثبات من أجل التقليل من أثر المصلحة الشخصية في بيئة العمل عبر
الدعوة إلى هدف موحِّد وأكثر شمولاً. ويكفي فرد واحد لإشاعة التأثير
المُخمِّر للأهمسا في مكتب أو موقع عمل أو مدرسة، أو حتى في مؤسسة
كبيرة. فكما أشار غاندي، ساتياغراهي مكرَّس واحد بوسعه إحداث تغيير
بحيث يمكن أن يسير العمل في جو من الثقة المتبادلة والتعاون. وقد يقول
غاندي، محاكيًا البوذا، إن هذا هو النوع الأكثر سموًا للعمل.
وكما رأينا، إحدى السمات الرئيسية للساتياغراها هي "مرونتها" وقدرتها
على التكيف مع سياقات جديدة مع ولائها لمبادئها المتمثِّلة في الحقيقة
واللاعنف التي لا يمكن الانتقاص منها. ولم تكن هذه المرونة يومًا أكثر
أهمية مما هي اليوم، حيث تختلف تمامًا التحديات التي نواجهها عن تلك
التي واجهها غاندي. فالاكتفاء بمحاكاة أشكال حملات غاندي السياسية، مثل
التظاهرات والإضرابات، سيقصر الساتياغراها بشكل تراجيدي على سياق ضيق
للإصلاح السياسي. الأزمات التي تهدد حيواتنا اليوم ليست سياسية بقدر ما
هي روحانية؛ العزل والانعزال الشخصي والاجتماعي، والاستقطاب المتزايد
بين الرجال والنساء وبين الشباب والأكبر سنًا. وبالنتيجة، يقتضي منا
هذا الزمن تحرك حازم صوب اللاعنف والوحدة ضمن عائلاتنا وفي صفوف
مجتمعاتنا المحلية.
يعتقد غاندي أنه عندما تتغلغل قيم اللاعنف في حيوات ملايين الأفراد،
سوف تبدأ مؤسسات أضخم في عكس هذه القيم أيضًا. فالمسار الذي يرسمه يبدأ
بالمنمنمات، في البيت وفي داخل كل فرد وفي أوساط الأصدقاء، ويتسع قوسه
تدريجيًا ليشمل المجتمع المحلي ومن ثم المجتمع بأسره، وربما العالم في
الوقت المناسب. ولا نحتاج إلى برهان إضافي على هذا أكثر من حياة غاندي
نفسه التي كانت دعوة صامتة لكنها حاثَّة على محبة أعظم وخدمة أعم.
*
كتب أخرى عن غاندي وأهِمسا
تنقسم الكتب التالية إلى فئتين: الأولى تمكِّن القارئ من التعرف على
غاندي الإنسان وأفكاره، والثانية تساعد الذين يرغبون في ترجمة بعضًا من
مُثُل غاندي إلى حيواتهم الخاصة في الغرب اليوم.
غاندي الإنسان
كان غاندي كاتبًا غزير الإنتاج، له الكثير من المقالات الصحفية
والرسائل والخطب. ويمكن العثور على معظم الاقتباسات عن غاندي الواردة
في هذا الكتاب في ثنايا المجموعتين الشاملتين التاليتين:
- أفكار المهاتما غاندي[1].
- جميع البشر أخوة[2].
ويقدم كل من هذين الكتابين عرضًا شاملاً لأفكار غاندي في كل مظاهر
حياته ونشاطه ومعتقداته.
لم يكتب غاندي سوى مؤلَّفين مطوَّلين، وكلاهما كتبه أثناء وجوده في
السجن. أحدهما كان سيرة ذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة[3].
لكنه كتاب شخصي للغاية وأميَل ما يكون إلى النقد الذاتي. وبما أن السرد
فيه لا يمضي أبعد من العام 1921، ولكونه يركز في المقام الأول على
التطور الروحي لغاندي أكثر من نشاطه السياسي العام، وبالتالي لا يحوز
على الكثير من الاهتمام لدى القراء الغربيين، فإن السيرة الموجزة التي
أعدَّها لويس فيشر غاندي: حياته ورسالته من أجل العالم[4]
تملأ الفجوة الحاصلة. ففيشر كان يعرف غاندي شخصيًا، وأضفى في كتابه
شفافية على الأسس الروحية لحياة غاندي وعلى غاندي الإنسان.
وبالنسبة للذين يرغبون في معرفة المزيد من التفاصيل عن حياة غاندي
والخلفية التاريخية للحركة من أجل استقلال الهند، ثمة كتاب آخر للويس
فيشر هو حياة المهاتما غاندي[5].
وهو العمل الرئيسي لفيشر حول هذا الموضوع.
وتجدر الإشارة إلى كتابين آخرين ممتازين يتناولان سيرة غاندي هما:
-
Mahatma, by D. G. Tendulkar (Bombay: Vithalbhai K. Jhavei and D. G.
Tendulkar, 1951).
-
Mahatma Gandhi: The Early Phase, by Pyarelal (Ahmedabad: Navajivan,
1956).
تطبيق أفكار غاندي في البيت
بهَغَفاد غيتا، "المرجع الروحي" لغاندي، هو أحد الأعمال الأكثر عمقًا
وعمليةً للمتصوفة في كل اللغات. وقد وضع إكناث إيسوَران كتابه
البهَغَفاد غيتا للحياة اليومية[6]
من أجل الذين يرغبون في وضع الغيتا موضع التطبيق، كما فعل غاندي. وقد
اعتمد إيسوَران على تجربته في توضيح كيف يمكن ترجمة كل بيت شعر من
الغيتا إلى الحياة اليومية. وهناك ترجمة أخرى ممتعة وموثوقة، بدون
شروحات، قام بها سوامي برابهافاناندا بمساعدة كريستوفر إيشروود وهي
أنشودة الإله: بهَغَفاد غيتا[7].
لقد اقتصرت تعليقات غاندي القليلة والمباشرة حول ممارسته الروحانية
الفعلية على استخدام التلاوات. لكن كتاب إكناث إيسوَران دليل
التلاوات[8]
يقدم عرضًا عمليًا وشاملاً لاستخدام التلاوات من أجل الناس المؤمنين
بأي ديانة أو ليسوا مؤمنين.
بالنسبة لأولئك الذين يهتمون بتجريب أنظمتهم الغذائية، يتوافر العديد
من كتب الطبخ النباتي المفيدة، منها مطبخ لوريل[9]،
وهو دليل شامل للطبخ النباتية التغذية مُصنَّف من وجهة نظر إيسوَران.
ترجمة: غياث جازي
*** *** ***