مـِنَ الْبَحْرِ
يَجِـيءُ الْــهَزْمُ
وقصائد أخرى
حميد العمراوي
1
مـِنَ الْبَحْرِ يَجِـيءُ الْــهَزْمُ
لا أعـرفُ غيرَ أنَّكِ تجيئين من البحرِ
كنسيم بنكهة الأعشاب
كالمـوج الصَّاخبِ
كهدير العواصفِ
كــرذاذ الفجــرِ
وأنا واقـفٌ على الرَّملِ
بصدرٍ مفتوح على كُلِّ احتمالاتِك:
أحصي قتلايَ
أَعُدُّ كم مرة قُتِلتُ
أُعِـدُّ لك الأرض...
من البحر... تجيئين
تَلبَسُك أرواحُ الغَرقى:
من ماتواْ ببداهةٍ لأنَّهم صيَّادون
أو ماتوا مأخوذين بفكرةِ العُمق
ومن لم يستوعبوا موتَهم بعد
تجيئين بالقليل..
قليلٌ من الموتِ يكفي
قليلٌ من الحياةِ لا يضر
تجيئين بالكثير من عُمقِ البحر
تهرولُ بين يديك أسماكُه
يسبقك هزيمُه، رُعبُه، وأشباحُه
يدفعك الجنون في الأزرق
يدفعك الغامضُ فيه نحوَ الغامضِ فيْ..
تجيئين من عمق البحر..
أيَّتُها الحياةُ المرهونةُ بموتي
أيَّتها الجنَّةُ التي لا صِراطَ يُفضي إليك
هلْ عليَّ أن أخوضَ الموجَ كفكرةٍ بلا جُنَّةٍ
لأستوعبَ مجيئك الهــادم؟!
هل أخبــرُ الصَّيادين عن أسبابِ موتِهم
وأخلقُ الأسبابَ لمن ماتوا بلا سببْ؟!
وهل عليَّ أن أشعلَ النارَ على البَحرِ
كي تجيئي بلا جَحيــمٍ ولا لهــبْ؟!
*
2
أريدُ أن أتحوَّل إلى شيءٍ يطير
كالغبار مثلاً..
لأراقب العالمَ دونَ أن أُحسَبَ عليه
لأعيش فيه دون أن أغير شيئًا
/لا شيء..
ولو حتى أن يفزعَ قلبُ نملةٍ من خطواتي/
لأكون دون أن أكون..
لأنامَ في سريره الواسع
ولا أبعثرَ شراشفَ الشَّوك والحرير
أريد أن أتحول إلى شيء خفيف
أن أكون غبارًا مثلاً..
هذا العالمُ ثقيلٌ جدًا
على قلبِ شاعر.
*
3
باسم اللغات التي أرضعتني الكلامَ جُموعًا ثم سمتنيَ المفرد!
أنا العالقُ بين الشكل ومعنــاه أقـول:
ليس للماء لــونٌ غيـرَ ما جرفَ السَّيل من أحلامي
ليس للموت شكلٌ لا أعـرفـه!
ومعانيـه أدركُها لاحقًــا
ليس لي أجنحةٌ تضاهي الوقـتَ؛
أنا المعنـيُّ الوحيدُ بجسدي
أنا معنـاه المتفرِّد
وأشكالُه الكثيرةُ تحدِّدُها - حسب السِّياق - خطوطُ الزمن.
*
4
شكرًا أيَّتها الأشواكُ الرَّقيقة
يا رفيقتي في السَّفر والغياب
كنتِ معي دومًا
لم تفارقيني يومًا
حتى في الشَّوارع المعبَّدة للتَّائهين
كنت تسيرين معي من دربٍ لدرب
أيَّتها الأشواكُ الوفيَّة
يا عِشقَ أقدامي المُؤلِم!
*
5
أدورُ حولَ نفسي؛
بانتظام كجُرمٍ وَقُور
أو بحُمقٍ كسؤال عَابثْ
أجري.. كلُ خائفٍ يجري!
أمشي.. كلُّ الناس يمشون!
أجربُ الوقوفَ على رأسي..
أتمدَّد على جهاتيَ الأربعة
أغــوصُ كحجرٍ عارف بلغاتِ الغرقِ،
أطفـو ببراعــة قشَّـة...
...
يا لفقري للضَّوء!
يا لها فَاقَــةُ الأجنحة!
*
6
ما عسايَ أقول لهذا الليل البارد
تحت السماء الغائمة
في مدينة الأرصفة المضببة
ماذا أقول لهذا الليل الموحشِ كغابة
هل أوشوشُ له أخبار الصَّباح مثلاً؟
ماذا أقول لهذا لليل..
وأنا أتدلَّى من هذه الشرفة
كحلم تلفظه سماءُ الحالمين
كزائدةٍ دودية على حرجها أن يُرفع
كقميص الموتى لا يلبسه أحد..
هل أخبره ما يعرف مسبقًا
عن السماء الغائمة
والمدينة الضباب
عن الحياة..
هل أقول إنها تكرارٌ لذيذٌ
عن الموت..
هل أدَّعي أنه طفرةٌ مرَّة
ثمَّ أغيِّر أقوالي..
كلَّا..
السَّماء ضبابٌ
والمدينة غائمة
وأنا لستُ أمشي
ولا أتدلَّى
ولا أشبه قمصانَ الموتى
سأخبره أن الموتَ طفرةٌ لذيذة
وأن الحياة تكرارٌ مرٌّ
ثم أوشوش له بعض الأخبار المكذوبة عن الصباح.
*
7
عن عشاءٍ أخير...
كنتُ جائعًا بالأمـس..
تناولتُ قطعةً كبيرةً من السَّماء
كانتْ لذيذةً كبيتزا مزيَّنة بالنُّجوم والكواكب
أكلتُها.. وشربتُ النَّهــرَ عن آخره
في كؤوس صنعتُها من جماجم أعدائي
شربتُ النَّهر كاملاً
بعشبه وأسماكه
ولم أسكَــر!
أكلتُ وشربتُ
وحين شبعتُ قمتُ أتجوَّل في الغابة
أدخِّن أشجارَ الكليبتوس العظيمة
وأطلق في العدم دُخاني دوائـر...
*** *** ***