عبير الوجود
د. معين رومية
تسعى
الأنطولوجيا الفينومينولوجية، كما سار في دربها هيدجر، إلى نقل التركيز
الفلسفي من الموجود إلى الوجود، بغرض دراسة الوجود ظاهراتيًا والسعي
إلى فهمه ووصف كيفياته. وقد اختار هيدجر تحليل الموجود الإنساني،
الدازين Dasein،
بوصفه الظاهرة التي ينكشف ويتجلى ويحضر فيها الوجود بحيث إن وصف كيفيات
هذا الحضور يضمن الوصول إلى فهم الوجود ذاته في حركته من التحجب إلى
اللاتحجب (من الخفاء إلى اللاخفاء أو من الغياب إلى الحضور).
ولكن،
أليس الموجودات، عامة، وليس الموجود الإنساني فحسب، محلاًّ أيضًا لتجلي
الوجود وانكشافه؟ محلاًّ لحضور الوجود في حركته من التحجب إلى
اللاتحجب؟
وإذن،
ألا نستضيء بنور الوجود عندما نكشف الغطاء عن الكيفيات الأنطولوجية
لوجود الموجودات؟ ألا نلتقي بالنورِ؛ نورِ الوجود، عندما نتعمق في
التأمل ونسأل:
ما الذي يتجلى ويحضر في انتشار الوجود في الموجودات؟
"إن وجود الموجود يتبدَّى على أنحاء شتى"، تضعنا عبارة أرسطو هذه على
أول الدرب المتجه إلى الدراسة الظاهراتية للوجود. ولكن أين يتبدى
الوجود؟ وما هذه الأنحاء؟
يتبدى الوجود في الظاهرات لأن
الظاهرة هي المُتجَلِّي الذي يُظهر نفسه بنفسه والذي يتحدد بأنه، عند
الإغريق، الموجودات التي تنعرض في النور.
إذن، تتبدى الظاهرات على أنحاء شتى سوف ندعوها
انبثاقات الوجود وتمثل
مستويات الوجود التي نلتقي بها عندما يتجه وعينا صوب العالم المحيط
بنا. والسؤال الذي نطرحه هنا: ما الذي يُجَلِّي ظاهرة، أو مستوى من
مستويات الوجود؟ ما الذي تبثه حركة الوجود ويرافق تجلِّي
الظاهرات/الموجودات؟
للإجابة على السؤال السابق سوف نقدم القضية التالية، وهي بمثابة حدس
أساسي:
إن العلاقة هي ما يُجَلِّي الظاهرة، فثمة بثٌّ أنطولوجيٌ للعلاقات
يرافق حركة الوجود وانكشافه في الموجودات بحيث أن التحليل الأنطولوجي
للظاهرات يتحول إلى تبيانٍ وبسطٍ وكشفٍ للعلاقات. ويحدث المستوى
الأنطولوجي عندما تنبثق علاقة تكون بمثابة عتبة أنطولوجية تَعْبر بنا
إلى مستوى جديد خصائصه وخصائص ظواهره متميزة عما لدى المستويات الأخرى.
وعلى هذا نحن نقول بثلاثة مستويات أنطولوجية أساسية هي: مستوى المادة
ومستوى الحياة ومستوى الإنسان.
العلاقة لا تقوم بذاتها، بالمعنى الفلسفي التقليدي، إذ إنها تقوم
بطرفيها، أو بأطرافها، إنها إضافة تلحق بالأشياء أو بالجواهر. لكننا
نحن لا ننظر إلى العلاقة بهذا المعنى بل نراها حَدَثًا أنطولوجيًا
بامتياز ينتشر في الظاهرات جميعًا لتكوِّن، بوصفها حدثًا، الماهية
المشتركة بين الظاهرات/ الموجودات. يدفعنا هذا إلى القول بـ المعيَّة
الأنطولوجية التي نعبر عنها كما يلي:
كل موجود فهو موجود في علاقة بحيث تمتنع العزلة الأنطولوجية وتكون
العلاقات هي بصمة الوجود؛ هي الطبعةُ التي يتركها الوجود في
الموجودات/الظاهرات في حضوره وغيابه. إن وصف هذه العلاقات كفيل بجعلنا
نفهم حقيقة الوجود ونستضيء بنوره الذي يتأرجح في الموجودات بين
الاحتجاب واللاحتجاب.
ويكون من ثمَّ أن الموجود هو جملة علاقاته الأنطولوجية التي من شأن
كشفها ورفع الغطاء عنها أن يتيح لنا أن نشمَّ عبير الوجود في
الموجودات/ الظاهرات.
*** *** ***