ماذا نعرف عن محمَّد*

 

باتريشيا كرونه*

 

من الصعب جدًا معرفة أيِّ شيء مؤكد عن أيِّ مؤسِّس من مؤسسي الأديان الرئيسية في العالم. فكما يطمس قُدسٌ بعد الآخر محيط المناطق التي كان ينشط فيها، كذلك نرى مذهبًا بعد آخر وهو يعيد تشكيله وصياغته وقولبته كشخصية وقورة ومبجلة وقدوة يحتذى بها لأعداد كبيرة من البشر في أوقات وأماكن لم يسمعوا به من قبل.

في حالة النبي محمد، لم تظهر المصادر الإسلامية التي تتحدث عن حياته إلا في الفترة 750 - 800 م، أي بعد مرور أربع أو خمس أجيال على موته، ويفترض بعض الإسلاميين (المتخصصين في مجال دراسة الإسلام وتاريخه) أن تلك المصادر هي روايات تاريخية مباشرة. لذلك كلِّه، على الأرجح أننا نعرف عن محمد أكثر بكثير مما نعرفه عن يسوع (ناهيك عن موسى وبوذا)، وبالتأكيد نحن نمتلك الإمكانية لمعرفة المزيد أيضًا.

لاشك أن محمدًا كان موجودًا، وظهرت محاولات من حين لآخر لإنكار وجوده، لكنها ضعيفة إلى حد ما. فجيرانه في "سوريا البيزنطية" قد سمعوا به بعد سنتين من وفاته، وهناك نصٌّ يوناني مكتوب خلال فترة الغزو العربي لسوريا بين عامي 632 و634 للميلاد جاء فيه أن "نبيًا كاذبًا ظهر بين السرسنيين"، ورُفِض على أنه مزيف على أساس أن الأنبياء "لا يأتون بالسيف والعربة". وهذا ما يعطينا انطباعًا بأنه كان يقود عملية الغزو.

يتم إرجاع تاريخ وفاة محمد بشكل طبيعي إلى عام 632 م، لكن احتمال أن يكون تاريخ وفاته الأصلي بعد ذلك بعامين أو ثلاثة وارد أيضًا. فالتقويم الإسلامي قد وضع بعد وفاة النبي، ونقطة البداية كانت وقت هجرته إلى المدينة (يثرب لاحقًا) قبل ذلك بعشر سنوات. بعض المسلمين يربطون نقطة البداية هذه مع عام 624 - 5 في التقويم الجورجي بدلاً من سنة 622 المفترضة.

إذا كان هذا التاريخ المعدَّل صحيحًا، فالدليل المستمدُّ من النص اليوناني سيعني أن محمدًا مجرد "مؤسِّس" لدين عالمي مثبت وجوده في المصادر المعاصرة له. لكن بأي حال، هذا النص يمنحنا دليلاً قاطعًا تقريبًا بأنه كان رجلاً حقيقيًا علاوة على ذلك، هناك وثيقة أرمينية تمَّت كتابتها بعد عام 661 بفترة قصيرة تذكره بالاسم وتعطينا لمحة واضحة تقريبًا عن تعاليمه التوحيدية.

على الجانب الإسلامي، المصادر التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن الثامن للميلاد وما بعده تحتفظ لنا بوثيقة (معاهدة) بين محمد وأهالي يثرب، وهناك الكثير من الأسباب الجيدة لقبول أصالة هذه الوثيقة، محمد أيضًا مذكور بالاسم، وموصوف بأنه "رسول الله"، أربع مرات في القرآن (وسنتكلم عن ذلك لاحقًا).

صحيح أن اسم محمد لم يظهر على النقود العربية وأوراق البردي والوثائق الأخرى إلا خلال فترة 680، أي بعد حوالي خمسين عامًا على وفاته (بغضِّ النظر عن تاريخ موته بالضبط). وهذه هي الأرضية التي قام على أساسها بعض الباحثين - وبالأخص يهودا نيفو وجوديث كورين - بالتشكيك بوجوده أصلاً. لكن قليلين الذين سيقبلون المقدمة التي تقول إن التاريخ يجب أن يُعاد بناؤه على أساس الدليل الوثائقي فحسب (أي معلومات لم يتم تناقلها من جيلٍ لآخر، بل تمَّ نقشها على الحجارة أو معادن أو استخراجها من الأرض حيث تكون محافظة على شكلها الأصلي). الدليل على أن نبيًا كان نشطًا بين العرب خلال العقود المبكرة من القرن السابع، وعشية الغزو العربي للشرق الأوسط، أقل ما يقال عنها إنها كافية بشكل استثنائي.

كلُّ شيء آخر عن محمد يصبح أقلَّ تأكيدًا وأكثر ارتيابًا، لكن مازال يمكننا ملاحظة كم من المعلومات شبه المؤكدة. أهم شيء، يمكنا أن نكون متأكدين بما يكفي أن القرآن هو عبارة عن مجموعة من الأقوال التي نطق بها بشأن الدين والتي زعم أنها موحاة له من الله. قد لا يكون الكتاب قد احتفظ بجميع السور والرسائل التي يزعم أنه تلقاها، وهو غير مسؤول عن الترتيب الذي نقرأها فيه. فقد تمَّ جمعها بعد وفاته - أما المدة فهي محل جدال. لكن يصعب الشك بأنه نطق بأغلبها أو بعضًا منها. هؤلاء الذين ينكرون وجود نبي عربي ما زالوا يجادلون طبعًا، لكن ذلك يخلِّف الكثير من الإشكالات التي تتخلَّل الأدلة الأخيرة، ومع القرآن ذاته بالتحديد، في محاولة لجعلها مقنعة.

النص والرسالة

ومع ذلك من الصعب جدًا استخدام الكتاب كوثيقة تاريخية. وأساس هذه الصعوبة يتضمن أسئلة غير مجاب عنها حول الكيفية التي وصل بها إلى شكله التقليدي، وحقيقة أنه ما زال غير متوفر بنسخة مخصصة للدراسة. كما أن لها جذورًا في النص. النسخ الأولى من القرآن لا تظهر إلا هيكلاً عظيمًا ساكنًا للنصِّ. لا يوجد حروف صوتية ولا حركات، والأسوأ من ذلك، لا يوجد علامات ترقيم، لذا نرى أن الكثير من الأحرف الساكنة يمكن أن تُقرأ بأكثر من طريقة.

الباحثون المعاصرون يُطمئنون أنفسهم عمليًا أنه طالما أن القرآن كان مجوَّدًا منذ البداية، فبإمكاننا الاعتماد على التراث الشفهي لنعرف القراءة الصحيحة. لكن هناك خلاف كبير في التراث - حول مسألة التشكيل والحركات أغلب الأحيان، لكنها في بعض الأحيان تتعلق بالسواكن أيضًا - على الطريقة الصحيحة في قراءة بعض الكلمات. لكن هذه المشكلة بالكاد تؤثر غالبًا على معنى النص، لكنها قد تترك تأثيرًا على التفاصيل الهامة من أجل عملية إعادة البناء التاريخية.

في أغلب الحالات، مع أو بدون شك حول مسألة القراءة، نلاحظ أن القرآن غامض جدًا، في بعض الأحيان يستخدم تعابير لم تكن معروفة حتى بالنسبة للمفسرين الأوائل، أو كلمات لا تبدو أنها تناسب السياق بشكل كامل، مع أنها يمكن تفسيرها بشكل انتقائي لتتناسب أو لا تتناسب مع السياق، وأحيانًا يبدو أنه يعطينا أجزاءً مقصوصة من سياق طويل ومفقود، وأسلوبها يكون تلميحيًا للغاية.

إحدى التفسيرات لهذه السمات هو أن النبي قد صاغ رسالته بلغة شعائرية طقوسية كانت سارية ومنتشرة في البيئة الدينية التي نشأ وترعرع فيها، متبنيًا أو/و مقلدًا نصوصًا قديمة كالتراتيل والأناشيد والصلوات، ربما تمَّت ترجمتها أو أخذها عن لغة سامية أخرى أثناء تشكيلها. وقد تمَّت معالجة هذه الفكرة ضمن عملين ألمانيين رئيسيين، الأول هو عمل غونتر لولينغ Günter Lüling والآخر هو كريستوف لوكسنبرغ Christoph Luxenberg، وهناك الكثير ليقال في هذا الشأن. في نفس الوقت، كلا العملين مفتوحان أمام الكثير من النقد العلمي (بشكل أساسي حجة قلة الخبرة في حالة لوكسنبرغ) إذ لا يمكننا القول إنهما قدَّما لهذا المجال خدمة كبيرة.

إن محاولة الربط بين الخصائص اللغوية والأسلوبية في القرآن مع تلك الخصائص في النصوص الدينية الأقدم تتطلب معرفة عميقة باللغات السامية التي لا يمتلكها سوى قلة قليلة، إنما هؤلاء القلَّة يميلون للعمل على مسائل أخرى. وهذا طبيعي كون هذا المجال حُمِّل الكثير من الثقل السياسي.

عمل لوكسنبرغ يعتبر مثالاً واضحًا على ذلك، التقطته الصحافة وعرضته عبر وسائل الإعلام بطريقة شعورية وعاطفية كأخطر فكرة يمكن أن يخرج بها المختص وهي تنوير المسلمين الذين يعيشون في الغرب. لكن لا المسلمون ولا المختصون بالدراسات الإسلامية كانوا مسرورين.

القصة من الداخل

القرآن لا يتحدث عن قصة حياة النبي. على العكس، إنه لا يرينا النبي من الخارج على الإطلاق، بل يأخذنا إلى داخل عقله، حيث يتحدث إليه الله، يخبره رسالته ويعلِّمه تعاليمه، وكيفية التعامل مع الناس الذين يهزأون منه، وما يقوله لأتباعه ومؤيديه، وهلمَّ جرًا. نحن نرى العالم من خلال عينيه، والأسلوب التلميحي يجعل من الصعب متابعة ما يجري.

تتم الإشارة للأحداث لكن دون روايتها، تمَّت مناقشة الخلافات لكن من دون شرحها، تمَّ ذكر أشخاص وأماكن لكن بالكاد ذُكرت أسماء. الأنصار تمَّت الإشارة إليهم كمؤمنين، أما المعارضون فحُكم عليهم بأنهم كفَّار، مشركون، وثنيون، مذنبون، زنادقة، منافقون، وما إلى هنالك، دون إشارة واضحة ومحدَّدة إلى هويتهم وماذا قالوا أو فعلوا (أي كما يفعل القادة الإيديولوجيون عندما يشيطنون معارضيهم ويختزلونهم في فئات وأوصاف مجرَّدة: إرهابيون، عملاء، أمبرياليون، أعداء الأمة). قد يكون أحيانًا - وهكذا يكونون - نفس الأشخاص يظهرون اليوم تحت فئة معينة، وغدًا تحت فئة أخرى.

والحال أن هناك شيء واحد يبدو واضحًا، جميع الأطراف المذكورة في القرآن هم موحِّدون يعبدون إله التراث التوراتيِّ، وجميعهم على معرفة تامة - وبعضهم من الكتاب المقدَّس مباشرة - بالمفاهيم والقصص والأفكار التوراتية. ونفس الأمر ينطبق على هؤلاء الذين يطلق عليهم "مشركين"، وهم مرتبطون تراثيًا بقبيلة محمَّد في مكة. يقول التراث الإسلامي إن أفراد هذه القبيلة، التي تعرف باسم "قريش"، كانوا مؤمنين بإله إبراهيم وملَّته التوحيد التي تمَّ إفسادها من قبل عناصر وثنية داخلة فيها، سيرى المؤرخون المعاصرون أنفسهم ملزمين لعكس العلاقة واعتبار العناصر الوثنية أقدم من التوحيد، لكننا نلاحظ وجود توليفة من فكر توحيديٍّ توراتيٍّ مع بعض العناصر الوثنية العربية في القرآن.

هؤلاء الذين سمَّاهم القرآن "بالمشركين" ويؤمنون بإله واحد يحكم العالم ويتمُّ التقرُّب إليه عن طريق الصلاة والشعائر الدينية، هم في الحقيقة مدانون مثل الأعداء الإيديولوجيين في عصرنا الحالي، إذ يبدو أنهم نشأوا في نفس المجتمع الذي نشأ في أولئك الذين رفضوهم ونبذوهم. ولعدَّة أسباب طائفية ومذهبية، يعمل التراث على إثارة الجانب الوثنيِّ لخصوم النبي، وأهم مصدر بشكل خاص (ابن الكلبي في كتابه الأصنام، يعتبرهم بوصفهم عبادًا سُذَّجًا للحجارة والأصنام من ذلك النوع الذي كان موجودًا في أرجاء أخرى من شبه الجزيرة العربية). لهذا السبب عمل الأدب الثانوي اللاحق على اعتبارهم وثنيين صريحين أيضًا.

بعض المفسرين أكثر تعقيدًا بكثير من ابن الكلبي، ومن بينهم الباحث المعاصر هاوتينغG R Hawting الذي يعتبر أنه أول من بيَّن بأن الأشخاص الذين رُفضوا بوصفهم "مشركين" في القرآن ليسوا وثنيين صريحين. إن حقيقة أن القرآن قد سجَّل هذا الشقَّ داخل مجتمع موحِّد في الجزيرة العربية يمكن أن تغيِّر فهمنا للطريقة التي ظهر فيها هذا الدين الجديد.

النبي و"المشركون"

ماهي إذن المسائل الكبيرة التي تقسم بين النبيِّ ومعارضيه؟ هناك مسألتان هامتان للغاية، الأولى أنه يتَّهم المشركين بنفس التهمة التي اتَّهم بها المسيحيين - تأليه البشر -. فالمسيحيون قد رفعوا من منزلة يسوع لمكانة إلهية (مع أن بعضهم كانوا مؤمنين)، أما المشركون فقد رفعوا الملائكة إلى نفس المرتبة وأضافوا خطأ آخر إلى خطأهم وهو أنهم اعتبروهم إناثًا (أو بعضًا منها)، وكما قال المسيحيون عن يسوع إنه ابن الله، كذلك المشركون سمُّوا الملائكة بأبناء وبنات الله، أي يبدو أنهم يشيرون إلى نوع من هويَّة الجوهر.

يزعم المشركون أيضًا أن الملائكة (أو الآلهة، كما يطلقون عليها أيضًا) كانوا وسطاء يساعدونهم على التقرُّب من الله، وهي حجَّة معروفة جيدًا من قبل الموحِّدين القدماء الذين استبقوا على آلهة أجدادهم وأسلافهم واستذكروها بالقول عنها إنها ملائكة. بالنسبة للمسيحيين أيضًا كانوا يرون الملائكة كوسطاء، وكان للنبي وجهة نظر مماثلة. أما اعتراضه هو فقد ظهر من حقيقة أن ملائكة الوثنيين كان ينظر إليها بوصفها ظهورات له نفسه وليس بوصفهم خدم أو وسطاء له. ويردُّ النبيُّ عن طريق التأكيد بشكل دائم أن الله واحد ولا شريك له، لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفؤًا أحد.

السبب الآخر للخصومة بين النبي ومعارضيه كان مسألة البعث. البعض كان يشكُّ بمسألة البعث، آخرون أنكروه بقوة، وآخرون رفضوا فكرة حياة ما بعد الموت من أصلها. أما الأصوليين والمتشددين فيبدو أنهم ظهروا من بين صفوف اليهود و/أو المسيحيين أكثر من - أو بالإضافة إلى - المشركين، أو ربما المشركون هم أصلاً يهود ومسيحيون من النوع المحلي. على أية حال، يبدو أن المتشددين قد ظهروا مؤخرًا على الساحة، ومرة أخرى، أشخاص من نفس النوع يمكن مصادفتهم على الجانب اليوناني والسرياني أيضًا.

يرد النبي بتكرار الحجج المؤيدة لفكرة البعث من النوع المسيحي، مصرًا على أن الناس سيُبعَثون من الموت في يوم القيامة ليحاكموا. كما أنه أضاف بأن يوم القيامة قريب، على شكل كارثة محلية على غرار تلك الكوارث التي قضت على بعض المجتمعات المحلية (كقوم لوط على سبيل المثال) أو على شكل حريق هائل. استهزأ به معارضوه وسخروا منه، سائلين لماذا لم يحدث ذلك، لكنه يصرُّ على ذلك. عند نقطة معينة تتحوَّل المواجهة إلى مواجهة عنيفة ويمتلئ الكتاب بصيحات لحمل السلاح، والمزيد من الاقتتال من أجل حَرَمْ.

عند هذا الحد نلاحظ وجود هجرة، مع أن الحدث بذاته غير مذكور بالتفاصيل، ونرى نوعًا من التشريع لإقامة مجتمع جديد. خلال الكتاب نلاحظ أيضًا الكثير من الجدال القاسي حول شرعية النبي نفسه. لكن وحدانية الله، وحقيقة البعث والحساب، وهول العقاب الوشيك الوقوع هي حتى الآن أهم السمات الواردة، وأعيد تكرار ذكرها في أغلب سور القرآن.

في اختصار، لا يقتصر الأمر على معرفتنا بوجود نبيٍّ نَشِط بين العرب خلال العقود الأولى من القرن السابع للميلاد، لدينا أيضًا فكرة واضحة عن تعاليمه. قد يستنتج غير الإسلاميين أن شكوى المؤرخين حول قلة معرفتهم عنه هو مجرَّد امتعاض مهني. لكن الأمر أكثر من مجرًّد ذلك. وهذه مشكلة كبيرة فيما يتعلَّق ببلاد العرب.

مسألة الجغرافيا

كتب أهالي الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية الكثير عن النهايتين الشمالية والجنوبية لشبه الجزيرة العربية، حيث لدينا الكثير من النقوش من هناك، لكن الأرض الوسطى كانت أرضًا مجهولة terra incognita. وفي هذه النقطة بالضبط يضع التراث الإسلامي محمد وسيرته النبوية. نحن لا نعرف تمامًا ما الذي كان يحدث هناك، باستثناء ما يخبرنا به التراث الإسلامي.

هذه المنطقة لم تنتج أدبًا معروفًا ومحددًا يمكن أن نُرجع إليه القرآن، باستثناء الشعر الذي نعرف عنه من خلال المصادر الإسلامية والتراث الإسلامي والذي بدوره مختلف تمامًا في سماته وخصائصه حيث أنه لا يسلِّط الكثير من الضوء على الكتاب. لا يوجد مصدر واحد من خارج الجزيرة العربية يذكر مكة قبل الغزو العربي، ولا يوجد أيُّ مصدر يعرض أيَّة علامة من علامات التعرُّف أو يخبرنا أيَّ شيء عما كانوا يعرفونه عن "مكة" عندما ظهرت في المصادر اللاحقة. أن هناك مكان اسمه مكة حيث تقع مكة في يومنا هذا قد يكون حقيقة، وأن يكون فيها حَرَم وثني فهو أمر مقبول تمامًا (بلاد العرب كانت مليئة بالبيوت والكعبات)، وأنها كانت تخصُّ قبيلة عربية تسمى "قريش". لكننا لا نعرف أيَّ شيء عن هذا المكان يمكننا أن نكون متأكدين منه مئة بالمئة. في اختصار، نحن لا نمتلك أيَّ سياق للنبي ورسالته.

من الصعب ألا نشكك بأن التراث يضع النبي وسيرته في مكة لنفس الأسباب التي تجعله يصرُّ على أُميته: السبيل الوحيد الذي حصَّل من خلاله معرفته بجميع الأشياء والأمور التي أخبر بها الله اليهود والمسيحيين هو عن طريق وحي من الله. كانت مكة منطقة عذراء، وكانت خالية من أي تجمعات يهودية أو مسيحية.

الأمر الذي يدعونا للشك بأن المكان موضوع بغرض مذهبي مدعوم بحقيقة أن القرآن يصف معارضيه المشركين بأنهم مزارعون يزرعون القمح والحنطة، الكرمة، الزيتون، وأشجار النخيل. القمح والكرمة والزيتون هي المنتجات الرئيسية لمنطقة حوض المتوسط، أما أشجار النخيل فتأخذنا نحو الجنوب، لكن مكة لم تكن المكان الأنسب لهذا النوع من الزراعة، ومن غير المعقول أن أحدًا كان ينتج الزيتون هناك.

إضافة إلى أن القرآن يصف معارضيه بأنهم يعيشون على أنقاض أمة مندثرة كانت تعيش في نفس المكان، ربما مدينة دمرها الله بسبب كثرة ذنوبها. كان هناك الكثير من مواقع الخرائب شمال غربي جزيرة العرب. كان النبي يخبر معارضيه مرارًا وتكرارًا بأهميتهم وأن يتَّعظوا منهم، وقد قال في إحدى المناسبات مشيرًا إلى بقايا وآثار قوم لوط: (وإنكم لتمرُّون على ديارهم مصبحين وممسين). وهذا يأخذنا إلى مكان ما في منطقة البحر الميت. كان المؤرخون المعاصرون يجلُّون ويقدِّرون التراث إلى هذه الدرجة حتى مرَّت هاتين النقطتين الأولى والثانية دون أن ينتبهوا إليهما إلا مؤخرًا، أمَّا النقطة الثالثة فقد تمَّ تجاهلها. قال المفسرون إن قريش كانت تمرُّ بخرائب قوم لوط أثناء رحلتهم السنوية إلى سوريا، لكن السبيل الوحيد ليمرَّ المرء من مكان ما صباحًا ومساءً هو أن يعيش في مكان ما على مقربة منه.

الرحلات السنوية التي تذرَّع بها المفسرون كانت رحلات تجارية. جميع المصادر تقول إن قريش كانت تتاجر جنوبي سوريا، وهناك كثيرون يقولون بأنه كانت لها تجارتها في اليمن أيضًا، وأضاف بعضهم العراق وأثيوبيا إلى وجهتهم. قيل إنهم كانوا يتاجرون بشكل رئيسي بالبضائع الجلدية، الألبسة الصوفية، وبضائع أخرى ذات منشأ رعوي، بالإضافة إلى العطور (وليس أصناف عربية جنوبية من البخور، أو بضائع ترف هندية كما كان يعتقد). لقد تم التذرُّع بخطِّ القوافل التجارية القرشية لتفسير التشابهات مع المواد التوراتية وغير التوراتية التي تميِّز أسلوب القرآن، لكن ذلك يتجاوز ما يأخذه التجار معهم خلال رحلاتهم السنوية. لاشك أن هناك مجتمعًا تجاريًا مساهمًا بشكل أو بآخر في ظهور الإسلام، مع أنه ليس من الواضح كيفية ارتباطه بالمجتمع الزراعي المذكور في القرآن. هناك الكثير لنقوله حول ذلك، لكن بدون أي يقين كامل.

ثلاثة مصادر للدليل

المشكلة الأكبر التي تواجه الباحثين في نشأة الإسلام هي تحديد الإطار البيئي الذي عمل فيه النبي. ما الذي كان يتجاوب معه، ولماذا كانت بقية بلاد العرب متجاوبة مع رسالته؟ لدينا فرصة جيدة لإحراز تقدم، إذ إننا لم نقترب بعد من استخدام الأنواع الرئيسية الثلاثة من أدلتنا:

1) التراث المرتبط بالنبي (الحديث بشكل أساسي).

2) القرآن نفسه.

3) ونوع جديد يقدِّم لنا الكثير من المقدِّمات لننطلق منها (علم الآثار/الأركيولوجيا).

النوع الأول هو الأصعب من ناحية التعامل معه ومعالجته، وهذا النوع يأخذ شكل الأحاديث، تقارير قصيرة ومختصرة (لا تتجاوز السطر أو السطرين في بعض الأحيان) تسجِّل ما قاله شخص قديم - كأحد صحابة النبي أو النبي نفسه - أو فعله في مناسبة معينة، متدرِّجة عبر سلسلة من النُقَّال. (اليوم، نلاحظ أن تعبير "حديث" يعني كلام النبي نفسه). أغلب المصادر الأولية عن حياة النبي، بالإضافة إلى فترة حياة خلفائه المباشرين، تتضمن أحاديث بشكلٍ أو بآخر.

الغرض من هذه الأخبار والتقارير تثبيت الشريعة الإسلامية وشرعنتها، وليس تسجيل التاريخ بالمعنى المعاصر للكلمة، وبما أن هذه الأخبار كانت تنتقل بطريقة شفهية، كتصريحات وأقوال قصيرة جدًا، انحرفت بسهولة عن معناها الأصلي مع تغير الأحوال والظروف. (كما أنها كانت تفبرك بسهولة بالغة). إنها تعتبر شهادة على النزاعات الحاصلة حول الشكل الحقيقي للإسلام حتى مطلع القرن التاسع للميلاد، عندما تمَّ جمع المواد وترسيخها، هذه النقاشات والجدالات ساهمت في تضبيب الطبيعة التاريخية للشخصيات التي لها علاقة بالموضوع بوصفها مرجعيات تاريخية، في حين أنها تخبرنا الكثير عن التصورات اللاحقة.

المواد غير متبلورة وينقصها التنظيم ومن الصعب معالجتها. والشروع في تجميع هذا الكم الهائل من الأخبار المتعارضة والنسخ المختلفة حول موضوع محدَّد كان يعتبر عملاً مرهقًا ومهمة شاقة، أما الآن بات سهلاً جدًا من خلال قواعد البيانات القابلة لإجراء عملية البحث فيها. بطبيعة الحال، ما زالنا لم نقبل بشكلٍ عام المناهج التي تمَّ اعتمادها في ترتيب المواد، سواء أكانت دليلاً على النبي أو على خلافات مذهبية لاحقة (الأمر الذي سيثبت أنه مثمر حقًا). لكن يجري الآن عمل أكثر إثارة في هذا المجال.

بالنسبة إلى المصدر الثاني، القرآن، فإن دراسته ما زالت تحت سيطرة وتأثير منهج المفسرين المسلمين الأوائل، الذين كانوا يتميزون بإعادة النظر في كل آية على حدة وباستقلال، وتفسيرها على خلفية الأحداث التي وقعت في زمن النبي وحياته من دون أيِّ اعتبار للسياق الذي ظهرت ضمنه في القرآن نفسه. وبالتالي، كانوا يستبدلون السياق القرآني بسياق آخر جديد.

منذ حوالي خمسين عامًا قام عالم إسلامي يدعى محمد شلتوت، الذي أصبح شيخًا للأزهر فيما بعد، برفض هذا المنهج لصالح فهم القرآن في ضوء القرآن نفسه. كان عالمًا دينيًا مهتمًا بالرسالة الدينية والأخلاقية للقرآن، لم يكن مؤرِّخًا من النوع الغربي، لكن يجب اتباع منهجه أيضًا من قبل المؤرخين. كان الإجراء الذي يتبعه المفسرون القدامى يتمحور حول تحديد معنى الكتاب ضمن إطار اللغة العربية فقط، بعزلةٍ عن التطورات الدينية والثقافية في العالم الخارجي، لذلك كانت القصص والروايات التوراتية وغيرها من الأفكار التي تولَّدت خارج جزيرة العرب قد وصلت إلى الباحثين المعاصرين بوصفها "استعارات أجنبية غريبة"، مختارة بطريقة صدفوية من قبل تاجر لم يكن يفهم بالكامل معناها.

لقد أصبح واضحًا أن هذه الفكرة خاطئة بالكامل. فالنبي لم يكن شخصًا من الخارج قام بانتقاء عشوائيًّ لمجموع ما توصلت إليه الجدالات في العالم التوحيدي المحيط به، بل كان مشاركًا كاملاً في هذه النقاشات والجدالات. بمعنى آخر، إن ظهور الإسلام يجب أن يكون مرتبطًا بتطورات في العالم القديم، وعن طريق وضع هذا السياق في عقولنا علينا إعادة قراءة القرآن. إنها مهمة صعبة، وسيكون هناك، بل كان هناك مسبقًا، منعطفات خاطئة على طول الدرب. لكنها ستكون ثورة في هذا المجال.

أما النوع الثالث، والأكثر إثارة بين المصادر، بات يلوح في الأفق فهو علم الآثار/الأركيولوجيا. بلاد العرب هي المجهول الأكبر، وقد بدأت أعمال التنقيب فيها، ومع أنه من غير المرجَّح أن تجري عمليات تنقيب أثرية في مكة والمدينة في المدى المنظور، إلا أن النتائج التي تكوِّن هذا المذهب الجديد تفتح أبواب العقل على مصراعيها.

يبدو أن بلاد العرب كانت مكانًا أكثر تقدمًا وتطورًا مما اعتقده أغلب المتخصصين بالدراسات الإسلامية (وأنا من بينهم)، ليس فقط في الشمال والجنوب، بل في الوسط أيضًا. بدأنا نحصل على صورة أكثر تلوينًا عن المكان، ومن الواضح أننا يجب أن ننظر إليه كمكان أكثر ارتباطًا بباقي منطقة الشرق الأدنى مما كنا نعتقده. سجلُّ النقوشات يتَّسع بدوره ويتمدَّد أكثر أيضًا. إلا أننا متأكدون من مشكلة واحدة، وهي المدى الواسع والكبير للتفاسير المحتملة بالارتباط مع التفاسير المنكمشة والمتقلصة الأخرى، لمساعدتنا على امتلاك حسٍّ أفضل عن المكان الذي يجب أن نبحث عن الحلول فيه وتحسِّن افتراضاتنا وتخميناتنا حيث لا يكون هناك دليل.

لن نكون قادرين أن نفعل ذلك بدون أيِّ مصادر تراثية، طبعًا، أما الفرص فتقول إن ما يخبرنا به التراث عن حياة النبي وسيرته غير دقيق بشكلٍ أو بآخر. لكن لن ينجح أيُّ تأويل تاريخي ما لم تكون التفاصيل والسياق والافتراضات صحيحة ودقيقة. قد لا نصل إلى معرفة ما نرغب بمعرفته (وهل سبق أن حققنا ذلك؟)، لكن الباحثين والدارسين في التاريخ الإسلامي لديهم كل الأسباب ليكونوا متفائلين بأن تمتلئ الفجوات التي تتخلَّل معرفتهم الحالية خلال السنوات القادمة.

10 حزيران/يونيو 2008

ترجمة: إبراهيم جركس

*** *** ***


 

horizontal rule

* باتريشيا كرونه Patricia Crone: أستاذة التاريخ الإسلامي بمعهد الدراسات المتقدمة، برينستون. أمَّا كتبها الأكثر صلة بهذه المقالة هي: التجارة المكية وظهور الإسلامMeccan Trade and the Rise of Islam (Princeton University Press, 1987 [reprinted 2004])؛ وكيف كان الوثنيون المذكورون في القرآن يكسبون عيشهم How did the quranic pagans make a living (Bulletin of the School of Oriental and African Studies (68 / 2005)؛ وقريش والجيش الروماني: نحو فهم تجارة الجلود القرشيةQuraysh and the Roman Army: Making Sense of the Qurashi Leathertrade (Bulletin of the School of Oriental and African Studies, forthcoming [spring 2007])]

أمَّا عملها الرئيسي فهو كتابها الفكر الإسلامي السياسي القروسطي Medieval Islamic Political Thought)) [Edinburgh University Press, 2004 المنشور في الولايات المتحدة بعنوان حكم الله: الحكومة والإسلامGod's Rule: Government and Islam (Columbia University Press. 2004).

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني